أ/ جيهان عبد الرحمن جاد
باحثة دكتوراه بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية – جامعة القاهرة
مقدمة
تعتبر الجالية اللبنانية في أفريقيا أكثر الجاليات العربية في القارة عدداً، وذلك لأسباب كثيرة تاريخية ومعاصرة، دفعت بمئات الالآف منهم للهجرة إليها، وتأتي أهمية تركيرنا على الجالية اللبنانية من حقيقتين، الأولى لتأثيرها القوي في البناء الاقتصادي لكثير من بلدان الغرب الأفريقي، والثانية لتفوقها العددي، بحيث تباينت أعمالهم من باعة متجولين إلى أرباب التجارة وأصحاب المصانع الكبيرة.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أن 350 ألف لبناني على الأقل منتشرون عبر القارة، وتمثل ساحل العاج، والسنغال، ونيجيريا أهم أقطاب الجاليات اللبنانية المقيمة في أفريقيا، وغالباً ما أشاروا إلى أنفسهم على أنهم حلقة الوصل بين الأوروبيين والأفارقة في غرب أفريقيا، لهذا فهم منافسون لكثير من الجاليات الأخرى.
وقد اصطدم نجاح المهاجرون اللبنانيين مع أماني الأفارقة الذين شعروا بأن مجال نشاط اللبنانيين يمكن أن يملأه الأفريقيون أنفسهم، ولذا حاول اللبنانيون كسب ود السلطات الأفريقية فتبرعوا بالأموال للمشاريع الخيرية، وبناء المساجد والمستشفيات، وبرغم ذلك لم ينالوا رضى الأفارقة.
كما ارتبط اللبناني المهاجر بوطنه الأم، من خلال زيارته المستمرة ومحاولته الدائبة للحفاظ على موروثاته الثقافية في بلاد المهجر، وعدم اندماجه الثقافي مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويتجلى ذلك في اصراره على تشييد المدارس اللبنانية أو إرسال أبناؤه للتعلم في لبنان.
أولاً: هجرات اللبنانيين إلى غرب أفريقيا
كان لإنهيار الإمبراطورية العثمانية وما صاحبها من تصاعد القوة الغربية، تأثيرها على لبنان([1])، فمع اشتداد موجة الاضطهاد السياسي والديني متزامناً مع تدهور الأوضاع الاقتصادية؛ سعى اللبنانيون إلى الهجرة، وقَدِموا إلى غرب أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت لبنان تحت الانتداب الفرنسي، وبالتالي كان من السهل التنقل بين الأراضي التابعة للسيادة الفرنسية([2]).
في البداية كان معظم المهاجرين مسيحيون مارونيون هربوا من لبنان، إما للحروب الأهلية ، أو لقسوة الظروف الاقتصادية نتيجة قلة المحاصيل الزراعية مع ازدياد الضغط السكاني في جنوب لبنان([3]). وسرعان ما تجاوزت أعداد المسلمين الشيعة في ساحل العاج أعداد المسيحيون المارونيون([4]).
ولعل من أهم أسباب جذب غرب أفريقيا للبنانيين هو رُخص مصاريف السفر إليها بعكس الأمريكتين، وعدم الحاجة إلى جوازات السفر في البداية([5])، حيث بدأ العمل بها في عام 1923. وقامت البواخر الفرنسية بنقل اللبنانيين من مرسيليا إلى داكار وسانت لويس([6]). وجاء معظم المهاجرين من مناطق فقيرة في جنوب لبنان، لم يتلق سكانها التعليم الكافي([7])، لذا كانت أفريقيا المكان المناسب لمهارتهم المحدودة، ونتيجة لعدم قدرتهم على التواصل باللغات المحلية في البداية، ولغتهم الانجليزية الفقيرة، اختاروا التجارة، وبيع السلع المستوردة الرخيصة في شوارع فريتاون، بينما نظر سكان سيراليون إليهم على أنهم نوع آخر من “البيض” يختلف عن الأوروبيين([8]).
ونظراً لطبيعة اللبنانيين المتماسكة استقبطوا بعض أبناء عائلتهم من نفس البلدة إلى أفريقيا([9])، حيث هاجر معظم اللبنانيين من بيت شباب في جبل لبنان إلى باماكو (مالي)، بينما كان معظم التجار اللبنانيين في أكرا (غانا) من مدينة طرابلس في شمال لبنان. أما المهاجرين من بينو في شمال لبنان فقد استقروا في واجادوجو وبواكيه في ساحل العاج، في حين أن المهاجرين من مزيارة في شمال لبنان استقروا في لاجوس عاصمة نيجيريا([10]).
وأشارت السجلات اللبنانية في غانا إلى أن وليام إبراهيم شبيب وإلياس الخوري هما أقرب اللبنانيين الذين وصلوا إلى غانا في عام 1884([11])، بينما وصل أول لبناني إلى سيراليون في عام 1893، وبعد عامين وصل عدد أخر من اللبنانيين الذين استقروا في بورت لوكو Port Loko في الشمال، وفي مويامبا Moyamba في الجنوب، وبوجيهون Pujehun في الشرق([12])، وبحلول عام 1901، كان هناك نحو 41 لبناني في سيراليون ([13])، قد استأجروا مساكن في شرق فريتاون. بينما نزحت مجموعات لبنانية أخرى إلى موانئ الدول المجاورة غينيا وليبريا([14]).
أما السنغال، فقد وصل أول تاجر لبناني إليها تقريباً في عام 1860، ويُدعى عيسى (مازالت أسرته هناك)، ووصل عدد المهاجرين إلى مئة لبناني بحلول عام 1900، كان معظمهم من مدينة صُوْر، وعملوا في البداية كباعة متجولين في الشوارع في داكار وسان لويس وروفيسكي، ولذا تزايدت أعدادهم من 500 لبناني في عام 1917 إلى 2300 في عام 1936، لأنهم كانوا أكثر تكيفاً من الأوروبيين مع نمط المعيشة الأفريقي([15]).
وقد أفاد وزير المستعمرات الفرنسية، بأن من بين 117 لبنانيًا وسوريًا يعيشون في ساحل العاج في عام 1931، كان منهم 37 فقط مسلمين، بينما كان 65 منهم كاثوليكًا (أي مارونياً)، و15 من الروم الأرثوذكس. وفي عام 1937، بلغ عدد اللبنانيين المقيمين في دالوا فقط حوالي 119 شخصاً يمثلون خمس مجموع السكان اللبنانيين في ساحل العاج بأكملها([16]).
