من أهمّ قضايا الساعة التي يجب أن تتكاتف فيها الجهودُ السعيَ لتطوير التعليم العربي بدول غرب إفريقيا، والعنايةَ بمناهجه ومؤسساته وكفاءتها الداخلية، وتأهيلَ القائمين عليه، والبحثَ عن حلول للمشكلات التي تواجه مُخرَّجاته في دولهم.
والمقصود بالتعليم العربي في هذا البحث هو: التعليم الذي يهتمّ باللغة العربية، ويشمل العلوم الإسلامية والعربية والتاريخية والحضارية.
تمهيد:
نحن نعيش في عصر طغت فيه الجوانب الماديّة؛ فكثرت الأمراض النفسيّة والعقلية، والجرائم الاجتماعيّة، والحروب، ولا شكّ في أنّ محاربةَ هذه الأشياء ومعالجة آثارها جزء من واجبات التعليم العربي الإسلامي وخرِّيجيه, وذلك بمراعاة الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً، وفقه الواقع، للسعي إلى تحقيق السعادة في الدارين.
من المسلَّم به أنّ اللغة العربية من أقدم اللغات غير الإفريقية وصولاً إلى غرب إفريقيا، حدّد بعض الباحثين تاريخ هذا الوصول بما قبل القرن السابع الميلادي؛ بسبب ازدهار التجارة وقوافل الرحلات والاتصالات بين شرق إفريقيا وشمالها وبين غربها؛ ولأنّ المنطقة الصحراويّة كانت أقلَّ تصحُّراً مما هي عليه الآن, وقد كان للتجار السودانيين والعرب وغيرِهم أثرٌ كبير في ذلك قبل الإسلام، تمَّ هذا الدخول الأوّلي للغة العربية إلى غرب إفريقيا في نطاق ضيّق، والمهمّ أنّ العلاقات التجاريّة وتبادل الرحلات هي التي وضعت حجر الأساس للعربية في إفريقيا كلّها (1).
تأكّدت علاقة غرب إفريقيا باللغة العربية بدخول الإسلام إليه منذ منتصف القرن الأوّل الهجري, ثم بانتشاره وازدهار حضارته وثقافته, وبقيام الممالك والسلطنات، وعنايةِ ملوكها وسلاطينِها بالدين الإسلامي واللغة العربية، وبالعلاقات الثقافية والعلميّة مع المشرق والمغرب الإسلاميين، ثم بوجود مراكز علميّة وتجاريّة وحضاريّة قادت الحركةَ العلميّة والثقافيّة والدينيّة، والتجاريّة والسياسية.. إلخ؛ من أبرزها تمبكتو، وغاو، وجنيّ، وكانو، وكاشنه، وغيرها, وبتأليف علماء المنطقة باللغة العربية في مختلف العلوم والفنون (2).
شهد هذا الازدهار نوعاً من التدهور في أغلب المنطقة بسقوط «إمبراطورية سنغاي» آخر الإمبراطوريات الإسلامية في القرن السادس عشر الميلادي, ولمّا جاء الاستعمار الفرنسي والإنجليزي إلى غرب إفريقيا كان من أبرز أهدافه مقاومة اللغة العربية ومحاربة الإسلام، وقد نجحت نوعاً ما في إقصاء اللغة العربية عن الدوائر والمدارس الحكوميّة، لكنّها بقيت صامدة يتعلمها المسلمون ويتعلمون بها علوم الإسلام في حلقات المساجد، وفي كتاتيب تحفيظ القرآن، وفي بيوت العلماء والسلاطين، واضطُرَّ الاستعمارُ تحت الضغط الشعبي إلى تعليم اللغة العربية في مدارسه ببعض بلدان المنطقة، وإلى إنشاء مدارس ابتدائية مزدوجة التعليم تحت إدارته (3).
بدايات نظام التعليم المدرسي الإسلامي العربي في غرب إفريقيا:
قامت مدارس إسلاميّة عربية أهليّة في مرحلة الاستعمار بجهود فرديّة, وقد كان الهدف الأساس لمؤسسيها (4) هو تحصينُ أبناء المسلمين بالمحافظة على تعليمهم دينهم؛ في مواجهة الاستعمار وتعليمه ومؤسساته التي أنشأها لمحاربة التعليم العربي والإسلامي، ومحاولة اجتثاث الإسلام من المجتمعات الإفريقية المسلمة.
استمرّت المدارس الإسلامية العربية بعد الاستقلال في القيام بما يحقق هذا الهدف، على الرغم من المشكلات التمويلية والإداريّة والمنهجيّة والسياسية والتربوية التي كانت تواجهها (5), وخرّجت الآلاف، واصل بعضهم دراستهم فحصلوا على الشهادات العليا الليسانس والماجستير والدكتوراه, ولم يستطع كثير منهم الحصول في دولهم على وظائف ثابتة يقتاتون منها.
امتداد خرّيجي التعليم العربي في الجامعات الإفريقية:
إنّ أكثر خِرِّيجي التعليم العربي في الجامعات الإفريقية الوطنيّة وغير الوطنيّة إنّما هم امتداد – أولاً – للتعليم العربي في المدارس الإسلامية العربية بدول غرب إفريقيا، وهم امتداد – ثانياً – لجانب من التعليم نفسه في المعاهد والجامعات بالدول العربية؛ من حيث تخصصاتُ مَنْ يتولَّوْن هذا التعليم في الجامعات الإفريقية الوطنيّة وغيرها، ومن حيث المناهجُ وتطبيقها، والتركيزُ على الهدف العامّ، وهو تعليم أبناء المسلمين دينهم، وإغفال الأهداف الخاصّة والمرحليّة, فهذه كلّها أمور ينبغي أن نجعلها نُصبَ أعيننا إذا ما أردنا أن ننظر نظرة شموليّة وموضوعيّة إلى مُخرَّجات هذا التعليم في الجامعات الإفريقية، وإلى مدى تأثيرها في مجتمعاتها، ومجالات هذا التأثير.
