د.زينب بيلا تاسيرييانكيني (*)
بوركينا فاسو من الدول الافريقية متعددة الأديان ، و تعد نموذجا للتعايش بين أتباع هذه الديانات والتفاعل فيما بينهم ، الأمر الذي ساهم تحقيق السلام والأمن داخل المجتمع .
خصائص المجتمع في بوركينافاسو (1):
يصعب الفصل بين الدين والعلاقات الاجتماعية في بوركينافاسو؛ لأنّ المعتقدات التّقليدية تتجاوز الفرد، وتقابل نمطاً مميَّزاً من أنماط المجتمع، وأنماط السلوك الاجتماعي تتحدد بالمعتقدات، فأول ما يشعر به كلّ إنسان الوازع الدّيني، أو الخوف من الأخطاء، وهو ما يعكس الخضوع للتقاليد التي تفرضها الطقوس والشعائر الدّينية، وتبعاً لذلك الثّقة في الجماعة التي ينتمي إليها (2).
وتأتي الأرواحية أولاً بوصفها الديانة التقليدية في بوركينافاسو، ثم يأتي بعدها الإسلام، ثم المسيحية، أي أنها دولة متعددة الأديان (3).
وستعرض هذه الدراسة المختصرة بعض مظاهر التفاعل الديني الاجتماعي في بوركينافاسو، في موازنة بين الأرواحيّة والإسلام.
معتقدات الدّيانة الأرواحية وخصائصها:
تعريف الأرواحية:
الأرواحية: هي الديانة المنتشرة في بوركينافاسو قبل مجيء الإسلام، وهي: «تقوم على تصوّر وجود مخطّطٍ روحيٍّ وراء المخطّط الطبيعي، والاعتقاد بوجود نفسٍ للأشياء، وبالثنائية، وبأنّ وراء كلّ شيءٍ روحاً، ووراء كلّ ظاهرة عقلاً، وأنّ هناك إرادة في كلّ ما نظنّه صُدفة، وأنّ الإنسان الذي يعي ازدواج الطبيعة يرى أنّ كلّ ما يحيط به مشابهٌ له، ويلاحظ أنّ في داخله صلةً وثيقةً بين المادة والعقل، فهو يحاول عبر الأشكال الخارجية أن يؤثّر في الأرواح التي وراءها»(4).
ويعتقد الأرواحيون أنّ في هذا الكون المنظّم قوةً تتحرك، ويتعيّن على المعتقِد تحديد مسار حركتها بطقوسٍ دينيةٍ تمنع الكوارث التي يمكن أن تصيب الإنسان.
الخالق الأعظم:
مفهومه عند الأرواحيين: أنه القوة التي قامت بخلق العالم دفعةً واحدةً، ثم تسامت عن البشر، وأخلدت إلى الرّاحة، وأنابت عنها الآلهة الصغرى، ووكّلتها بشؤون الأرض، ويعتبرون هذه القوة كائناً فوق الكائنات الموجودة بالأرض(5).
ومن خصائص هذا الكائن العلويّ أنّه منزّه عن الصفات البشرية، وهو أزليٌّ لا نهائي، ويسود الاعتقاد في أنّ الخالق الأعظم وإن كان بعيداً عن النّاس، حيث لا تدركه حواسهم، فهو غير مقطوع الصلة بهم، بل ينظر إلى أفعالهم، ويراقب سلوكهم، فيكافئ الأخيار ويعاقب الأشرار، وهو الذي ينزّل الأمطار أو يمنعها، كما يحقّق الخصوبة أو يقطعها، ويشفي من المرض أو يبتلي به، ويطيل الأعمار أو يقصّرها، وهو لا يُرَى ولا يُلمَس ولا يُسمَع، إذ هو كالهواء موجود في كلّ مكان، ولا يهتم بالمسائل الشّخصية، لهذا لا يقبل العبادات والطقوس التي توجّه إليه إلاّ عندما تكون جماعية، أي من عامّة الشّعب، وإلاّ يعاقب صاحبها، فهو – لهذا – موضع خشية، ومعقد رجاء، ومحلّ عبادة، فتُقام له المحاريب، وتُقدَّم إليه القرابين، ويُتوسّل إليه بالدّعاء بواسطة الأسلاف(6) – كلّ هذا بحسب اعتقادهم-.
عبادة الأسلاف:
تتخذ عبادة الأسلاف – عند الأرواحيين في بوركينافاسو – شكلاً جماعيّاً، كما تُقام لها الاحتفالات والطقوس عادة، حيث تعمّ القريةَ موجةٌ من الرقص طوال الليل، وفي اليوم التالي يخرج الناسُ لصيد الحيوانات البريّة، ويُقدَّم قَدْرٌ من الحصيلة قرباناً للأسلاف، وذلك بتركها في الخلاء، وقَدْرٌ للكهنة.
وإذا كان الاحتفال متعلّقاً بموسم زراعي؛ فيضرب كاهنٌ الأرضَ بفأسٍ أو آلةٍ ما حادة، بعد ذلك يمكن استهلاك أول محصول، وشرب أول كأس خمرٍ إكراماً للأسلاف، وتستمر طقوس إكرام الأسلاف شهرين عند بعض الأجناس، تحت إشراف الكهنة والزعماء التقليديين (7).
وهم بهذه الأفعال يعتقدون أنّ هذه الأرواح تتوسط لهم عند الإله، كما كان يفعل أسلافهم الموتى، وهنا نلاحظ دَوْر عبادة الأسلاف عند الأرواحيين.
