على غير الصورة الإعلامية اللامعة للصين كشريك إفريقيا الأول للتنمية المستدامة؛ جاءت التقارير الصينية الأخيرة في فبراير الجاري لتكشف عن تراجع صيني غير مسبوق “رقميًّا” في معدلات تنفيذ مشروع مبادرة الحزام الطريق، وإعادة توجيه مخصَّصات مالية كبيرة ضمن المبادرة لوجهات إقليمية أخرى غير إفريقية؛ بدافع من سلوك استثماريّ مفهوم لشركات القطاع الخاص الصينية لتحقيق ربحية أكبر، وبهدف تفادي مخاطر مُحْدقة بالأسواق الإفريقية، وكذلك لما ترفضه بكين “إعلاميًّا” منذ شهور من فرضية “فخّ الديون”.
يتناول المقال الأول المنشور في واحدة من أهم النوافذ الإعلامية الصينية هذه المسألة بالتفصيل؛ وعبر استقراء عدد من التقارير الصينية والغربية لتراجُع أداء “الحزام والطريق” في إفريقيا من جهة الأسباب والتطلعات.
أما المقال الثاني فيتناول مسألة مهمة، وربما تستدعي مستقبلًا اهتمامًا أكبر من دول القارة، وهي مسألة تحويلات الأفارقة العاملين في الخارج لأُسَرهم في الدول الإفريقية، والتي تقترب إجمالًا من 100 بليون دولار (تستحوذ مصر ونيجيريا وحدهما على نصفها بقيمة 31، 19 بليون دولار تقريبًا على الترتيب للبلدين).
ويقدم المقال الثالث الذي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الشهيرة تناولًا غربيًّا تقليديًّا للدور الروسي في إفريقيا من بوابة مجموعة فاجنر شبه العسكرية، ويعزّز مقولاته بتقرير أُممي مرتقب نشره منتصف فبراير الجاري حول أنشطة المجموعة في إفريقيا في الفترة السابقة والتوقعات المتعلقة بسلوكها في عدد من دول القارة، وأبرزها دُوَل مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو.
لِمَ تهاوى تمويل مبادرة الحزام والطريق في إفريقيا جنوب الصحراء لانخفاض تاريخي العام الماضي؟([1])
تراجَع التمويل والاستثمار الصينيان في مشروعات بنية تحتية إفريقية كبيرة في إطار مبادرة الحزام والطريق إلى انخفاض تاريخي في العام الماضي، مع خفض الصين التمويل عن بعض المشروعات الكبيرة؛ بسبب مخاوف تتعلق بالديون، فيما وجّهت رأس المال إلى أقاليم أخرى.
وكانت الصين قد قادت في العقدين الفائتين تمويلًا هائلًا لمشروعات البنية التحتية في إفريقيا؛ تتراوح بين موانئ وسدود هيدروكهربائية إلى طرق سريعة ومطارات. لكنَّ تمويل الحزام والطريق في إفريقيا جنوب الصحراء انخفض في العام الماضي بنسبة 54% ليصل إلى 7,5 بليون دولار من 16,5 بليون دولار في العام 2021م، وفقًا لتقرير حديث صادر عن Green Finance and Development Centre، وهو مركز تابع لمدرسة فانهاي الدولية للتمويل Fanhai International School of Finance بجامعة فودان Fudan في شنغهاي.
وقال التقرير: إن إفريقيا جنوب الصحراء جذبت 4,5 بليون دولار لقطاع التشييد في العام الماضي، مقارنة بمبلغ 8,1 بليون دولار في العام 2021م. ولم تعلن تمويلات صينية جديدة لمشروعات السكك الحديدية في إفريقيا في العام الماضي، لكنَّ متعهدين غير صينيين تمكّنوا من تأمين بعض الصفقات الكبيرة بما في ذلك مشروع في مصر بقيمة 8,7 بليون دولار، فاز بها العملاق الألماني سيمنز في مايو 2022م.
وتراجعت الاستثمارات الصينية، التي يقدم أغلبها شركات خاصة، في مشروعات الحزام والطريق في إفريقيا جنوب الصحراء إلى 3 بلايين دولار في العام الماضي من 8,5 بليون دولار في العام 2021م حسب التقرير.
وأبرز التقرير حالة أنجولا -وهي وجهة رئيسة لرأس المال الصيني في العقدين الماضيين-، والتي شهدت خفض تمويل مشروعات الحزام والطريق من 310 ملايين دولار في العام 2021م إلى “صفر” في العام الفائت، في سياق تتبُّع التقرير لتوجُّه عامّ في إفريقيا بدأ قبل خمسة أعوام مع تزايد حرص العديد من المقرضين الصينيين -مثل بنك التصدير والاستراد الصيني- في سياساتهم المالية تجاه القارة.