مجـالات عمـل الخرِّيجيـن:
لا شكّ في أنّه كان ينبغي للتعليم العربي في بعض مراحله أن يعيد ترتيب أوراقه, لإعداد خِرِّيجين في الجوانب الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والإداريّة، والإعلاميّة، والتربوية… إلخ, لكن هذا لم يحدث!
ومن العبث محاولةُ بعض دول غرب إفريقيا حصر الطالب في دراسة تخصصات معينة للعمل في مجال عمل معيَّن, فذلك ما لا يرضاه هذا التعليم لنفسه، ولا يقبله عقل سليم, لاختلاف مجالات الإبداع في العمل باختلاف القدرات العقليّة، واختلاف الرغبات والميول النفسيّة، وتعدد المواهب والأهداف والوسائل, قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة : 122)، فإذا نفرت طائفة واحدة من طوائف الفرقة المؤمنة للتفقّه في الدين والإنذار؛ فهل تبقى طوائف الفرقة المتبقيّة بلا عمل؟! كلاّ، إنّما عمل كلِّ فرد من كلِّ طائفة هو ما يُتقنه ويتناسب وقدراته العقليّة والبدنيّة والنفسيّة.
أمّا مجالات عمل خرِّيجي التعليم العربي في دول غرب إفريقيا؛ فيمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين، هما: المجالات الحاليّة، والمجالات المستقبليّة.
أوّلاً: المجـالات الحاليّـة:
لعلّ أبرز هذه المجالات هي:
1 – المجال الديني: يتمثل الجانب الغالب عند هؤلاء الخرّيجين في الوعظ والإرشاد في المساجد ووسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة، وإلقاء المحاضرات العامّة، والتعليم في المدارس الإسلامية العربية، وإقامة الدورات التعليميّة والتدريبيّة، والفصل في قضايا الأحوال الشخصيّة.
وبالرغم من مشكلات مناهج التعليم العربي في دول غرب إفريقيا، ومواقف الجامعات والمعاهد التي تخرَّج فيها أغلب الخرِّيجين في الساحـة، ومحاولات حصر تخصصاتهم في الدراسات الإسلامية (الشريعة، والدعوة، وأصول الدين), وتضييق بعض المؤسسات والهيئات مجالَ تعاقدها في وجوه أصحاب التخصصات الأخرى، والعقبات المحلّيّة التي توضع في طرقهم، بالرغم من ذلك كلّه فإنّ في أوساط خرِّيجي التعليم العربي نوادرَ يعملون في مجالات ليست من تخصصاتهم في مختلف الإدارات الحكوميّة والأهليّة، ويجيدون فيها, لكنّ العدد قليل, ولو وُجِدت عنايةٌ بالتكوين وبإعادة التأهيل عن طريق الدورات التدريبيّة المتخصصة لكان بالإمكان أحسنَ مما كان.
2 – المجال الحكومي: في الوظائف العمومية على تفـاوت بين دول غرب إفريقيا؛ من أبرزها: التعليمُ في المدارس الحكوميّة، والإشرافُ على مراكزه ومُفتشِيّاته، والتدريسُ في أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية, أو في غيرها من الأقسام التي تُدرِّس العربية بوصفها لغة اختيارية في الجامعات الوطنيّة، وقيادةُ الجمعيات الإسلامية الحكومية, أو المجالس العليا الحكوميّة للشؤون الإسلامية, وإدارات الشؤون الدينية، والترجمة، والإعلام، والقضاء، وأقسام العلاقات العربية الإفريقية.
ومنهم مَنْ يعملون مستشارين للرؤساء في الشؤون الدينيّة, كما في بوركينا فاسو ومالي والسنغال وغامبيا.. إلخ، ومن خرّيجي التعليم العربي في بعض دول غرب إفريقيا مَنْ يعمل في الأمن الوطني، والجيش، والجمارك؛ إذا تخرّج في كليات الشرطة أو الجيش ببعض الدول العربية في إطار التعاون الثقافي والتدريبي بينها وبين دولته، أو في كلياتهما في بلده, وهذا إمّا من حَمَلة الثانوية المزدوجة التعليم (العربي / الفرنسي، أو العربي / الإنجليزي)، أو من خرّيجي الأقسام العربيّة في الجامعات الوطنية. وعدد هؤلاء – على قلّتهم – في ازدياد بدول غرب إفريقيا, كالسنغال ومالي والنيجر ونيجيريا وغينيا كوناكري.. إلخ.
لكنّ شرذمةً قليلين في المجال الحكومي لا يقلّ ضررُهم بهذا التعليم وأهله عن غيرهم ممن يحاربونه جهاراً نهاراً، ولا يتوانَوْن في وضع العقبات أمامه كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً!
