في تطورٍ لافتٍ للغاية غيَّر الإعلام الغربي تصوُّراته للأزمة الإثيوبية، ومكانة شخصية رئيس الوزراء آبي أحمد، مع حرص الأخير على مواصلة الاقتتال الداخلي في بلاده دفاعًا عن حُكمه ونُخبته الأمهرية التي استبدلها بهيمنة التيجراي.
وبعد أن كان الحديث خافتًا عن أفكار الاستعمار الداخلي في إثيوبيا؛ نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية ذائعة الصيت عالميًّا مقالًا لأستاذ إثيوبي يكشف تفاصيل وأسسًا تاريخية للاستعمار الداخلي في إثيوبيا الذي مارسته طوال قرون إثنيتا الأمهرا والتيجراي، بل ويمضي قُدُمًا في تفكيك التصور الغربي التقليدي عن إثيوبيا “الحالية” مؤكدًا أنها دولة أكبر من مركزية الأمهرا أو مركزية التيجراي السابقة، ضاربًا أمثلة بالإقليم الصومالي وأوروميا.
كما يستعرض مقال آخر نزوع آبي أحمد الفعلي لزعزعة استقرار بلاده عبر تبنّي “خيارات صفرية”، وتخيلاته بقدرته على مواصلة القمع واضطهاد مجموعات مختلفة من “الشعوب الإثيوبية” (لا سيما في الإقليم الصومالي حيث ينتمي كاتبا المقال)، الأمر الذي أشار له في خطاب سابق بتغافل دولي عن تدخلاته في الإقليم، بينما هناك اهتمام دولي كبير بالأزمة في التيجراي، مُلمِّحًا إلى مواجهته تهديدات محتملة لمصالح الغرب (يقصد محاربة الإرهاب) في الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة.
ومع فشل آبي أحمد في الترويج لفكرة الحرب على الإرهاب أو دور إثيوبيا التاريخي؛ يركّز العالم الغربي في الوقت الحالي على احتمالات توجُّه آبي أحمد لتعميق تحالفاته مع روسيا والصين، وهي خطوة قد تكون الأخيرة في نظام حكمه خارجيًّا. كما تشغل أزمة اللاجئين في إقليم التيجراي الاهتمام الدولي بعد مرور شهور (منذ نوفمبر 2020م) دون اهتمام كافٍ أو في حدّ أدنى من التدخُّل الفعَّال لمعالجة هذه الأزمة التي كانت بالغة الوضوح حتى قبل بدء العمليات العسكرية عشية الانتخابات الأمريكية مباشرة.
وتظل الأزمة الإثيوبية في مرحلة متقدمة للغاية، وتوحي بانفلات بناء الدولة نفسه وتفككه في الشهور المقبلة حال عدم تراجع آبي أحمد عن سياساته، أو مبادرة المعنيين بإدارة الدولة الإثيوبية بالتخلُّص منه –حسب توقعات كثيرة سواء داخل إثيوبيا أو خارجها- كحل مُؤقّت لنزع فتيل تحوُّل إثيوبيا بالكامل إلى مرحلة “الدولة الفاشلة”.
الاستعمار الداخلي أصل مشكلات إثيوبيا([1]):
مقال يُمثِّل توجهًا جديدًا في تناول الأزمة الإثيوبية ووضعها في سياقها الصحيح من حيث إن سببها الرئيس “الاستعمار الداخلي” الذي تمارسه نخبة أمهرية (بعد احتكار التيجراي). ويفتتح كاتبه تيفيري ميرجو، أستاذ الاقتصاد المساعد بجامعة ووترلو في كندا، بمناقشة تاريخية مُفنّدة لأطروحات وجود تأثير “شرق أوسطي” كبير في الحضارة الأكسومية، لا سيما مِن قِبَل “السبأيين” كمدخل لفكرة ارتباط إثيوبيا بإقليم الشرق الأوسط. وتناول الغربيون في الصحافة العالمية تاريخ إثيوبيا الحالية على أنه تاريخ الممالك المسيحية التي أسَّسها الأمهرا والتيجراي فقط، وقصرهم “تواريخ جميع المجموعات الإثنية في إثيوبيا ليكون مجرد هامش لتاريخها المسيحي”.
