يهدف هذا المقال إلى التعريف بقومية القيمانت Qemantالإثيوبية، التي برزت إلى سطح الأحداث؛ بوصفها إحدى إفرازات الحرب المستمرة لأكثر من عام بين القوات الإثيوبية الفدرالية وجبهة التقراي.
وقد سُلطت الأضواء على هذه القومية إعلاميًّا في الفترة الأخيرة، بحسبانها قومية إثيوبية تضررت كثيرًا من تلك الحرب؛ ممَّا أدَّى إلى لجوء عدد معتَبر منها -يُقدّر بالآلاف- إلى ولاية القضارف في شرق السودان.
القيمانت: حكاية الأصل القديم:
بسبب شُحّ المعلومات التي تحيط بهذه القومية، التي لم يسجل التاريخ شيئًا حولها قبل القرن الثامن عشر الميلادي؛ فإن الكتابات التاريخية الحديثة تضاربت حول الأصل القديم للقيمانت، ووصفته بالغموض؛ حيث أشار بعض المؤرخين إلى أن هذه القومية عبارة عن اندماج بين مجموعة مواطني إثيوبيا، وفِرَق من اليهود في القرن التاسع عشر.
وأشار بعض المؤرخين، أيضًا، إلى أن القيمانت يمثلون الفرع الغربي من شعب الأغوAgaw ، الشعب الذي يتحدث لغة تنتمي إلى الفرع الكوشي من أسرة اللغات الإفريقية الآسيوية. وأرجعهم مؤرخون آخرون إلى أصل يهودي، وأن هناك صلة بينهم وبين الفلاشا (إحدى القوميات الإثيوبية)، وأنهم يتكلمون لغة الفلاشا نفسها، دون إيراد مزيد من التفاصيل حول هذا الأصل.
ولعل أكثر رواية تفصيلية تتحدث عن الأصل القديم للقيمانت -تلك التي تشير إلى أن تقاليد وتاريخ القيمانت، تبين أنهم ينحدرون من يانر Yaner (ويسمى أيضًا أيانر Ayaner)؛ وهو حفيد كنعان، الابن الرابع لحام بن نوح. وأبانت تلك الرواية، وفقًا لبعض الأساطير المتداولة بين القيمانت- أن ابن كنعان (أرودي) جاء إلى إثيوبيا من أرض كنعان لتأسيس مجموعة القيمانت. ولم تبيّن تلك الرواية، لماذا كان مقصد ابن كنعان إثيوبيا على وجه التحديد.
يبدو أن الأصل اليهودي للقيمانت هو الأقرب للترجيح، بدليل الإشارة في مصادر مختلفة إلى هذا الرأي، وبدليل القرابة بين الفلاشا (بيتا إسرائيل) والقيمانت؛ إذ هناك شبه إجماع على الأصل اليهودي للفلاشا.
القيمانت: الجغرافيا، التاريخ، الاقتصاد والدين:
جغرافيًّا، يستوطن القيمانت شمال إثيوبيا، وتحديدًا شمال غرب بحيرة تانا، في منطقة تسمى قوارا Qwara، وهي تتبع لمنطقة غُنْدُر Gundur، التي تُعدّ جزءًا أصيلاً من إقليم الأمهرة. والمنطقة التي يسكنها القيمانت لا تبعد كثيرًا عن مدينة المَتَمّة (السودانية والإثيوبية). ويعني ذلك أن المنطقة التي يسكنها القيمانت ليست بعيدة عن حدود إثيوبيا مع السودان؛ مما سهَّل لهم -بسبب الحرب الدائرة حاليًا في إثيوبيا بين الحكومة وجبهة التقراي- أن يلجأوا إلى شرق السودان سيرًا على الأقدام، أو ركوبًا على الدواب.
لا يُعرف، حاليًا، على وجه التحديد العدد الكلي للقيمانت، ولكن آخر عدد رُصِدَ لهم، كان قبل نحو عقدين ونصف؛ إذ أبان الإحصاء السكاني القومي في إثيوبيا لعام 1994م، أن عدد القيمانت 172.000 نسمة، وأن 1625 منهم فقط من يتحدث لغة القيمانت. وهذه إحداثية مهمة تشير إلى اندماجهم في قومية أو قوميات إثيوبية أخرى.