وكانت أنجولا بين 14 دولة سجّلت انخفاضًا بنسبة 100% في تمويل مشروعات الحزام والطريق في العام الماضي، وهي قائمة ضمَّت نيبال وبيرو وروسيا وسريلانكا.
وقال مدير المركز كريستوف نيدوبيل وانج C. Nedopil Wang : إن مقاربة الصين المالية في بعض الدول الإفريقية قد تراجعت خلال جائحة كوفيد-19 وسط تقييمات مخاطر جديدة. وقال وانج: إن أغلب تمويل الصين واستثماراتها في إفريقيا تركزت في استخراج الموارد الطبيعية وبناء مشروعات بنية تحتية عملاقة مع استثمارات ضخمة مدعومة بقروض مصرفية.
ورأى “وانج” أنه مع استمرار قضايا متعلقة بالديون السيادية في بعض الدول الإفريقية؛ فإنه قد يبدو من قبيل التعقُّل تقليص المشروعات الكبرى لخَفْض مزيد من مخاطر الديون، وإن كان ذلك سيؤدي إلى خفض الانخراط الصيني في القارة الإفريقية. مع ملاحظة وانج “أن ذلك لا يعني بالضرورة انسحابًا للشركاء الصينيين في الإقليم، لكن ربما يعني انخراطًا محتملًا في المشروعات الأصغر حجمًا”.
وقبل عامين كانت بكين قد أعلنت تخطيطها للتركيز على مقاربة “الصغير جميل” small is beautiful في صياغة الانخراط الاقتصادي ممَّا جعل المشروعات الأصغر والأكثر استهدافًا أولويَّة. ووفقًا لدراسة أخيرة أصدرها مركز سياسات التنمية العالمية Global Development Policy Centre في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة أنه فيما تأتي أكثر أعوام الصين لتمويل التنمية طموحًا خلفها، فإنَّ الصين لا تزال تُقرض بطرق أكثر حذرًا، مع توجُّه أكبر لتقديم دعم عالي الجودة ومستهدف و”ذكي وصغير”.
وتوصَّل تقرير عن مركز التمويل الأخضر والتنمية Green Finance and Development Centre (الذي يصدر سنويًّا) إلى أن مبادرة الحزام والطريق غيَّرت وجهتها نحو مشروعات أصغر وأقلّ مخاطر. وقد تراجعت قيمة مشروعات التشييد من 496 مليون دولار في العام 2021م إلى 330 مليون دولار في العام 2022م، وهو الرقم الأقل منذ إطلاق المبادرة.
وبشكل عام فقد كان انخفاض تمويل الحزام والطريق في محصلته انعكاسًا لأداء الاقتصادات الإفريقية والصينية خلال العام الثالث لجائحة كوفيد-19، كما أن تدنّي قدرة الكثير من الدول الإفريقية على الحصول على قروض جديدة قد حجَّم الطلب في قطاعي التشييد والبنية التحتية، بينما توجَّهت الاستثمارات الصينية الخارجية نحو الأسواق التي بدت أقل خطورة وأكثر عائدًا، ورأى متخصصون أن التعاون الصيني الإفريقي وَفْق الحزام والطريق قد تغيَّر بشكل حادّ في الأعوام القليلة الماضية.
هل يمكن استغلال التحويلات الإفريقية على المدى البعيد؟([2])
إن الدور الذي تلعبه التحويلات الخارجية في الاقتصاد الإفريقي معروف جدًّا؛ إذ يتدفق سنويًّا على دول القارة نحو 95,6 بليون دولار، مما يجعل التحويلات أحد أهم مصادر العملة الأجنبية. وتتنافس البنوك الإفريقية مع شركات تحويل الأموال العالمية ومشغلي تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول وشركات تكنولوجيا التمويل على نحو متزايد على هذه السوق العملاقة. وهناك الآن أيضًا حماس متزايد لاستخدام المزيد من هذه الأموال في دعم تنمية البنية التحتية والمشروعات بعيدة الأجل الأخرى.
لكن جزءًا كبيرًا من هذا الهدف يعتمد على قدرة الحكومات الإفريقية على إقامة العلاقة مع جماعاتها المُهاجرة في الخارج. ويُقدّر أن هناك 160 مليون فرد ممَّن وُلِدُوا بالقارة الإفريقية يعيشون ويعملون الآن في أجزاء أخرى من العالم.
كما تمثل الأموال التي يرسلونها إلى إفريقيا سواء عبر البنوك التقليدية أو وكالات تحويل الأموال أو مشغلي التكنولوجيا المالية ما يُقدَّر بـ 2-3% من الناتج المحلي الإجمالي لإفريقيا، وتدعم أعباء معيشة نحو 200 مليون من أقارب مَن يرسلون التحويلات.