صحيح أن الحكام المتعاقبين للإمبراطورية الإثيوبية ادّعوا أنهم خلفاء الملك سليمان ومَن تُعرَف بمَلكة سبأ، لكنَّ هذه الصلة أسطورية ولا تدعمها شواهد تاريخية سليمة. وأكد المؤرخون أن الادعاء استُخْدِمَ لمَنْح الطبقات الحاكمة عَراقةً فيما يُعْرَف حاليًا بشمالي إثيوبيا لغاية سياسية صِرْفة.
كما أن ادّعاء أن مشكلات إثيوبيا الحالية ليست متعلقة بظاهرة “ما بعد الاستعمار” يعتمد على تَصوُّر ضَيّق للاستعمار، ويتعارض مع تأكيدات المؤرخين أن نهاية القرن التاسع عشر وما شهده من احتلال وغزو وإخضاع للأمم في إثيوبيا الواقعة جنوبي حدود طبقات الأمهرا الحاكمة يُشَكِّل نوعًا من الاستعمار الداخلي ذي العواقب الوخيمة على الشعوب المحتلة.
ويلفت “ميرجو” النظر إلى أن أي محاولة لتجاهل الذاكرات والتواريخ الجمعية للسكان الذين تم احتلالهم وتحجيم مطالب المعسكر الفيدرالي في إعادة صياغة مفهوم إثيوبيا لن يقود إلا إلى تجدُّد دورة الصراع والمجاعات والفقر التي أحاطت بإثيوبيا وشعوبها في العقود الخمسة الأخيرة.
وأكد “ميرجو” على نقد جذري لمقولات روبرت د. كابلان Robert. D. Kaplan على وجه التحديد –حيث كرَّس مقاله لتفنيد مقال سابق لكابلان حول إثيوبيا امتلأ بالأخطاء التاريخية والتحليلية- لا سيما أن كتاباته ذات تأثير في قادة العالم منذ كتابته عن يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي (خاصة في كتابه الشهير Balkan Ghosts, 1993) واجتراره الماضي كمُؤثّر أولي في الحاضر وتهميشه دور السياسات العنصرية لشخصيات مثل سلوبودان ميلوسيفتش، مما أخَّر استجابة إدارة بيل كلينتون لمعالجة الأوضاع المأساوية في يوغسلافيا التي ارتكبتها القوات شبه العسكرية الصربية. وعلى نفس الشاكلة، فإن سوء قراءة الأوضاع في إثيوبيا المعاصرة مِن قِبَل صُنّاع السياسات في واشنطن -والتي ربما تقوم على مقولات تاريخية مضللة يقدمها كُتّاب مثل كابلان في مقالته الأخيرة- مما يمكن أن يُؤثّر على مصائر ملايين الإثيوبيين.
إنَّ خلاصة “كابلان” بأن إثيوبيا وُجِدَتْ لتَبْقَى بغضّ النظر عن أي أحداث بمثابة “تفكير سحري” (خرافي)؛ كونه مرتبطًا بأنصار دولة إثيوبية مركزية. كما أن ذلك لا يكترث كثيرًا بحقيقة استثنائية تتمثل بتكوين إثيوبيا ومصاعبها التاريخية والدبلوماسية الحالية، فيما يُمثّل خطابًا مشابهًا لما نسمعه وسط النخبة الحاكمة أن إثيوبيا استثنائية فرضها الرب (لتبقى).