الوفاة عند الأرواحيين:
إذا توفّي المرء – عند الأرواحيين في بوركينافاسو – علا بكاء أهله وعويلهم، وقبل دفنه يتحقّق الكهنة في أسباب وفاته، ثم يُعدّون الطقوس والمراسم اللازمة للدفن والتأبين (8)، ثم يُسأل الناس مَن له دَيْن على الفقيد؛ ذلك لأنهم يعتقدون أنّ دفن الميت قبل تسديد ديونه يعرضه للعذاب في قبره.
كما أنهم يؤمنون بأنّ روحه أو قرينه سيرجع إلى داره ليتفقد أهله (9)، وسبب هذا الاعتقاد يعود إلى تقسيمهم للإنسان إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الإنسان بلحمه ودمه، والثاني: النّفْس، وهي في اعتقادهم مادة مكوّنة من دمٍ وريح (ما يعبّر عنه في الفرنسية Souffle)، ثم الثالث: يتمثّل في شخصٍ مصاحبٍ لنا طوال حياتنا؛ هو الروح.
فالقسم الأول، أي الإنسان، يأكله التراب، والثّاني تذوب في الكون، أو تنتقل إلى إنسانٍ آخر أو حيوان، أما الثالث، وهو الرّوح، فتبقى مع صاحبها في قبره ثلاثة أيام، ثم تتفقد داره من حينٍ لآخر (10).
رفع الحداد عند الأرواحيين:
بعد الوفاة بثلاثة أيامٍ تُذبح الذبائح، ويُقدّم الطعام والشراب، وبعد الدّفن بثلاثة أشهر يُرفع الحداد، وعندئذ يُقام احتفالٌ كبير، تُقدَّم فيه المأكولات الشهيّة والمشروبات الرّوحية والطقوس الدّينية، والهدف إعادة التوازن الاجتماعي وتحرير الأحياء من ممنوعات الحداد، وبذلك يوضع الميّت ضمن فئة الأسلاف بشكلٍ نهائيٍّ (11).
وعموماً لا يرى الأرواحيون في بوركينافاسو الموت ظاهرة طبيعية عادية، بل كثيراً ما يذهب ظنّهم إلى أنّ عدواً ما ألحق بالميت هذا الأذى، ولعلّ في هذا ما يدلّ على أنّ للسحر دَوْراً أساسيّاً في حياتهم، ومع ذلك يرون الموت حالة يعبرها الإنسان، وترشّحه لمجلس الأسلاف الذين يقومون بدَوْرٍ كبيرٍ لدى الأرواح والآلهة.
ومما سبق نستخلص أنّ الدّيانة الأرواحيّة في هذه المنطقة تعتقد:
1 – أنّ في العالم وحدةً أو قوةً روحية تسري فيه؛ بدايةً من أصغر ذرة إلى أكبر نجم، مروراً بالحيوان حتى الإنسان، فعلى الإنسان السّعي لمعرفتها وفهمها؛ ليتسنّى له التوحّد معها في نهاية الأمر؛ لأنّ الانعزال في الكون موتٌ محقّق، فعلى الرّغم من أنّ الله حاضرٌ في كلّ مكان وفي كلّ شيء – في اعتقادهم-؛ فإنه في المقابل غائبٌ أو بعيد، ومن ثمّ لا ينغمس في الأجزاء الفردية المعزولة، لأنّه يشارك روح الجماعة عن طريق الأجداد أو غيرهم.
2 – الأجداد هم الوسطاء بين العالم المرئي واللامرئي، فهم برغم موتهم حاضرون مع الأحياء، وشاهدون على أعمالهم، فيفرحون إن أصاب الأحياء من أقربائهم، ويغضبون إن أساؤوا، ويتدخّلون عن طريق القرابين ليشفعوا لهم، فعلى الأحياء أن يستغلوا مكانتهم.
3 – العالم ليس خالياً من الكائنات المرئية واللامرئية، فعلى الإنسان أن يعرف أنّه ليس وحيداً في الكون، بل معه الجنّ والأرواح، وهي لا تقلّ عنه وجوداً، فعن طريق الطقوس والشّعائر اليوميّة والموسميّة يمكن توحيد هذه العناصر، ومن ثمّ فالإنسان متديّن بالضرورة.
العلاقة العقائدية بين الإسلام والأرواحية:
هناك شيء من التأويل والخصوصية في عقيدة المسلمين في وجود الله في بوركينافاسو، ذلك أنّ الإله الأعظم كان معروفاً لدى الأرواحيين في هذه المنطقة قبل مجيء الإسلام، والكائنات الأخرى، مثل الملائكة والجنّ وغيرها، لا تمثّل هي الأخرى صعوبات لدى الأرواحيين؛ لأنهم كانوا يعرفون أنواعاً من الكائنات الروحية في هذه المنطقة.
وبالرغم من أنّ المفهوم الإسلامي غزا ويغزو المفاهيم البوركينية بصفة مستمرة، وأزال فعلاً بعض المفاهيم؛ فإنه من المؤكد أنّ بعضها ما يزال موجوداً عند بعض الأجناس في بوركينافاسو(12).
ومن مظاهر ذلك:
الكلمات التي تقابل كلمة: (الله) في الإسلام:
– عند بيسا Bisa: (هُنْسُ Hounsou).
– عند الموسي: (وِنْدِه Windé).
– عند غورمنتشي (Gourmantché): (أُوْتِيَيْنِ Otiéne).
– عند جنس الجولا dioula: (مَاتِيغِي ألَه ALAmatighi)(13).
– عند الفلاتة: (جومراطو).
– ولدى بوبوBobo: نجد: (دُوُوْDWO) تقابل اسم: (الخالق) في الإسلام.