وأما تاريخيًّا -وكما تمت الإشارة-؛ فإن التاريخ سكت عن الحديث عن قومية القيمانت؛ إذ لم يسجل شيئًا ذا بال عن هذه القومية قبل القرن الثامن عشر الميلادي. وفي القرن التاسع عشر تحدَّث المؤرخون عن أن هناك علاقات وطيدة بين القيمانت والأغو، لا سيما على مستوى اللغة والعادات والتقاليد والحياة الاجتماعية والقوانين التي تسمى “حبوري”.
ومن حيث الحياة الاجتماعية؛ تشير الإحداثيات التاريخية إلى أن القيمانت اتسمت باحتفاظها بعاداتها، وعدم الاندماج مع القوميات الإثيوبية الأخرى، وأنهم كانوا يرفضون الزواج من قومية الأمهرة، التي يساكنونها في الإقليم. ولكن القيمانت تدريجيًّا بدأوا في التخلّي عن عاداتهم بسبب ضعف اقتصادهم، وأنهم لم تكن لهم قوة أيديولوجية يعتقدونها، ويدافعون عنها.
كما أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن القيمانت في الفترة من 1830- 1860م كان لهم دور كبير في التجارة، وأنهم بدأوا يستعيدون قوتهم، التي فقدوها نسبيًّا عن طريق هذه التجارة؛ ليفقدوا ذلك كليًّا عبر فترات التاريخ التالية المختلفة.
اقتصاديًّا، كانت حياة القيمانت تتسم بالبداوة، وكانوا يعتمدون على الزراعة والفلاحة، واحتفظوا بهذه الأعمال حتى لا يتحولوا إلى المدنية؛ فتذوب هويتهم بتحولات التمدُّن. وظل الذين يقطنون حول المدن من القيمانت يسهمون بأعمال يدوية، مثل بناء القصور والمنازل.
وأما من حيث الدِّين، فتشير العديد من المصادر إلى أن قومية القيمانت تمارس دينًا تقليديًّا، يُوصَف غالبًا بأنه “عبراني”. وأن هذه العبرانية هي شكل قديم، وغير متأثر بالتغيير العبراني في الألفي سنة الماضية، أي أن عبرانيتهم تختلف عن تلك الموجودة في إسرائيل حاليًا. وتشير مصادر أخرى إلى أن القيمانت يؤمنون بوجود كائن أعلى، وأنهم يذهبون في أوقات معينة، إلى صخور محدّدة يتعبّدون أمامها. وتضيف مصادر أخرى بأن القيمانت يمارسون العبادة في الهواء الطلق، عادة في موقع بالقرب من شجرة مقدسة، تسمى قولي Gole، ملفوفة بشرائط من القماش. وغير ذلك من الآراء التي تجعل من ديانة القيمانت أشبه بالديانات الإفريقية التقليدية.
وفي مجال ديانة القمانت؛ فإن الدراسات الحديثة توضح بأن دين القمانت في وضع محفوف بالمخاطر للغاية؛ لأن قلة قليلة من القيمانت ما تزال ملتزمة به؛ بسبب الاستيعاب السريع، الذي حدث لهم تاريخيًّا في إقليم الأمهرة. ووفقًا لتلك الدراسات تبلغ نسبة الذين يتبعون ديانة القيمانت مقابل الذين تم تعميدهم وتحويلهم إلى المسيحية الأرثوذكسية الإثيوبية حوالي 1% إلى 99%؛ مما يدل على أن قومية القيمانت أصبحت ضمن المجتمع النصراني الإثيوبي، وقد تم ذلك التحول إلى المسيحية في إقليم الأمهرة، الذي تغلب فيه هذه الديانة، والذي عاش فيه القيمانت تاريخهم الممتد.
