تترقب إفريقيا موجة جديدة من الاستحقاقات الديمقراطية في العام 2023م وسط تخوُّفات مِن قِبَل الحكومات الحالية إزاء تزايد حظوظ قوى المعارضة السياسية في تحقيق انتصارات مباغتة؛ خصمًا من هذه الحكومات التي عجزت عن استكمال معادلة بقائها في الحكم مع الأداء التنموي والسياسي السيئ. وتتركز أنظار المراقبين على نيجيريا وسيراليون وزيمبابوي، مع ربط أي تغيير في نيجيريا تحديدًا بانطلاق موجة جديدة من التحول الديمقراطي في إفريقيا تُذكّر بموجة التسعينيات في القرن الماضي التي تلت أزمة اقتصادية شبيهة بالأزمة الراهنة من عدة جوانب؛ لا سيما ثِقَل مدفوعات ديون الدول الإفريقية.
بينما يتناول المقال الثاني أثر التغيرات المناخية بالغة الحدة على تراجع الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا وهو تراجع غير مسبوق منذ عقود.
ويستعرض المقال الثالث النمو الملموس في حجم الاستثمارات في قطاع تكنولوجيا الأغذية الزراعية الذي تتزايد أهميتها لتحقيق دول القارة درجة من الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الغذائية على المدى القريب، وتفادي الآثار الجانبية لاضطرابات سلاسل التوريد التي يفاقم من خطورتها هشاشة القطاع الزراعي في أغلب الدول الإفريقية.
وتناول المقال الأخير الأزمة الخانقة التي تعاني منها أغلب العملات الإفريقية، وتنذر بآثار اجتماعية وسياسية بالغة الخطورة على المدى المتوسط وبمستويات تفوق بكثير التوقعات السلبية الحالية.
صعود المعارضة في إفريقيا: من التالي؟([1])
تواجه الحكومات في إفريقيا مشكلات عديدة. ومع مزيد من التدهور الاقتصادي فإن أحزاب المعارضة وقطاعات الناخبين الأكثر وعيًا جعل الأحزاب الحاكمة مترقبة للهزيمة في الانتخابات.
لننظر فقط للأعوام الثلاثة الماضية؛ ففي العام 2021م هزم تحالف التونسي Tonse Alliance المعارض برئاسة لازاروس تشاكويرا Lazarus Chakwera الرئيس الحاكم حينذاك في مالاوي بيتر موثاريكا Peter Mutharika. وبعدها بعام كرر هاكيندي هيتشيليما Hakainde Hichilema والحزب المتحد للتنمية الوطنية United Party of National Development (UPND) الخدعة، وهزما الرئيس إدجار لونجو Edgar Lungu في اكتساح للمعارضة في زامبيا.
وبعدئذ، في الشهر الماضي (أغسطس 2022م)، واصل وليام روتو هذا “الترند” واقتنص الرئاسة في كينيا. ورغم أن روتو كان نائب الرئيس منذ العام 2013م؛ فإن الانتخابات صنّفته في وضع مرشح “المعارضة” بعد حنث الرئيس أوهورو كينياتا بوعده بدعم مرشحه، وعمد إلى إلقاء ثقل مؤسسة الرئاسة بالكامل وراء حليفه الجديد رايلا أودينجا Raila Odinga. وبعد ذلك بأسابيع قليلة للغاية كاد حزب معارض آخر، هذه المرة في أنجولا، أن يُضاف للقائمة لولا أن حزب MPLA الحاكم في أنجولا قام بالتلاعب بعملية الانتخابات من بدايتها حتى نهايتها.
وتعكس هذه الأمثلة الاتجاه الأوسع عبر القارة. وبالرغم من تزايد استراتيجيات تزوير الانتخابات والرقابة عليها؛ فإن عددًا متزايدًا من الدول شهدت انتقالًا للسلطة. وحتى في الأماكن التي لا تزال بها حكومات غير مهزومة بعدُ، مثل ناميبيا وجنوب إفريقيا، فإن الفجوة بين الحزب الحاكم والمعارضة تضيق على نحو لافت للغاية.