– ونلاحظ أنّ اسم (الله) عند ماندنغ قريب من اسم (الله) في الإسلام، ويبدو أنّ هذا الجنس تأثّر بالمصطلح الإسلامي، ولعلّ هذا ما يجعلنا نقول إنّ المفهوم الإسلامي قد غزا بعض المفاهيم في بوركينافاسو، فوجود هذا الإله المفارق في ثقافة الأرواحيين في هذه المنطقة جعل الاعتقاد بالله أمراً سهلاً.
وكذلك نرى أنّ الإسلام يتميّز عن الأرواحية في مستوى القضاء، فالحكم في الإسلام: دنيوي، يتمثل في إقامة الحدود والتعزيرات، وأخروي، وهو الجزاء في الآخرة.
أما الأرواحية فكلّ أحكامها دنيوية، وقد تكون العقوبات فناء أو انقطاع نسل أو تعرض للعنة وكوارث، وهم يخافون من السرقة والزنا لأنّ اللعنة ستتبعهم هم وذريتهم، وهذه اللعنة لا تمهل لأنّ القوى الطبيعية من ريحٍ ومطرٍ وأمراضٍ فتاكة، كلها مسخّرة لها، فلا يمكن الإفلات من العقاب، كما يعتقدون أنّ هناك أرواحاً خفية تسري في المادة، وفي العالم بصفة عامّة، تقوم بالمهام نفسها (14).
مما سبق؛ نلاحظ أنّ هناك اختلافاً كبيراً بين العقيدتين، الإسلامية والأرواحية، في مستوى الجزاء، ومن ثمّ لا يُتصوّر التوفيق بينهما.
وعموماً؛ فالإيمان بالإله عند البوركينيين شبيه بشركيات العرب قبل الإسلام، فأرواح الأسلاف هي الوساطات إلى الإله الأعظم، كما قال المشركون في عبادة أصنامهم: ﴿… مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى…﴾ (الزمر : 3).
فالأرواحية، وإن بدا في ظاهر الأمر أنها تتّسم بوحدة بناء ورؤية كلية للكون، فإنه بناءٌ واهٍ، ورؤيةٌ ضبابيةٌ قاصرة؛ كما يتضح من معتقداتها وقصور استيعابها لحياة ما بعد الدنيا، وهي الحياة الباقية، وقد وصف البروفيسور جوزيف كي زيربو المجتمع الإفريقي التقليدي (الأرواحي): بهشاشة البنية الثقافية والاستبدادية الشمولية… وأنّ «الإفريقيين وصلوا إلى طريق مسدود، فقد كانوا يزعمون أنهم يروّضون الطبيعة بواسطة رموزهم وطقوسهم السحرية»، ثم ينتهي ليقول: «نحتاج لترويض الطبيعة بالأدوات والمعاول!»، وترويض الطبيعة بالعمل والإنتاج لإعمار الأرض وإسعاد العباد هدفٌ ارتضاه الإسلام وحثّ على تحقيقه (15).
العلاقة الاجتماعيّة بين الأرواحيين والمسلمين:
منذ أن دخل الإسلام إفريقيا عمل على تصحيح المفهومات والمعتقدات والقيم في المجتمعات الأرواحية وغيرها، «وصاغها في منظومة قِيَمه الربانية، فوجدت قبولاً واسعاً بين شعوب إفريقيا جنوب الصحراء، وانعكس ذلك جليّاً في نهضتها الاجتماعية، وتحرّرها من أغلال المحرمات (التابو)، وتعسّف القيم الإحيائية، وثقل الروابط العشائرية الطوطمية التي أثقلت خطاها وحالت دون نهضتها» (16).
وبعد مجيء الإسلام إلى بوركينافاسو، في أواخر القرن 18 الميلادي، وانتشاره، بلغ المسلمون – وفقاً لتعداد 2006م – (53% – 60%) من السكان (17)، ولتمسك بعض البوركينيين بعقيدتهم الأرواحية أصبح المجتمع منقسماً إلى: مسلمين، وهم الأكثرية، وأرواحيين.
وقد تصدّت الأرواحية للإسلام أول الأمر في هذا البلد، وحاربته بشكلٍ عنيفٍ، وبكلّ قوة (18)، يقول الشيخ Touré – في ندوة أبيدجان سنة 1961م-: «إنّ جماعة Mossi في بوركينافاسو لم تكن تسمح بالصّلاة في واغادوغو، فإذا صلّى مسلمٌ ألزموه بأن يحمل معه الترّاب الذي سجد عليه، كما كانوا يرفضون إعطاء المسلم وعاءً لكي يشرب» (19).
هذا يدلّ على أنّ سكان بوركينافاسو في تلك الفترة التّاريخية لم يكونوا يميلون إلى الإسلام، «فقد رُوي أنّ رجلاً من قبيلة الموسي وعد تزويج ملكه الوثني من ابنته، قبل اعتناقه للإسلام، فلمّا أصبح هذا الرجل مسلماً حاول إقناع ملكه باعتناق الإسلام ليمكّنه من الزواج بالبنت التي وعده إيّاها، وأبلغ المسلم صاحبه الوثني أنّه لا يستطيع إعطاء ابنته إلى وثنيٍّ حتى ولو كان ملكاً، فأجاب الملك الوثنيّ قائلاً: إنّ التزاماته العرفية تحول دون اعتناق الإسلام. قائلاً: إنّ الفتيات الوثنيات يعتنقن ديانة أزواجهن المسلمين؛ فمن العدل أن تفعل الفتيات المسلمات نفس الشيء» (20).