بأيّ حال فإن الواقع هو أن الدولة الإثيوبية تُواجِه تفككًا، مع تمكُّن جبهة تحرير التيجراي من إلحاق الهزيمة بالقوات الإثيوبية والإريترية في التيجراي، وتحقيق جيش تحرير الأورومو Oromo Liberation Army (OLA) اختراقات كبيرة في ساحة المعركة في إقليم أوروميا، أكبر أقاليم الدولة الإثيوبية. وبالفعل -وكما كُتِبَ في منافذ أخرى- فإن إثيوبيا سوف تتشرذم تمامًا إنْ فشلت في تلبية المطالب المشروعة للمعسكر الفيدرالي.
وجهة نظر: زعزعة آبي أحمد لاستقرار إثيوبيا([2]):
مقال يركّز على تهديد آبي أحمد لاستقرار إثيوبيا التي تواجه -بحسب كاتبي المقال حفصة محمد ومحمد أحمد- انتقالًا سياسيًّا تاريخيًّا آخر. فيما تدفع الصراعات الجائرة في أجزاء من البلاد إلى تمزيق إثيوبيا، فضلاً عن المجاعة التي ساهمت فيها إجراءات الدولة، والهَبَّات المتجدِّدة المناهضة للحكومة.
إن إثيوبيا مرة أخرى تسير نحو مستقبل غامض، كما تهدد الأزمات المتضاعفة ثاني أكبر الدول الإفريقية سكانًا. وتتعدد أزماتها بين حرب أهلية في التيجراي، ونزاعات حدودية مع السودان، وخلاف مع مصر حول سد النهضة، وهي أزمات متشابكة تدفع إثيوبيا نحو مسار “الدولة الفاشلة”.
ومنذ وصول آبي أحمد للسلطة حدثت تغييرات جسيمة غير دستورية، فضلاً عن اللجوء للقوة المفرطة كما لُوحِظ في الإقليم الصومالي في أغسطس 2018م. وعلى سبيل المثال فإن آبي أحمد أقدم على عزل رئيس الإقليم عبدي محمد عمر على نحوٍ غير دستوري في نهاية صيف 2018م. وفي خطاب لآبي أحمد أمام البرلمان في 23مارس 2021م وصف المناوشات في الإقليم بأنها “عمل حربي”، وأن “العالَم لم يكن لديه ما يقوله عندما ذهب للحرب مع جنود “عبدي”، أو عندما خرجنا في حرب مع جبهة تحرير الأورومو، لكن العالَم علا صوته عندما خُضنا الحرب في التيجراي”.
لكنَّ الإصلاحات المتوقعة عبر الحوار، والإجماع الوطني، والعمليات الديمقراطية، تم اختطافها مِن قِبَل رئيس الوزراء الانتقالي “الإصلاحي” وحاشيته، ويبدو أن آبي أحمد قد دفع البلاد نحو حرب أهلية، وسهّل وقوع المجاعة في بعض الأقاليم، وقادت سياساته إلى تفشّي عدم الأمن السياسي. وشهد الشعب الإثيوبي في فترة العامين والأعوام الثلاثة السابقة صراعات إثنية مكثّفة، وازدياد حدة التصنيف الإثني للتيجرانيين والأورومو، واستيلاء الحكومة الفيدرالية على الأراضي، وتسليح الفلاحين والتجمعات الحضرية، ودفع التصعيد في التطرف الديني والإثني، والاغتصاب الجماعي للنساء والأطفال على يد جنود “قوات الدفاع الوطنية الإثيوبية” Ethiopian National Defense Forces (ENDF)، وتفشي وجهات النظر اليمينية المتطرفة الساعية للتراجع عن “المكاسب الدستورية” المعزّز للتنوّع، وإعادة صياغة عملية بناء الأمة الإثيوبية نحو رؤية أكثر وحدوية تحت شعار “شعب واحد، لغة واحدة، دين واحد”.
ويقترح الكاتبان حلولًا قصيرة الأجل للمأزق الإثيوبي الحالي:
-وقف إطلاق النار: وسحب قوات الدفاع الإثيوبية، وقوات إريتريا وإقليم الأمهرا والقوات الإقليمية الأخرى من إقليم التيجراي.
