كان لشهر رمضان في إفريقيا جنوب صحراء الكبرى مميزاته, والتي جعلتها مختلفة عن أخرى, لامتزاج ثقافات شعوب تلك المنطقة العريقة وعاداتهم الأصلية مع مجيء الإسلام وتعاليمه. مما يعني أن لثقافات وعادات رمضان تاريخا طويلا في جنوب صحراء القارة, والذي يستحق من الباحثين الوقوف فيه لدراسته دراسة علمية.
من الغرابة بمكان أن جل الأحاديث التي تتناول رمضان في إفريقيا, يهتمّ أصحابها بشكل كبير بأخبار حرارة الأجواء التي يصوم فيها الأفارقة – مع أنها ليست مختلفة عن البلدان في شمال القارة وخارجها, الأمر الذي يؤدي بهم أن إلى يتركوا وراءهم نشاطات شعبية رمضانية كثيرة هي أكبر أهمية وروعة من تلك التي يتداولونها فيما بينهم.
فشهر رمضان لدي مسلمي جنوب صحراء القارة وقت للعبادة وتنقية الروح والتأمل والإخاء. وعلى الرغم من أن الملايين من المسلمين يشاركون في الاحتفال بهذا الشهر، وأن التواريخ والأوقات لحلوله مشتركة دوليا وأفريقيا, إلا أن لدى الأفارقة وجهات نظر من المحتمل أن الكثيرين لم يسمعوها من قبل.
وكما يقول الأستاذ الدكتور آدم بمبا في إحدى مقالاته: “أظن أنني قرأت تقريرا عن رمضان بإفريقيا من غامبيا إلى جزر القمر، فلم تعجبني السطحية في تناول الموضوع. كما أزعجني تركيزه على ما يأكله الأفارقة في الإفطار والسحور.. لكنني أعذر الكاتب، فلو وجد بحثًا نموذجيًّا جادًّا في هذا الموضوع لما كتب بهذا الأسلوب.. وتلك مهمتنا نحن طلبة العلم. فهذا موضوع واسع قد يستغرق سِفْرا ضخما قبل تغطية محاوره.”
وتابع قائلا: “في الحقيقة نحن جميعا مقصرون في الكتابة في الموضوعات الأنثروبولوجية للإسلام بالقارة الإفريقية، ومعظم دراساتنا عن الإسلام وأحكامه لا عن المسلمين أنفسهم.”
إن فهم مكانة رمضان لدي مسلمي إفريقيا جنوب الصحراء يعتمد على مدى فهم عادات شعوب تلك الدول أنفسهم والمكانة التي يحتلّها الإسلام وأركانه في حياتهم, وخصوصا تلك الأركان التي لا تتكرر بشكل يومي, كصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام.
لقد انتشر الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ وقت طويل قبل انتصار المسلمين في مكة المكرمة، وقبل صعود بلال بيت الله الحرام، بل قبل بداية ما يطلق عليه البعض خطأ بـ “الفترة الإسلامية”. ومن ثم كان من الطبيعي أن اكتسب شهر الصيام عادات تخصه قلما توجد في مناطق أخرى منذ ذلك الحين, وإلى فترات مماليك بلاد السودان إلى اليوم.
إفريقيا جنوب الصحراء والاستعداد لاستقبال رمضان
إن الاستعداد لاستقبال شهر رمضان بالغ الأهمية, ويبدأ في بعض البلدان من حوالي 4 أشهر قبل مجيئ الشهر.. وهو استعداد منه ما كان روحيا ومعنويا, ومنه ما كان ظاهريا وماديا يشارك فيه غير المسلمين.
منذ يناير وأخبار مجيء رمضان واستعداد الحكومات الإفريقية تتوارد في الصحف المحلية, ما بين بحث الطرق لضمان توفير الأدوات اللازمة لتسهيل الصيام وتنسيق أسعار الأسواق, وما بين قيام رجال الأعمال والمحسنين بترميم وتزيين المساجد والأماكن الإسلامية, ومساهمة الآخرين في أعمال مجتمعية ومشاركة بعضهم البعض في حل مشاكل مشتركة قبل حلول شهر البركة.
