جنوب السودان دولة انفصلت حديثاً عن الجسد الأم (السودان)، لديها حكومتها وقواتها العسكرية، وتُعَدّ مدينة جوبا عاصمتها وأكبر مدنها، ومن أشهر مدنها واو وملكال ورومبيك وأويل وياي، ويُعَدّ هذا الإقليم من النقاط الساخنة في العالم لما يوجد من خلافات بشأنه قبل الانفصال وبعده.
يقع جنوب السودان بين خطي عرض 10 و 4 شمال خط الاستواء، ومساحته تساوي ربع مساحة السودان تقريباً، وسكانه يُقَدّرون بحوالي ربع سكان السودان أيضاً (1) ، وتبلغ مساحة الرقعة الجغرافية لجنوب السودان 250 ألف ميل مربع (2) .
علاقة اللغة العربية بالجنوب:
«عربية جوبا» هي لهجة هجينة، تكوّنت من امتزاج اللغات الإفريقية المحلية واللغة العربية في جنوب السودان في القرن التاسع عشر بين أحفاد العساكر وموظفي الخدمة المدنية مختلفي الأصول، وقد كانت مدينة جوبا كبرى مدن جنوب السودان مسرحاً لتشكّل هذه اللغة، واقترن بها اسمها، ويُعتَقد بأنها منحدرة أصلاً من لغة قبيلة باري، وهي لهجة واسعة الانتشار، وتُستخدم في التعاملات اليومية، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي أُطلقت إذاعة ناطقة بهذه اللغة، وتُعَد جزءاً من اللهجة السودانية.
ومن المدهش جداً معرفة أن معظم سكان جنوب السودان في القرن الثامن عشر كانوا من المسلمين حتى حضور المستعمر البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما يفسّر انتشار اللغة العربية وسرعة تداولها وكونها مفهومة بدرجة كبيرة لدى سكان أواسط السودان، والدليل المهم على الحضور القوي للثقافة العربية في كيان سكان جنوب السودان هو وجود نسبة كبيرة من السكان أسماؤهم وأسماء آبائهم نصرانية ولكن أسماء أجدادهم إسلامية (مثلاً تجد من يكون اسمه: بيتر مجوك عبد الله، أو سايمون دينق حسين) (3) .
إحدى المزاعم التي كانت تُساق لتسويغ فصل الجنوب عن الشمال أن العلاقة بين الشمال والجنوب لم تكن على وفاق، دائماً، وإنما هي تاريخ من الحروب الطويلة، ولهذا الأجدر أن يتوقف شلال الدم بأن ينفصل الجنوب!
والحقّ أن الأصل في العلاقة بين شمال السودان وجنوبه لم تكن على الدوام علاقة حرب، بل كانت علاقة تعايش وتعامل في غالبها، لأكثر من خمسة قرون.. بينما الحرب الأخيرة طارئة، وتاريخها لا يتجاوز 50 عاماً، صحيحٌ أنه كانت تنشب حروب في بعض فترات التاريخ كالحرب بين الشلك والفونج، أو بين القبائل العربية والقبائل الجنوبية، إلا أن ذلك لم يكن أمراً شاذاً عمّا كان يحدث في بقية السودان بين المشيخات والمماليك، وبين القبائل، بل حتى بين القبائل الجنوبية نفسها! ولم يكن ظاهرة تسم العلاقة بين الشمال والجنوب بالعدوان!
حاولت الإدارة البريطانية في أثناء فترة الحكم الثنائي للسودان (1898م – 1956م) عزل جنوب السودان عن شماله لأهداف استعمارية وتنصيرية، فسنّت «قانون المناطق المقفولة» الذي منعت بموجبه الشماليين من الانتقال إلى الجنوب أو العمل فيه إلا بترخيص خاص، ومنعت الجنوبيين من التسمّي بالأسماء الإسلامية، أو لبس الثياب العربية، وأطلقت يد المؤسّسات الكنسية والتنصيرية لتتولّى تعليم الجنوبيين وتنصيرهم، مما أوجد نخبة جنوبية مرتبطة ثقافياً ودينياً بالاستعمار البريطاني، لكن بالرغم من ذلك ظلّ المسلمون يفوق تعدادهم عدد النصارى في الجنوب مع بقاء الأغلبية من الوثنيين.