3 – المجال الاقتصادي والتجاري: اتجه كثير من خرّيجي التعليم العربي إلى الكسب الحلال ليتعفَّفوا عمّا في أيدي الناس، ولينجُوا بجلودهم تجنباً لتقلُّبات العقود الخارجيّة والداخليّة التي قد تُلغى بين عشيّة وضحاها بلا سابق إنذار، ويتمثل نشاط بعضهم في المجال الاقتصادي في التجارة ومؤسساتها، وتوجد كثيرٌ من وكالات السفر والسياحة والحجّ والعمرة في عدد من دول غرب إفريقيا؛ يملكها ويديرها خرِّيجون من هذا التعليم، ولهم منافسة قويّة لوكالات يديرها غيرهم، وبخاصّة في مالي والسنغال وغينيا كوناكري.. إلخ.
ولفريق آخر منهم تجارب في الإعلام الخاص، حيث قاموا بإنشاء صحف بالعربية أو الفرنسية والإنجليزيّة، لكن لم ينجح أكثرُها، وبخاصة العربية منها، بسبب الخلافات الشخصيّة، والنزوع المادّي، والاتِّكاليّة في العمل، وقلّة الموارد ووسائل النشر والتوزيع، والشُّحِّ في القراءة والقرَّاء.
وإذا كان هذا السعي في المجال الاقتصادي حسناً ومرغَّبا فيه فينبغي أن يكون باعتدال، سواء تعلق الأمر بالدعوة أو بطلب الرزق, والمقياس الفيصل هو تقوى الله تعالى، والإخلاصُ له في القول والعمل، وقُوَّةُ الإرادة، وتقديمُ المصلحة العامّة, ولذلك كان الجمع بين الدعوة إلى الله – بما فيه التعليم- وبين طلب الرزق من الحلول المقترحة لمعوِّقات ماديّة تواجه الدعوة والدعاة والتعليم العربي ومؤسساته وخرِّيجيه في غرب إفريقيا، حيث سيتمكن مَن يجمع بينهما من الإنفاق على نفسه وأهله، وتحمُّل بعض التكاليف الماديّة للدعوة، والتطوُّع للتدريس في بعض مؤسسات هذا التعليم.
وأمّا أن يشغل طلب الرزق الخرِّيجَ عن هذا التعليم وهمومه، أو يجعله يرمي به وراء ظهره، أو يتعاون بالقول أو العمل أو المال أو الجهد في التضييق عليه ومحاربته؛ بحجّة مراعاة سوق العمل وحاجاته، فنوع من نكران الجميل لهذا التعليم ومدارسه.
4 – المجال المؤسسي: يتمثل في العمل بمكاتب الهيئات والمؤسسات الإسلاميّة، وفي المراكز الثقافية والسفارات العربية بدول غرب إفريقيا، أو العمل مبعوثين من قِبَل هذه المؤسسات للدعوة والتعليم، كرابطة العالم الإسلامي، وجمعيّة الدعوة الإسلاميّة العالميّة، والمنتدى الإسلامي، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، ولجنة مسلمي إفريقيا، وهيئة الإغاثة، والهيئة الخيرية الإسلامية، ووزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف، وإسيسكو.. إلخ. وقد أخذ جهود بعضها تتقلَّص لأسباب؛ منها الحرب المعلنة على هذه المؤسسات منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م؛ فعرفت دول غرب إفريقيا وغيرها دوّامةً من إلغاء العقود الخارجيّة.
5 – المجال السياسي: هناك عدد من خرّيجي هذا التعليم يعملون في المجال السياسي، وبخاصة الدبلوماسي، سفراء، وقناصله، ومستشارين، ومترجمين، بسفارات دول المنطقة في العالم العربي.
ومن نشاطهم في المجال السياسي بعض تجارب المشاركة البلديّة والبرلمانيّة والحزبيّة، في السنغال ومالي وغانا ونيجيريا وغينيا، لكنّ قضيّة مشاركة الدعاة – وهم النسبة العليا من خرِّيجي هذا التعليم – في السياسـة لا تزال موضع خلاف شديد، وتقاذف بالسوء – أحياناً – بين المؤيدين والمعارضين؛ بسبب اختلاف الأهداف والوسائل والأساليب، وندرة قيادات بارزة على مستوى عالٍ من المقدرة الإدارية والسياسية، والموازنة بين إيجابيات المشاركة وسلبياتها، ومدى المساحة المتاحة للتحرك في ظلّ أحزاب علمانيّة ومواقف دوليّة ضاغطة بكلّ ما تملك، وتجارب شخصيّة سابقة لبعض أبناء هذا التعليم، غلب عليها تقديمُ المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة، أضف لذلك ضعف الوعي الاجتماعي والثقافي (6).
هذه – حسبما وقفت عليه – أهمّ المجالات الحاليّة بدول غرب إفريقيا التي يعمل فيها خرِّيجو التعليم العربي، سواء مَنْ تخرَّج في معاهد الدول العربية وجامعاتها, أو من تخرّج في الأقسام العربية والإسلاميّة بالجامعات الوطنيّة وغيرها بهذه المنطقة.
وبناء على المجالات السابقِ ذكرُها؛ يكون من المبالغة – نتيجة نقص التتبُّع – قولُ أحد الباحثين: إنّ فرص العمل مغلقة أمام خرّيجي هذا التعليم، أو إنّ من المعروف والمعتاد لدى الخاصّة والعامّة أنّ أيّ أحد يدرس العربيّة يتخصص في مجال مجهول المستقبل من حيث إمكانُ مواصلة الدراسة، أو الفرصُ المتاحة للتوظيف العمومي، أو المساهمة في التنمية وخدمة الوطن، أو أنه لم يعد أمامهم مجال ما عدا التدريس بالمدارس العربية الأهليّة أو المشاركة في أعمال لا صلة لها بتخصصهم (7).