يتبين من هذا الحوار قوة تمسّك المسلمين بدينهم والتزامهم بأحكامه، فهذا المسلم رفض تزويج ابنته لملك لكونه وثنيّاً – اعتزازاً بدينه – ؛ برغم ما كان من سابق وعدٍ منه بذلك قبل إسلامه، بل دعا هذا الملك إلى الإسلام.
وقد تحقّق للإسلام انتصاره على الأرواحية في كثيرٍ من مناطق بوركينافاسو، حيث ظلت الديانة الأرواحية تتمتع بشيء من النفوذ؛ ما دفع المسلمين إلى إنشاء أحياء وقرى جديدة خاصّة بهم، وبنوا فيها المساجد، وأسّسوا الزّوايا لحفظ القرآن وتلقين اللّغة العربية والعلوم الشّرعية لأبنائهم، وبهذا استمر المسلمون في هذا البلد في استقطاب بقية الأرواحيين (21).
من أسباب انتصار الإسلام على الأرواحية في تلك الفترة، نذكر منها:
1 – الإسلام ومبادئه القويمة: فهو دين الفطرة السليمة، وجدت فيه الأنفس التوافق التامّ، فاستجابت له، كما استجابت العقول لبالغ حكمته وسلامة منطقه في عقائده وأحكامه، كما أنه يتضمّن قِيَم الإنسانية الحقّة التي تحقّق كرامة الإنسان، والحرية الحقيقية التي تخلّصه من الخوف مما يتوهّمه ويعتقده في أرواحيةٍ لمصادر قوى لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً.
2 – قوة الإسلام في مقاومة الاستعمار وضعف الأرواحية: انتبه المجتمع الأرواحيّ أمام الزحف الاستعماري المزوّد بمعدات متطورة إلى أنّ الأرواحية تعجز عن المقاومة، فكان لا بد للإحيائية من البحث عن قوة أخرى، فاعتنقت دين الإسلام لكي يفتح لها آفاقاً جديدة، وييسّر لها الحصول على تغيّرات بنيوية جديدة وقوية تساعدها على التصدي للزحف الاستعماري؛ ونلاحظ أنّ الاستعمار الأوروبي لمنطقة بوركينافاسو قد تسبّب بصفةٍ غير مباشرة في نشر الإسلام وتوسعه على حساب الأرواحية، ومما يؤكّد هذا أنّ جلّ أبناء البلاد الذين وظّفهم الاستعمار في مهام دبلوماسية في شمال إفريقيا قد عادوا مسلمين(22).
3 – الهجرة الاقتصادية لأبناء المنطقة إلى غانا، وغيرها من المناطق التي كان الإسلام منتشراً فيها في ذلك الوقت: عزّزت انتشار الإسلام في بوركينافاسو؛ لأنّ المهاجرين بعد عودتهم إلى الوطن قاموا جميعاً بالدعوة للإسلام.
4 – صعوبة نقل طقوس الأرواحية: فالمقيمون من أبناء بوركينافاسو في مملكة غانا كان يصعب عليهم – مثلاً – نقل قبور الأجداد المنتهكة، والتماثيل التي يعبدونها في الوطن، إلى غانا، وفي غياب المذبح العائلي؛ لذلك ابتعدوا – لبعد المسافة – عن الأرواحية شيئاً فشيئاً، حتى ترسّخ الإسلام فيهم خلال إقامتهم في غانا، وعادوا إلى البلاد وهم يتعززون بالإسلام بوصفه قيمة يُحتذى بها(23).
5 – الإسلام يسمح بعقد زواج شرعي خلافاً للزواج على الطريقة الأرواحية: فغالباً ما يتزوّج المهاجر في بوركينافاسو في تلك الفترة تبعاً لتقاليد الأرواحية، لكنه بعد عودته إلى غانا مع زوجته يعقد قرانه عليها حسب الشعائر الإسلامية، وكذلك كان تعدد الزوجات في الإسلام عاملاً آخر لانتصاره على حساب الأرواحية؛ برغم وجود هذا العنصر في منظومتها – حسب قول Joseph Lounoual في سنة 1960م-(24).
العلاقة الثقافية بين الأرواحيين والإسلاميين:
على الرغم من أنّ نسبة 60%(25) من سكان بوركينافاسو تعتنق الإسلام؛ فإنّ بعض الأعراف والتقاليد القديمة لم تجتث؛ لأنّ لها معانيها ودورها في الحياة اليومية، كما أنّ جذورها متأصلة في نفوسهم، فكان لا بد من صراعٍ بين القيم التقليدية وبين القيم الإسلامية، وتفاعلٍ في بعض الجوانب التي يمكن التوفيق فيها بين الثقافة البوركينية الموروثة وبين الثقافة الإسلامية الجديدة.
ولعلّ هذا كان سبباً لما أطلق عليه البعض خطأً اسم: (الإسلام الأسود)؛ فالإسلام فوق ذلك، كما أنّ ذلك فَهْمٌ قاصرٌ لحقيقة تفاعل شخصية الإفريقي مع الإسلام، ومنهجها الخاص في فهمه وممارسته، بل موقف الناس جميعاً في كلّ مكان، وقد صوّر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: )مثل ما بعثني اللهُ به من الهُدى والعلم كمثل الغَيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماءَ فنفع اللهُ بها الناسَ فشربوا وسقَوا وزرعُوا، وأصابت منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مَثَلُ مَن فقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللهُ به، فعلم وعَلّم، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى اللهِ الذي أُرسلت به)(26).
وما أدخله الناس على الإسلام من معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم لا يعدّ من الإسلام في شيء إلا إن كان موافقاً له، ولا يُسمّى الإسلام بهذا التوافق إسلاماً أبيض أو أسود، ولا أعجميّاً ولا عربيّاً ولا بربريّاً، ومن أحدث فيه ما ليس منه فهو ردّ؛ والإسلام له صبغته الربانية الخاصّة، كما قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ (البقرة : 138).
