1- مقدمة:
تُمثِّل ظاهرة التَّمَدُّن في الدول الإفريقيَّة واحدةً من القضايا الاجتماعيَّة الثقافيَّة اللغويَّة، التي تستحق البحث والدراسة؛ وذلك لأنها تُمثِّل مرحلة انتقالية من الخاص إلى العام، ومن الخصوصية إلى الاندماج، وبحكم أن نتائجها بالغة الأثر على المكوِّنات الأساسية للمناطق التي تغزوها.
ولأن هذه الظاهرة لها إفرازات عميقة في المجتمعات التي تقع تحت طائلتها، مثل التحوُّل اللغويّ الاجتماعيّ، الذي سنقف عنده في هذه الورقة؛ فإن أمر دراستها يصبح أمرًا حتميًّا يفرضه الواقع.
فالتَّمَدُّن كظاهرة اجتماعية ثقافية لغوية يتَّسم بتغيير الواقع بمكوناته الإثنيَّة واللغويَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة.
تحاول هذه الورقة دراسة ظاهرة التَّمَدُّن، ودورها في التحول اللغوي الاجتماعي-في إحدى مدن السودان التاريخية المهمَّة، التي تقع في غربه، وهي مدينة الفاشر، التي تتسم بالتعدد الإثني- اللغوي. كما تتشكل أهميتها بأنها آخر مدينة حُكِمَتْ منها سلطنة الفور الإسلامية، التي انتهت باستشهاد آخر سلاطينها، وهو السلطان علي دينار في العام 1916م.
2- التَّمَدُّن والتحول اللغويّ والتغيُّر الاجتماعيّ (إطار نظريّ):
2-1 أولا: التَّمَدُّن:
يعرّف التَّمَدُّنurbanization بأنه: “تلك العملية التي بواسطتها تصبح أعداد من البشر باستمرار في مناطق صغيرة نسبيًّا، مُشكِّلَةً للمُدُن”(1). كما يعرَّف أيضًا بأنه: “تلك العملية التي تنمِّي المدن، أو تلك العملية التي بواسطتها تصبح المجتمعات مدنيَّة (حضريَّة)”(2).
وتشير الويكيبيديا، الموسوعة الحرة، إلى أن التَّمَدُّن ما هو إلا “النمو الماديّ للمناطق الحضرية نتيجةً للهجرة الريفية، وعلى الوتيرة نفسها التمركز شبه الحضريّ في المدن، وعلى نحو أخص المدن الكبيرة”(3).
وقد جذبت ظاهرة التَّحَضُّر (التَّمَدُّن) أنظار علماء الاجتماع -وفقًا لحسين رشوان- لأربعة أسباب هي:
أولاً: تعتبر ظاهرة التَّحَضُّر ظاهرة حديثة نسبيًّا إذا ما قُورِنَتْ بالظواهر الاجتماعية الأخرى؛ كاللغة والدين، والتدرج الاجتماعي والعائلة. فقد نمَت عملية التَّحَضُّر، والتي يقصد بها معيشة نسبة كبيرة من السكان في المدن.
ثانيًا: يؤدي التَّحَضُّر إلى تغيير في نمط الحياة الاجتماعية. وهو ينتج عن التنمية الاقتصادية، ويؤثر في كل مظاهر الوجود، ويمتد أثره إلى الحياة الريفية.
ثالثًا: تتركز السلطة والنفوذ في المدن، وتمتد هذه السلطة إلى أجزاء المجتمع؛ ريفه وحضره.
رابعًا: إنَّ عملية التَّحَضُّر مستمرة، وهي ما تزال حتى الآن. كما تمَّ حل الكثير من مشكلاتها(4).
للتمدُّن مداخل عديدة؛ منها المدخل الاجتماعي- الثقافي، وفيما يخصُّ هذا المدخل، فإنه يمكن القول: إنه إذا كان البناء الاجتماعي يتكوّن -بصفة عامة- من مجموعة متصلة، ومنمطة من العادات الاجتماعية، التي تبرز من خلالها أدوار الأفراد ووظائفهم، فإن البناء الاجتماعي الحضري- بخاصة- أهمية حيوية في صياغة الشكل الحضري السائد، فهو يتسم بخصائص معينة؛ لعل أهمها سيادة العلاقات غير الشخصية impersonal، التي تظهر في شكل التفاعلات والعلاقات المستمرة بين الأفراد. وتتمثل هذه العلاقات في مجموعة من الرموز، مثل: عنوان الشكل، وطريقة الملبس، ونوعية المأكل والمشرب، وطرقهما، وأسلوب الإنفاق، ونمط الاستهلاك(5).
وأما فيما يخص اكتساب الخصائص الحضرية؛ فإنه يشير إلى أخذ الخصائص المادية، وغير المادية من ثقافة أخرى؛ كنتيجة للاتصال طويل المدى. ويمكن لهذا الاتصال أن يتم بطرق متعدِّدة. فقد يكون نتيجة لحرب أو غزو أو احتلال أجنبي أو استعمار، أو قد يكون من خلال مبعوثين أو تبادلات ثقافية. وقد يكون أيضًا نتيجة للهجرة، أو نقل القوى العاملة من خلال الرقّ أو ترحيل الأجانب غير المرغوب فيهم. وتُمَثِّل التجارة والتبادل الفني وانتشار الأفكار والمؤسسات مصادر أخرى للاتصال. كما ظهر في العصر الحديث نوعٌ جديد من الاتصال عن طريق الرحلات والسياحة(6).
وفي بعض الأحيان فإن اكتساب الخصائص الحضرية يمكن أن يكون بالقوة ومخططًا له. ومثال ذلك: محاولات الاستعمار البريطاني من أجل “تمدين” الإفريقيين المتخلفين. وقد استدعت هذه المحاولات من أجل التمدين: تعليم اللغة الإنجليزية، ونقل المهارات الأساسية والتكنولوجيا(7).
إن الحديث عن التَّمَدُّن يقتضي أن نُفرد حيزًا للتعريف بالمدينة، وأهم سماتها، والتركيز على كونها ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، وذلك في شيء من الإيجاز.
عرّف حسين رشوان المدينة “بأنها تجمعات سكانية كبيرة وغير متجانسة، تعيش على قطعة أرض محددة نسبيًّا، وتنتشر فيها تأثيرات الحياة الحضرية المدنية، ويعمل أهلها في الصناعة أو التجارة أو كليهما معًا، كما تمتاز بالتخصُّص، وتعدُّد الوظائف السياسية والاجتماعية”(8).
تعتبر المدينة ظاهرة اجتماعية، فهي أكثر من مجرد جزء من أجزاء المجتمع، وهي تمثل حقيقة اجتماعية، وتُعَدُّ تعبيرًا عن الممارسات الجمعية للسكان الذين يعيشون ويعملون معًا.. ومن خلال تطبيق شروط الظاهرة الاجتماعية على المدينة -وفقًا لحسين رشوان- نجد أنَّ:
1- المدينة تمتاز بأنها ذات طبيعة إنسانية.