ومن المبالغة كذلك القولُ بأنّ السلطات الحكوميّة وقفت مكتوفة الأيدي ولم تحاول تقديم حلٍّ استراتيجي لإنقاذ التعليم العربي إلى أن جاءت جمعيّة الدعوة الإسلامية العالميّة – في سبيل اهتمامها بهذا التعليم – بمشروع إعداد دورات تدريبيّة عام 1997م (8)؛ لأنّ كلّ حكومات مالي – مثلاً – قدّمت قبل هذا التاريخ بعض الحلول الفنيّة والتربوية لهذا التعليم، واقترحت بعض المناهج على مدارسه، ووظّفتْ خرّيجين (9)، وكذلك الأمر في معظم دول غرب إفريقيا التي يفوق بعضها مالي في هذا المجال، كالنيجر ونيجيريا والسنغال.
ولو أمعنا النظر في هذه المجالات؛ لوجدنا أنّ المجال الديني هو أكبر مجال عمل لخرِّيجي التعليم العربي، وتزيد نسبتهم في هذا المجال على 85% من هؤلاء الخرِّيجين, على الرغم من المشكلات السياسية والإداريّة والماليّة والاجتماعيّة التي قد تواجه هذا المجال, وبخاصة في السنوات الستّ الأخيرة.
وإذا كان الوعظ والإرشاد والإمامة في المساجد، والعناية بقضايا الأحوال الشخصيّة، والتعليم بالمدارس الإسلاميّة العربية، إذا كانت كلّ تلك المجالات مهمّة لكلّ مسلم ومجتمع ولا يجب التهاون في شأنها؛ فإنّ الاقتصار عليها يبتعد بنا عن الوعي بشموليّة الإسلام وواقعيّته، وعن حقيقة مفهوم عبادة الله.
ومِن ثَـمَّ يرِدُ السؤال الآتي:
ما أسباب الاستمرار في محاولة حصر الهدف الأساس من هذا التعليم في جانب واحد من المجال الديني، وهو الجانب المذكور قبل قليل؟
إنّ هناك عواملَ كثيرة ساعدت على الاستمرار في عدِّ هذا الهدف هو الوحيد لمدارس التعليم العربي وأقسامه وجامعاته بدول غرب إفريقيا، وقد مرّ على إنشاء بعضها عشرات السنين، ويتمتع كثيرٌ من مؤسسي مؤسساته في السنوات الأخيرة بمستوى علمي رفيع، ومعرفة بالتعليم النظامي ووسائله ومناهجه.
العامل الأوّل: قصور الوعي بشموليّة الإسلام وواقعيّته: فغفل القائمون على تخريج هؤلاء عن أمورٍ أساسية في هذا التعليم لا غنى للمجتمع عنها:
غفِلوا عن إعداد الشباب المسلم علميّاً وعمليّاً لمواجهة شؤون الحياة وصراعاتها.
وغفِلوا عن جانب آخر مهم جدّاً؛ وهو عناية الإسلام بشؤون الحياة الدنيا والآخرة؛ فرغبوا عن المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة, فخلتْ الساحة لغيرهم يسرح ويمرح كيفما شاء.
وغفِلوا – أيضاً – عن ضرورة سعي المسلم لخدمة دينه وبيئته على علم وبصيرة في كلّ المجالات بما يجلب لها نفعاً ويدفع عنها ضرّاً؛ فعندئذ يُحقِّق الاستخلاف في الأرض، ويحقق المفهوم الحقيقي للدين عند المسلمين, وللدين عند المسلمين مفهوم لا تجده عند أصحاب الملل, الدين عند المسلمين – كما يقول الشيخ محمود شاكر – الحياة كلُّها، «فهو اسم لكلّ تصرُّف يتصرَّفه المرء المسلم في حياته، منذ يستيقظ من نومه إلى أن يؤوب إلى فراشه، وفي كلّ عمل يعمله، مهما اختلفت هذه الأعمال، من أحقرها وأدناها إلى أشرفها وأعلاها، كلّ ذلك دين، هو مسؤول عنه يوم القيامة…. وإنْ في بعض ذلك على بعض فضلٌ» (10).
العامل الثاني: قصور فهمٍ لحقيقة العبادة في الإسلام: العبوديّة الحقيقية لله تعالى لا تقتصر على العبادات الإسلاميّة كالصلاة والصوم والزكاة.. إلخ، بل تشمل كلّ شؤون المسلم في حركاته وسكناته، وفي علاقته بربّه، وفي علاقته بكلِّ ما حوله، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : 56)، والعبادة عند السلف: «اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة».
العامل الثالث: الخلط بين الأهداف العامّة والأهداف الخاصة والمرحليّة للتعليم العربي الإسلامي: فقد سبق أن ذكرنا أنّ الهدف الأساس لمؤسسي المدارس النظامية الإسلاميّة العربية أيّام الاستعمار وبعده هو تحصينُ أبناء المسلمين؛ بالمحافظة على تعليمهم شؤونَ دينهم في مواجهة الاستعمار وتعليمه ومؤسساته، لكنّنا لم نفهم – كما يبدو لي – أنّ هذا الهدف كان بالنسبة لهم هدفاً عامّاً ومرحليّاً، أو بعبارة أخرى كان منطلقاً وأساساً تنبني عليه أهداف أخرى شاملة وفق حاجات المجتمع الإفريقي في كلّ زمان.