وباتت الرسالة للأحزاب الحاكمة واضحة تمامًا: قم بالأداء السيئ في سياق التدهور الاقتصادي، وستعملون الباقي في الوقت الضائع. وستخوض كل من زيمبابوي ونيجيريا وسيراليون الانتخابات في العام 2023م، ومِن ثَم تتساءل الحكومات وأحزاب المعارضة وجماعات المجتمع المدني عما تعنيه هذه الاتجاهات بالنسبة لهم؟ لذا فما الدافع لصعود أحزاب المعارضة، وما هي الحكومات التي يرجّح خسارتها السلطة، وما محددات قدرة الأحزاب الحاكمة على تفادي الهزيمة الانتخابية؟
صعود المعارضة:
إن النجاح الأخير للمعارضة الإفريقية كان مدفوعًا بعوامل ثلاثة متشابكة؛ أولًا: نُضج قادة المعارضة. ففي غامبيا (2016م) ومالاوي (2020م) تحققت هزيمة الحكومتين بهما عن طريق تكوين تحالفات واسعة وفعَّالة، وضمان عدم تمكُّن القادة الذين خسروا شعبيتهم من الاستمرار في الحكم عبر آلية تفتيت المعارضة.
وفي كينيا استفاد “روتو” من تجربتي الفوز والخسارة كجزء من حملات القادة الآخرين وإدراكه أن سياسة “الرجل الكبير” Big Man بالنسبة لكينيا قد ولَّت. وبدلًا من ذلك فقد ركَّز على جذب قادة من مستويات دنيا حتى يُمكنهم الوصول للناخبين في الدوائر الانتخابية والمقاطعات في مختلف أنحاء البلاد، فيما يسمح للحملة الانتخابية بالتركيز على روايته المميزة، والتي رسمت “روتو” كمزاحم وسط الكبار للدفاع عن الكينيين العاديين ضد مجموعة غير قابلة للمسّ من “الأسر” السياسية.
وثاني هذه العوامل: زيادة أعداد الناخبين الذين تلقوا تعليمًا جيدًا مع خبرة كبيرة بسياسة تعددية الأحزاب -بعد ثلاثين عامًا من الذهاب إلى صناديق الاقتراع-، وتزايد سخطهم إزاء أداء حكوماتهم السيئ. وبينما ظل تأييد الحكم الديمقراطي قويًّا في الأعوام العشرة الأخيرة؛ فإن الرضا عن أداء الديمقراطية قد تراجع، وثمة إقرار بأثر الفساد على الخدمات العامة وحياة المواطنين.
وكانت هذه التغيرات كبيرة، لكنَّ أثرها لن يصبح تحوليًّا ومفيدًا إن لم تتم في سياق تحديات اقتصادية حادَّة. فقد تلا تراجع التوظيف وتآكل المدخرات خلال الجائحة ارتفاعات في الأسعار؛ مما سبَّب معاناة حقيقية لدى المواطنين، وهو ما يمثّل العامل الثالث.
إن التحدي الذي تمثله هذه التغيرات أمام الأحزاب الحاكمة في ليبيريا ونيجيريا وسيراليون وزيمبابوي قد حظي بدراسات داخل إفريقيا؛ منها دراسة مهمة قامت على تحليل لبيانات مسحية قدمها “أفروباروميتير” Afrobarometer من 33 دولة، ووجدت الدراسة أن تأييد أحزاب المعارضة آخذ في التصاعد عندما يكون المواطنون مقتنعين أن الاقتصاد يُدار على نحو سيئ، أو أنهم يكونون أقل رضا بالخدمات العامة. وهذا يعني أنه لا يمكن للأحزاب الحاكمة أن تتراجع في الأداء، ولن تحميها الإثنية أو النزعة الأبوية أو العمالة من هزيمة انتخابية مستقبلية.
بسبب تغيُّر المناخ: إفريقيا تفقد حصة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي([2]):
تخسر إفريقيا ما بين 5% و15% من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي بسبب الآثار السلبية للتغيُّر المناخي، رغم أن القارة لا تزال تمثل نحو 3% فقط من انبعاثات الغاز الحبيسة العالمية وفقًا لكيفين أوراما Kevin Urama القائم بأعمال الرئيس الاقتصادي لبنك التنمية الإفريقي African Development Bank (AfDB) خلال نقاش ضمّ معنيين بالطاقة العالمية وصُنّاع السياسة ومستثمرين عُقِدَ في مصر مؤخرًا.
ولمعالجة هذا التأثير أبرز أوراما الحاجة إلى زيادة الدول المتقدمة وأكبر الدول المسبّبة لانبعاثات الكربون تمويلها لقضايا المناخ، والتي لا تتسق ولا تتمتع بالاستدامة في أرجاء القارة، لمواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي على نموّ الناتج المحلي الإجمالي لإفريقيا والتطورات السوسيو-اقتصادية.
ومع تلقّي إفريقيا 18.3 بليون دولار فقط في (مخصَّصات) تمويل العمل المناخي في الفترة 2016-2019م، وهي مخصَّصات غير كافية لتمويل مبادرات العمل المناخي في القارة- قال أوراما: إن القارة تشهد حاليًا فجوة تمويل مناخي تصل إلى 1288.2 بليون دولار سنويًّا في الفترة من 2020م إلى 2030م. علاوةً على ذلك فإن هناك حاجة الآن لما يصل إلى 1.6 تريليون دولار لتمويل العمل المناخي للفترة ما بين 2022م و2030م لتمويل مبادرات العمل المناخي في أرجاء القارة الإفريقية.