أما المناطق البريطانية بغرب أفريقيا، فكانت أكثر تقييداً من المناطق الفرنسية، وأصدرت قانون تقييد الهجرة في نيجيريا عام 1923 بهدف استبعاد جميع الأشخاص غير المرغوب فيهم، واشترطت للإقامة أن يكون المهاجر لديه سبب حقيقي للإقامة، وبعض الضمانات الأخرى للعودة إلى بلده الأصلي، بالإضافة إلى حيازته لجواز السفر وشهادات اللياقة البدنية([17]). ونتيجة لمنافسة التجار اللبنانيين للأوروبيين، قامت بريطانيا بتعديل قانون الهجرة بعد عام 1945، واشترطت أن يمتلك المهاجر اللبناني رأس مال لا يقل عن 100.000 جنيه استرليني، وبرغم ذلك ارتفع عدد المهاجرين في جنوب نيجيريا من 106 لبناني في عام 1921 إلى 1790 لبناني في عام 1952([18]).
ثم حدثت هجرة ثانوية للمستوطنين اللبنانيين من دول أخرى في غرب أفريقيا مثل غينيا ومالي والسنغال وسيراليون بعد استقلال هذه الدول، والتي بدأت في اصدار قوانين تجارية جديدة تهدف إلى تقييد المشاريع اللبنانية. وبلغ عدد اللبنانيين في ساحل العاج حوالي 5233 نسمة حسب احصاء عام 1975، برغم أن البعض أكد أن هذا الرقم كان أقل بكثير من العدد الحقيقي([19]).
وبلغ عدد المهاجرين اللبنانيين في سيراليون حوالي 2246 في عام 1985، وتركزوا في المدن الكبرى بما في ذلك فريتاون وكينيما وبونتي، ووصل عددهم في عام 2014 إلى قرابة 7000 لبناني، كانوا يمثلون 0.13 % من تعداد سيراليون([20]). أما في نيجيريا فقد وصل عدد اللبنانيين إلى حوالي 30000 فرد في عام 2008. وفي عام 2012، كان يوجد 5000 لبناني في إيبادان وحدها([21]).
توزيع الجاليات اللبنانية في دول غرب أفريقيا عام 2015([22])
الدول الأفريقية |
أرقام الوزارة |
أرقام الدراسات |
غانا |
6000 |
6000 |
ليبيريا |
12000 |
20000 |
نيجيريا |
14000 |
75000 |
السنغال |
25000 |
75000 |
سيراليون |
12000 |
20000 |
موريتانيا |
250 |
250 |
مالي |
400 |
1000 |
ساحل العاج |
60000 |
90000 |
الجابون |
7000 |
15000 |
بنين |
5000 |
20000 |
توجو |
6000 |
6000 |
غينيا |
10000 |
10000 |
غينيا بيساو |
700 |
1500 |
جامبيا |
2000 |
2000 |
الكاميرون |
2000 |
2000 |
ثانياً: الجاليات اللبنانية وتأثيرها في بلدان المهجر
كان للجالية تأثير قوي في بلدان الغرب الأفريقي، منها:
على المستوى الاقتصادي بدأوا كباعة متجولين في الأسواق، يبيعون الحلي والمنسوجات، وبسرعة دخلوا مجال تجارة التجزئة، وتوسعوا في الاقتصاد النقدي عن طريق اختراق المناطق الداخلية لغرب أفريقيا([23])، وشراء المطاط من المزارعين الأفارقة بأسعار أفضل من الفرنسيين، وفي خلال فترة وجيزة، احتكروا شراء المطاط واعتمدت عليهم بيوت الأعمال الفرنسية([24]).
وقد حرص اللبنانيين على الاقامة في المناطق الغنية بالمحاصيل النقدية (القهوة، الكاكاو، الأخشاب، زيت النخيل)، مثلما حدث في مدن ساحل العاج مثل أبيدجان، وبواكي Bouake وجاجنوا Gagnoa ودالوا Daloa، وذلك في أواخر 1920([25]).
كما أنهم تمتعوا بالحماية الاستعمارية نظراً لدورهم في اقتصاد المستعمرات([26])، ويظهر هذا جلياً في اضطرابات فريتاون، فقد حدث نقص حاد في الغذاء، وارتفع سعر الأرز، الأمر الذي دفع الأفارقة إلى مهاجمة مخازن الأرز في 18 يوليو 1919، ووقعت اضطرابات وأعمال شغب عنيفة على مدار يومين في فريتاون. حيث هاجم الأفارقة المتاجر والمنازل التي يشغلها اللبنانيون، وتم استدعاء الشرطة لاستعادة النظام، وقدر اللبنانيون خسائرهم بــ 250 ألف دولار، لكن الحكومة عوضتهم بحوالي 45 ألف دولار([27]).
واستطاعت عائلة زارد اللبنانبة التي احتلت مكانة اقتصادية كبيرة في نيجيريا خلال فترة العشرينيات، شراء حوالي 8000 طن من الكاكاو من مجموع محصول بلغ 49000 في عام 1925([28]). خاصة وأن خطوط السكك الحديدية قد سهلت نقل اللبنانيون لبضائعهم عبر المدن النيجيرية([29]).
وقام اللبنانيون بدور الوسيط التجاري، فكانوا يشترون المنتجات من الأفارقة مثل الفول السوداني وبيعه للمصدرين الأوروبيين الكبار، ثم طوروا من أنفسهم ودخلوا في مجال الصناعة والنقل، والتغذية، والتي أصبحت مهمة أثناء الحرب العالمية الثانية. كما دخل اللبنانيون في مجال العقارات وامتلكوا معظم دور السينما في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى امتلاك بعض الفنادق الصغيرة والحانات([30]).