ومن الخطأ أيضاً ما زعمه بعضهم من أنّ الإسلام في إفريقيا عامّةً ليس له لون، كالماء لا لون له، وأنه يتخذ لون الأرض والحجارة – كما جاء في تعبير AmadeauhourpatéBa -(27).
وقد خلط بعض البوركينيين العادات والتقاليد القديمة بالإسلام، ومن ذلك:
في الخطبة والزواج:
– من عادات الزواج عند بيسا (bissa):
يعتبر الكرم في قبيلة بيسا وسيلة للزواج، فعندما يُكرم الشّاب شيباً يجازيه ببنتٍ يتزوج بها، وهو أن يقوم المسؤول عن البنت بإعلان أسرة الشاب بأنّه أعطى ابنته لابنهم، فتقوم أسرة الشاب بمراسم الخطبة التي تتكوّن من الطبق والديك الأبيض والخروف والملح وجوز الكولا، فيُعطى قدرٌ من الخمر للأسلاف، ويُذبح الدّيك الأبيض ليطلبوا رأيهم في هذا الأمر، ويُرمى الدّيك بعد ذبحه، فإن وقع على ظهره وارتفعت قدماه إلى أعلى فهو دليل قبول الأسلاف، وإن وقع على أحد جانبيه أو على بطنه فهو دليل رفض الأسلاف للأمر.
وفي الحالة الأولى تُكسر رِجْلٌ واحدة، وبعد ذلك يأكل أبو الشاب وأبو البنت الديك، ويشربان الخمر، ويضعان الطبق – لا غيرهما-، وهذا يعتبر زواجاً مباشراً، وبعد القيام بهذا الواجب تعلن أسرة البنت لأفرادها – أو القرية – الأمر ليعلم الجميع، ثم يختارون يوماً ليأخذوا العروس في الليل، فترافقها امرأةٌ عجوز، وعند رجوعها تُعطى ثلاث غرغرة وكميّة من الحبوب لشيخ الأسرة، وبعد ذلك يتمّ توزيع الملح لإعلان أنّ البنت ذهبت إلى زوجها نهائيّاً.
وعلى الزوج الحذر من أن يشتم أبا البنت أو أمّها أثناء التخاصم؛ لأنّ هذا يعتبر شتماً للأسرة كلّها، وإن حصل ذلك تعود البنت إلى أهلها ولا ترجع أبداً، وإن حصل التخاصم دون شتم الوالدين ترجع إلى زوجها من جديد(28).
– من عادات الزواج عند الفولاته (peulh):
يعتبر ابن (العمّ والعمّة والخال والخالة) – من الفولانيين – أنّ البنت زوجة له، كما يعتقدون في الزواج بين البنت والابن بعد ولادة البنت بأسبوعٍ، وعادةً يتمّ الزواج بين أسرة الابن وأسرة البنت دون علمهما؛ بما يشبه زواج الإكراه، وإذا علم أقران الزوج بالنّكاح يجبرون الزوج على الوليمة بشاة يذبحونها وراء القرية ويأكلونها.
ومن التقاليد أنّ المهر يكون بقرة أو بقرتين أو ثلاث – حسب استطاعة الزوج-، ووالد الزّوجة يتصرف في نصف المهر، وعند الطلاق تحتفظ البنت بالمهر إذا كان سوء التصرف ناتجاً من الزوج، وإذا كان من البنت يعود المهر إلى الرجل.
وبعد الزّواج يستمر الفرح والرقص أسبوعاً، ويذبحون فيها الأبقار والخرفان والماعز وغيرها، وبعد الزواج لا يدخل الزوج على الزوجة إلاّ بعد نوم النّاس، ويستيقظ قبل استيقاظهم، ويستمر هذا مدّة أيام معيّنة، وبعد الزواج لا تتكلم الزوجة مع الزوج إلاّ بعد ولادة ولدين أو ثلاثة.
وهذه العادات مستمرة إلى يومنا هذا(29).
ومن الفروق في عادات الزواج في بوركينافاسو:
– أنّ الزّواج في عادة الأرواحية يخصّ العائلة بالدرجة الأولى، في حين أنه في الإسلام يخصّ الزوجَين.
– عند مسلمي بوركينافاسو يُعقد الزواج في المسجد، أمّا الطقوس المصاحبة له فهي بوركينية محضة، مثل توزيع جوز الكولا والمشروبات التقليدية.
في تعدّد الزوجات:
تعدّد الزوجات بلا حدّ معيّن عادة قديمة كان عليها الآباء والأجداد؛ لأنّها كانت من الصفات الرجوليّة آنذاك، وهي عادة وراثيّة إلى يومنا.
ويلاحظ حتى هذه الأيام تجاوز بعض المسلمين للزواج بأربع؛ برغم أنّ الإسلام حدّد لنا أربع زوجات مع شروط، وهذا دليل واضح على غلبة العادة الأرواحيّة على تعاليم الإسلام، فأغلب الرجال لا يلتزمون بحدود الإسلام في تعدد الزوجات، ويطبقّون ما كان عليه أجدادهم وآباؤهم، وأحياناً تفرض العادات على الرجل التعدد، مثلاً إذا توفّي واحدٌ من الأسرة وترك زوجاته؛ فعلى رجال الأسرة أن يتقاسموا فيما بينهم الأرامل؛ لأنّ الأرملة في العادة لا تبقى معلّقة(30).