2- المدينة تلقائية النشأة.
3- المدينة ظاهرة عامة منتشرة في كل المجتمعات.
4- المدينة تمتاز بموضوعيتها وشيئيتها.
5- المدينة تمتاز بالترابط.
6-المدينة مزوَّدة بصفة الجبر والإلزام.
7- المدينة تمتاز بصفة الجاذبية (9).
وفي ضوء هذا يتبين أن المدينة ذات خصائص اجتماعية، تتفق مع خصائص الظاهرة الاجتماعية، وبالتالي فهي ظاهرة اجتماعية في المقام الأول.
للمدينة بصورة عامة سمات عديدة، نقف هنا عند ستٍّ منها:
أولاً: المهنة: تخصُّص المدينة خلال مراحل التاريخ في واحد أو أكثر من الوظائف الآتية: الوظائف الاجتماعية: الدفاع، الدين، الثقافة، الإدارة، الترفيه. الوظائف الاقتصادية: التجارة، الصناعة، الإنتاج، الخدمات.
ثانيًا: المظاهر الثقافية: تمتاز المدينة بأنها كبيرة ومتنوعة ومحلاتها التجارية واسعة تبيع مختلف البضائع، كما أنها مزودة بالأضواء وإعلانات ألوانها زاهية، وبها ميادين فسيحة وتماثيل ونافورات وأندية وحدائق، وبها سينما ومسارح ومعارض ومتاحف وفنادق للسياحة، وحدائق للحيوانات ومقاهٍ.
ثالثًا: الإنسان الحضري: مع نموّ حجم المدينة تقل معرفة الفرد بالآخرين معرفة شخصية، وبالتالي تصبح العلاقات الاجتماعية علاقات سطحية ومؤقتة وغير شخصية. ولا يتَّصف إنسان المدينة بالتنقل فحسب، كما أنه لا يقف موقفًا جامدًا إزاء التقاليد، التي تسدُّ طريق حريته في الحركة في نطاق مجتمع المدينة، بل يسلك سلوكًا عقلانيًّا سفسطائيًّا. ومن ناحية أخرى قد يفقد ولاءه لعائلته المباشرة، ولكنه يميل في نفس الوقت إلى أن يفقد علاقاته وصلاته المباشرة بأقربائه الآخرين.
رابعًا: البيروقراطية: حيث كل الطرق تؤدِّي إلى العاصمة. وسبب ذلك تمركز الإدارة في العواصم الكبرى، وازدياد اعتماد كل مشروع، أو نشاط سياسي، أو تربوي، أو اقتصادي على التنظيم الإداري القائم في المدن والعواصم. وكذلك فإن الاختراعات الآلية وأدوات الكتابة والطبع والنشر والتسجيل وغيرها من أدوات التحكم والتوجيه والإرشاد؛ ساعدت على قيام ظواهر بيروقراطية الحياة الإدارية والتجارية، التي تتحكم في كثير من جوانب الحياة الداخلية والخارجية.
خامسًا: التشريعات والقوانين: تبرز التشريعات القانونية والأساليب الرسمية للضبط الاجتماعي في المدينة، لتحل محلَّ طاعة التقاليد. وذلك بصفتها وسيلة أساسية لتنظيم علاقات سُكَّان المدن وحياتهم الاقتصادية.
سادسًا: تمتد المدينة خارج حدودها: لا تقف المدينة عند حدودها المحلية، بل تمتد خارج حدودها، وتؤثر وتسيطر على المناطق التي تقع خارج هذه الحدود (10).
الحق أن سمات المدينة التي تمَّت الإشارة إليها تختلف باختلاف المدن؛ إذ لا يمكن توافرها مجتمعة في جميع المدن التي تنتشر على وجه البسيطة. فالمدن ضروبٌ، منها القديمة، ومنها الحديثة، ومنها ذات الخلفية التجارية، ومنها ذات الطبيعة السياحية، ومنها شبه المنعزلة، ومنها المنفتحة تمامًا على مدن أخرى قريبة منها.. إلخ.
2-2 التحوّل اللغوي:
التحول اللغويّ -وفقًا لرالف فاسولد- يعني بصورة مبسطة “أن مجتمعًا ما توقَّف عن استخدام لغته تمامًا مفضِّلاً لغة أخرى”(11). هذا على مستوى المجتمع، أما على مستوى الفرد فيُفْهَم من تعريف ماريو بي الذي يرى أن التحول اللغوي هو “التحول الذي يعتري فردًا ثنائي اللغة بتغيير لغة اتصاله اليومية بلغة أخرى”(12).
ولا شكَّ أن مثل هذه التعريفات المقتضبة لا تجيب عن تساؤلات كثيرة عن عملية التحول اللغوي؛ مِن مثل: كيف يحدث هذا التحول؟ ولماذا يحدث؟ وكم من الزمن تستغرق عملية هذا التحول؟ وغيرها من الأمثلة المهمة في هذا الإطار.
إن عملية التحول اللغوي -وفقًا لجشوا فيشمان- عمليةٌ تتولد من مراحل معقدة كالآتي:
المرحلة الأولى: يتعلم المهاجر اللغة الجديدة من خلال لغته الأم. وفي هذه المرحلة تستخدم اللغة الجديدة في مناح بسيط؛ حيث لا تستخدم اللغة الأم.
المرحلة الثانية: يتعلم اللغة الجديدة عدد كبير من المهاجرين، وهذا يمكنهم من التحدُّث إلى بعضهم البعض؛ إما باللغة الأم أو باللغة الجديدة.
المرحلة الثالثة: تؤدي كلتا اللغتين -اللغة الأم واللغة المكتسبة- وظيفتهما بصورة مستقلة، وأغلب المهاجرين يُعدُّون ثنائيي اللغة.
المرحلة الرابعة: وفي هذه المرحلة تُزيح اللغة المكتسَبة اللغة الأم من كلِّ ما تملك من مساحة اتصال(13).
ويلاحظ أن أية مرحلة من المراحل التي ذكرها فيشمان تكاد تمهِّد للمرحلة التي تليها بصورة آلية، وأن هذه المراحل تستغرق زمنًا طويلاً، وأنها تختلف من مجتمع كلامي (لغوي) لآخر. وقد تستبدل المرحلة بالجيل. ويلاحظ أيضًا أن ما ذُكِرَ يخص فقط التحوُّل اللغوي لأقلية مهاجرة من منطقة إلى أخرى.
إن التحول اللغوي قد يصبح أمرًا ضروريًّا وطبيعيًّا إذا لم تتدخل فيه أيدي البشر. وإذا كان أصحاب اللغة المتحوَّل عنها لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية لا يرون في تحولهم غضاضة وتعديًا على ذاتيتهم. وقد يكون أمرًا لا مفرَّ منه إذا حدث العكس. وتكون في الغالب النتيجة واحدة.