على الرغم من هذه السياسات؛ فإن الجنوبيون اختاروا في مؤتمر جوبا 1947م الوقوف مع وحدة السودان، وصوّتوا لاحقاً في عام 1955م من داخل البرلمان مع الشماليين لصالح استقلال السودان.
الاستعمار وصناعة الكراهية:
يمكن تحديد موجّهات السياسة البريطانية تجاه جنوب السودان في الفترة من 1919م إلى 1946م فيما يتعلق باللغة والدين والثقافة العربية والإسلامية، وذلك في الآتي:
– إنشاء وحدات قبلية في الجنوب، تعتمد على تنظيم يستند إلى العرف والتقاليد والتراث الفكري والعقلي.
– التخلّص من الموظفين والمهنيين الشماليين تدريجياً، والاستعاضة عنهم بأبناء الجنوب.
– استخدام الإنجليزية إذا تعذّر استخدام اللهجات المحلية إقصاءً للغة العربية.
– حظر التنقل بين الشمال والجنوب بموجب «قانون المناطق المقفولة» (4) .
لم يكن هناك عداء بين الشماليين والجنوبيين، إلا أن السياسة البريطانية أوجدت نوعاً من التباين المصنوع والمرعي استعمارياً في مسألتي اللغة والدين، وإن كان هذا التأثير قد طال النّخب الجنوبية فقط دون العامة، إلا أنه كان الأساس الذي أسهم في تغذية مشكلة الجنوب لاحقاً، وقد فطن لذلك مبكراً مؤتمر الخريجين الذي طالب منذ أربعينيات القرن الماضي – قبل خروج الاحتلال – بتوحيد التعليم في الشمال والجنوب باعتماد اللغة العربية لغة قومية للتعليم، ولاحقاً خطا الفريق عبود (1958م – 1964م) خطوات عملية بفرض اللغة العربية في التعليم بالجنوب، وطرد القساوسة الأجانب لدورهم السالب في تأجيج مشكلة الجنوب، وتمّت سودنة وظائف الكنيسة.
وخلال تجدّد الحرب منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى مطلع القرن الحالي، ظلّ الجنوبيون ينزحون نحو الشمال بأعداد تفوق نزوحهم إلى دول الجوار الإفريقي بأعداد كبيرة، وفي هذا – إضافة لما سبق – دلالة على أن الشمال والجنوب لم يكن بينهما عداء على أساس عرقي أو طائفي قطّ.
لم تقف الحرب حجر عثرة في أن تترسخ أقدام اللغة العربية والثقافة العربية، فنشأ، لاحقاً، أطفال في المدن الرئيسة لجنوب السودان (وهي جوبا وواو وملكال) لا يعرفون غير اللغة العربية، خصوصاً في فترة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
والمطّلع على تفاصيل بنود اتفاقية أديس أبابا (1972م)، واتفاقية السلام السودانية (1997م)، وبرتوكول مشاكوس (2002م)، واتفاقية السلام الشامل (2005م)، وغيرها، يجد إصرار النّخب الجنوبية على التركيز في إيراد اللغات المحليّة في بنود واضحة المعالم، ولكن سرعان ما يتمّ وضعها في حيّز التنظير ولا تبارح هذا الحيّز، لغياب الآليات التي يمكن أن تنفذ تلك البنود، فتضحى اللغات المحليّة بعيدة عن القيام بأدوار مهمّة في مجال التعليم والإعلام والإدارة والحياة العامة، فاسحة المضمار للغة العربية والإنجليزية اللغتين اللتين تمثّلان جوهر السياسة اللغوية في السودان (5) .
أوضاع اللغة العربية في جنوب السودان:
اللغة العربية (عربي جوبا أو عربي منقلا) في جنوب السودان، تـتبّع عشاري أحمد محمود (1983م) – في مؤلَّفه عن العربية في جنوب السودان – مراحلها التاريخية التي مرّت بها، مؤرِّخاً لبداية نشأتها وتطوّرها والأدوار التي تقوم بها، كما قدّم دراسة لغوية مهمّة عن هذه اللغة (6) التي كادت تكمل حوالي مائتي عام باكتمال عام 2010م.