ويرجع نجاح المهاجرون اللبنانيون في الفترة الأولى إلى ما تمتعوا به من سُمعة طيبة، والبيع بأسعار رخيصة([31])، وخلال الأزمة الاقتصادية التي وقعت في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، قام اللبنانيون بترشيد التكاليف العامة، وتحمل مستوى معيشي بسيط للغاية، مع توسعهم في المبيعات لتغطية الخسائر في ظل ظروف السوق القاسية، وقبلوا بهامش ربح بسيط([32])، الأمر الذي جعل الشركات التجارية الكبيرة تعتمد عليهم بشكل متزايد على حساب نظرائهم الأوروبيين، خاصة بعد أن تمكن اللبنانيين من تعلم اللغات المحلية([33])، والتواصل مع الأفارقة، فكانوا مستعدين للتحدث والمساومة معهم بشكل مطول، وبالتالي كان لديهم مؤشر سابق على تغيرات في مستويات المستهلكين أو توقعات المحاصيل([34])، لذا بلغ إجمالي التجارة اللبنانية في أفريقيا الغربية الفرنسية في عام 1937، حوالي 233 مليون فرنك([35]).
وقد استطاع التاجر اللبناني السيطرة على تجارة التجزئة قبل الحرب العالمية الثانية، بفضل قدرته على الحصول على ائتمان من البنوك الأوروبية والتي ترددت في إقراض البلدان الأفريقية، مما جعل اللبنانيين يتفوقون على منافسيهم من الأفارقة([36]). ووسع اللبنانيون مجال أعمالهم التجارية، واستطاعوا الهيمنة على تجارة الأقمشة، وباعوا السلع المصنوعة من الحرير والقطن في مدينة إبادان بنيجيريا([37]). وبسبب هذا الوضع التنافسي نظم الأفارقة في بلدتي إيجيبو وأبيوكوتا في جنوب غرب نيجيريا، مظاهرات ضد التجار اللبنانيين في الثلاثينيات([38]).
في فترة الأربعينيات، سيطرت شركة C. Zard & Co Ltd المملوكة لعائلة زارد اللبنانية على تجارة الكاكاو، وفي عام 1947 اختار مجلس تسويق الكاكاو النيجيري أربعة لبنانيين من إجمالي خمسة وعشرون كوكلاء للشراء، يشترون من المنتجين الأفارقة الصغار، ثم يبيعونه بالجملة للمصدرين بعد ذلك([39]).
وفي سيراليون سيطرت صناعة الماس على الاقتصاد منذ الخمسينات، ولذا أصبح محور الأعمال اللبنانية، فقاموا بتمويل الأفارقة للتعدين وبيع ما يكتشفونه لهم([40]). وقد شاركت عائلة بسمة اللبنانية برئاسة قاسم بسمة، في تجارة الماس، بينما تم توقيف العديد من التجار اللبنانيين وترحيلهم بسبب الاتجار غير المشروع بالماس. وبحلول مارس 1956، تم منح 32 لبنانياً رخصاً للتجارة في الماس، مما أضفى صفة الشرعية على مشاركة اللبنانيين في تلك التجارة([41]).
في فترة الخمسينيات والستينيات بدأت موجة جديدة من المهاجرين اللبنانيين إلى سيراليون، وعملو في مجالات بيع السيارات، ودور السينما، والفنادق، والمطاعم. وأصبح بعضهم من وكلاء الشحن ومنهم من عمل في قطاع التصدير، وأنشأ آخرون عدداً من المصانع([42]).
أما اللبنانيون في السنغال فقد استطاعوا السيطرة على تجارة المنسوجات في المدن الكبيرة، خاصة داكار، واهتموا بتجارة الأجهزة الكهربائية، وتنوعت استثماراتهم في المطاعم والفنادق والسوبر ماركت وتربية المواشي، والصناعات الخفيفة، وتجارة الفول السوداني. وهكذا ساعد اللبنانيون على تنوع التجارة الخارجية في السنغال بعيداً عن فرنسا، وتمكنوا من كسر هيمنة الشركات الأوروبية الكبرى([43]).
واحتكر اللبناني أنطوان خوري مجال نقل الفول السوداني في السنغال خلال فترة الستينيات، حيث امتلك شركة ترانسبورت خوري التي ضمت أسطول يحتوي على 160 مركبة، واستثمارات بقيمة 550 مليون فرنك فرنسي. كما احتكر توزيع الوقود على محطات الوقود التابعة لشركة شل في جميع أنحاء السنغال([44]). كما شارك لبنانيون آخرون في وسائل النقل العام، وخاصة في كاولاك Kaolack، ومنهم من عمل في تجارة التجزئة، وصناعة الأخشاب، وبيع قطع غيار السيارات. لكن بسبب حالة الركود الاقتصادي في تجارة التجزئة عقب رحيل الفرنسيين، فرضت الحكومة السنغالية قيوداً على الهجرة اللبنانية في عام 1964([45]).
منذ الثمانينيات، طور المهاجرون اللبنانيون استثماراتهم في العديد من قطاعات الاقتصاد النيجيري، نتيجة لفهمهم الكامل للنظام المالي، والطبيعة الجغرافية والاقتصادية في نيجيريا، واستفادوا من تحرير التجارة في البلاد، مما جعلهم يسيطرون على الأسهم الرئيسية في الزراعة والصناعات المرتبطة بها كالأطعمة([46])، وأعمال البناء حيث امتلكوا أكثر من 50 % من المباني الحديثة في إيبادان([47])، بالإضافة إلى مجال الطباعة والتغليف الصناعي، وتصنيع البلاستيك.
وكانت الشركتان اللبنانيتان الأبرز في الثمانينيات وأوائل التسعينات هما شركة كوبيك Kopek الزراعية، وهي شركة مملوكة لعائلة زارد، وشركة واسيلي Wasseli الزراعية، كما سيطر اللبنانيون على صناعة الأغذية والحلويات والمشروبات. بينما امتلك الأخوان شاجوري وهما من أغنى العائلات اللبنانية في نيجيريا مطاحن الدقيق في إيبادان، التي أنشئت في الثمانينيات وبحلول عام 2012، أصبح لديهم أكبر مصنع لإنتاج المكرونة في أفريقيا([48]).
أما عائلة فخري اللبنانية فامتلكت سلسلة محلات السوبر ماركت في إيبادان، وقامت بشراء مصنع النسيج كوتيفو COTIVO ، الذي يتم تصدير معظم انتاجه إلى أوروبا، بالاضافة إلى امتلاك اللبنانيين للكثير من متاجر السلع الاستهلاكية والخمور والسجائر في المدن الصغيرة. أما في المدن الكبرى فيعمل العديد منهم في تجارة قطع غيار السيارات، والالكترونيات، والمنسوجات([49]). وأسسوا البنك اللبناني، المعروف باسم “Intra Bank“، الذي عمل من عام 1963 حتى عام 1971. بالإضافة إلى قيامهم بالتسهيلات الائتمانية([50]).