إن ما ذُكِرَ أعلاه، يجعلنا نشير إلى أن هناك نزعة قوية للتحوُّل اللغوي، وقوة دافعة إليه، وهي تتمثل غالبًا فيما يلي، وفقًا لرالف فاسولد:
أولاً: الهجرة؛ التي تكون بواسطة أعضاء مجموعة صغيرة إلى منطقة أخرى لم تقوَ لغتهم على خدمتهم فيها، أو بواسطة مجموعة كبيرة تغمر السكان المحليين بلغة جديدة لا عهد لهم بها.
ثانيًا: التصنيع والتغييرات الاقتصادية.
ثالثًا: لغة المدرسة، والضغوط الحكومية الأخرى.
رابعًا: التَّمَدُّن.
خامسًا: المكانة العظيمة للغة المتحوَّل إليها.
سادسًا: قلة السكان المتحدثين للغة التي يتحول عنها(14).
ارتكازًا على الفكرة الأساسية لورقتنا هذه؛ فسوف نركِّز على التَّمَدُّن، باعتباره واحدًا من الدوافع التي لها دور مباشر في التحول اللغوي الاجتماعي، بل نزعم أنه من أهم الدوافع التي سردها فاسولد قبيل قليل.
2-3 التغيُّر الاجتماعي:
يعرّف محمد عاطف غيث التغيُّر الاجتماعي social change، بأنه: “أوضاع جديدة تطرأ على البناء الاجتماعي، والنظم والعادات، وأدوات المجتمع؛ نتيجة لتشريع أو قاعدة جديدة لضبط السلوك، أو كنتاج لتغيُّر إما في بناء فرعي معيَّن أو جانب من جوانب الوجود الاجتماعي أو البيئة الطبيعية أو الاجتماعية”(15).
والتغيُّر الاجتماعي -عند صلاح العبد- يعني “التغيير في البناء الاجتماعي، وعليه فهو يتضمن الظواهر التي تُحدِث أثرًا في نُظُم المجتمع كحركة التصنيع مثلاً، أو تنظيم الأسرة أو التوسُّع الأفقي في الزراعة، وما يصاحبها من حركة التهجير والتوطين، وتكوين مجتمعات جديدة”(16).
أما سناء الخولي فترى أن التغيُّر الاجتماعيّ يعني: “ظهور اختلاف يمكن ملاحظته في “البناء الاجتماعي”، أو في “العادات المعروفة”، أو في “معدات أو آلات” لم تكن موجودة(17).
يُفهَم من التعريفات السابقة أن التغيُّر الاجتماعي لا يأتي من فراغ، ولا يكون اعتباطًا، وإنما يُعتبر نتاجًا حتميًا لعامل أو عوامل تتآزر مع بعضها البعض، ينجم عنها هذا التغيُّر. كما يُفهَم منها أيضًا أن التغيُّر الاجتماعي لا يبدأ بالفرد، وإنما بما يحيط به، ثم بعد ذلك ينتقل إلى سلوك الفرد.
يتضمن التغير الاجتماعي صورًا مختلفة؛ أجملها صلاح العبد في الآتي:
أولاً: التغيُّر في القِيَم الاجتماعية: تختلف القيم الاجتماعية من مجتمع لآخر، فمثلاً في المجتمع الإقطاعي كانت أهم القيم المعتبرة، هي التي ترتبط بالفروسية والحرب، في حين نجد في المجتمع الاشتراكي أن أهم القيم التي تحظى بأكبر تقدير، هي القيم التي ترتبط بالعمل والإنتاج.
ثانيًا: التغيُّر في النظم الاجتماعية: قد يتغير نظام تعدد الزوجات في المجتمع إلى أحادية الزوجية، واستبدال نظام الفردية المطلقة في الحكم بالنظام الديمقراطي.
ثالثًا: التغير في مراكز الأشخاص: ويدخل ضمن هذا تعاقب الأشخاص ذوي المراكز في الأسرة أو العمل أو الحكم.. إلخ. ويرجع هذا لأسباب مختلفة؛ منها: الوفاة، والزواج، والإحالة إلى المعاش وغيرها. وما يقال عن تغيُّر الأشخاص يمكن أن ينطبق على التغيُّر في أدوارهم واتجاهاتهم.
ولأن اللغة ظاهرة اجتماعيَّة فلا غرو إذًا أن تتأثر بما يحدث للمجتمعات من تغيُّرات وتحولات. وقياسًا على ذلك فإن التغير الاجتماعي يؤثر على اللغة المتحدثة من قبل أفراد المجتمع المعني(18).
إن الذي نحبّ أن نختم به هذا الجزء من الورقة، هو القول بأنَّ المجتمع الإنساني مجتمع متغيِّر، لا يدوم على حالة واحدة أو وَضْع ثابت، فالتغيُّر الاجتماعي يُعَدُّ من الحقائق المتأصلة في طبيعة المجتمع.
3- التمدن وظاهرة التحول اللغوي الاجتماعي في مدينة الفاشر:
3-1 مدينة الفاشر: خلفية جغرافية تاريخية:
تقع مدينة الفاشر في غرب السودان فيما يسمَّى حاليًا بولاية شمال دارفور، وهي العاصمة لهذه الولاية بعد أن كانت عاصمة ولاية دارفور الكبرى، التي تشظَّت إلى خمس ولايات، هي: ولاية شرق دارفور، وعاصمتها الضعين، وولاية جنوب دارفور وعاصمتها نيالا، وولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينية، وولاية وسط دارفور وعاصمتها زالنجي، بالإضافة إلى ولاية شمال دارفور وعاصمتها الفاشر. ومدينة الفاشر -المعنية بدراستنا- تقع على خط عرض 13.5 شمالاً، وخط طول 25.25 شرقًا، ومناخها شبه صحراوي جافّ(19).
المعلومات التاريخية المتوفرة توضِّح أن لهذه المدينة أهمية كبرى، لا سيما وأنها منذ إنشائها قبل حوالي قرنين وعقدين من الزمن، وحتى الآن ظلت تُمثِّل عمقًا استراتيجيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ لوقوعها في طريق تجاري تاريخي مميز، بالإضافة إلى ذلك أنها اتخذت موقعًا تكثر فيه المياه، وهو غاية ما يُرْجَى في تلك البيئة الجافة المحاطة بالصحراء من كل جانب.
أسَّس مدينة الفاشر واختطها السلطان عبد الرحمن الرشيد عام 1206هـ (1791م)، وفقًا لرواية محمد بن عمر التونسي(20) ، والتي استند عليها أكثر المؤرخين فيما بعد(21).
إن مدينة الفاشر الحالية -وأحيانًا تسمى فاشر السلطان، وفاشر أبو زكريا، وفاشر أبو فاطمة، ويقصد بالسلطان وأبي زكريا، وأبي فاطمة: علي دينار- لا تقل أهمية عما كانت عليه منذ إنشائها رغم وجود مدن مزدهرة، حاليًا، كنيالا والجنينة؛ فهي مدينة محورية، تتركز فيها الخدمات المختلفة، التي تستطيع أن تجذب الوافدين إليها. والهجرات المتزايدة إليها في العقود الأخيرة تؤكد ما ذهبنا إليه. بل إن مدينة الفاشر تُعَدُّ من أقدم وأعرق مدن ولاية دارفور الكبرى.