وعلى النسق نفسه قدّم «بول شول دينق» (2005م)، في مؤلَّفه المهم عن «عامية جوبا العربية»، دراسة مهمّة عن هذه العربية، وفي هذا الكتاب يذهب «بول شول دينق» إلى أنه بالرغم من الاتصال المبكّر لبعض القبائل الجنوبية القاطنة في حدوده الشمالية (كالشلك والدينكا) بالقبائل العربية؛ فإن بداية الدخول الفعلي للغة العربية إلى الجنوب، عفوياً، وبصورتها الدارجة كان في العهد (التركي – المصري) على يد ثلاثة عناصر أساسية، هي: الجلابة، والفقراء، والجنود المصريون (7) .
وبعيداً عن تناول تاريخ هذه اللغة وتطوّرها في جنوب السودان؛ يمكن القول إن هذه اللغة مثّلت في العقود الأخيرة اللغة التواصلية الكبرى، والوحيدة في المدن الرئيسة في الجنوب وحواضره، وأصبحت لغة المخاطبة في التجمّعات السياسية والثقافية، حتى وصلت إلى أن تكون لغة التخاطب وسط الجيش الشعبي لتحرير السودان، وقد صرّح بذلك عدد من قادة الحركة الشعبية أنفسهم، وعلى رأسهم مؤسّسها «جون قرنق».
وقد بثّت وسائل الإعلام قبل أشهر عديدة تدشين الحملة الإعلامية للحركة الشعبية لانتخابات أبريل 2010م في جوبا باللغة العربية دون غيرها من اللغات!
وعلى الرغم من الدور المتعاظم الذي تقوم به اللغة العربية من التواصل في جنوب السودان فإنها لم تسلم من حرب لا هوادة فيها، خصوصاً من قِبَل الصفوة الجنوبية التي كانت تفضّل عليها اللغة الإنجليزية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فهذا الخبير التربوي عمر يوسف نيقور يتحدّث للجزيرة عن أن حكومة جنوب السودان بدأت منذ وقت مبكّر في تغيير المناهج باللغة الإنجليزية في المدارس العامة بالجنوب (8) .
لقد جرت وتجري عمليات تجفيف منظّمة للغة العربية من التعليم في الجنوب، كلغة للتدريس في أغلب المدارس، وأصبحت تدرّس كمادة على مضض، وتمّت الاستعانة بأساتذة من كينيا ويوغندا للتدريس في الجنوب بعد أن تم إبعاد الأساتذة الشماليين ممن كانوا يدرّسون العربية، بل ذهبت وزارة التربية والتعليم العام في حكومة جنوب السودان إلى أبعد من ذلك، حيث ذكرت أنها تنوي «التخلّص» من المناهج التي تستخدم اللغة العربية في جميع مدارس الجنوب، إلى جانب المناهج الأجنبية الأخرى القادمة من شرق إفريقيا (9) .
وأما اللغة الإنجليزية في جنوب السودان؛ فقد دخلت إليه بعد حوالي ستة عقود من دخول اللغة العربية، غير أنها (أي الإنجليزية) لم تتغلغل وسط عامة الشعب مثلما فعلت العربية، إذ ارتبطت الإنجليزية بالصفوة والمتعلمين.
وتخبرنا عدد من المؤلفات التي أرّخت لجنوب السودان، في بداية القرن العشرين إلى منتصفه، بأن المستعمر البريطاني حاول جهده أن يقدّم اللغة الإنجليزية بديلاً للغة العربية لاستعمالها في مجال التعليم والإدارة والمحاكم.. إلخ، غير أن المستعمر لم يحقّق نجاحاً كاملاً في هذا المجال، وبعد الاستقلال حملت الصفوة الجنوبية الراية، وما تزال، لكسر شوكة اللغة العربية، وقد حقّقت للأسف شيئاً من النجاح في هذا المجال.