القيمانت والحرب بين الحكومة الإثيوبية وجبهة التقراي:
لم يدفع التقراي وحدهم ثمن حربهم مع القوات الحكومية الفيدرالية؛ فقد تضررت قوميات أخرى، بعضها لجأ إلى شرق السودان، وفي مقدمتها التقراي أنفسهم، والقُمُز والقيمانت.
ولأن قومية القيمانت تشاطر الأمهرة السكنى في إقليمهم، ولأن هذا الإقليم كان، وما يزال، جزءًا من ميدان تلك الحرب؛ فقد ترتب على ذلك هجرة جماعية ولجوء جماعي للقيمانت إلى السودان.
وفي هذا الشأن تتحدث التقارير الإعلامية عن أنه -على سبيل المثال لا الحصر- شهد شهر أغسطس 2021م هروب حوالي 3000 من قومية القيمانت إلى السودان. وأن حكومة ولاية القضارف في شرق السودان التي لجأوا إليها رحَّبت بهم، وبغيرهم من اللاجئين الإثيوبيين، وأقامت لهم معسكرات في مناطق محددة لإيوائهم.
يُفْهَم من حركة اللجوء إلى السودان، الناتجة من الحرب الدائرة حاليًا في إثيوبيا، والتي ترصد التقارير الإعلامية المختلفة مآلاتها؛ أن هناك الآلاف من اللاجئين الإثيوبيين -تجاوزوا الخمسين ألفًا في ديسمبر 2021م-، وأن قومية القيمانت تشكل عددًا معتبرًا منهم. وهذا يعكس أنهم تضرروا كثيرًا من حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
القيمانت: متلازمة التهميش والاندماج:
تحدثنا التقارير الإعلامية المختلفة عن أن للقيمانت قضية؛ تتمثل في تهميشهم مِن قِبَل الحكومات الإثيوبية المتعاقبة، وأنهم يتعرضون لحركة إدماج في غيرهم من القوميات الأخرى؛ بسبب أنهم أقلية متداعية، وأنهم ظلوا يقاومون هذا الإدماج لفترات تاريخية طويلة جدًّا.
وإذا تجاوزنا الماضي البعيد؛ فإن العشرية الأولى من الألفية الثالثة الميلادية، وبالتحديد في عام 2007م؛ أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى أن قضية القيمانت في إثيوبيا، بدأت على نحو من الوضوح، وذلك أنه في هذا العام حظرت الحكومة الإثيوبية تعداد السكان القيمانت، مع صدور أمر بموجبه اعتبار القيمانت على أنهم أمهرة. ولم يكن هناك بُدٌّ مِن رِدّة فِعْل تجاه هذا الإجراء القاسي تجاه القيمانت. وإذا صحت هذه المعلومة التي تجعل القيمانت جزءًا لا يتجزأ من قومية الأمهرة؛ فهذا يمثل اعترافًا ضمنيًّا بأن قومية القيمانت قد تم إدماجها بالكامل في قومية الأمهرة، مما يعني أن الخريطة الإثنية لإثيوبيا قد فقدت جزءًا عزيزًا من مكوناتها.
وكما هو متوقع فقد ظهرت مجموعات معارضة، لجعل القيمانت أمهرة ليس إلا؛ لعل أهمها مجموعة المدافعين عن قضية القيمانت KAG، التي تتخذ مقرًّا لها في الولايات المتحدة وكندا، والتي تصنّف في تقاريرها ما يحدث للقيمانت في إثيوبيا على أنه “إبادة جماعية”.
وفي السياق نفسه، أشارت تقارير إعلامية إلى أن وتيرة التمييز والانتهاكات ضد القيمانت، قد تسارعت ابتداء من العام 2018م. وببداية حرب الحكومة الإثيوبية مع جبهة التقراي في نهاية العام 2020م؛ تحدثت تقارير إعلامية عن حركة نزوح ولجوء لآلاف معتبرة من قومية القيمانت إلى السودان بعد رفضهم محاربة جبهة التقراي؛ هربًا من استهداف جنود الجيش الإثيوبي.