تتكون مدينة الفاشر حاليًا من عشرات الأحياء (حوالي 93 حيًّا)، وعدد سكانها بحسب التعداد السكاني لعام 1993م، 141.884 نسمة، وهو ما أمدتنا به مصلحة الإحصاء بالمدينة، غير أن المحليتين اللتين تكوِّنان المدينة وقتها (محلية الفاشر شمالاً ومحلية الفاشر جنوبًا) تقدران مجمل السكان بالمدينة بنهاية عام 1999م بـ 106.000، و92.000 على التوالي (عدد سكان المدينة في الأعوام 1973 و1983 و 2001 و2006 و2009م – 51.932 و84.298 و178.500 و264.734 و286.277 نسمة على التوالي)(22).
ولا شك أن تقدير عدد السكان في المدينة قد تجاوز الـ 300.000 في العام 2018م؛ وذلك بسبب الزيادة المطردة للسكان، التي كانت نتيجة متوقعة لما شهده إقليم دارفور من أحداث زعزعت المناطق التقليدية للقبائل الدارفورية.
ويمكن القول: إن مدينة الفاشر شهدت توسعًا هائلاً في مساحتها لا سيما بعد تخطيطها عام 1963م؛ إذ شجَّع ذلك على النزوح إلى المدينة، وامتلاك الأراضي ذات الخدمات المرغِّبة في العيش في المدينة. كما ساهمت عدة عوامل –تمثلت في الطبيعة من جفاف وتصحُّر ضرَبا منطقة دارفور وما جاورها، بالإضافة إلى الحرب الأهلية في جنوب السودان-؛ في توسع المدينة توسعًا ملحوظًا؛ فقد أثرت الحرب على المدينة بعد تجدُّد الحرب في الجنوب في عام 1983م، قبل الانفصال، وبعده، لا سيما مع تجدُّدها في ديسمبر من عام 2013م.
وما من شك أن مدينة الفاشر -بما ذكرنا لها من وضع متميز، وبما تهيأ لها من نقلات حضارية وتحولات تحيط بزيادة فرص العمل- ظلت عنصر جذب يستقدم الباحثين عن العمل من أنحاء متفرقة في دارفور وغيرها -لا سيما بعد قدوم المنظمات الدولية المختلفة في ظل الأزمة التي يشهدها الإقليم منذ أبريل 2003م-.
وتكون الفاشر العاصمة دائمًا خاتمة المطاف لتحركات ولايات دارفور، مثلما تكون قبلة أنظار الواردين من أنحاء الولايات الأخرى. وتلك إضافة مستمرة ومتوقعة دعت وما تزال تدعو لزيادة معدلات النمو السكاني بها.
وإذا كان أهم المقومات التي تعتمد عليها المدينة في السودان، وفقًا لمحمد المهدي بشرى هي ارتباطها بالسلطة السياسية، فحيثما كانت المدينة هي مقر الحاكم والمركز السياسي، كان هذا أدعى لتطوير المدينة وازدهارها(23) ؛ فإن هذا الأمر قد توافر إلى حدٍّ كبير لهذه المدينة منذ إنشائها حتى الآن، فانعكس على ازدهارها وتطويرها، على الرغم من أن هناك مدينة على مستوى إقليم دارفور لم يتوافر لها، حتى وقت قريب، مما ذكرنا، أصبحت تتفوق عليها في التخطيط العمراني والتجارة، وهي مدينة نيالا، التي ازدهرت مع وصول السكة الحديد إليها في عام 1960م.
بفعل ما أحدثته موجات الجفاف التي ضربت إقليم دارفور في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وبفعل أزمة دارفور، التي ضربت الإقليم منذ أبريل 2003م، وحتى اليوم، أصبحت المدينة قِبْلة للهجرات والنزوح من مختلف مناطق شمال دارفور وغيرها. وقد ترتب على ذلك زيادة عدد أحيائها وعدد سكانها. ومن جانب آخر تطور قطاع الخدمات، وزادت الحركة العمرانية فيها في السنوات الأخيرة بفضل النمو السكاني، والأعداد الكبيرة من المنظمات والجمعيات الطوعية الأجنبية والوطنية. وقد تبع ذلك بروز الأبنية الشاهقة من عمارات وأبراج، وحركة نَشِطَة في مطار المدينة، الذي أصبح مطارًا دوليًّا، وانضم لاتحاد النقل الجوي الدولي، والمنظمة الدولية للطيران المدني.
3-2 التركيبة الإثنية لمدينة الفاشر:
ووفقًا لدراسة أجراها الباحث في عام 2001م(24) لنيل درجة الدكتوراه في جامعة الخرطوم، أي قبل نحو عقدين، فإن متابعاتنا لما يجري في مدينة الفاشر من أحداث متصلة ومتجددة، حتى ديسمبر 2018م، وانطلاقًا من تلك الدراسة، وتلك المتابعات البحثية المتواصلة؛ يمكن تقسيم الجماعات الإثنية التي التي تُشَكِّل التركيبة السكانية لمدينة الفاشر إلى:
أولاً: مجموعة القبائل الدارفورية، وهذه سكنت المدينة بحكم الموقع الجغرافي والتاريخي للمنطقة، وتمثلها الفور والبرتي والزغوة والتنجر والميدوب.. إلخ. وهذه المجموعة تسكن الأحياء العريقة في المدينة مثل حي العظمة ومكركا وتمباسي، وغيرها.
ثانيًا: مجموعة القبائل العربية، وهي القبائل التي استوطنت الفاشر منذ أزمان بعيدة، وتمثلها الزيادية والعِطيفات والأسرّة والجوامعة… إلخ، وهؤلاء جذبتهم طبيعة المنطقة الصحراوية، ويسكن هؤلاء بأحياء تحمل في الغالب اسم القبيلة كحي الزيادية، وحي الجوامعة، وحي الأسرة.
ثالثًا: مجموعة قبائل غرب إفريقيا: وقد ارتبطت بدارفور لفترات سابقة، وكان لها دور عظيم أثناء قيام سلطنات دارفور. يمثل هذه المجموعة الفلان والهوسا والبرقو والبرنو. وتتمركز هذه المجموعة في حي تمباسي شمال وحي تمباسي جنوب. اهتمت هذه القبائل في بادئ الأمر بفتح الخلاوي لتحفيظ القرآن الكريم.
رابعًا: مجموعة أولاد الريف: تسكن هذه المجموعة بصورة رئيسة حي أولاد الريف شرق وحي أولاد الريف غرب. هذه المجموعة، وفقًا لما تذكره المصادر التاريخية والعينات التي قابلها الباحث في مدينة الفاشر- وفد أسلافُها إلى هذه المنطقة مع الحكم التركي المصري جنودًا غزوا سلطنة دارفور وقوَّضوا كيانها عام 1874م بمساعدة الزبير باشا رحمة. وبعد اندلاع الثورة المهدية وسقوط الحكم التركي- المصري بدارفور، استقرَّ بعض أولاد الريف في الفاشر، واختاروا أحسن موقع فيها وهو الضفة الشرقية والغربية من وادي تندلتي، الذي يغزِّي بحيرة الفاشر الكائنة وسط المدينة ليمارسوا حرفة الزراعة، التي اشتهروا بها، كما مارسوا البناء وبرعوا فيه.