وفي غياب اللغات المحليّة في جنوب السودان، وتمركزها في الفصول الدنيا من مرحلة الأساس، أصبحت الساحة مهيئة للاصطراع بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية، ولعلّ آخر حلبة تمّ فيها هذا الاصطراع كانت اتفاقية السلام الشامل (2005م)؛ إذ حوت بنود هذه الاتفاقية ما يأتي:
– اللغة العربية كلغة رئيسية على الصعيد القومي واللغة الإنجليزية ستكونان اللغتين الرسميتين لأداء أعمال الحكومة القومية، وهما لغتا التدريس في التعليم العالي.
– لا يجوز التعصّب ضد استخدام أيّ لغة منهما على أيّ مستوى من المستويات الحكومية أو التعليمية (10) .
وبذا تكون الاتفاقية قد ساوت أو كادت بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية، خصوصاً في مجال التعليم العالي الذي تم تعريبه في فبراير من عام 1990م، وفي الإعلام الذي كان حكراً (إلا قليلاً) على اللغة العربية.. إلخ.
حديث خبراء اللغة العربية بأنها تصلح لغة تعليم بمناطق التداخل اللغوي:
تحدّث د. أحمد محمد بابكر رئيس مجمع اللغة العربية بالخرطوم للجزيرة نت عن سعي دولة الجنوب لإقامة علاقات مع جميع الدول العربية، وأنه «ليس من الصواب إلغاء العربية من مناهجها التعليمية»، وأضاف: «هناك آلاف الطلاب درسوا في جامعات الشمال، وبالتالي يجب أن تتنبه حكومة الجنوب للأمر، خاصة وأن دولاً عديدة غير عربية تحرص على تدريس العربية من أجل التواصل مع الدول الناطقة بها، واللغات عموماً وسيلة تواصل، ومن الخطأ قطع هذه الوسيلة».
وتابع رئيس مجمع اللغة العربية بالسودان: «أهل الجنوب لا يريدون القطيعة مع الشمال، وفي ظننا هناك ارتباط ثقافي واجتماعي واقتصادي وسيلته اللغة العربية».
أما وزير الشؤون الدينية السابق وأحد أبناء الجنوب الدكتور عبد الله دينق نيال المتخصّص في اللغة العربية فقال: إن العربية سوف تستمر كلغة تخاطب وتفاهم في مجتمع الجنوب لعقود طويلة، وقد تُقصى من المدارس، لكنها ستظل في وجدان الناس، ومن مصلحة حكومة الجنوب أن تظلّ اللغة العربية بالجنوب من أجل التواصل مع العالم العربي، فهناك فوائد اقتصادية وسياسية، وليس من المصلحة محاربة اللغات لأنها ظواهر إنسانية وليست سياسية.
من جهته قال أستاذ التاريخ الحديث بجامعة أم درمان الإسلامية عطا محمد أحمد: إن حاكم إقليم كردفان السابق «نيوبولد» البريطاني الجنسية ذكر أن لغة التدريس ترتبط باللغة الشائعة في المجتمع، وقارن بين اللغتين العربية والإنجليزية التي كانت سائدة في التدريس بالسودان شمالاً وجنوباً من حيث فائدتها لمجتمعات التداخل اللغوي في السودان.
وأردف عطا: «الإنجليزية تعتبر لغة عالمية، لكنها في واقع الأمر عديمة الفائدة حيث يصعب فهمها، وما يسمّى «عربي جوبا» تمدّد بشكل واسع على نطاق الجنوب، وتتفاهم به معظم الإثنيات الجنوبية، مما يستوجب تبنّي اللغة العربية في التعليم، وسبق أن شهد خبراء في اللغة الإنجليزية بأن العربية تصلح لغة تعليم في مناطق التداخل اللغوي في جنوب السودان وجبال النوبة نظراً لتداولها وفعاليتها».
أما وكيل جامعة بحر الغزال السابق الفاتح الأمين فيؤكد أن الانتقال المباشر للتدريس باللغة الإنجليزية دون التدرّج فيه استحالة وصعوبة وتحديات كبيرة؛ لأن اللغة العربية سبقت جميع اللغات تاريخياً وإنسانياً في جنوب السودان.