وأضاف أنه على “المجتمع العالمي تلبية تعهُّده بتقديم 100 بليون دولار لمساعدة الدول النامية والاقتصادات الإفريقية لتخفيف آثار التغير المناخي والتكيف معه. إن الاستثمار في التكيف المناخي في سياق التنمية المستدامة هو الطريقة المثلى للتغلُّب على آثار التغير المناخي”، مضيفًا أنه يجب وَضْع خطط لمدّ شبكات توزيع الغاز الطبيعي ضمن خطة القارة للانتقال التدريجي إلى الطاقة النظيفة”.
ومع زيادة عدد الدول الإفريقية التي تلجأ لاستغلال موارد الغاز الطبيعي الهائلة وغير المستغلَّة بعدُ في القارة لتلبية حاجاتها من الطاقة؛ أضافت وزيرة البيئة المصرية ياسمين فؤاد، التي كانت تشارك في الاجتماعات، أن الغاز لن يكفي فحسب لتلبية حاجات القارة من الطاقة، بل سيؤدي إلى تعزيز استدامة سلامة المناخ. ودعت إلى زيادة التعاون بين الحكومات الإفريقية وأطراف القطاع العام والمجتمع المدني لمعالجة فجوة الاستثمار المناخي في القارة عبر تطوير حلول مالية مُبتكَرة هادفة إلى الإسراع في البنى الأساسية للطاقة المتجددة والنقل والغاز والصناعة والمخلفات.
ارتفاع شركات تكنولوجيا الأغذية الزراعية الناشئة في إفريقيا إلى بليون دولار في خمسة أعوام([3]):
شهدت إفريقيا زيادة كبيرة في حجم التدفق الرأسمالي للمشروعات إلى القارة. وبينما توجهت غالبية الاستثمارات الموجَّهة إلى إفريقيا لقطاع التكنولوجيا المالية fintech فإن الشركات البادئة في تكنولوجيا الأغذية الزراعية تشهد أيضًا زيادة في اهتمام المستثمرين. وفي العام الماضي تم استثمار 482.3 مليون دولار في صناعة تكنولوجيا الأغذية الزراعية في العام 2021م بما يُمثّل زيادة بنسبة 250% عن العام 2020م وفقًا لتقرير AgFunder الأول الذي حمل عنوان Africa Agrifoodtech Investment Report وتم إعداده بالشراكة مع بنك التنمية الألماني و”الاستثمار الدولي البريطاني” British International Investment(BII).
فقد أمَّن قطاع الشركات الناشئة في تكنولوجيا الأغذية الزراعية في إفريقيا أكثر من بليون دولار منذ العام 2017م. ويمضي القطاع في العام الحالي نحو التفوُّق على أرقام 2021م، مع وصول الرقم في النصف الأول من العام الحالي لنحو 400 مليون دولار. وتتسم مكاسب القطاع بالإيجابية، غير أن تمويل تكنولوجيا الأغذية الزراعية لا يمثل سوى 10% فقط من جميع رأسمال المشروعات القادم إلى إفريقيا، وأقل من 1% من إجمالي رأسمال المشروعات في نفس القطاع عالميًّا.
وهناك نحو 120 شركة ناشئة في قطاع تكنولوجيا الأغذية الزراعية زادت تمويلها عبر 150 صفقة في العام 2021م. وهناك ما يُعرَف بالأسواق الإفريقية الأربعة الكبار Big Four وهي مصر ونيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا (استأثرت الأولى على صفقات بقيمة 186 مليون دولار أو ما نسبته 38.6% من إجمالي الصفقات في إفريقيا، ثم نيجيريا 147.8 مليون دولار بنسبة 30.6%، ثم كينيا 88.5 مليون دولار بنسبة 18.4%، وجنوب إفريقيا 22.1 مليون دولار بنسبة 4.6%)، تلتها المغرب وإثيوبيا وغانا بنسب أقل.