ولم نفهم كذلك أنّه كان على خرّيجي هذا التعليم من الجيل الذي قبلنا، وعلينا وعلى الذين بعدنا، الانتقالُ به إلى مرحلة الهدف الخاص، وهو إعداد جيل يمكن أن يُسهم في كلّ زمان ومكان في جميع قضايا مجتمعه، الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والإداريّة والسياسيّة والتربوية.. إلخ, ولا يكون ذلك إلاّ بالوعي، وبُعدِ النظر، وبأن نُنَوِّع في أساليب المحافظة على ذلك الهدف العامّ ووسائله، وبأن نطوِّر باستمرار نظام هذا التعليم ومناهجَه، وأهدافَه الخاصّة والمرحليّة التي تحقق لمجتمعاتنا المعاصرة شموليّة الإسلام وواقعيّته.
العامل الرابع: – من عوامل الاستمرار في عدِّ ذلك الهدف العامّ هو الوحيد للتعليم العربي والإسلامي بدول غرب إفريقيا – محاولةُ الإقصاء بسبب الثقافة بدلاً من الالتحام الاجتماعي مع التعدد الثقافي: سمّى عبد القادر سيلا هذا الإقصاء بـ «تجويع حاملي الشهادات من المعاهد الإسلامية، الذي صار في نظر منفذيه سياسة ناجحة في إماتة التعليم الإسلامي»
ويقول عن معاناة التعليم العربي في بلده – والصورة واحدة في المنطقة -: «بلغ من مضايقة العربية والاستخفاف بها أن طُبِع على عقول الناس الاعتقادُ بأنّ التعليم الفرنسي (أو الإنجليزي) هو الطريقُ الوحيد إلى السلطة والثقافة الحديثة, والتفـنن في العيش، والتوسع في المعرفة والعلم وأسرار الحياة، والمستوى الاقتصادي الرفيع, ونجم عن هذه الأفكار الخاطئة أن أصبح الناس في السنغال (وغيرها من دول المنطقة) منقسمين إلى فئتين، أذكياء وأغبياء، أناسٍ ينتمون إلى الصفوة، وآخرين إلى العامّة، يتعلّم الأذكياء الفرنسيّة (أو الإنجليزيّة)، وينهجون نمط الحياة الأوروبي، ولا يتعلّم العربية إلاّ الأغبياء» (12)!
من وسائل هذا الإقصاء الثقافي ما سمّاه آدم عبد الله الآلوري (علمنةَ العربية) بتعلمُّها على سبيل الاستشراق، أي مجرّدةً عن الدين الإسلامي وتعاليمه (13), وهي عَلمنَة موجودة في أقسام اللغة العربية بالجامعات الإفريقية الوطنيّة, ولا يُستبعَد أن يكون التخوُّف من هذه العلمنة هو الذي يدفع بكثير من القائمين على مؤسسات التعليم الإسلامي العربي إلى رفض المناهج المقترَحة من بعض الحكومات باسم تطوير مدارسه.
ولعلّ من آثار هذه العَلمنة أنّ بعض خرّيجي التعليم الإسلامي العربي لا يُعطُون للجانب الديني أهميّة في تعاملهم وسلوكهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»، وعندئذ يكون هؤلاء وأمثالهم – على قلّتهم – نموذجاً سيّئاً من خرِّيجي هذا التعليم في نظر كثير من أفراد المجتمع الذي يتوقع منهم التزاماً أكثر وأقوى بالإسلام وتعاليمه قولاً وعملاً؛ لأنّ دارس اللغة العربية والعلوم الإسلامية في اعتقادهم الجازم لا ينبغي إلاّ أن يكون قدوة حسنة لغيره.
وأيّاً كان؛ فاللغة العربية التي يريدون عَلمنتَها ترفض هذه العَلمنَة لثلاثة أسباب رئيسة:
أحدها: أنّ الدراسات اللغوية العربيّة نشأتْ وترعرعتْ في حضن الدراسات القرآنيّة، خذ مثالاً واحداً فقط: أليس الخوف من اللحن في قراءة القرآن الكريم هو السبب في وضع حركات الإعراب وضوابط التمييز بالنقطة بين الحروف المعجمة والمهملة؛ منذ أوائل النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري؟! قام بالأوّل أبو الأسود الدؤلي، وبالثاني تلميذه نصر بن عاصم الليثي في عهد الحجّاج بن يوسف الثقفي (14).
والسبب الثاني: أنّ اللغة العربية إنّما انتشرت في العالم بانتشار الإسلام وعلومه وحضارته، واكتسبت من الإسلام وانتشاره ومن حفظ الله لكتابه بقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر : 9)، اكتسبت منهما المناعةَ الذاتيّة التي تتمتع بها ضدّ الضياع والضعف (15).
والسبب الأخير: لا توجد لغة تنفصل عمّا يعتقده أهلها، صحيحاً كان أم خطأً؛ لأنّ اللغة أداة تعبير عن أفكار ومشاعر، والدين إنّما هو معتقَد يعتقده الإنسان يُترجمه بالقول والعمل.
العامل الخامس: امتداد نظام التعليم العربي: سواء في الجامعات الإفريقية، أو في المعاهد والجامعات العربية التي تخرّج فيها أغلب مَنْ في الساحة من خرِّيجي هذا التعليم، فهي في الأولى تقتصر على الدراسات الإسلامية والعربية، كالجامعة الإسلاميّة بالنيجر، وفروع كليّة الدعوة في السنغال وبنين وتشاد، والكليّة الإفريقية للدراسات الإسلامية في السنغال، وبعض الكليات العربية والإسلامية في نيجيريا وبوركينا فاسو ومالي، والأقسام العربية في الجامعات الوطنيّة.