أما الخبير باللغات والإعلامي ماجوك فقد تحدّث لقناة الجزيرة عن اللغة العربية في الجنوب بالآتي: «إن انتشار اللغة ومدّها وجزرها له صلة بالناس واستخدامهم لها وعلاقتهم بها» (11) .
تصوّر أوضاع اللغة في الجنوب بعد الانفصال:
هذا، وقد وردت مسألة اللغة في أثناء تصريحات بعض قادة الحركة الشعبية في تصوّرهم لمآلات جنوب السودان بعد استفتاء يناير 2011م، وإذا كان من الصعوبة حصر تلك التصريحات التي تتفق في التضييق على اللغة العربية، والتنكر للدور الكبير الذي ظلّت تقوم به تاريخياً في الجنوب، والانحياز للغة الإنجليزية التي ينحصر دورها في النّخبة وعدد من المتعلمين، وإهمال اللغة المحلية، فإن هناك تصريحين مهمّين يتحتم علينا الوقوف عندهما ومناقشتهما:
أما التصريح الأول؛ فيُنسب لإيزكيل لول جاتكوث، رئيس بعثة حكومة جنوب السودان في واشنطن، حيث يشير إلى أن الدولة الجديدة المرتقب الإعلان عنها في جنوب السودان عقب استفتاء يناير 2011م ستكون اللغة الرسمية والمعتمدة فيها هي اللغة الإنجليزية، وستكون اللغة العربية هي اللغة الثالثة أو الثانية (12) .
وأما التصريح الثاني؛ فيخص لوكا بيونق الذي يقول: إنه يتوقع أن يتبنّى الجنوب اللغة السواحيلية لغة أساسية في حال الانفصال (13) .
إن التصريحين السابقين مهمّان في تصوّر مستقبل أوضاع اللغة في جنوب السودان بعد استفتاء يناير 2011م، واعتماد اللغة الإنجليزية لغة رسمية ومعتمدة في الجنوب مسألة يقتضيها الانفتاح على شرق إفريقيا، إذ لهذه اللغة شأن في تلك المنطقة، فهي لغة رسمية ليوغندا، ولغة رسمية بالإضافة إلى اللغة السواحيلية في كينيا.
كما أن اللغة الإنجليزية هي لغة صفوة جنوب السودان، ولغة التعليم في عدد معتبر من المدارس في الجنوب، وعادة ما كانت تستخدمها تلك الصفوة في حربها ضد اللغة العربية في الجنوب، وفي الشمال، حتى ساوتها أو كادت باللغة العربية في التعليم العالي، وبعض الوظائف الأخرى، وفقاً لبعض بنود اتفاقية السلام الشامل 2005م، كما ذُكر سابقاً.
وجعل اللغة العربية لغة ثالثة أو ثانية في الجنوب أمر يصعب تحقيقه في الوقت الحالي، خصوصاً في مدن الجنوب الكبرى وحواضرها، حيث ظلّت تمثّل اللغة الوسيطة والمشتركة في المناطق ذات التعدّد اللغوي، بل توطّدت جذورها في بعض المناطق، وأصبحت اللغة الأمَّ لكثير من الجنوبيين.
أما اللغة السواحيلية التي تم إيرادها في تصريح لوكا بيونق كلغة أساسية في الجنوب؛ فقد تم طرحها من قبل لغة قومية للجنوب في عام 1980م، بواسطة السر أناي كيلويلجانغSirr Anai Kelueljang الذي كتب في صحيفة «نايل ميرور»، التي كانت تصدر في مدينة جوبا، مقالاً بعنوان «فلنجعل السواحيلية اللغة القومية»، وأبان في هذا المقال أن «اتفاقية أديس أبابا» قد حلّت قضية الحكم، ولكن بقيت القضية الثقافية دون حلّ، وأن حلّها رهن بجعل لغة إفريقية متطوّرة (السواحيلية) اللغة القومية (14) .