في تسمية المولود:
وفي تّسمية المولود كذلك هناك ازدواجية، حيث تعتبر التّسمية في العادة والتّقليد تطهيراً للمولود (ة)، وذلك أنّه في يوم الولادة يعلن أنّ فلانة زوجة فلان أنجبت، وفي اليوم السابع يقيمون حفلة التسمية، فيعطون للمولود (ة) اسماً، ويحلقون شعره، ويكون الاسم في الغالب عربيّاً وإن كان نطقه محرفاً نوعاً ما، وأحياناً يُضاف إلى الاسم الإسلامي اسماً تقليديّاً، أما اللقب فيبقى بوركينيّاً محضاً.
أما طقوس التسمية في القديم فكانت تتطلب شرب الخمر وعصير الحبوب وأكل الخروف وجوز الكولا، وبعد مجيء الإسلام نلاحظ أنّ هذه العادة لم تتغيّر، إلاّ أنّهم ألغوا الخمر فقط(31)، فالبوركينيون المسلمون يذبحون خروفاً في مناسبة تسمية المولود، وهي سنّة في الإسلام، أمّا الطقوس المصاحبة لها فهي عادة بوركينية
في الختان:
بعد التسمية إذا كان المولود ذكراً يقومون بختانه، وإذا كانت بنتاً يقومون بخفضها، ولنعلم أنّ هذه الطقوس تُقام على ابن أو ابنة المرأة المتزوجة في شرع العادة والتقليد، فلا تُقام على ابن الزنا.
ويعطى الشيخ دور ختان الأولاد، أما الطقوس المصاحبة لهذه العملية فلا علاقة لها بالإسلام، وفي مستوى «خفض» البنات؛ فالعملية تتم في جوٍّ تقليديٍّ بوركينيّ(32).
ويبدو أنّ هذه الظاهرة ليست مقصورة على بوركينافاسو فقط، بل في إفريقيا السوداء بصفة عامّة، إذ نجدها كذلك في مناطق أخرى من العالم.
وعلى هذا؛ فإنّ بعض المظاهر الاجتماعية ظلّت تمارس بصورة فيها مزاوجة بين الإسلام والأرواحية في بعض العقائد والتقاليد المصاحبة في عملية ازدواجية وثنائية؛ ما يدلّ على جهل من بعض المسلمين بدينهم وضعف تمسّكهم بأحكامه.
وهذه الظاهرة ليست خاصّة بالمجتمع البوركيني فقط، فمثلها نجدها عند كثير من المجتمعات الإفريقية وغيرها، من الذين اعتنقوا الإسلام وما زالوا يحتفظون ببعض طقوسهم الدينية القديمة وعاداتهم، مثل بعض المسلمين في الصين وإندونيسيا، ومثل الشيعة الإيرانيين؛ يمارسون بعض عاداتهم غير الإسلامية القديمة، كالاحتفال بعيد النيروز.
كلّ هذه الأمثلة تؤكّد مدى حرص بعض المجتمعات على ما كان سائداً من عادات وتقاليد، ﴿… إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ (الزخرف : 23)، لعدم فهمهم العميق للإسلام، وهو ما جعل البعض يخطئ في الادعاء، مثل: Ba Amadeauhampaté، أنه يوجد (إسلام أسود) متميّز عن الإسلام في المشرق.. متكيّف مع الخصوصيات النفسية لدى السودان(33)؛ فإنّ ممارسة ما يخالف الإسلام من عادات وتقاليد لا يعدّ من الإسلام في شيء.
والمجتمع البوركيني لا يختلف عن غيره في التدين(34)، إذ أنّه ليس هناك مجال في التدين لما يسمّى (لوحة فارغة)، تظلّ تنتظر حتى يأتي دين جديد فيشغلها، بل كلّ اللوحات مشغولة، والدّين الجديد يشهد صراعاً بين عقائده والعقائد السّابقة له، ولكي يجد الدّين الجديد آذاناً صاغية له فلا بد من أن يكلم النّاس بما يعرفون من قيمٍ وبما يفهمون من لغة، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ…﴾ (إبراهيم : 4)، وهذا لا يتأتى إلا عندما يؤخذ بعين الاعتبار كلّ ما كان سائداً من لغةٍ وشعائر وطقوس، فيعمل الدين الجديد على إزالة ما غشي الفطرة بتوجيه النداء الرباني إليها، وما حجب العقول عن الإدراك السليم بسلامة المنطق وقوة الحجّة والبرهان، وتعديل السلوك بالقيم السامية النبيلة؛ فيضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ويعزز ما كان سائداً مما يتوافق معه، وقد كان ذلك شأن الإسلام في البيئات التي انتشر فيها، وبخاصة إفريقيا، ولم يكن غربها وبوركينافاسو بمعزل عن ذلك.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ظلّ بعض الناس في بوركينافاسو متمسكين ببعض طقوس الأرواحية التي أدركت عجزها عن مدافعة الاحتلال الغربي؛ فلجأت إلى الإسلام للوقوف في وجهه؟
لطالما ظنّ بعض الدّارسين أنّ ممارسة بعض عامّة المسلمين – جهلاً – لبعض طقوس الأرواحية في المظاهر الاجتماعية تدّل على عدم اعتراض الإسلام على التّوفيق مع الأرواحيّة، وهذا ليس بصحيح، وقد رأينا – سالفاً – أنّه لا شيء يجمع بين عقيدة الإسلام ومعتقدات الأرواحية.
ومنها ما يراه البعض من «أنّ قبول الإسلام في بوركينافاسو يدلّ على أنّه كان استجابة عملية لحاجات المجتمعات البوركينية ومصالحها في ظروف تاريخية محددة»(35).