كان مألوفا لدى الأفارقة أن الآباء والمفسرين المحليين يبدءون تهنئة غيرهم بقدوم شهر رمضان والاستعداد له من شهر رجب, ويدعون ربهم – بأذكار ودعوات بلغات محلية قد تختلف عن مجتمع لآخر – بعد الصلوات أن يبلغهم رمضان ويسهل لهم الصيام ويتقبله منهم. ولهذا ليس من الغرابة أنهم يصومون شهري رجب وشعبان بأكملهما, ويحثون أبناءهم وأهاليهم بصومهما, وذلك لاعتقادهم في فضل الشهرين.
قبل شهر أو أسابيع من حلول رمضان, يراسل الأبناء الموجودون في الخارج أو في المدن آبائهم, ويبعثون لهم أموالا وألبانا وهدايا, بالإضافة إلى أشياء أخرى اعتاد عليها سكان المدن والقرى لأداء هذا الركن الإسلامي, كالحصائر والغلايات وملابس دينية وغيرها, فضلا عن الحماسة التي تعم أجواء المدن والقرى لقدوم الشهر.
وكما أشار الدكتور بمبا , فإن المسافرين يعودون إلى بلدانهم قبيل شهر رمضان, وهذه العادة توجد خاصة عند قبائل الهوسا – وهذا واجب في حق المرأة المتزوجة. كما أن العزاب يتزوجون, مع تعجيل زواج البنت إذا كانت مخطوبة لكي يكون رمضان أول شهر – والمقصود هنا ليس شهر العسل, فقط لتكون بداية خدمتها لزوجها في هذا الشهر المبارك؛ فتنال الأجر وبركة الشهر.
أما السواحليون يجتمعون لوليمة بثلاثة أيام قبل رمضان. و“الوثنيون” أيضا في بعض القبائل يقومون برقصة طقوسية ختامية لجميع أنشطتهم قبل رمضان، وخلال رمضان لا يقومون أبدا بأي طقوس. إضافة إلى أغان شعبية وأناشيد دينية تتغنى بها الأطفال والنساء لاستقبال رمضان.
وتوزع العديد من المؤسسات والمنظمات الدينية مصاحفا وكتبا إسلامية مترجمة إلى لغات إفريقية محلية, وكُتيّبات أخرى تحتوي على المعلومات اللازمة والمبسطة حول الشهر. وبالنسبة لرصد الهلال وظهور الشهر لدى الأفارقة, فهو عادة تختلف عن شعب لآخر, حيث لكل قبيلة أساليبها الخاصة في توظيف خبراتها التقليدية في التقويم السنوي – كما للإثيوبيين وغيرهم – وفي رصد الهلال. فالبعض يرصدون هلال رمضان في المياه والآبار والأقداح والبعض الآخر يرصدونه على الجبال.
نماذج من رمضان في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء:
هناك أقسام ومحاور كثيرة تحت الحديث عن رمضان في المنطقة, غير أن هذه المحاور أكثر وأضخم من أن يكتب عنها شخص واحد, بسبب اختلاف وخصوصية كل دولة.
ولكي نفهم طبيعة وعادات رمضان وصيامه في أفريقيا جنوب الصحراء, علينا أخذ نموذج ولو مختصر جدا من بعض بلدانها – على سبيل المثال فقط.
نيجيريا:
مع أنها دولة تجمع المسلمين وغيرهم, إلا أن أداء رمضان فيها – على الرغم من تعدد الثقافات فيها – لا يختلف كثيرا عن غيرها من البلدان المجاورة. ومع ذلك, فإنها تتميز بطقوسها المتميزة, وخصوصا في ليلة استطلاع هلال الشهر إلى آخر أيامه. فالنيجيريون يحتشدون ويطوفون شوارع المدن محتفلين بقدوم شهر الصيام. ومن الجدير بالذكر أن مسلمي نيجيريا يعتمدون على رؤيتهم الخاصة لهلال رمضان، فهم لا يتبعون أو يقلدون أي دولة أخرى ثبت لديها رؤية الهلال.