لماذا تعاني العملات الإفريقية؟([4])
مع انغماس الاقتصاد العالمي في فترة أزمة جديدة؛ أخذ مؤشر آخر في الارتفاع الصاروخي: قيمة الدولار الأمريكي. ومع دَفْع نحو نصف جميع التجارة العالمية بالدولار الأمريكي؛ فإن العودة القوية للعملة الخضراء تُلْحِق الضرر بالمستهلكين في أرجاء العالم -بمن فيهم إفريقيا- التي تَستخدم الدولار في دفع وارداتها. ولا يقتصر أمر الشعور بالألم من تداعيات قرارات الفيدرالي الأمريكي على العملات الإفريقية، بل إن الجنيه الإسترليني وصل لأدنى مستوياته في سبتمبر الجاري مقابل الدولار منذ العام 1985م، بينما وصل الين الياباني لأضعف حالاته في مواجهة الدولار منذ العام 1998م. ووصل اليورو في أغسطس الماضي لأدنى مستوياته أمام الدولار منذ العام 2002م. وأثَّر خفض قيمة اليورو بشكل مباشر على عملات 14 دولة إفريقية تستخدم الفرنك الإفريقي وتربط سعر صرفه باليورو.
ثقة المستثمرين:
كانت أكثر العملات تضررًا في القارة السيدي cedi الغاني التي فقدت 40% من قيمتها مقابل الدولار حتى الآن في العام 2022م؛ وفقًا لبيانات حول أسعار الصرف. ويعكس انخفاض العملة الغانية تآكل ثقة المستثمرين بسبب الأزمة المالية في البلاد التي تركت أكرا تسعى لإنقاذ عاجل من صندوق النقد الدولي. وخفَّضت “فيتش” تقييم غانا إلى CCC في أغسطس 2022م. كما يُمثّل “الراند” الجنوب إفريقي تراجعًا كبيرًا آخر في العملات الإفريقية؛ وكان الراند يتراجع باستمرار أمام الدولار الأمريكي في السنوات الأخيرة وخفضت قيمته بنحو 9% حتى الآن في العام 2022م.
الاعتماد على الواردات:
إنَّ الدول الإفريقية التي تفتقر إلى قاعدة صادرات سلعية قوية في وضع انكشاف. وعلى سبيل المثال: فإن الشلن الكيني شهد أكبر تراجع له هذا العام بنسبة 6%. في خِضَمّ تعافٍ اقتصاديّ ضَعيف لما بعد كوفيد وموجة جفاف ضارية حتى الآن، واستمرار معاناة قطاع الزراعة الكيني.
وتُعدّ كينيا من أبرز نماذج هشاشة الاقتصادات الإفريقية؛ بسبب اعتمادها على الوقود المستورد، مما يعني مضاعفة معاناة كينيا من تقلُّبات سعر الصرف على نحو مزدوج مع زيادة تكلفة الوقود وخفض قيمة الشلن الكيني.
أزمة الدولار في نيجيريا:
باعتبارها مُنْتِجًا ومُصدِّرًا رئيسًا للبترول؛ فإن النظرية الاقتصادية تشير إلى أن العام 2022م يجب أن يكون عام ازدهار اقتصادي لأكثر دول إفريقيا عددًا في السكان. وفي الواقع فإن العكس هو الصحيح. إن تدهور إنتاج البترول –عقب سنوات من تدني الاستثمارات وزيادة معدلات سرقة الإنتاج- والتكلفة الباهظة لدعم واردات المنتجات البترولية المكررة أسهم في نموّ الأزمة الاقتصادية في نيجيريا. كما يصعب نظام نيجيريا المعقّد من تعدُّد أسعار الصرف وصول الشركات والأفراد إلى الدولار الأمريكي، لا سيما في أوقات الشدة الاقتصادية. وفي وسط هذه الأزمة وتزايد تكلفة الواردات وندرة الدولار ارتفعت معدلات التضخم الرسمي في نيجيريا فوق 20% في أغسطس 2022م للمرة الأولى خلال 17 عامًا؛ وهو الأمر الذي سيزيد من إحجام المستثمرين عن الاستثمار في نيجيريا.
[1] Marie-Eve Desrosiers and Nic Cheeseman, The rise of the opposition in Africa: Which governments are likely to fall next? The Africa Report, September 19, 2022 https://www.theafricareport.com/242372/the-rise-of-the-opposition-in-africa-which-governments-are-likely-to-fall-next/
[2] Nicholas Nhede, Africa Losing a Large Share of Annual GDP to Climate Change – AfDB, Energy Capital & Power, September 20, 2022 https://energycapitalpower.com/africa-losing-a-large-share-of-annual-gdp-to-climate-change-afdb/
[3] Lucy Ngige, Africa agrifoodtech startups raise $1bn in 5 years, but just 1% of global investment, AgFunderNews September 20, 2022 https://agfundernews.com/africa-agrifoodtech-startups-raise-1bn-in-5-years
[4] Ben Payton, Why African currencies are struggling, African Business, September 20, 2022 https://african.business/2022/09/finance-services/why-african-currencies-are-struggling/