خامسًا: مجموعة قبائل جنوب السودان: وهذه المجموعة تُعَدُّ آخر المجموعات وصولاً إلى المدينة، إذا استبعدنا ما بقي من جنود علي دينار من قبائل جنوب السودان، الذين اقتصر سكنهم بحي مكركا. ويلاحظ أن هذه المجموعة كانت في تزايد مستمر في الإقبال إلى الفاشر، باعتباره نتاجًا طبيعيًّا وإفرازًا صادقًا للحرب الأهلية التي كانت تدور في جنوب السودان، لكن بعد انفصال الجنوب في عام 2011م عادت الغالبية العظمى من هذه المجموعة إلى مواطنها في الجنوب، لكن مدينة الفاشر، وبعض المدن الدارفورية الأخرى؛ أخذت تستقبل من جديد وافدين كثيرين من دولة جنوب السودان، بسبب تجدُّد أحداث الاقتتال، التي يؤرَّخ لبدايتها بديسمبر من عام 2013م.
سادسًا: مجموعة الطوارق (الكينيين)، وهؤلاء أتوا إلى دارفور في مفتتح القرن الميلاديّ السابق هروبًا من المستعمر الفرنسي. وقد استوطن بعضهم مدينة الفاشر وما حولها، وأهم قراهم في دارفور الكبرى سولينقا ريفي الفاشر وجيلي قرب طويلة وأم جرس. وفي الفاشر يسكنون بحي القبة (طيبة). وقد استطاع الطوارق أن يحافظوا على لغتهم بلهجاتها الثلاث، إلا أنَّ بعضهم امتزجوا بالسكان الأصليين بمدينة الفاشر وفقدوا لغتهم.
هذا، وقد وفدت إلى مدينة الفاشر قبائل من شمال السودان، وهي ليست بالكثيرة، وتُمَثِّلها قليل من الأسر المنضوية تحت قبائل: الجعليين والدناقلة والشايقية والرباطاب والعبابدة وغيرها. وأغلبهم قد ذاب في المجتمع الفاشري. وقد قَدِمَ أسلافُ بعضِهم منذ أن كانت دارفور سلطنة مستقلة ذات سيادة، ومنهم مَن قدم بعض الحكم الثنائي(25). واستمرت الهجرة منهم لدارفور فيما بعد بغرض التجارة التي اشتهروا بها. ويلاحظ أننا لم نصنِّفهم فيما ذهبنا إليه من مجموعات قبلية، وذلك لقلة عددهم.
بهذا العرض المُوجَز لا ندعي أننا تناولنا كل القبائل التي استوطنت مدينة الفاشر، وإنما حسبنا هنا أن نعطي فكرة عامة عن أهم القبائل، فالمدينة شأنها شأن كل المدن السودانية تمتاز بتعقيد في هذه الناحية، يصعب معه تتبُّع ما ينتجه التصاهر والتمازج، الذي تفرضه طبيعة نشأة المدينة وتطوُّرها بصورة عامة، ناهيك عن مدينة تحوي بباطنها هذا الكمّ الهائل من القبائل المختلفة و”خشوم البيوت” (التقسيمات الصغيرة للقبائل).
استصحابًا لما سبق ذِكْره؛ يتَّضح أن التركيبة السكانية لمدينة الفاشر تمتاز بالتعقيد الشديد؛ إذ إن أصول ساكنيها مختلفة أشدّ الاختلاف؛ فمن سكان ينتمون تاريخيًّا وجغرافيًّا إلى المنطقة، ومنهم آخرون قادمون من المناطق المجاورة لدارفور من جهة الغرب كتشاد وغيرها، ومن غرب وأقصى غرب إفريقيا، ومن مصر، بالإضافة إلى آخرين قادمين من جنوب السودان ووسطه. كل هذه يصبح مسرحًا تتم فيه عملية الانصهار عبر السنين؛ مما أدَّى إلى تقارب كثير من العادات والتقاليد لهذا الكمِّ الهائل من الخلفيات الإثنية المختلفة، التي جمعتها أحياء المدينة، وعزلتها عن كثير من خصوصياتها.
وإذا انتقلنا إلى النشاط الاقتصادي بالمدينة كجزء مُهِمّ مرتبط بالتركيبة السكانية؛ نجد أن سكان المدينة ما يزالون على ارتباط بخلفياتهم الاقتصادية القديمة؛ المتمثلة في تربية الإبل والضأن والماشية والزراعة. غير أن التجارة آخِذَة في الانتشار السريع، وربما تأخذ موقع الصدارة على مستوى المدينة. ونظرًا لما تعرَّضت له منطقة دارفور عمومًا، وشمال دارفور خصوصًا لموجات متتابعة من الجفاف والتصحُّر والزحف الصحراوي؛ فإن تربية الحيوانات المختلفة، في بعض المناطق، أصبحت أمرًا أشبه بالمجازفة، فلجأ كثير من سكان المدينة إلى التجارة. وقد اشتهرت قبيلة الزغاوة في السنوات الأخيرة بتميزها في هذا المجال.
ويلاحَظ أن عددًا مقدرًا من سكان المدينة على ارتباط وثيق بالوظائف الحكومية المختلفة، لا سيما العليا منها، التي كانت حكرًا على القادمين من شمال السودان ووسطه. وذلك أن هناك اهتمامًا بالتعليم على مستوى ولاية دارفور الكبرى منذ فترة، وقد خفَّف ذلك من كثرة القادمين إليها من ولايات السودان المختلفة من موظفين حكوميين ومعلمين.. إلخ.
وعليه يمكن القول: إن مدينة الفاشر تتضمَّن مجموعات قبليَّة كثيرة، وإن سكانها في حالة تزايد يومًا بعد يوم تحت تأثير الهجرات الداخلية والوافدة؛ مما خلَق أوضاعًا لغويَّة معقَّدة تُسْهِم في تفاعل ثَرِيّ بين اللغة العربية واللهجات المحليَّة؛ نظرًا لحاجة هذه القبائل إلى لغة تواصليَّة.
3- 3 التركيبة اللغوية لمدينة الفاشر:
يُتوقَّع من عرضنا السابق للتركيبة الإثنية لمدينة الفاشر -بما فيها من تنوع وتباين- أن تكون المدينة مسرحًا لتنوع وتباين لغوي ولهجي، قوامه تلك القبائل الأصلية والوافدة، كثيرة الحضور وقليلته، وذات الارتباط التاريخي بالمدينة، والتي طرأت عليها مؤخرًا.