وتعد الفاكهة جزءا رئيسيا من رمضان في نيجيريا. حيث يبدأ العديد من المسلمين النيجيريين إفطار صيامهم مع الفاكهة قبل أن يستقروا لتناول وجبة المساء الكاملة. ويفضل الكثيرون أن يفطروا مع الأهل والأصدقاء والأسر المتجاورة، فتجمع الأواني من البيوت وتوضع في أماكن قريبة من المساجد، وبعد أداء الجميع صلاة المغرب، يجلس الرجال في مكانهم والنساء في مكانهن لتناول الإفطار.
وتتكون وجبة الإفطار من الأطعمة الخفيفة مثل دقيق الذرة – والذي يطلق عليه اليورباويون “إيكو” ويرفقون معه “مَايْ مَايْ” أو “أكارا” وهما مصنوعان من نبات اللوبيا, إضافة إلى البيض المقلي والخبز والموز والبطاطا الحلوة المقلية والذرة المحمص على قطعة خبز.
رمضان في نيجيريا وفرق المسحراتية:
تعتبر المسحراتية ثقافة رمضانية قديمة في نيجيريا, والتي تفرع منها نوعان من الفرق الشعبية في جنوب نيجيريا, وهما “أجي سارِي” و “أجِيْ وَيْرَيْ”. فالأول أقرب إلى مفهوم المسحراتية من الثاني لأنه يتولى إيقاظ المسلمين للسحور, والثاني أقرب إلى نشاط ترفيهي رمضاني بُعيد التراويح إلى وقت السحر, وقد تطورا من مفهوم المسحراتية القديمة في تاريخ البلاد إلى نوع جديد من أنواع “الموسيقي” النيجيرية والذي يعرف حاليا بـ “فُوجِي”.
وتسمى جماعات المسحراتية (أجِي سَارِي) في نيجيريا بـ”فرق الإيقاظ”، وهي تتكون من مجموعات من الشباب يتجولون بين المنازل والبيوت والمعارف لإشعارهم بدخول وقت تناول السحور، وهم يضربون الطبول.
كما أن السحور في نيجيريا يبدأ عادة من الساعة 4:00 حتي 05:30 ليلا، ومن الأكلات المشهورة في وجبة السحور الأرز والخضار، و(العصيدة) وهي أكلة تصنع من اللحم، ويتناولون أيضا الأطباق المحتوية على البقول مضافا إليها المرق واللحم، والأسماك, ويشربون العصير، ووجبة السحور اسمها لدى قبائل يوروبا “سَارِي”.
ومن شرق إفريقيا:
مدينة جيبوتي ، عاصمة جمهورية جيبوتي الواقعة في القرن الأفريقي، هي مدينة حيوية شهيرة لسوقها المركزي، وجذبها السياحي لشواطئها الخلابة. كل ذلك ساهم في أن تكون تجربة شهر رمضان في جيبوتي فريدة من نوعها.
أما في إريتريا, يتصالح المواطنون قبل رمضان ويقومون بتجديد المساجد وتنظيفها وتزينها بالأنوار، وبعد إعلان مفتى الديار دخول رمضان، يهرع المسلمون لاستقباله في بيت كبير، ويتبادلون التهاني ثم يتناولون وجبة السحور مع بعضهم البعض.
أما في تشاد, بوسط إفريقيا:
فهي لا تختلف كثيرا عن غيرها. فمسلمو تشاد يستعدون لرمضان قبل حلوله بحوالي شهرين. ويتهيئون لإستقباله منذ بدايات شعبان والذي يطلق عليه في العامية التشادية “قصير” ، وذلك تشوقا واستعجالا لشهر رمضان. كما أن الزواج من أهم مظاهر احتفال مسلمى تشاد بشهر رمضان، حيث يحاول الكثيرون منهم إتمام زواجهم قبل قدوم هذا الشهر.
ويعتمد التشاديون بشكل عام في تحري هلال رمضان على الأفراد من مختلف أصقاع البلاد بجانب الاعتماد على تحري الهلال في المملكة العربية السعودية والتي بناء عليها يتقرر الصيام من عدمه. ولذلك يهتم التشاديون بأجهزة المذياع في يوم الشك بعد صلاة المغرب مباشرة ليأتي صوت إمام المسلمين في بيان من مجلس الشئون الإسلامية لتأكيد أو نفي ثبوت رؤية الهلال.