ويعد رقم 95,6 بليون دولار قفزة هائلة من 37 بليون دولار في العام 2010م و87 بليون دولار في العام 2019م قبل تفشي الجائحة. ويقارن الرقم أيضًا مع مساعدات التنمية الرسمية لإفريقيا التي تقف عند 35 بليون دولار، والاستثمار الخارجي المباشر لإفريقيا جنوب الصحراء الذي يقف عند 88 بليون دولار في العام 2021م.
وتُظهر أرقام متفرقة من تقارير البنك الدولي أن 46,6 بليون دولار من المبلغ الإجمالي للتحويلات (95,6 بليون دولار) توجّهت إلى شمال إفريقيا، بينما توجّه 49 بليون دولار لإفريقيا جنوب الصحراء.
وفي مقارنة لذلك وصلت التحويلات المتدفقة إلى أوروبا ووسط آسيا إلى 74 بليون دولار، فيما كانت تلك الخاصَّة بشرق آسيا والباسيفيك عند 133 بليون دولار، وإلى جنوب آسيا 157 بليون دولار، وإلى أمريكا اللاتينية والكاريبي نحو 131 بليون دولار في العام 2021م. وكانت الوجهتان الإفريقيتان الكبيرتان هما مصر ونيجيريا اللتين استحوذتا على 31,5 بليون دولار، و19,2 بليون دولار على الترتيب، وتلتهما جميع دول إفريقيا جنوب الصحراء بفارق كبير. واحتلت غانا مرتبة متقدمة بتلقّيها 4,5 بليون دولار، ثم كينيا 3,7 بليون دولار، والسنغال 2,7 بليون دولار.
وتتوجّه نسبة كبيرة من تحويلات الأفارقة العاملين في الخارج لأفراد أُسَرهم لتغطية فواتير قصيرة الأجل تشمل الغذاء والعلاج والتعليم. ووفقًا لمعهد سياسة الهجرة الأمريكية US Migration Policy Institute فإن الأفارقة من جنوب الصحراء الذين يعيشون في الولايات المتحدة يرجّح التحاقهم بعمل جيد، وأن يحظوا بتعليم أفضل من العامل الأجنبي المتوسط، وأن 40% منهم يحملون درجات جامعية مقارنة بنسبة 32% من إجمالي سكان الولايات المتحدة. ويصفهم البنك الدولي، الذي يتوقع ارتفاعًا بنسبة 7% في التحويلات الواردة إلى إفريقيا في العام 2022م، بمصدر أوليّ للتمويل الدولي للدول النامية. وفي منشوره Migration and Development Brief في العام 2022م توقع البنك الدولي أن تظل الأُسس إيجابية لتحقيق مكاسب مستمرة في تدفقات التحويلات لبقية إفريقيا.
التكاليف الحالية والمشغلون Operators
في ضوء أهمية التحويلات، وكذلك الأرقام الكبيرة المتعلقة بحركتها؛ فإن البنوك والمؤسسات المالية الأخرى بحاجة إلى خفض تكلفة نقل الأموال إلى إفريقيا. وفي الوقت الحالي فإن هذه التكلفة تبلغ ضعف نظيرتها في جنوب آسيا. فمتوسط الرسوم في إفريقيا جنوب الصحراء يقف عند 8,46% وفقًا للصندوق الدولي للتنمية الزراعية International Fund for Agricultural Development، وهي نسبة أعلى بكثير من نسبة 3% المستهدفة مِن قِبَل هدف التنمية المستدامة رقم 10 بخصوص خفض التفاوت داخل الدول وفيما بينها. إن خفض هذه الرسوم سيشجّع مزيدًا من الأفارقة العاملين في الخارج على نقل أموالهم إلى إفريقيا، ويمكن أن يُيسِّر أيضًا نقل الأموال داخل الدولة وداخل الدول نفسها.
وتقوم بعض البنوك الإفريقية بالفعل بخَفْض رسوم التحويلات بسبب المعدلات المتدنية التي تقدمها شركات تحويل الأموال عبر الهواتف المحمولة مثل Airtel و M-Pesa في كينيا، فضلاً عن متخصصين في القطاع مثل World Remit و Mama Money في جنوب إفريقيا.
كما لا تزال شركات تحويل أموال راسخة مثل “ويسترن يونيون” متمتعة بقبول رائج لتحويل الأموال بمبالغ كبيرة نسبيًّا من الخارج إلى إفريقيا. لذا فإنه ليس مفاجئًا أن تحويل الأموال عبر الهواتف المحمولة وسيلة مُثْلَى في كينيا وأسواق أخرى تطوَّرت فيها هذه الخدمة.