لقد كشفت الاستبانة التي استخدمها الباحث في مدينة الفاشر لدراسة أوضاعها اللغوية(26) -كما دلت وتدل معطيات الواقع، بحسب دراسات مختلفة أعدَّها الباحث في العشر سنوات الأخيرة- أن عدد اللغات المتحدثة بالفاشر يبلغ نحو خمس وعشرين لغة (غير اللهجات العربية). وقد كشفت معالجات الحاسوب لقائمة اللغات المشار إليها لمعرفة مجالات استخدامها كلغة أولى، وثانية، وثالثة، ورابعة؛ كشفت أن هناك خمس لغات أساسية، لها أهميتها في المحصلة اللغوية في مدينة الفاشر، وهي: اللغة العربية، ولغة الزغاوة، ولغة الفور، ولغة الهوسا، ولغة المساليت (على التوالي) من حيث كثرة النسبة، وعدد التكرار. أما بقية اللغات فتُمثِّل مجتمعة مجموعة قليلة النسبة، قليلة التكرار.
3- 4 مظاهر التَّمَدُّن في مدينة الفاشر ودورها في التحول اللغوي:
3- 4- 1 مظاهر التمدن في مدينة الفاشر:
لا يختلف اثنان في أن الفاشرَ مدينةٌ -إذا طبقنا عليها المعايير التي ينبغي أن تتوافر في المدينة، والتي تمت الإشارة إليها سابقًا-؛ فهي عبارة عن تجمعات سكانية كبيرة وغير متجانسة، تعيش على قطعة أرض محددة نسبيًّا، وتنتشر فيها تأثيرات الحياة الحضرية المدنية، ويعمل أهلها في التجارة أو بعض الصناعة أو كليهما معًا أو في مجال الوظائف الحكومية والخاصة (مع ملاحظة أن مجموعة معتبرة من سكان المدينة لا يزال لها ارتباط واضح بالرعي والزراعة، لا سيما سكان الأحياء الطرفية الذين هم حديثو عهد بالمدينة في الغالب)، كما تمتاز بتعدُّد الوظائف السياسية والاجتماعية (باعتبارها عاصمة ولاية)، إضافة إلى الجاذبية (بسبب توافر الخدمات الصحية والتعليمية…).
كما توجد في الفاشر، وهي عاصمة إقليم دارفور من قبل، وحاليًا عاصمة ولاية شمال دارفور- سمات عديدة تتصف بها المدن (تمت الإشارة إليها في الإطار النظريّ)، التي في مقدمتها: المهنة: حيث توجد فيها الوظائف الاجتماعية: الدفاع، الدين، الثقافة، الإدارة، الترفيه. والوظائف الاقتصادية: التجارة، الصناعة، الخدمات. والمظاهر الثقافية: تمتاز الفاشر بأنها كبيرة ومتنوعة ومحلاتها التجارية واسعة تبيع مختلف البضائع، وبها ميادين فسيحة وأندية وحدائق وبها سينما. والإنسان الحضري: مع نمو حجم الفاشر قلَّت معرفة الفرد الفاشريّ بالآخرين معرفة شخصية، وبالتالي أصبحت العلاقات الاجتماعية بين الفاشريين، في الغالب الأعم، علاقات سطحية ومؤقتة وغير شخصية. والبيروقراطية: حيث دلّت التجربة على أن كل الطرق تؤدي إلى الفاشر على مستوى شمال دارفور، على الأقل، بحثًا عن الخدمات والأمن في ظل التوترات التي حدثت بإقليم دارفور. والتشريعات والقوانين: تبرز التشريعات القانونية والأساليب الرسمية للضبط الاجتماعي في الفاشر، لتحل محل طاعة التقاليد، التي تنتشر في “الحواكير” القبلية التي تنتظم إقليم دارفور.
هناك العديد من مظاهر التمدن في مدينة الفاشر، وقد تمت الإشارة إلى بعضها عند التعريف بها، والتي يأتي ضمنها: النمو السكاني المتزايد ذو الخلفيات الإثنية المختلفة، والنقلات الحضارية والتحولات الجذرية التي تشهدها المدينة، التي جعلت منها مدينة جاذبة، وزيادة الحركة العمرانية والتخطيط العمراني، فبرزت العمارات الكبيرة والأبراج، ووجود مقارّ لأعداد كبيرة من المنظمات الدولية والوطنية، إضافة إلى ازدهار حركة التجارة، وسرعة نُمُوّ الأسواق وتنوُّعها، وحركة المطار النشطة، إضافة إلى التغيُّر الواضح في نَمَط الحياة الاجتماعية، وسط شرائح معتبرة من التركيبة السكانية في الفاشر.
فالفاشر في العقدين الأخيرين تطورت تطورًا كبيرًا، وشهدت نقلة كبيرة على مستوى الخدمات التي تُقدَّم لسكانها، وأخذت العادات والموروثات التي جاء بها ساكنوها من الأرياف في التلاشي التدريجي، وتغيرت الأسواق، لا سيما التي تتربع في وسط المدينة، فأصبح يُعرَض فيها أحدث ما تنتجه المدن العالمية الكبرى من منتجات حديثة.
3-4- 2 التحول اللغوي في مدينة الفاشر:
فيما يلي نقوم باستعراض بعض التفاصيل لدراسات سابقة لنا، تناولت قضية التحول اللغوي في مدينة الفاشر(27) ، أهمها: تلك التي تمت في عام 2001م، وما تلا من دراسات تمَّت في العقد الأخير، والتي نرتكز فيها على ثلاثة محاور:
3- 4- 2-1 ظاهرة الانتشار والانحسار:
اتضح من خلال رصدنا، في دراساتنا المختلفة عن مدينة الفاشر -لظاهرتي الانتشار والانحسار بين اللغة العربية، وأهم اللغات المتحدثة في الفاشر (الزغاوة، والفور، والهوسا، والمساليت)- ما يلي:
أولاً: إن اللغة العربية احتلت مجال اللغة الأم في أغلب أفراد المجموعات الإثنية، التي تتكون منها مدينة الفاشر.
ثانيًا: إن اللغات المحلية انحسرت داخل مجموعاتها الإثنية، التي كانت تتحدثها تاريخيًّا بنسب متفاوتة؛ إذ إنها تراجعت إلى مجال اللغة الثانية أو تم إسقاطها نهائيًّا.
ثالثًا: إن بعض اللغات المحلية انتشرت خارج مجموعاتها الإثنية، بنِسَب ضئيلة جدًّا، وكان انتشارها غالبًا في مجال اللغة الثانية.
وتفصيلاً لما سبق إجماله؛ يمكن القول: إن هناك مجموعة إثنية اكتمل استعرابها أو كاد، وهي قبيلة المساليت، التي ما عادت تتحدث لغتها المحلية، وإنما تتحدث العربية لا غيرُ؛ ربما لأنها هاجرت قبل فترة طويلة، وانقطعت عن منطقة جذورها في غرب دارفور. كما أن هناك مجموعة إثنية قطعت شوطًا بعيدًا في الاستعراب؛ إذ يظهر أن اللغة العربية، هي اللغة الأم لطائفة كبيرة وسطها، وهي قبيلة الفور، وربما تمَّ ذلك بفعل قِدمها في المدينة. كما أن هناك أيضًا مجموعة قطعت منتصف الطريق نحو الاستعراب. وهنا في الغالب تتقاسم اللغة العربية واللغة المحلية مجال اللغة الأم، وهي قبيلة الزغاوة، وربما يرجع ذلك لحداثة علاقتها نسبيًّا بالمدينة.