أما من حيث قضية الاندماج؛ فنجد أن هذه القومية، لا سيما في القليل المدوّن من تاريخها، أنها حاولت المحافظة على أصلها ودينها ولغتها وعاداتها وتقاليدها وثقافتها، ولكن يبدو أن الإقليم الذي تسكنه، وهو إقليم الأمهرة، كان أقوى دينًا ولغة وثقافة، وعددًا في السكان؛ ممَّا مثَّل ضغطًا كبيرًا على قومية القيمانت؛ فلم يكن هناك بُدٌّ من الاندماج المتدرج في معطيات إقليم الأمهرة.
وسبقت الإشارة إلى أن هناك تحولاً على مستوى ديانة القيمانت إلى النصرانية بنسبة 1% إلى 99%. وأن عدد المتكلمين بلغة القيمانت قد تقلص إلى عدد 1625، مقابل 172.000 العدد الكلي لقويمة القيمانت، فتحولت الغالبية الغالبة من القيمانت إلى لغة الأمهرة. وهذا كله يدل بوضح على أن قومية القيمانت قطعت شوطًا كبيرًا في الاندماج في قومية الأمهرة، لغةً ودينًا وثقافةً.
وفي السياق نفسه؛ تحدثت دراسات حديثة نسبيًّا -تُنْسَب إلى العالم الأمريكي ف. غامست- أنه توقَّع في عام 1967م اندماج القيمانت مع الأمهرة في غضون ثلاثة عقود، أي أن اندماجهم سيتم قبل نهاية الألفية الثانية بأعوام قليلة. ولعله من حُسْن حظ القيمانت أنه في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بدأ التشريع أُمميًّا لحقوق الإنسان فيما يخص لغته وثقافته، وما يتبعهما من خصوصية. وقد شجَّع كل ذلك الأقليات على مستوى العالم على إبراز خصوصيتها اللغوية والثقافية، والمحافظة عليهما. وهذا بدوره شجَّع على عودة هوية أقلية القيمانت إلى الظهور، كغيرها من أقليات العالم.
استنتاجات:
انطلاقًا ممَّا تم التطرُّق إليه من محاور هذا المقال؛ يمكن القول: إن قومية القيمانت التاريخية تختلف عن قومية القيمانت في العصر الحديث. فالأولى كانت تبدو لنا مختلفة عن القوميات الإثيوبية الأخرى؛ إثنيةً ولغةً ودينًا وثقافة. والثانية تظهر لنا مندمجة في قومية الأمهرية، التي ظلت عبر التاريخ الإثيوبي صاحبة السلطة والجاه والمال. فقدت اندمجت القيمانت بصورة شبه كلية في قومية الأمهرية، ولم يبقَ لها إلا الرمزية التاريخية إثنيةً ولغةً وثقافةً، وبعض موروثات الماضي.
كما يمكن القول: إنه ووفقًا لمعطيات الواقع وإحداثياته فإن محاولات فكّ الاندماح والتنكر لحدوثه من قبل القيمانت في قومية الأمهرة ما هو إلا نوع من أساليب الضغط، التي يحاول من خلالها القيمانت الحصول على قليل من السلطة والثروة عبر استعمال فكرتي التهميش والاندماج القسري.
كما يمكن القول أيضًا: إنه على الرغم من أن المناخ الدولي في العقود الأخيرة، يشجّع الأقليات على المطالبة بحقوقها؛ من خلال التدخل المباشر في شؤون الدول الداخلية، إلا أنه قلما يحدث اختراق في هذا المجال؛ لصعوبة إرجاع عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء. فهل تعمل قومية القيمانت تحت ستار التهميش والاندماج القسري من أجل الحصول على قليل من السلطة والثروة، كما تمت الإشارة قبل قليل، أم تعمل على إيجاد مخرج لها إلى إسرائيل، التي سبقها إليها عددٌ معتبرٌ من قومية الفلاشا (بيتا إسرائيل)، التي تَمُتُّ إليها بصلةٍ وطيدةٍ تحدَّث عنها المؤرخون؟