وأشارت دراسة أعدتها غرفة الصناعة في ساحل العاج عام 1979، إلى أن اللبنانيين يسيطرون على 2 % من أعمال التصنيع، و 2 % من استثمارات رأس المال الصناعي، وامتلك اللبنانيون في التسعينات ما لا يقل عن 50٪” من شركات التصنيع الوطنية([51])، وحوالي 70 % من البنزين، بالإضافة إلى 175 من أكبر المؤسسات الصناعية([52]). وسيطروا على 60٪ من اقتصاد التجزئة. ولا يزال اللبنانيون يسيطرون على التجارة في الجنوب، وتتركز معظم أعمالهم في مناطق إنتاج الكاكاو والبن، ولهم متاجرهم الخاصة بتجارة التجزئة في الأحياء([53]).
أما من الناحية السياسية، فلم يكن للجالية اللبنانية تأثير في الحياة السياسية، لكن استخدم بعضهم قوتهم الاقتصادية لإقامة علاقات مع المسئولين الحكوميين، وخاصة في ساحل العاج والسنغال وسيراليون وليبيريا، مما مكنهم في بعض الأحيان من التأثير في السياسة، من خلال تقديم خبراتهم المالية للمسئولين بما في ذلك رؤساء الدول، وبالتالي التأثير في سياسة الحكومة وحماية مصالحهم المالية([54]).
وقد قرر بعض اللبنانيين دخول الحياة السياسية في سيراليون، مثل الدبلوماسي الراحل جون عكر، الذي شغل منصب سفير سيراليون في الولايات المتحدة خلال رئاسة ألبرت مارجاي. وهو نفسه الذي قام بتلحين النشيد الوطني السيراليوني، وإلى جانبه ظهر العديد من الأفرو- لبنانيين في المشهد السياسي([55]). ولعبت عائلة بورجي دوراً مهماً في توطيد علاقة اللبنانيين مع قادة السنغال، ومنذ أن التقى عبده كريم بورجي مع سنجور لأول مرة في عام 1947 وهو يتمتع بعلاقة طيبة مع قادة السنغال، حتى أن اسمه اُطلق على احدى شوارع مدينة داكار بعد وفاته تخليداً لذاكراه([56]).
وتدريجياً أصبح اللبنانيون جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السيراليوني. كما أن قصة نجاحهم المالي كانت لها صدى في لبنان واستحوذت على اهتمام صانعي القرار في الحكومة اللبنانية الذين قرروا إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسيراليون([57])، وقام وفد برلماني من لبنان بزيارة نيجيريا في عام 1956، كجزء من الحفاظ على العلاقات الودية([58]).
أما من الناحية الاجتماعية والثقافية، فقد ظهرت المجتمعات اللبنانية في غرب أفريقيا كمجموعات منعزلة ومنغلقة على نفسها، كما كان إحساسها بالأفارقة والأوروبيين محدود للغاية([59])، وظل ارتباط اللبناني ببلده لبنان عميق جداً، أما أفريقيا فكانت بالنسبة له مكان للاستقرار والعمل فقط دون الارتباط بشعب، وذلك بسبب الاختلافات المادية والثقافية بينهم([60]).
وتمثلت الطبيعة المنغلقة للمهاجرين في عدة جوانب منها النمط السكني في المدن، فمعظم العائلات التجارية اللبنانية تعيش في متاجرها أو في الطابق العلوي منه، ونتيجة لشعورهم بالضعف والغربة، أقاموا في وحدات اجتماعية متماسكة، حيث كانت الأسرة محور النشاط الاقتصادي، وربما كان تضامنهم العرقي عامل من عوامل نجاحهم الاقتصادي([61])، ففي الغالب كانت الشركات تملكها عائلة واحدة، واستند توظيف المهاجرين في العمالة المأجورة على روابط الأقارب([62]). كما أسسوا لأنفسهم النوادي الاجتماعية لحل الانشقاقات الطائفية أو الخصومات الشخصية التي تنشب بينهم([63]).
ونتيجة الرغبة العميقة لدى اللبنانيين من الجيل الأكبر سناً في توفير تعليم أفضل لأطفالهم، أنشأوا العديد من المدارس الابتدائية والثانوية في فريتاون، تقبل طلاب من مختلف الجنسيات والديانات، وتعتبر الآن من أفضل مؤسسات التعليم([64])، بينما كانت العائلات الغنية تُرسل أطفالها إلى لبنان أو أوروبا خاصة في مرحلة التعليم الثانوي والعالي. وقد أسس الأب بالوس أبو جوده مدرسة خاصة لتعليم الأطفال اللبنانيين المهاجرين في منطقة بيت شباب في لبنان، من التبرعات المادية التي جمعها أثناء وجوده في أفريقيا([65]).
وقد تمسك اللبنانيون المهاجرون بعادة زواج الأقارب، وعادة مايقوم الآباء اللبنانيون بترتيب الزيجات لأبنائهم من عائلات لبنانية أخرى، لذا كان أمر الحجاب شائعاً بين المسلمين في غرب أفريقيا حتى عام 1938، إلا أن الزواج من أفريقيات كان قليلًا، ونادراً ما كان المجتمع اللبناني يعترف بأطفال الزيجات المختلطة.
وأدى احتفاظ مسيحيو لبنان المقيمين في نيجيريا بهويتهم المستقلة في مسألة الدين، إلى بنائهم الكنيسة المارونية اللبنانية “سيدة البشارة” في إيبادان عام 2000، بعد أن ظلوا لسنوات يصلون مع السكان المحليين في كنيسة سانت ماري الكاثوليكية([66]).
أما من الناحية الدينية، الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في الفترة (1975-1990)، من أهم اسباب هجرة اللبنانيين الشيعة إلى غرب أفريقيا، وهو ما تسبب في نشر مذهبهم في العديد من الدول، مثل السنغال([67]).
لم يكن للمذهب الشيعي تأثير يُذكر في غرب أفريقيا في باديء الأمر، لكن تغير الوضع مع سقوط نظام الشاه وصعود “الثورة الإيرانية” في السبعينات، وقامت جماعة شيعية لبنانية بافتتاح الجمعية الثقافية الإسلامية في فريتاون في عام 1975([68]). وقد أشار تقرير في عام 2015، إلى قوة العلاقات بين الشيعة اللبنانيين المقيمين في ساحل العاج وبين حزب الله في لبنان، ودعمهم المالي للحزب ، مما جعل حزب الله يوسع من نفوذه في المنطقة([69]).