لكن دعوة كليولجانغ لجعل اللغة السواحيلية لغة قومية لجنوب السودان وجدت صدى واسعاً، قبولاً ورفضاً، ومن رفضها أشار إلى أنها لا تتمثل فيها شروط اللغة القومية: الجذور المعروفة، والتأصيل التاريخي للمتحدثين بها، والشعبية، والأصل الميلادي المحلي، ومنهم من رأى أنها لغة أجنبية، ومن قبلها أشار إلى أنها ممكنة التعلّم من قِبَل المتعلمين وغير المتعلمين في ثلاثة أشهر، ومنهم من رأى أنها لغة إفريقية متطوّرة.
إن طرح اللغة السواحيلية لغة أساسية، في جنوب ما بعد استفتاء يناير 2011م، ينسجم تماماً مع الانفتاح رسمياً وشعبياً مع دول شرق إفريقيا، وضرورة تمليها التعاملات التجارية مع تلك الدول، مع العلم بأن هذه اللغة يغلب انتشارها في إقليم الاستوائية لتجاوره مع يوغندا وكينيا والكونغو الديمقراطية، وهذا الأمر يُعَدّ تحدياً لقبائل مهمّة كالدينكا والشلك التي لها نزاعات تاريخية مع هذا الإقليم.
وأما اللغات المحليّة في الجنوب؛ فقد تمّ تجاهلها لحساسية اختيار لغة منها وفرضها على الآخرين، وقبل ثلاثين عاماً قال عنها كليويلجانع (عام 1980م تحديداً) إنها غير متطوّرة، وليست للجنوب الموارد لتطويرها، والزمن ليس في مصلحة الجنوب، إذ يقوى فيه تيار الثقافة العربية كلّ يوم، وحيث إن السعي إلى تنمية اللغات المحلية يضيع فيه وقت طويل.
وعلى ذلك؛ فإن موضوع اللغات في جنوب السودان من الموضوعات المهمّة التي تم التنبّه إليها، واقترح بعضها للقيام بدور معين، لا سيما اللغة الإنجليزية واللغة السواحيلية، غير أن اللغة العربية تعيش في مرحلة تجفيف بطيء من بعض الوظائف التي ظلّت تؤديها تاريخياً، وبقيت اللغات المحليّة الجنوبية على حالها، تؤدي أدواراً في أضيق نطاق، ويتم في الغالب تجاهلها لحساسية عملية الاختيار من بينها (15) .
أهم نتائج هذا البحث:
– أن أوضاع اللغات في جنوب السودان ينعكس في لغات محليّة (عددها حوالي خمسين لغة)، تقع الغالبية العظمى منها تحت دائرة التهديد بالانقراض، وعدد منها غير مدوّن وغير موصوف على مستويات اللغة جميعاً.
كما ينعكس في اللغة العربية (عربي جوبا)، وهي لغة أكملت قرنين من الزمن في الجنوب، واستطاعت أن تقوم بدور اللغة الوسيطة المشتركة بين المجموعات الإثنية في الجنوب، وينعكس أيضاً في اللغة الإنجليزية التي تمحورت حول الصفوة الجنوبية، وعدد مهم من المتعلمين.
كما ينعكس أيضاً في اللغة السواحيلية التي يتوقّع لها دور مهم في هذا الإقليم مستقبلاً إذا تمّ قبولها في بقية أنحاء الجنوب.
– أن مآلات أوضاع اللغة في جنوب السودان بعد الانفصال معقدة، فهذا الجنوب بما فيه من تعدّد لغوي وإثني وأيديولوجي لا يستطيع تبنّي لغة أو لغات يرضى عنها الجميع، فإذا تبنّى اللغة الإنجليزية فستنقطع الصلة بين الصفوة والعامة، وإذا تبنّى اللغة السواحيلية فستغضب القبائل التي لا تنتمي إلى إقليم الاستوائية، وإذا حاول اختيار لغة أو لغات محليّة فلن ترضى الجماعات الإثنية التي لم يتم اختيار لغاتها، وإذا تبنّى اللغة العربية فستكون هناك معارضة لا هوادة فيها من قبل الصفوة والمتبنين استئصال رمزية ربطها بالإسلام والعروبة، إلا أنها ستبقى لغة العامة فيما بينهم، ولغة التخاطب بين القبائل المختلفة، ولغة السياسيين والصفوة مع عامة الشعب ردحاً من الزمان.