وذهب بعضهم إلى أنّ بساطة العقيدة وتسامحها هما ما جعل الإنسان الإفريقي يسعى إليها، وهذا هو الحقّ الذي تؤكده استجابة الإنسان للإسلام، ليس في إفريقيا وحدها، بل في كلّ أنحاء المعمورة، وقد تأتي بعد ذلك بعض العوامل والأسباب الإضافية، مثل ما وجدوه في الإسلام من الأمن والطمأنينة والشعور بالكرامة في مواجهة الخوف من العبودية، وما وجدوه من مبادئ العدل والحرية التي تجعلهم متساوين مع غيرهم من النّاس؛ حسب قول Massignon في سنة 1938م(36).
موقف الإسلام من الأرواحية:
نسوق في خاتمة البحث ملخصاً لما قدّمه البروفيسور مهدي ساتي من موقف الإسلام من الأرواحية(37):
– استطاع الإسلام تحرير المجتمع من كثيرٍ من القيم الاجتماعية الأرواحية وممنوعاتها (تابو)، مثل: (تابو العلاقات الجنسية) بين الرجل وزوجته آخر أيام الحمل، والذي حرمته الأرواحية لمدة قد تستمر لسنتين كاملتين أو أكثر بعد الولادة.
– تصدّى لما اعتبرته الأرواحية من تعثّر المرأة عند الولادة دليلاً على ارتكابها خطيئةٍ كالزنا، فجعل المرأة التي تموت في هذه الظروف الحرجة شهيدة .
– أعاد الإسلام بناء النظام الاجتماعي عند القبائل الإفريقية على نسق يحقّق التكافل والتراحم بين الناس؛ فأوجب صلة الأرحام بين الأحياء؛ حيث لا يدخل الجنّة قاطع رحم.
– جرّد الإسلام الأموات من إمكانات النفع والضرر، واستوجب لهم الدعاء بالمغفرة، كما جعل لأجسادهم حرمة خاصّة، وجعل علاقة الأحياء بالأموات علاقة تعاطف ومحبة؛ لا علاقة توجّس ورهبة كما في الديانات الأرواحية القديمة.
– أوجد الإسلام قيماً اجتماعية تخالف ما كان سائداً من احتقار بعض الحِرَف، كالحدادة والدباغة، حتى كان التعامل مع محترفي هذه المهن ضرباً من المكروهات، والتزاوج بهم ضرباً من (التابو)، فأزال هذه الموانع الاجتماعية، بل جعل من الحِرَف اليدوية على اختلافها حِرَفاً مباركة.
– شكّل شرب الخمر في المجتمعات الأرواحية ظاهرة اجتماعية عقائدية، حيث كان شرب الخمر حتى حدّ السكر فرضاً دينيّاً على الطاعنين في السنّ؛ فحرّمها الإسلام.
– أسّس الإسلام لقيم الكرم والضيافة، فصار الكرم سمة لمجتمعات المسلمين، ومكّنت لها أعياد المسلمين ومواسمهم واجتماعاتهم في رمضان، واتسعت ظاهرة تقديم الطعام واستضافة الغرباء في المساجد والمنازل، وانتقل الإسلام بهذه القيمة الاجتماعية إلى آفاقٍ عالمية أرحب، تمثّلت في تعاطف المسلمين في إفريقيا جنوب الصحراء مع المسلمين القادمين للحجّ من شتّى بقاع العالم.
– أَوْلى الإسلام المرأة خصوصية عن طريق تصديه للقيم والأعراف التي حالت دون تحقيقها لحريتها، وضمانها لحقوقها المادية والاعتبارية، حيث قضت قيم الميراث الأرواحية بحرمان المرأة من وراثة الأموال، كما في مجتمعات (الهوتنتوت) على سبيل المثال، كان الإرث حقّاً للذكور دون الإناث، وذلك في سائر الأموال والممتلكات، وبالإسلام صار للمرأة الحقّ الشرعيّ في ذلك.
– عزز الإسلام قيم (الاعتداد بالنفس) في أوساط الأرواحيين، وقد لاحظ ذلك بعض الرحالة والدارسين، ذلك أنّ معظم الشعوب في إفريقيا السوداء كانت تنظر إلى (البيض) باعتبارهم آلهة أو أنصاف آلهة، خصوصاً في الأيام الأولى لقدوم المستعمرين، غير أنّ المراقبين والإداريين لاحظوا في مجتمعات الإفريقيين ظاهرة اعتداد المسلمين الإفريقيين بأنفسهم، ونظرتهم الواقعية للبيض من واقع ثقافتهم الإسلامية، بوصفهم بشراً عاديين لا يفوقونهم بشيء يوجب الخضوع، واستشهد هؤلاء الإداريون باعتداد الصوماليين والفلانيين بأنفسهم أمام البيض على وجه الخصوص، في المناسبات السلطانية الاحتفائية، كالدخول على السلاطين والأمراء، وقد ذكر الرحالة البكري كيف أنّ الداخل على السلطان في تلك المجتمعات يدخل حبواً، وقد وضع بعض التراب على رأسه؛ دليلاً على الاستكانة والطاعة، بينما اكتفى المسلمون عند تحية الملك بالتصفيق!
– أدى تقديس الأمراء والملوك إلى إذلال الشعوب، عبر تقديم القرابين والضحايا البشرية لهم، وقد أوحت الأرواحية لمعتنقيها ضرورة الوفاء لملوكهم وزعمائهم بما لا يوافق الفطرة السليمة، فظهرت في أوساطهم – كما عند اليوربا – مراسم (الانتحار النبيل)، وهو مما يدخل في مفهوم (القتل الطقسي) عند الأنثروبولوجيين المحدثين، حيث يلحق بعض الأحياء بملكهم المتوفََّى تعبيراً عن الوفاء، فحرّم الإسلام ذلك لكونه إهداراً للنفس والمال.