أمّا معاهد الدول العربية وجامعاتها؛ فهي تغلق أبواب التخصصات غير الشرعية واللغوية ونحوها, كالتاريخ والحضارة والترجمة، في وجوه أبناء هذا التعليم – إلاّ ما ندر – (16).
ومنها: تشبُّث بعض الخرِّيجين بمناهج المعاهد والجامعات التي درسوا فيها بالدول العربية: وأحياناً بسياساتهم التربوية، وخلافاتهم الاجتماعيّة والسياسية, حتى إنّ منهم مَنْ يرفض أيّ تطوير لهذه المناهج وقد مضى على بعضها عشرات السنين، وخضعت في دولها الأصليّة لعدّة تطويرات تلائم مجتمعاتها وتراعي حاجاتهم العقليّة والنفسية والعلمية المعاصرة, والحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها.
ومنها: المتاجرة بهذا التعليم ومؤسساته: لأنّ بعض المدارس تجاريّة بحتة، الهدف الأوّل والأخير لمؤسسيها هو الكسب المادي، لا غير، أمّا مستوى تلاميذهم ومستقبلهم العلمي فلا يهمهم، لافتات مثل هذه المدارس منتشرة بكثرة في مدن دول غرب إفريقيا وفي الأرياف والقرى.
ومما زاد الطين بَلّة – أخيراً -: أن الشعورُ بعدم وجود مستقبل آمن لمتعلمي العربية والعلوم الإسلامية قد أخذ يتنامى بدول غرب إفريقيا في أوساط أبناء التعليم العربي وبعض أولياء أمورهم، وفي بيئاتهم المدرسية والجامعية والسياسية والاجتماعية، مع المبالغة – أحياناً – في تأجيج هذا التخوُّف لشيء في أنفسهم.
هذا عن المجالات الحاليّة التي يعمل فيها خرِّيجو التعليم العربي بدول غرب إفريقيا؛ فماذا عن المجالات المستقبليّة؟
ثانياً: المجالات المستقبليّة:
يلوح في الأفق القريب مستقبل زاهر لهذا التعليم ولخرِّيجيه، سواء كانوا من خرّيجي الجامعات الإفريقية الوطنيّة أو من غيرها، داخل غرب إفريقيا أو خارجها، وقد تناولت في بحث سابق مبشِّرات كثيرة بهذا المستقبل (17)، أوجزها فيما يأتي:
أ – النظرة المتجذِّرة لدى شعوب المنطقة في ربط الدين الإسلامي وتعاليمه بفهم العربيّة غالباً: وتجد إقبالاً ممن ثقافتهم غير عربيّة على تعلُّم مبادئ القراءة والكتابة باللغة العربية ليتمكنوا – على الأقلّ – من قراءة القرآن الكريم، أمثال هؤلاء سيكونون سنداً قويّاً لهذا التعليم في مجالات عملهم؛ إذ منهم موظَّفون في مختلف الإدارات الحكوميّة والأهليّة، والمساجد وحلقات الدروس الدينيّة مليئة بأمثالهم.
ب – الإقبال المتنامي على اختيار اللغة العربية: في المدارس الحكوميّة (الثانويّة)، وفي كثير من الأقسام بالجامعات الإفريقية: فقد أصبح كثير من المثقفين بغير العربية يدركون الحاجة الماسّة إليها للاطلاع على المصادر التاريخية الأولى عن حضارة المنطقة وتاريخها، ومعظمها باللغة العربية، سواء ما كان من تأليف أبنائها أو من تأليف المسلمين العرب الذين كتبوا عن غرب إفريقيا وشعوبها وممالكها قبل الأوروبيين، سواء كانوا زاروا المنطقة، أو سمعوا عنها في لقاءاتهم بالحجّاج وعلماء المنطقة ووفودها في المشرق والمغرب، أو عن طريق المراسلات العلميّة بينهم وبين علمائها.
ج – تزايد افتتاح أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية: وذلك في الجامعات الوطنيّة بدول غرب إفريقيا، ووجود وحدات لتعليم هذه اللغة في بعض الجامعات.
د -الاتجاه المتزايد في المدارس الإسلامية العربية الأهلية إلى التطوير والشموليّة: والعناية بالتعليم ثنائي اللغة (عربي / فرنسي أو إنجليزي)، مع إضافة الموادّ العصرية، حتى صار لبعض الحكومات – مثل مالي – شهادة ثانوية عربية لا تختلف عن نظيرتها بالفرنسية في الاعتراف بها واستحقاقاتها، وأُدخلت التربية الإسلامية في المدارس الحكومية بالسنغال.
بل بدأنا نشاهد في المنطقة معاهد وجامعات إسلامية أهلية تجمع بين التعليم الشرعي والفني كجامعة الهدى في واغادوغو التي يرأسها الدكتور أحمد سفادوغو، وفيها كليّة الشريعة والتقنية، وكلية الاقتصاد والعلوم الإداريّة، يتمّ تدريس الشريعة باللغة العربية، والتقنية والعلوم الإدارية باللغة الفرنسية على يد أساتذة بعضهم من الجامعة الحكومية, والمعهد العربي المهني في بماكو، التابع لمنظمّة الفاروق، الدراسة فيه سنتان ونصف السنة بعد الثانوية، مديره الدكتور سعيد محمد بابا سيلا، يدرس فيه الطالب العلوم الإسلامية والعربية باللغة العربية، وعلوم التقنية (الحاسوب) باللغة الفرنسية تحت إشراف شركة دولية متخصصة في التقنيات، ويمكن لخرّيجيه التدريب والعمل بجميع الإدارات في مجال تقنية الحاسوب, وافتتحت الجامعة الإسلاميّة بالنيجر في العام الجامعي 2009 – 2010م كليّتي: علوم التقنية، والاقتصاد والعلوم الإداريّة.