ثالثاً: علاقة الجاليات بأصولها اللبنانية وانعكاسه على بلدان المهجر
لقد أتي معظم المهاجرين تقريباً من أسر فقيرة، باعت كل ما تملكه أو ادخرته، لكي يتمكن العضو المهاجر من إرسال الحوالات المالية، لذا حافظوا على اتصال وثيق مع عائلاتهم في لبنان. كما أنهم شعروا بواجبهم تجاه وطنهم وإعادة أمجاده القديمة([70]). وقد أشار أحد الباحثين إلى أن هجرات اللبنانيين كان له دور أساسي في تطوير الطبقة الوسطى اللبنانية، وفي المساعدة على تحديث لبنان.
وقد ساهموا في إنشاء العديد من الأعمال التجارية والمنظمات الخيرية في لبنان، التي تتعامل مع المشاكل الاجتماعية في القرى والبلدات. كما قام المهاجرون ببناء المستشفيات والمدارس ودور الأيتام، وشيدوا الطرق وأسسوا البنية التحتية، وأقاموا المراكز المجتمعية، وقاعات الكنيسة.
وخلال الحروب أو الكوارث، أرسل المهاجرون الأموال إلى ذويهم في لبنان، مثلما حدث عندما انهارت صناعة الحرير في أواخر القرن التاسع عشر، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأثناء الزلازل في الخمسينيات، أو خلال الصراعات، وتم فتح آلاف الحسابات المصرفية في لبنان وفي جميع أنحاء العالم للمساعدة في تخفيض الديون اللبنانية. وساهم المهاجرين بمبلغ 52 مليار ليرة لبنانية (حوالي 35 مليون دولار) في عام 1991، كما ساعدوا المتضررين من الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006.
ووفقاً لرئيس بلدية إهدن Ehden وزغرتا Zgharta، وهما مدينتان في شمال لبنان، قام المهاجرون ببناء القصر البلدي، ودفعوا ثمن بناء طريق هام في إهدن أُطلق عليه “شارع المغتربين”، ورصفوا ساحة الميدان التاريخية، وساهموا في ترميم المدرسة العامة، وتجميل المدينة، بالإضافة إلى الأعمال الخيرية العديدة، وبناء المستشفيات والمراكز الصحية. وبمجرد أن يتبرع المهاجرون، يتم تشجيعهم على الزيارة لمعرفة ما قاموا به من مساهمات، ليس لرؤية الفوائد المادية لتبرعاتهم فقط، وإنما لتقوية علاقاتهم ببلدهم الأم، كما أن هذه الزيارات ساعدت في تنشيط سوق السياحة في لبنان([71]).
ونظراً لاسهامات المهاجرين المادية، ودورهم في تنمية لبنان، قررت الحكومة اللبنانية منحهم حق التصويت في الخارج، وتم ذلك للمرة الأولى في أبريل 2018، عندما أدلى اللبنانيون في بلاد المهجر بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية([72]). كما قدمت الحكومة اللبنانية مساعدات فنية بما في ذلك منح دراسية لطلاب سيراليون، ودعت شخصيات سياسية ودينية من سيراليون إلى لبنان([73])، وتم افتتاح قنصلية سيراليون في لبنان في أبريل 2016([74]).
كانت الواجهة الأولى التي انصبت بها المساعدات المادية في لبنان الأم، أما بلد المهجر فكانت معظم تبرعاتهم المادية ومؤسساتهم الخيرية فيها بغرض تأمين مشاريعهم الاقتصادية، وتجنب الأعمال الانتقامية المحتملة تجاههم من الأفارقة، ولذا أقاموا المراكز الثقافية في بواكي ودالوا وتياسال بساحل العاج، ومستشفى للأمومة في تريتشفيل، ومسجد في توبة، والتبرع بدراجات نارية ومركبات وسيارات إسعاف إلى شرطة إيبادان([75]).
كما قامت الجالية اللبنانية بالتبرع لبناء أكبر مسجد في داكار، وبناء المؤسسات الوطنية، لاسيما مدرسة الزهراء، كما ساهم بعض الأطباء اللبنانيين في تحسين الخدمات، خاصة عندما اجتاح الجفاف السنغال في عام 1984، حيث تبرع اللبنانيون في داكار بـ 58 مليون فرنك([76]).
رابعاً: التحديات التي تواجهها الجالية اللبنانية في غرب افريقيا
بعد المكانة التي وصل إليها المهاجرين في بلدان الغرب الأفريقي، أصبحوا في وضع صعب، يواجهون العديد من التحديات التي تهدد وضعهم الاستثماري بشكل كبير، ومن أهمها:
- الاستقرار والأمن
تعاني أفريقيا من ظاهرة عدم الإستقرار وزيادة العنف، إذ أن السمة الغالبة على الصراعات في أفريقيا هي قبلية وانقلابات عسكرية متكررة. وبعض أعضاء الجاليات اللبنانية لهم علاقة سياسية متينة بقيادات هذه الدول وحكامها مما يؤثر على الجالية سلباً في كثير من الأحيان أو إيجابياً بشكل فردي.
وقد واجهت الجاليات اللبنانية في افريقيا نكبة حقيقية، حيث شهدت ليبيريا بين عامي ١٩٨٩ وعام ١٩٩٦ حرباً إثنية داخلية دمّرت اقتصادها وشردت سكانها، خصوصاً في العاصمة منروفيا، وتعرض اللبنانيون لنهب وتخريب شامل لمؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية، وأدّى ذلك إلى تهجير أبناء الجالية في ظروف مأسوية، وامتدت هذه الأحداث إلى دول أخرى مثل سييراليون، نيجيريا([77]). وتمكن اللبنانيون من الفرار إلى جامبيا، واستطاعوا بحلول عام 1999 امتلاك العديد من محلات السوبر ماركت والفنادق والمطاعم في منطقة بانجول الكبرى([78]).
كما تعرضت مصالح اللبنانيين وممتلكاتهم لعمليات نهب وسلب خلال الأزمة السياسية في ساحل العاج 2011، مما دفع نحو 2000 لبناني إلى العودة إلى لبنان قبيل استفحال الأزمة، وتبعهم حوالي 4 آلاف لبناني أخرين، بعدما بلغت العمليات العسكرية والاعتداءات عليهم ذروتها. بينما فضل الكثيرين البقاء وعدم التخلي عن ممتلكاتهم([79]).