– خطورة إبعاد اللغة العربية في المدارس والجامعات في جنوب السودان بعد الانفصال، وسيكون إبعادها سياسة غير حكيمة من السياسيين وصنّاع القرار.
– من الواضح أن اللغة الإنجليزية تترسخ يوماً بعد يوم في جنوب السودان على المستوى الرسمي والتعليمي، وستبقى اللغة العربية على الرغم من ذلك في الجنوب لغة قومية ولغة تواصل بين القبائل المختلفة.
التطلعات:
بعد انفصال الجنوب وتحقّق للجنوبيين ما أرادوا، وبعد أن تذهب السكرة وتأتي الفكرة، نرى أن ينصبّ الاهتمام في جانب اللغة العربية في الآتي:
– تفعيل أقسام اللغة العربية في دولة جنوب السودان وتدعيمها.
– تواصل الدعم المالي والفني لمدرّسي اللغة العربية في جنوب السودان، وإعطاؤهم فرص التطوير والتدريب أسوة بالمدرسين في جمهورية السودان.
– إقامة اتفاقيات تعاون بين وزارتي التربية التعليم في البلدين من أجل تطوير مناهج اللغة العربية في الجنوب، وتدريب المعلمين والتربويين والإداريين وتطويرهم في المؤسّسات التربوية في دولة جنوب السودان.
– ينبغي إزالة الجفوة بين اللغة العربية والمثقفين في الجنوب الذين يرون أن اللغة العربية هي لغة المستعمرين (الجلابة) (أي العرب)، وينبغي أن يعلموا أن اللغة العربية لغة كلّ العرب في الخليج ومصر والمغرب العربي، وأنها لغة أكثر من 350 مليون نسمة، وهي لغة عالمية معترف بها في الأمم المتحدة.
– نرى أنه يجب أن يكون للمنظمتين الإقليميتين (المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون (ألكسو) والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسسكو) ) دور فاعل في تعليم اللغة العربية ونشرها في دولة جنوب السودان.
الاحالات والهوامش
(*) قسم اللغة العربية – الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(1) ماكور مرول أوات مرول: مشكلة جنوب السودان وأثرها على الأمن والاستقرار بالجنوب، بحث لنيل درجة الزمالة أكاديمية الشرطة العليا – السودان، ص 2، 1999م – 2000م.
(2) د. محجوب الباشا: التنوع العرقي والسياسة الخارجية في السودان، ص 33.
(3) موقع وكيبيديا.
(4) عبد العزيز خالد: جنوب السودان إلى أين، ص 66.
(5) د. كمال محمد جاه الله (2010م): اللغات المهدَّدة بالانقراض، ورقة مقدّمة لورشة العمل حول جمع تراث اللغات القومية السودانية المهدّدة بالانقراض، أقامها مجلس تطوير وترقية اللغات، 14 – 15 يوليو، ص (7 – 10).
(6) عشاري أحمد محمود: العربية في جنوب السودان، (1983م).
(7) بول دينق شول (2005م): لهجة جوبا العربية، الخرطوم: الدار السودانية للكتب، ص 22، وانظر أيضاً: عشاري أحمد محمود (1983م)، مرجع سابق، ص (27 – 36).
(8) انظر: برنامج اللغة العربية والتحديات التي تواجهها في الجنوب، http://www.aljazeera.net
(9) جريدة الرأي العام، السبت 9/4/2011م الموافق 6 جمادى الأول 1432ه، العدد 476191.
(10) انظر: اتفاقية السلام الشامل بين جمهورية السودان والحركة الشعبية 2005م.
(11) http://www.aljazeera.net
(12) انظر: صحيفة الأحداث، بتاريخ 12/8/2010م، ص 1.
(13) انظر: صحيفة الصحافة، بتاريخ 19/9/2010م.
(14) انظر: Sirr Anai Kelueljang (1980): Make Swahili the national language, Nile Mirror , February16
(15) د. كمال محمد جاه الله: ورقة استقراء تصور مآلات أوضاع اللغة في الجنوب في سودان ما بعد استفتاء يناير 2011م – مركز البحوث والدراسات الإفريقية – جامعة إفريقيا العالمية.