و تشهد المساجد والساحات العامة أذكارا وابتهالات حتى آخر شهر الصيام، حيث تعج هذه الأماكن بأناس من مختلف الفئات والأعمار. إضافة إلى ذلك, فإن تشاد في رمضان تمتاز أجوائها بالدفء العائلي والأخوي.
ومن جنوب إفريقيا:
مدينة كيب تاون النابضة بالحيوية, وهي معروفة بلقبها “المدينة الأم” لجنوب أفريقيا، مما جعلتها وجهة مهمة لمجموعة واسعة من مطاعم الحلال والتي تتوافق مكونات أطعمتها مع تعاليم الإسلام، إضافة إلى أنظمة الإقامة وأنشطة الأسر المسلمة الجنوب إفريقية. ولأنها مكان يتمتع بالتنوع الثقافي الكبير مع وجود التراث الإسلامي القوي فيها، فهي المدينة المناسبة لتحمل رايات الاحتفال بشهر رمضان المبارك.
وتضم كيب تاون أكبر عدد من المسلمين في جنوب إفريقيا، وخاصة في “بو كاب”، وهي منطقة معروفة عالميا بمنازلها الجميلة والملونة بألوان قريبة من النيون, وشوارعها المرصوفة بالحصى القديمة.
وخلال شهر رمضان، تشهد “بو كاب” نشاطات من زوار المساجد في المنطقة, وتبادل الجيران الكعك قبل الإفطار، ويقوم المواطنون بالتبرع ببضائع وأشياء أخرى للمحتاجين، ويرتبون الموائد مع وضع أطعمة “كيب ملايو” التقليدية عليها ثم يجمعون الناس عليها للإفطار.
عبارات إفريقية للتهنئة بشهر رمضان
وهناك عادات لغوية وأمثال رمضانية في إفريقيا, حيث يوجد لدى المجتمعات الإفريقية جمل وعبارات للتعبير أو التهنئة الخاصة برمضان. يقول يورويا في تحيّتهم في نهار رمضان: “نعم العطش”, وقبل مجيئ رمضان وأثناء الاستعداد له يقولون: “نِعم الاستعداد للصيام”. ويقول مادينغ: “تزوَّج فلان رمضان”، أي أنه قد أتم صيام الشهر للمرة الأولى، ويعني أنه سوف يلتزم بذلك طول حياته. ومن الأمثال الرمضانية الإفريقية: “ليخجل المقطر (من لم يصم) فقد انتهى الصوم”, أو “صام فلان وأفطر على الجيفة… أو على الخنزير”.
إن الكتابة عن ثقافة رمضان في إفريقيا وجمع عادات كل البلدان وخصوصيتها ليست عملية سهلة, بل هي كما يقول الدكتور بمبا: “نرى أن مثل هذا المشروع لا يمكن بحال أن يقوم به فرد أو حتى عدة أفراد… وإنما هو مشروع جماعي؛ لتعدد الثقافات بإفريقيا، فلو طلبنا الآن من الإخوة الزيادة على المحاور… لكَتب كل واحدٍ الكثير والكثير من المحاور، وهذا دليل على أن من يكتب في هذا الموضوع فإنما يكتب عن جزئية صغيرة جدا، لا تمثل إلا المنطقة الثقافية الصغيرة التي ينتمي إليها في القارة الواسعة.. بل حتى في منطقته الثقافية، فإن الكثير يفوته فيها.”
المصادر والمراجع:
– الدكتور آدم بمبا: عن ثقافة رمضان بإفريقيا, الرابط: http://goo.gl/VbcvBG
– Ramadan in Djibouti, Daily Life & Popular Religion:
– ملف بي دي اف: https://openaccess.leidenuniv.nl/bitstream/handle/1887/17232/ISIM_21_Ramadan_in_Djibouti_Daily_Life_and_Popular_Religion.pdf?sequence=1
– رمضان في أفريقيا: رباط روحي واجتماعي وثقافي, الرابط: http://goo.gl/z46G9q