- الجنسية والمشاركة السياسية
تظل مسألة المواطنة من أهم التحديات التي يواجهها اللبنانيون في بلدان غرب أفريقيا، ومنذ رحيل الأوروبيين، والأفارقة ينظرون إلى اللبنانيون على أنهم مجرد مجموعة أجنبية أخرى([80]). لذا قامت الحكومات بمنح اللبنانيين الجنسية لكن بشروط، فسمح دستور سيراليون عام 1961 بمنح الجنسية للأشخاص ذوي الأصول المختلطة. ونص على أن الأبناء من أب أجنبي وأم أفريقية هم مواطنين سيراليونين، شريطة أن يثبت أنه مقيم بالبلاد لمدة خمس سنوات مستمرة، لكن التعديل الدستوري لعام 2006 فضل اللبنانيين المنحدرين من أصل أفريقي، دون اللبنانيين من أب غير أفريقي([81]). وحظرت على المواطنين المزدوجين الجنسية تولي مناصب العامة([82]).
أما الحكومة السنغالية فقد أجبرت اللبنانيين الذين تقدموا بطلب للحصول على الجنسية بعد عام 1972، بالتخلي عن جنسيتهم الأصلية. بينما أعفى القانون أفراد العائلات اللبنانية الغنية، التي قدمت مساعدات مالية كبيرة للسنغال([83]).
وبرغم اكتساب حوالي 10% من اللبنانيين الجنسية في ساحل العاج، إلا أنهم مارسوا السلطة السياسية بشكل غير مباشر، حيث نظرت لهم السلطات على أنهم أجانب، وعلى الرغم من اهتمام العديد من اللبنانيين بالسياسات المحلية والوطنية، إلا أنهم ليس لديهم أمل في شغل منصب انتخابي، ولا تزال الجالية اللبنانية مهمشة سياسياً خاصة بين البنانيين المولودين في أفريقيا([84]).
- التحديات الاقتصادية
نظر التجار الأفارقة إلى النجاح المالي للبنانيين على أنه تهديد لنجاح مشاريعهم الخاصة، وتولت الأحزاب السياسية الأفريقية في نيجيريا خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات العديد من الحملات المناهضة للبنانيين، وقد ردت الادارة الاستعمارية على انتقادات النيجيرين لسياستها بأن اللبنانيين لعبوا دور إيجابي في الاقتصاد، وبالتالي سمحت لهم بامتلاك الأراضي والمحلات التجارية والمشاركة في التجارة([85]).
كما اتهمتهم المعارضة الأفريقية بالاعتماد على أفراد عائلتهم بدلاً من توظيف الأفارقة، وتوظيف العمالة الأفريقية بأجور دون المستوى، ورد اللبنانيون على تلك التهم بأن صندوق إعانة بطالة السنغالين تم تمويله من رجال الأعمال اللبنانيين. وهناك اعتراض أخر يتمثل في تحويل المدخرات إلى لبنان وبالتالي استنفاد مبالغ كبيرة من رأس المال([86]). كما اتهمهم الأفارقة بالتهرب الضريبي، وبيع السلع بضعف ثمنها([87]). لذا قامت حكومة ساحل العاج خلال فترة التسعينيات بعمل مسح شامل للمتهربين من الضرائب في الأحياء التجارية لأبيدجان([88]).
وقد واجهت الجالية اللبنانية مشكلة أساسية، وهي عدم توفر خطوط نقل جوية مباشرة لأغلب دول القارة، لنقلهم بشكل مباشر إلى لبنان وبالعكس. مما يضطرهم لاستعمال خطوط طيران اقل جودة وتعتمد على عدة محطات قبل وصولها إلى لبنان مما يزيد نسبة المخاطر على اللبنانيين، ويؤدي إلى حدوث كوارث إنسانية، كما حدث في كارثة سقوط الطائرة الجزائرية في ٢٤/٧/٢٠١٤ التي كان على متنها 19 لبنانياً، والطائرة الإثوبية التي سقطت في بحر بيروت، وكان على متنها 50 لبنانياً، وكذلك عندما سقطت طائرة على شواطئ كوتونو في بنين في عام ٢٠٠٣، وكان غالبية ركابها من اللبنانيين([89]).
- المشاكل الصحية
تنتشر الأمراض المعدية مثل الملاريا ونقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وذبابة «التسي تسي» وفيروس «الإيبولا» الذي ظهر أوائل عام 2014 في غينيا قبل أن يصل إلى ليبيريا وسيراليون ونيجيريا والسنغال. وقد أثرت هذه النكبات الصحية على الجاليات اللبنانية فتضائل عددها، وبخاصة فيما يتعلق بفيروس «الأيبولا»، حيث أن عدداً كبيراً من العائلات اللبنانية قد عادت إلى لبنان خوفا من انتشار الفيروس بين أفرادها بسبب قلة الأطباء اللبنانيين المتواجدين في القارة([90]).
خامساً: رؤية مستقبلية للوجود اللبناني في غرب افريقيا
ترتبط مسألة مستقبل الجالیة اللبنانية في غرب إفریقیا ارتباطاً وثیقاً بالحاضر والماضي إذ یلعب التاریخ دوراً مهماً في تكییف تلك العلاقة، لذا فإن أفضل سيناريو بالنسبة للمهاجرين اللبنانيين هو القبول الكامل والاندماج في المجتمع الأفريقي، ومثلما كان الأفارقة مترددين في قبول الجالية اللبنانية، كذلك قاوم اللبنانيون في ساحل العاج مثلاً مسألة الاستيعاب للمجتمع الأفريقي، على عكس الجاليات اللبنانية المهاجرة إلى مناطق أخرى كأمريكا، وربما يرجع ذلك إلى تردد اللبنانيين المبني على تحيزهم لثقافتهم اللبنانية، والتي اعتبروا أنها تتفوق على الثقافة الأفريقية([91]).
كما أن العمل في بلدان الغرب الافريقي قد تشوبه مخاطر كبيرة ما يجعله يعاني من صعوبات لا تشجع المستثمرين، لذلك حاولت الحكومة اللبنانية مؤخراً الاستفادة من تجارب الجالية الناجحة في التخطيط لمستقبل استثماري مع دول غرب أفريقيا. وافتتحت الحكومة اللبنانية مؤتمر “الطاقة الاغترابية اللبنانية” الذي نظمته للمرة الأولى في ابيدجان بساحل العاج، في فبراير 2018، في محاولة منها لانطلاق المستثمرين اللبنانيين في أفريقيا، والاستفادة من قصص نجاح الجالية اللبنانية([92]).