3- 4- 2- 2 المعرفة اللغوية:
فيما يخصُّ مجال المعرفة اللغوية وسط أفراد المجموعات الإثنية بالفاشر، التي تم ذكرها من قبل، فقد ظهر لنا ما يلي:
أولاً: أن الأحادية اللغوية (الذين يتحدثون لغة واحدة) هي أكثر الأنماط اللغوية انتشارًا وسط التلاميذ المفحوصين، تليها الثنائية اللغوية بفرق كبير، ثم الثلاثية والرباعية اللغويتان، ولكن بنسب ضئيلة جدًّا. إن سيادة الأحادية اللغويَّة تتم لصالح اللغة العربية، التي لا غنى عنها في التواصل.
ثانيًا: إن أهم الأنماط اللغوية يمكن ترتيبها بحسب الأكثرية كالآتي:
1- نمط العربية (المسيطرة).
2- نمط الثنائية اللغوية (العربية + المحلية).
3- نمط الثنائية اللغوية (المحلية + العربية).
4- نمط المحلية (المسيطرة).
إن هذا الترتيب يدل على تقدُّم العربية، وتراجع اللغات المحلية، وإذا استمرت الأسباب الداعمة للنمط الأول، فإنه ستتم إزاحة تامة أو شبه تامة للغات المحلية في مجالات استخدامها المختلفة في المستقبل القريب.
ثالثًا: إن هناك تحولاً لغويًّا- اجتماعيًّا كبيرًا، لاتخاذ اللغة العربية لغة أُمّ وسط أطفال المجموعات الإثنية بالفاشر. وقد شكَّل أطفال قبيلة الزغاوة أدنى معدل فيه.
رابعًا: إن هناك انحسارًا واضحًا للغات المحلية، وتراجعًا من مجال اللغة الأم وسط هذه المجموعات بدرجات متفاوتة، ترتب عليه تحوُّل اللغة المحلية إلى لغة ثانية، أو إسقاطها بعد اكتساب اللغة العربية لغة أمّ.
3- 4- 2- 3 أنماط الاستخدام اللغوي خارج المنزل وفيه:
وفيما يخصُّ الاستخدام اللغوي خارج المنزل وبداخله؛ فقد تبيَّن أن نمط العربية (المسيطر) هو النمط السائد في مجالات الاستخدام اللغوي خارج البيت، وفي داخل البيت وسط جميع المجموعات الإثنية التي تُشَكِّل التركيبة السكانية لمدينة الفاشر.
كيفما كان الحال، فإن المجموعات الإثنية المختلفة بمدينة الفاشر قد شهدت، ولا تزال تشهد، تحولاً لغويًّا-اجتماعيًّا واسعًا تجاه العربية. ولعلَّ هذا التحول اللغوي-الاجتماعي المشهود، الذي قوامه اتخاذ اللغة العربية بديلاً للمحلية تسنده دعائم عديدة، منها:
أولاً: انتقال المجتمع من معاملاته المحلية غير المنفتحة، إلى معاملات أكثر انفتاحًا بمؤسسات تتحدث العربية، وفي ذلك يتحول المجتمع المغلق على البيئة الإثنية المحدودة إلى بيئة المدينة، التي تتطلب تغييرًا في نمط استخدامها المحلي للغات إلى نمط العربية.
ثانيًا: انتشار ظاهرة الأسواق بما فيها من حركة تجارية رائجة جعل المجموعات الإثنية في مجتمع مدينة الفاشر منفتحة على المجتمع السوداني القومي، بل وعلى المجتمع الخارجي مثل ليبيا وتشاد عبر الحركة التجارية.
ثالثًا: الآلة الإعلامية من إذاعة وتلفزيون وصحف وأطباق فضائية؛ حيث ساعدت وسائل الإعلام في نشر اللغة العربية كأدوات حضارة غزت المنازل، كما ربطت مجتمع مدينة الفاشر بالوطن العربي وإفريقيا وأوروبا. (يُلاحَظ أنَّ الإذاعة في مدينة الفاشر لا تعكس حقيقة الوضع اللغوي بالولاية، وإنما تبث فقط باللغة العربية. أما التلفزيون القومي فقد كان أثره كبيرًا في نشر اللغة العربية، وبعض العامِّيَّات في الوطن العربي؛ كالعاميَّة المصرية والعاميَّة السورية. أما الأطباق الفضائية فنجدها منتشرة بصورة واسعة في أحياء المدينة).
رابعًا: ساهمت المجموعات العربية في نشر اللغة العربية في الاتصال المباشر بينها، وبين المجموعات الإثنية الأخرى، بما لها من حضور ديمغرافي كبير.
خامسًا: ساهم التوسع في مدارس الأساس في تقليص مساحة الأمية، وبالتالي ساعد في نشر اللغة العربية، لغة التعليم الأساسي والثانوي.
سادسًا: ينبغي أن لا ننسى الدور غير المباشر، الذي تقوم به السياسة اللغوية في السودان في دعم العربية، والذي يتبدَّى في قصر هذه السياسات في أُطُر التنظير، وعدم إنزالها إلى أرض الواقع، ركونًا إلى ضعف التنفيذ وإمكاناته (ولا شك أن العربية تستفيد من هذا الوضع).
إن صفوة ما نختم به هذا الجزء من هذه الورقة هو القول: إن السمة الأساسية التي يتَّسِم بها الوضع اللغويّ في مدينة الفاشر هي السريان المتسارع لانتشار اللغة العربية، وانحسار اللغات المحلية، وهو الأمر الذي تساعد عليه عوامل ترتبط بالتغيرات البنيوية التي تطرأ على مجتمع المدينة، بانفتاحه الواسع على المجتمع القومي السوداني (اقتصاديًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا)، وبانفتاحه على مجتمعات الوطن العربي المتباينة عبر الاغتراب والتجارة والإعلام، مما هيَّأ لابتداع مستجدَّات تواكب هذه المرحلة، دفعت أمامًا بعملية سريان اللغة العربية المتنامي.
وهذا كله يؤكِّد أن سيطرة اللغة العربية، وسيادتها على مجالات الاستخدام اللغوي المختلفة لتلوح في الأفق القريب. وأنَّ اندحار اللغات المحلية أمر بات يُرَى رأي العين، وذلك يتم عبر عملية تحوُّل لغويّ اجتماعيّ تكاملت ظروفها وتهيأت أسبابها.