هـ – الاهتمام بالتأهيل التربوي لأساتذة التعليم العربي: وإعداد برامج مرئيّة ومسموعة وكتب في هذا الصدد، يتولاها في داخل دول المنطقة معاهد تربوية، ومدارس عليا لتكوين الأساتذة، وفي خارجها معاهد تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في السودان، والمغرب، وجامعة الملك سعود بالرياض، وبعض كليّات التربية.
وستكون الفرصة متاحة – إن شاء الله – بشكل أفضل وأقوى لخرِّيجي هذا التعليم في كلّ المجالات بشروط:
– الوعي – قولاً وعملاً – بشموليّة الإسلام وواقعيّته؛ لأنّه يفرض الوعيَ بتنوُّع الثغرات التي يمكن أن يرابطوا فيها لخدمة دينهم ومجتمعاتهم على علم وبصيرة، وتحقيق مصالحهم الدنيوية.
– الانتقال إلى التعليم العالي الأهلي في الدراسات الإسلامية والإنسانيّة المقارنة، والتخصصات العلميّة؛ لأنّ التعليم العالي الوطني لا يستطيع استيعاب الراغبين في الالتحاق بالتعليم العالي العربي.
ويُلاحظ على التعليم العالي الوطني نوعٌ من التركيز على اللغة البحتة، حتى إنّ الدراسات الإسلامية في أكثر جامعات غرب إفريقيا الوطنية تتم بالفرنسية أو الإنجليزية، وفق مناهج المستشرقين، باستثناء حالات في شمال نيجيريا، وأقسام وكليّات في السنغال، وبوركينا فاسو (جامعة الهدى).
– التنويع في التخصصات، وإعادة التأهيل الفنيّ واللغوي بالفرنسيّة أو الإنجليزية للمتخصصين في الدراسات الشرعية والدعوية واللغوية.
– العناية بإنشاء مراكز للبحوث والدراسات المقارنة بالعربية والفرنسية أو الإنجليزية، وربطها بقضايا المجتمع، والبحث عن حلول لمشكلاته.
الخاتمة:
بإمعان النظر في هذه الدراسة ننتهي إلى ما يأتي:
– الحاجّة الماسّة إلى ندوات تتحاور بموضوعيّة وإخلاص حول هذا التعليم، حاضره ومستقبله، ما عليه وما له.
– ليس التعليم العربي الإسلامي غريباً في البيئات الثقافية والتربوية والاجتماعية بغرب إفريقيا؛ لقِدَم علاقة اللغة العربية بغرب إفريقيا؛ وللأثر العلميّ والثقافي والإصلاحي والحضاري للدين الإسلامي منذ انتشاره وقيام ممالك وإمبراطوريات إسلامية، فلم تستطع الرياح التي عصفت بالمنطقة القضاء على مؤسساته ورجاله ولا كسر عزائمهم.
– وجوب تكاتف الجهود لتطوير التعليم العربي شكلاً ومضموناً، والعناية بمؤسساته وبالقائمين عليها, مع ضرورة مراعاة الجوانب الماديّة والروحيّة، الدنيويّة والأخرويّة معاً، في التعامل مع حاجات المجتمعات بدول غرب إفريقيا إلى مخرَّجات هذا التعليم في مدارس غرب إفريقيا وجامعاتها الوطنيّة وغير الوطنيّة، تلك المخرَّجات التي يغلب عليها – حالياً – أن تكون امتداداً لجانب من التعليم نفسه في الدول العربية التي تخرّج فيها أغلب مَنْ في الساحة من الخرّيجين، وهم المشرفون على جزء كبير من هذا التعليم ومناهجه ومؤسساته.
– أكّدت هذه الدراسة أنّ من العبث محاولةَ حصر خرِّيجي التعليم العربي في مجال معيَّن، وإن كان أبرزُ مجالات عملهم في الوقت الحاضر هي: المجال الديني والتعليمي والحكومي والاقتصادي والمؤسسي والسياسي, لكنّ جانباً من المجال الديني هو الغالب على المجالات الحاليّة.
وقد رأيت في هذه الدراسة عدّةَ أسباب لاستمرار عدِّ ذلك الجانب هو الهدف الوحيد – عند قوم – للتعليم العربي ولمؤسساته ورجاله في غرب إفريقيا، كقصور الوعي بشموليّة الإسلام، والخلط بين الأهداف العامّة والأهداف الخاصّة والمرحليّة، ومحاولة الإقصاء الثقافي.. إلخ.
أمّا المجالات المستقبليّة؛ فمفتوحة، وقد وقفتْ بك هذه الدراسة على مبشّرات وشروط لمستقبل زاهر ينتظر هذا التعليم ومخرَّجاته.