على أيّ حال فإن تنظيم السوق يختلف من دولة لأخرى على نحو هائل. وكمثال على خفض التكاليف تبرز حالة زيمبابوي، وهي خامس أكبر مُتلقٍّ للتحويلات الخارجية في إفريقيا في العام الماضي؛ إذ تلقت 2 بليون دولار، ودشَّنت البنوك والمنافسون الأحدث لها عدة منتجات لجذب حصة أكبر من السوق، وكونت شركة التكنولوجيا المالية EcoCash محفظة بالهاتف المحمول يمكنها تلقّي مدفوعات مالية مباشرة من حسابات PayPal التي يغلب عليها الدولار الأمريكي.
وفي يونيو الماضي استجاب أكبر البنوك التقليدية في زيمبابوي، وهو البنك المركزي الزيمبابوي لمنافسيه الرقميين بإطلاق خدمة تحويلات باسم البنك متاحة لجميع المواطنين، على ألا يقل التحويل عن 2 دولار، وتحصل نسبة 2% كرسوم.
فاجنر تعمّق نفوذ روسيا في إفريقيا([3])
مع لعب مقاتلي فاجنر دورًا محوريًّا في حرب روسيا في أوكرانيا؛ فإن مجموعة المرتزقة الروسية توسّع تحالفاتها بهدوء في إفريقيا، بحسب مسؤولين أوروبيين، وتقوم المجموعة -وَفْق تقريرهم- بالتوغل في المناطق الغنية بالمعادن، واستغلال خروج القوى الغربية، وتكوين تحالفات مع مقاتلين محليين.
ويعمل مقاتلو فاجنر ومدربوها مع حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى بهدف الاستيلاء على المناطق الغنية بالمعادن الثمينة التي يمكن تصديرها عبر السودان، حسب مسؤولين أمنيين غربيين. كما تسعى فاجنر لتوسيع نفوذها في بوركينا فاسو وساحل العاج، فيما تُعزّز علاقتها مع المجلس العسكري الحاكم في مالي. وفي السنوات الأخيرة وسَّعت فاجنر -بدعم من الكرملين- من نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في إفريقيا.
وفي المقابل تجاهلت العديد من الدول الإفريقية إدانة غزو روسيا لأوكرانيا أو الانضمام للعقوبات الغربية ضد موسكو. كما يساعد نموّ نفوذ فاجنر في إفريقيا الرئيس الروسي على تمتين سلطته وزيادة عائداتها في الخارج، بعد أن تمكّنت المجموعة منذ العام 2018م من توقيع عقود مساعدات أمنية وعسكرية مع حكومات جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وفصيل ليبي، وأمّنت بالفعل عقود تعدين سخيّة.
ومع نشرها نحو خمسة آلاف جندي في أرجاء إفريقيا؛ فإن القوة الروسية تقترب الآن كثيرًا من قوة الولايات المتحدة في إفريقيا التي تبلغ ستة آلاف جندي. وفي تقرير مقرّر نشره هذا الأسبوع، واطلعت عليه “ذي وول ستريت دورنال”؛ قالت الأمم المتحدة: إن المدربين الروس عملوا مع جنود محليين في جمهورية إفريقيا الوسطى لشَنّ هجمات بهدف طرد المتمردين والسيطرة على ما لا يقل عن أربعة مناطق معروفة بوجود مناجم ماس ثرية بها.
وتقول الحكومتان الأمريكية والفرنسية: إن المدربين الروس هم من أعضاء فاجنر. وتهدف الخطوة إلى خَلق ممرّ إلى المناجم التي تسيطر عليها فاجنر في جمهورية إفريقيا الوسطى عبر “مناطق أخرى” بدول الجوار؛ حيث تعمل المجموعة عن كثب مع أحد رجال المنطقة، وتتعاون معه بهدف نقل التجارة إلى إمارة خليجية؛ بحسب مسؤولين أمنيين غربيين.
[1] Jevans Nyabiage, Why did China’s Belt and Road Initiative funding in sub-Saharan Africa fall to historical low last year? South China Morning Post, February 11, 2023 https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3209619/why-did-chinas-belt-and-road-initiative-funding-sub-saharan-africa-fall-historical-low-last-year
[2] Neil Ford, Can Africa’s remittances be put to long-term work? African Business, February 13, 2023 https://african.business/2023/02/economy/can-africas-remittances-be-put-to-long-term-work/
[3] Benoit Faucon and Joe Parkinson, Russia’s Wagner Deepens Influence in Africa, Helping Putin Project Power, The Wall Street Journal, February 13, 2023 https://www.wsj.com/articles/russias-wagner-deepens-influence-in-africa-helping-putin-project-power-9438cfce