تواجه الجالية اللبنانية تنافساً تجارياً قوياً مع الجاليات الآسيوية الأخرى، ومجدداً بدأت الشركات الصينية تستثمر في قطاعات طالما كانت حكرا على اللبنانيين أبرزها: صناعة مواد التجميل، الإتصالات، تجارة السيارات، البلاستيك، والمعادن، والمواد الغذائية والصناعات الكيميائية. وتدخل المنافسة التي تقوى يوماً بعد يوم ضمن تنافس عالمي ” ينبغي أن يدخل اللبناني حلبته ويتطلع الى الأمام ضمن قواعد اللعبة التجارية، وقد بدأ فعلا بالتحوّل إلى قطاعي الصناعة والتربية، واللبناني في أفريقيا يحتاج الى رؤية جديدة تختص بالإغتراب الأفريقي عموماً، آخذاً في الإعتبار الحقائق الموضوعية للتطورات العالمية على الساحة الأفريقية”([93]). والعمل على كسب ثقة الأفارقة من خلال الاستعانة بهم كموظفين وعمال، وزيادة رواتبهم بما يتناسب مع جهدهم وقدراتهم، وفهم قيمة موروثاتهم الثقافية والاجتماعية.
وعلى الحكومة اللبنانية الاستجابة لمطالب الجاليات اللبنانية المتكررة بدعمها من خلال بناء علاقات مميّزة ومتينة مع الحكومات الأفريقية، وتكثيف زيارات المسئولين الرسميين اللبنانيين إلى غرب أفريقيا، والعمل على نشر مزيد من السفارات اللبنانية، وتعيين ملحقين اقتصاديين لمتابعة كل العوائق والمشاكل التي تعترض المستثمرين اللبنانيين، وعلى الحكومة اللبنانية أيضاَ إنشاء غرفة صناعة وتجارة بين كافة الدول الأفريقية للبنانيين ليتبادلوا الخبرات والصناعات والسلع.
كما أن الجاليات اللبنانية تعاني من قلّة الأطباء اللبنانيين، وعليه يجب على رجال الأعمال الاستثمار في القطاع الصحي، مثل إنشاء مستشفيات لتقديم الاستشفاء للجاليات، ويساعد في بناء جسر للتواصل مع السكان المحليين. وكذلك العمل على بناء المدارس لأبناء الجالية، والاهتمام بتعليم اللغة العربية([94]).
الخاتمة
لقد أصبح اللبنانيون جزء من النسيج الاقتصادي والاجتماعي لدول الغرب الأفريقي، فلم تجلب المشاريع التجارية المال إلى المجتمع اللبناني فحسب، ولكنها عززت وضعهم الاجتماعي أيضاً من خلال احتكاكهم الطويل مع العادات والقيم الثقافية الأفريقية، التي ساعدتهم في كسب ثقة بعض الأفارقة، وتحقيق درجة كبيرة من الازدهار الاقتصادي. وبرغم احتفاظ المجتمعات اللبنانية على مدى عقود بعلاقاتها مع الوطن ومقاومتها للاستيعاب في غرب أفريقيا، إلا أن هذه الظاهرة خفت بعض الشيء نتيجة الاختلاط الطويل مع الأفارقة، وخاصة بين الجيل الثالث للمهاجرين اللبنانيين.
ويرتبط بقاء الجالیة اللبنانیة في كثیر من دول غرب أفريقيا على التحولات الاقتصادیة وریاح التغییر السیاسیة التي تهب الآن على بعض الدول الأفريقية، التي ارتبطت اقتصادیاتها بعجلة الاستعمار الحدیث، الأمر الذي یتطلب جهداً مشتركاً من جانب كل من المهاجرین والحكومة اللبنانية والحكومات الأفريقية.
[1] Sillah, Mohammed B.: The Lebanese Immigrants in Sierra Leone: A Market Dominant-Minority and Revisiting the Constitutional Statute for Naturalization and Citizenship, American International Journal of Social Science, Vol. 5, No. 4; August 2016, p.8.
[2] Bierwirth, Chris: The Initial Establishment of the Lebanese Community in Côte d’Ivoire, CA. 1925-45, The International Journal of African Historical Studies, Vol. 30, No. 2 (1997), p.326.
[3] Ellis, Stephen & Fauré, Yves A.: Op. Cit., p.240.
[4] Gberie, Lansana: War and Peace in Sierra Leone: Diamonds, Corruption and the Lebanese Connection, Report from IMPACT Transforming Natural Resource Management, Partnership Africa Canada, 13 Nov 2002, p. 10.
[5] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.298.
[6] Falola, Toyin: Op. Cit., pp. 525-526.
[7] Bierwirth, Chris: Op. Cit., p. 85
[8] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.9.
[9] Leighton, Neil O.: Op. Cit., p. 44.
[10] Khuri, Fuad I.: Kinship, Emigration, and Trade Partnership among the Lebanese of West Africa, Africa: Journal of the International African Institute, Vol. 35, No. 4 (Oct., 1965),p. 385.
[11] Akyeampong, Emmanuel K.: Race, Identity and Citizenship in Black Africa: The Case of the Lebanese in Ghana, Journal of the International African Institute, Vol. 76, No. 3 (2006), p.305.
[12] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.9.
[13] Ellis, Stephen & Fauré, Yves A.: Entreprises et entrepreneurs africains, Karthala, Paris 1995, p.240.
[14] Leighton, Neil O.: The Lebanese in Sierra Leone, Transition,Indiana University Press on behalf of the Hutchins Center for African and African American Research at Harvard University, No. 44 (1974), p. 44.
[15] O’Brien, Rita Cruise: Lebanese Entrepreneurs in Senegal: Economic Integration and the Politics of Protection, Cahiers d’Études Africaines, Vol. 15, Cahier 57 (1975), p.99.
[16] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp.327, 330.
[17] Winder, R. Bayly: The Lebanese in West Africa, Comparative Studies in Society and History, Vol. 4, No. 3 (Apr., 1962),p.306.