– من النتائج المرجوَّة لهذه الدراسة: توطيد العلاقات الثقافية، والعلميّة، والدينيّة، والسياسية، بين الدول الإفريقية والعربيّة, ورفع معنويات القائمين بالتعليم العربي والمهتمين به شعوباً وحكومات, وهي معنويات بدأ يطرقها – كما نعلم جميعاً – نوعٌ من التذبذب والضعف.
وأخيراً: توصي هذه الدراسة بتكرار الندوات عن التعليم العربي الإسلامي في إفريقيا، وبالتركيز والدقة والموضوعية في تناوله، وفي محاولات تطويره، وبدعم البحوث والدراسات الموضوعيّة، وتسهيل الوصول إليها للمؤسسات والباحثين والقائمين على هذا التعليم، وبالتعاون في تنفيذ الرؤى والحلول الواردة في تلك الندوات.
الإحالات والهوامش
(1) انظر: حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا، د. شيخو أحمد سعيد, ص 17، 18، 19 ، دار المعارف بالقاهرة، بدون ت. ومجلّة دراسات إفريقية، السودان، عدد 1، رجب 1405هـ / أبريل 1985م، ص 101، بحث «انتشار اللغة العربية في بلاد غربي إفريقيا عبر التاريخ» د. السرّ العراقي. ومجلّة الدراسات اللغويّة، فصلية محكَّمة يصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميّة، الرياض، مجلد 1 – عدد 2 – ربيع الآخر – جمادى الآخرة 1420هـ / يوليو – سبتمبر 1999م, ص 232 – 233، بحث «تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية بغرب إفريقيا، الواقع والأمل» هارون المهدي ميغا.
(2) مجلّة الدراسات اللغويّة (مرجع سابق), ص 233، بتصرف.
(3) انظر: المرجع السابق، ص 234، 235 – 236.
(4) يرجع الفضل في قيام أغلبها وفي النهضة التعليمية المعاصرة إلى حُجّاج ومجاورين بالحرمين الشريفين, انظر: بحث «حُجّاج ومجاورون ينقلون دروس الحرمين الشريفين إلى غرب إفريقيا»، هارون المهدي ميغا. مجلّة الحجّ والعمرة، وزارة الحجّ، جدّة، السعودية، سنة 60 – عدد 5 – جمادى الأولى 1426هـ / يونيو – يوليو 2005م, ص 40 – 43.
(5) انظر: بحث: «المدارس الإسلامية العربية في غرب إفريقيا، مشكلات وحلول» هارون المهدي ميغا، مجلة الفيصل، يصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، السعودية، عدد 257 – ذو القعدة 1418 هـ / مارس 1998م، ص 26 – 31.
(6) انظر: مشاركة الدعاة في السياسة بغرب إفريقيا، سلبيات وإيجابيات، ورقة عمل شاركت بها في ندوة: «مشاركة الدعاة في السياسة مفاهيم وآليات» التي أقامتها لجنة إفريقيا بالندوة العالميّة للشباب الإسلامي في مخيّم طلاب إفريقيا بالرياض يوم الخميس 9/2/1427هـ / 9/3/2006م. ثم تناولته بالتعديلات؛ زيادة ونقصاناً. وألقيته محاضرة يوم الأحد 14/2/2010م في قاعة د. عبد الله الخاطر بمقرّ منظمة الفاروق (المنتدى الإسلامي سابقاً) في بماكو، بتنظيم رابطة الدعاة في مالي، مكتب البلدية الخامسة بالعاصمة.
(7) اللغة العربية في مدينة تمبكتو الثقافية بمالي والمنظور المستقبلي من خلال التاريخ والواقع: مع دراسة وتحقيق لمخطوط (وقاية المتكلّم من اللحن المثلِّم) في النحو لـ: محمد بن باد التمبكتي، ص 307، بتصرف. رسالة ماجستير، إعداد عبد الفتاح سيسي، كلية الدعوة الإسلامية بليبيا، عام 2004 – 2005م.
(8) المرجع السابق ، ص 308، بتصرف.
(9) فصّل القول في هذا زميلي الدكتور عبد الرحمن عبد الله سيسي، في بحث أعدّه للنشر بعنوان «تحليل نظام التعليم العربي في مالي من عام 1947م إلى عام 2006م» وقد اطلعت على مسوّدته.
(10) أباطيل وأسمار، محمود شاكر، ص 323 – 324، مطبعة المدني، القاهرة، ط 2 – عام 1972م.
(11) المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل، عبد القادر سيلا، (كتاب الأمة 62)، ص 149، ط 1 عام 1406هـ، وزارة الأوقاف القطرية – الدوحة.
(12) المرجع السابق، ص 148 – 149.
(13) تاريخ الدعوة إلى الله بين الأمس واليوم، آدم عبد الله الآلوري، ص 236، مكتبة وهبة – القاهرة – ط 2 عام 1399هـ / 1979م.
(14) انظر: الدراسات اللغوية عند العرب إلى نهاية القرن الثالث الهجري، محمد آل ياسين، ص 53 – 55، دار ومكتبة الحياة – بيروت، ط 1 – عام 1980م.
(15) انظر: المسلمون في السنغال، ص 149، ومجلّة الدراسات اللغويّة (مرجع سابق)، ص 238 – 239.
(16) انظر: اللغة العربية وظلم ذوي القربى، ص70 – 73، مجلّة الحجّ والعمرة، وزارة الحجّ، السعودية، سنة 61 – عدد 9، رمضان 1427هـ / أكتوبر 2006م.
(17) انظر: تفاصيلها في مجلّة الدراسات اللغوية (مرجع سابق), ص 251 – 256.