3- 4- 3 دور ظاهرة التمدن في التحوُّل اللُّغويّ في الفاشر:
لقد سبق الذِّكر أن التَّمَدُّن واحدٌ من الأسباب الأساسية، التي تؤدِّي إلى التحول اللغوي الاجتماعي. وقد تحقق هذا الأمر في مدينة الفاشر؛ حيث تدلُّ على ذلك معطيات الأوضاع اللغوية الحالية للمدينة. وإذا كان التَّمَدُّن يعني في أبسط معانيه اكتساب خصائص المدينة، فإن الفاشر قد انتظمتها خصائص المدينة، ومظاهر التَّمَدُّن، وقد تمَّت الإشارة إلى ذلك. ولمزيد من توضيح دور ظاهرة التمدن في التحول اللغوي الاجتماعي في مدينة الفاشر، تجيء الفقرات التالية:
بفعل التمدن لم تعد مدينة الفاشر، تلك المدينة المعزولة عن بقية القُطْر(السودان)، وعما حولها من الولاية القريبة، بل والبعيدة؛ فقد عاشت عصر الانفتاح التدريجي؛ لأنها تُمثِّل مقر الحاكم والمركز السياسي في الولاية، التي تتخذها عاصمة لها. وبفعل الأزمات والأحداث التي يمر بها إقليم دارفور أصبحت القِبْلَة، التي يقصدها مَن يطلب الأمن والأمان، والخدمات المختلفة. وعبر المواصلات والاتصالات الحديثة تَمَّ كَسْر العزلة الجغرافية، والتاريخية لسكان الفاشر.
كما شهدت الفاشر إقبالاً متزايدًا للتعليم بكافَّة مراحله، فبعد أن كانت المؤسسات التعليمية في الفاشر تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة؛ فإن هناك العشرات من المدارس في كل مرحلة. هذا، إضافة إلى أنه قد حدث انفتاح على الإعلام السوداني والعربي والعالمي بكافة وسائله، ومعلوم أن التعليم والإعلام لهما القدح المُعَلَّى في نشر اللغة التي تُستخدم فيهما، وفي هذه الحالة اللغة العربية، وذلك على حساب اللغة المحلية أو اللغات المحلية.
وبعد ذلك برزت المدينة في زيادة مساحة التجانس لتركيبتها السكانية، ذات الخلفيات الإثنية واللغوية المتنوعة؛ وذلك بالتواضع على لغة واحدة لتكون أداة للتواصل، وثقافة واحدة للتداول، وتجفيف منابع الخصوصية الإثنية واللغوية والثقافية بصورة تدريجية، فزادت مساحة الحديث باللغة العربية بدلاً عن 25 لغة، وبرزت ثقافة كتلك التي تنتشر في مدن السودان الكبرى كالخرطوم وأم درمان.
اجتماعيًّا، وبفعل الانفتاح، والتعليم، والإعلام؛ طرأت أوضاع جديدة على البناء الاجتماعي والنُّظُم والعادات للتركيبة السكانية بالفاشر، فزادت معدلات التزاوج بين القبائل، بعد أن كان التزاوج يتم داخل القبيلة نفسها، وطرأ تغيُّر على طريقة ونوعية المأكل والملبس، وصُبِغَتْ بعض القِيَم والنُّظُم الاجتماعية بصبغة المدينة، وغير ذلك؛ مما يندرج تحت مفهوم التغيُّر الاجتماعي.
وخلاصة الأمر أن التَّمَدُّن بمظاهره المختلفة قد انتظم مدينة الفاشر، وقد لعب دورًا واضحًا في التحوُّل اللغويّ الاجتماعيّ الذي قطَع شوطًا معتبرًا، ويتمثَّل ذلك في التحوُّل من اللغات المحلية إلى اللغة العربية، ومن ثقافات مختلفة إلى الثقافة السودانية التي تشيع في المدن السودانية الكبرى، لا سيما ثقافة وسط السودان، ومن قِيَم ونُظُم اجتماعيَّة ذات طابع قَبَلِيّ إلى قِيَم ونُظُم اجتماعيَّة تفرضها المدينة.
الإحالات والهوامش:
(1) انظر مزيدًا من التفاصيل في الموقع : http://dictionary.reference.com/browse/urbanization
(2) انظر: الموقع نفسه.
(3) انظر: الويكيبيديا، الموسوعة الحرة على الموقع : http://en.wikipedia.org/wiki/urbanization
(4) حسين عبد الحميد أحمد رشوان (1989م): المدينة، دراسة في علم الاجتماع الحضري، الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، ص(36).
(5) محمود الكردي (1986م): التحضر، دراسة اجتماعية، الكتاب الأول: القضايا والمناهج، القاهرة: دار المعارف، ص(69).
(6) سناء الخولي (1988م): التغير الاجتماعي الحديث، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، ص(71).
(7) المرجع نفسه، ص(73).
(8) حسين عبد الحميد أحمد رشوان (1989م)…، مرجع سابق، ص(59).
(9) حسين عبد الحميد أحمد رشوان (1989م)…، مرجع سابق، ص. ص(59-62).
(10) المرجع نفسه، ص. ص(64- 69).
(11) Fasold, R.(1991): The Sociolinguistics of Society, Oxford: Basil Blackwell, p(213).
(12) Mario, P. (1966): Glossary of Linguistic Terminology, New York: Anckor Books, p(142).
(13) Fishman, J.(1971): Sociolinguistics, a Brief Introduction, Rowley Newbury House Publishers, p(306).
(14) Fasold, R.(1991): Op. cit., p(213).
(15) محمد عاطف غيث (1979م): قاموس علم الاجتماع، القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتب، ص(415).
(16) صلاح العبد (1973م): التوطين وتنمية المجتمع بالوطن العربي، معهد البحوث والدراسات العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، (ب. م)، (ب. ن)، ص(94).
(17) سناء الخولي (1988م)…، مرجع سابق، ص(15).
(18) صلاح العبد (1973م)…، مرجع سابق، ص(95).
(19) مديرية دارفور، قصة الإنسان والأرض (1974م)، وزارة الثقافة والإعلام، الخرطوم: مؤسسة القرشي للإعلان والطباعة، ص(7).
(20) محمد بن عمر التونسي (1965م): تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان، تحقيق: خليل محمود عساكر ومصطفى محمد مسعد، القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص(344).
(21) انظر- مثلاً- يوسف فضل (1972م): مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي (1450- 1821م)، الخرطوم: الدار السودانية للكتب، ص(91).
(22) See :www.Wikipedia.org
(23) محمد المهدي بشرى (1999م):” حول منهج دراسة المدن في السودان”، ورقة قُدِّمَت للمؤتمر القومي للأسماء الجغرافية (6-8 أبريل) بقاعة الشارقة، وزارة المساحة والتنمية العمرانية بالتعاون مع جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، ص(9).
(24) كمال محمد جاه الله (2001م): الأوضاع اللغوية في مدينة الفاشر، أطروحة دكتوراه، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم، غير منشورة، ص. ص (82-83).
(25) يوسف فضل (1972م)…، مرجع سابق، ص(92).
(26) كمال محمد جاه الله (2001م)…، مرجع سابق، ص. ص(98-99).
(27) كمال محمد جاه الله (2001م):…، مرجع سابق، ص ص(109- 161).