– لقد كان لقاء الإسلام بالقيم الأرواحية لقاء تاريخيّاً استغرق زمناً طويلاً، واقتضى التقويم فيه حكمة وصبراً كبيرين، فقد أدرك الإسلام نيات الأرواحيين ومقاصدهم في تخيّرهم لأعرافهم وقيمهم، فأبقى منها ما رأى فيه منفعة لا تصادم الشرع، وأزال ما دون ذلك في تأنٍ وتؤدة .
الاحالات والهوامش:
(*) باحثة من بوركينافاسو، متخرجة في جامعة الزيتونة بتونس، كلية أصول الدين، قسم الحضارة، حاملة شهادة الدراسات المعمّقة في الحضارة والأديان، وبصدد إعداد الدكتوراه في التخصص المذكور، وحالياً: أستاذة في المركز الجامعي للتخصّصات المتعدّدة ببوركينافاسو.
(1) تقع بوركينافاسو (فولتا العليا سابقاً) في غرب إفريقيا، تحيط بها: (مالي، والنيجر، وبنين، وتوغو، وغانا، وساحل العاج)، وقد ذهب المؤرخون إلى أنه لا يُعرف الكثير عن ماضي (بوركينافاسو) سوى أنها كانت جزءاً من إمبراطورية غانا، وفي القرن الرابع عشر الميلادي وبعده أصبحت جزءاً من إمبراطورية مالي الإسلامية، ومن ثمّ أصبحت جزءاً من إمبراطورية الصونغاي الإسلامية، كما أنها في وقتٍ ما كانت جزءاً من ساحل العاج، وكأنّ بنيتها الاجتماعية متعددة، انظر:
Delafosse Maurice: Haute sénégal – Nigéria, Soudan Français Paris, 1912, 3 vol 316.
(2) د. عبد الرحمان عمر الماحي: الدعوة الإسلامية في إفريقيا الواقع والمستقبل، ص 7، ديوان المطبوعات الجامعية، الساحة المركزية ابن عنكبوت، الجزائر.
(3) مرجع سابق، Délafosse, op cit 428.
(4) Dictionnaire des religions: P.U F.France, 1984.
(5) ديشان هوبر: الديانات في إفريقيا السوداء، القاهرة 1956م، ص 22.
(6) ديشان هوبر، مرجع سابق، ص 62.
(7) د. عبد الرحمان عمر الماحي، مرجع سابق، ص 13.
(8) التأبين: أن يقوم أحد أصدقاء الميت فيصف خصاله أمام الحاضرين، ثم يقوم أحد أقاربه بالعمل نفسه، وإن كانت امرأة فيفضل لديهم أن يكون زوجها هو الذي يقوم بهذا العمل.
(9) حسن سعيد جلو: تأثير الديانات الإفريقية في مسلمي بلاد السودان: أطروحة لنيل شهادة دراسات معمقة، تونس 1995م – 1996م، ص 133.
(10) Vieillard Gilbert: La contribution de la sociologie des peuls, IFAN, DAKAR, 1960, p 132.
(11) Dictionnaire des religions: P.U F. Art Africain.
(12) La terre Africaine et ses religion: Larousse Paris, 1983, p 214.
(13) ديشان هوبر، مرجع سابق، ص 63.
(14) حسن جالو، مرجع سابق، ص 90.
(15) مهدي ساتي: الإسلام والقيم الاجتماعية للجماعات الأرواحية في إفريقيا جنوب الصحراء، الرابط: http://www.islam4africa.net/ar/more.php?cat_id=18&art_id=61
(16) انظر: مهدي ساتي، مرجع سابق.
(17) انظر: http://ar.wikipedia.org
(18) المرجع نفسه، ص 15.
(19) Vincent Monteil، مرجع سابق، ص 17.
(20) Vincent M، مرجع سابق، ص 72.
(21) عمر الماحي، مرجع سابق، ص 106.
(22) Vincent Mit، مرجع سابق، ص 14.
(23)Jean Loui T ، مرجع سابق، ص 123.
(24)Jean Loui T ، مرجع سابق، ص 124.
(25) John Baur: 2000 years 07 chrilianity in africa, Nairobi, pautesses, 1994,p 524.
(26) رواه البخاري، كتاب العلم، باب: فضل من علم وعلّم، ح (79)، ومسلم كتاب الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهُدى والعلم، ح (2282).
(27) Ba Amadeauhourpaté et Dieterlen (germaine) Kouneu texte initiatique des pasteurs peul: Paris, 1961, p 96.
(28) توتا ماما دويانكيني: من الأسر الحاكمة في كادبوغو، غارا نغو (محافظة بولغو).
(29) الشيخ علي سيسي: إمام وخطيب مسجد حمد الله، واغادوغو.
(30) عبد النّور ويدراوغو: معلم كتابي، في قطاع رقم 10 لارلي، واغادوغو.
(31) إبراهيم كومباوري: إمام في مسجد موغو نابا – واغادوغو.
(32) حسن جالو، مرجع سابق، ص 47.
(33) Les musulmansd’afrique noir ، مرجع سابق، ص 407.
(34) المرجع نفسه، ص 50.
(35) مركز دراسات الوحدة العربية: العرب وإفريقيا، منتدى الفكر العربي، ط مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1984، ص 8.
(36) Triaud (J.L) Islam et sociétés Soudanaises au moyen âges, Ouagadougou, 1973, p 232.
(37) مهدي ساتي، مرجع سابق.