[18] Falola, Toyin: Lebanese Traders in Southwestern Nigeria, 1900-1960, African Affairs, Vol. 89, No. 357 (Oct., 1990), pp. 548, 528.
[19] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp. 80, 86.
[20] Malki , I. P. X.: The competing ontologies of belonging: race, class,citizenship, and Sierra Leone’s “Lebanese Question”, Dialectical Anthropology, Volume 41, Issue 4, December 2017, p. 356.
[21] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: The Lebanese in Ibadan, Nigeria 1986-2012, Journal of the Historical Society of Nigeria, Vol. 23 (2014), p. 133.
[22] موقع جمعية المغترب اللبناني.
[23] Akyeampong, Emmanuel: Africans in the Diaspora The Diaspora and Africa, African Affairs, Vol. 99, No. 395, Centenary Issue: A Hundred Years of Africa (Apr., 2000), p. 201.
[24] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.299.
[25] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp. 80, 86.
[26] Akyeampong, Emmanuel: Op. Cit., p. 201.
[27] Kaniki, Martin H. Y.: Attitudes and Reactions towards the Lebanese in Sierra Leone during the Colonial Period, Source: Canadian Journal of African Studies / Revue Canadienne des Études Africaines,Vol. 7, No. 1 (1973), p. 101.
[28] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: Op. Cit., p. 134.
[29] Falola, Toyin: Op. Cit., p. 532.
[30] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.312.
[31] Falola, Toyin: Op. Cit., p. 532.
[32] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp.327, 338.
[33] Ellis, Stephen & Fauré, Yves A.: Op. Cit., p.240.
[34] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp.327, 338.
[35] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.310.
[36] Leighton, Neil O.: Op. Cit., p. 44.
[37] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: Op. Cit., p. 134.
[38] Akyeampong, Emmanuel: Op. Cit., p. 202.
[39] Falola, Toyin: Op. Cit., p. 531.
[40] Leighton, Neil O Op. Cit., p. 45.
[41] Gberie, Lansana: Op. Cit., p. 11.
[42] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.10.
[43] O’Brien, Rita Cruise: Op. Cit., p. 105.
[44] Boumedouha, Saïd: Op. Cit., pp.539-540.
[45] O’Brien, Rita Cruise: Op. Cit., pp.101, 106.
[46] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: Op. Cit., p.136.
[47] Akyeampong, Emmanuel: Op. Cit., p.202.
[48] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: Op. Cit., p.137.
[49] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp. 90-91
[50] Kaniki, Martin H. Y.: Op. Cit., p. 97
[51] Bierwirth, Chris: Op. Cit., pp. 90-91
[52] CIA Documents, the Lebanese in Sub-Saharan Africa, Jan, 1988, p.9.
[53] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.11.
[54] CIA Documents, Op. Cit., p.8.
[55] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.10.
[56] Boumedouha, Saïd: Adjustment to West African Realities: The Lebanese in Senegal, Africa: Journal of the International African Institute, Vol. 60, No. 4 (1990), p.543.
[57] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.10.
[58] Falola, Toyin: Op. Cit., p. 552.
[59] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.318.
[60] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: Op. Cit., p. 147.
[61] Kaniki, M. H.: The Psychology of Early Lebanese Immigrants in West Africa, Transafrican Journal of History, Vol. 5, No. 2 (1976), p. 141.
[62] Akyeampong, Emmanuel K.: Op. Cit., p.310.
[63] Falola, Toyin: Op. Cit., pp. 525-526.
[64] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.11.
[65] Winder, R. Bayly: Op. Cit., pp.318, 320.
[66] Olaniyi, Rasheed Oyewole & Ajayi, Oluwasegun Michael: Op. Cit., p. 148.
[67] Wege, Carl Anthony: Hizballah in Africa, Source: Perspectives on Terrorism, Vol. 6, No. 3 (August 2012), p.46.
[68] Skinner, David E.: Da’wah and Politics in West Africa: Muslim famatat and Non-Governmental Organizations in Ghana, Sierra Leone and the Gambia, Development and Politics from Below: Exploring Religious Spaces in the African State. B. Bompani and M. Frahm-Alp. London 2010, Palgrave Macmillan, p. 112.
[69] Is Côte d’Ivoire facing religious radicalism?, West Africa Report, issue 13 , Jul. 2015, Institute for Security Studies, Dakar, p. 5.
[70] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.298.
[71] Hourani, Guita: Lebanese Diaspora and Homeland Relations, Paper Prepared for the Migration and Refugee Movements in the Middle East and North Africa, The Forced Migration & Refugee Studies Program, The American University in Cairo, Egypt, October 23-25, 2007, pp.4- 5.
[72] اللبنانيون في الخارج يدلون بأصواتهم للمرة الأولى في الانتخابات البرلمانية، 27/04/2018.
[73] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.11.
[74] باسيل وفيكتور فو افتتحا القنصلية الفخرية لسيراليون: لبنان على ثباته رغم التحديات، 11 أبريل 2016.
[75] Bierwirth, Chris: Op. Cit., p. 94
[76] Boumedouha, Saïd: Op. Cit., pp.542-543.
[77] جهاد الهاشم: الاغتراب اللبناني في أفريقيا: مشاكل وحلول.
[78] Akyeampong, Emmanuel: Op. Cit., p. 203.
[79] تريز منصور: ساحل العاج نموذجًا لكفاح اللبنانيين ولمعاناتهم.
[80] Winder, R. Bayly: Op. Cit., p.323.
[81] Sillah, Mohammed B.: Op. Cit., p.13.
[82] Malki, I. P. X.: Op. Cit., p. 357, 361.
[83] Boumedouha, Saïd: Op. Cit., pp.542-543.
[84] Bierwirth, Chris: Op. Cit., p. 92
[85] Falola, Toyin: Op. Cit., p. 546.
[86] Winder, R. Bayly: Op. Cit., pp.314-315.
[87] Falola, Toyin: Op. Cit., p. 546.
[88] Bierwirth, Chris: Op. Cit., p. 93
[89] جهاد الهاشم: مرجع سابق.
[90] المرجع نفسه.
[91] Bierwirth, Chris: Op. Cit., p. 96
[92] باسيل يفتتح اليوم في أبيدجان مؤتمر الطاقة الاغترابية رغم المقاطعة، 1 فبراير 2018.
[93] مارلين خليفة : 7 آلاف لبناني يستثمرون في القطاعات الحيوية في غانا.
[94] جهاد الهاشم: مرجع سابق.