-حماية المدنيين، وعدم إعاقة وصول المعونات الإنسانية لإقليم التيجراي والمناطق الأخرى التي تضربها صراعات مثل غربي أوروميا.
-إجراء تحقيقات مستقلة في انتهاكات حقوق الإنسان ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والعنف الجندري/ الجنسي ضد النساء والأطفال.
-الإفراج عن جميع السجناء السياسيين.
-إطلاق حوار وطني شامل وعملية مصالحة قائمة على صيانة حقوق الشعوب والجنسيات والأمم في إثيوبيا.
ويخلص الكاتبان إلى أن آبي أحمد منفلتٌ تمامًا، وأن إثيوبيا على حافة حرب أهلية شاملة. إنَّ انهيار إثيوبيا لن يُؤدِّي فقط إلى اضطراب إقليم القرن الإفريقي لكن القارة الإفريقية بأكملها.
ولا يمكن لشرق إفريقيا التعرض لإبادة أخرى أو أعمال تطهير عرقي تديرها دولة. ويبدو أن حلفاء آبي أحمد الوحيدين الذين يساعدونه حتى الآن في ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية هما الصين وروسيا؛ الأمر الذي يُمثِّل في حد ذاته تراجعًا ضخمًا للديمقراطيات الصاعدة في “الجنوب العالمي”، ويشجّع عناصر التوجهات الغوغائية الخطيرة للاعتماد على أداء مثل هذه الحكومات الفاشية.
إن العالم يضع إثيوبيا نُصْب عينيه؛ حيث يواجه سُكانها الاضطهاد والتشرد على خلفية تصورات النُّخب السياسية في العاصمة أديس أبابا، وسط إشارات أن وقت التحرك العالمي نحو إثيوبيا كان الأمس، وليس اليوم أو الغد.
في ذكراها السبعين: اتفاقية اللاجئين 1951م لا تحقق رسالتها([3]):
مقال يحتفي بالذكرى السبعين لاتفاقية وضع اللاجئين (1951م) Convention Relating to the Status of Refugees نهاية يوليو الجاري، مع ملاحظة استمرار تدهور صورة اللاجئين عالميًّا. وأنه وفقًا لمكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين United Nations High Commissioner for Refugees (UNHCR) فإن العام 2020م شهد زيادة في أعداد اللاجئين والطالبين للحماية “خارج بلد أصلهم” قدرها 1.4 مليون نسمة “رغم تأثير جائحة كوفيد على حركة السفر.
ووضع المكتب الأزمة الإنسانية في إقليم التيجراي في إثيوبيا على رأس أسباب هذه الزيادة في أعداد اللاجئين، تلاها تصاعد عدم الاستقرار في أفغانستان وهايتي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكوبا، وكذلك القمع السياسي في ميانمار وهونج كونج، مما يرجح معه استمرار هذا التوجه في العام الحالي 2021م. في الوقت الذي لاحظ فيه المكتب تآكل الالتزام الدولي بدعم اللاجئين في العالم.
ويقدم “الميثاق العالمي بشأن اللاجئين” Global Compact on Refugees (GCR)، الذي تم تبنّيه في ديسمبر 2018م، قدرًا من الأفكار المبتكرة التي يمكن أن تساعد في تحسين هذه الصورة، لا سيما عبر المشاركة في المسؤولية مع الدول التي تستضيف أعدادًا من اللاجئين (لا سيما السودان في الشهور الأخيرة)، لكنَّ ثمَّة حاجة لجهد دولي متعدِّد الأطراف لإتاحة تأثير هذه الأفكار. وعلى الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن قيادة مثل هذا الجهد.
مديرة “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” تطالب مجددًا بإنهاء مآسي التيجراي([4]):
دفعت الأوضاع المتدهورة في إقليم التيجراي الولايات المتحدة لتنسيق جهودها مع الأمم المتحدة، وأقدمت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامنتا باور على اجتماع مهم مع مساعد أمين الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسّق الإغاثة الطارئة مارتن جريفيث من أجل بحث مساعدة مئات الآلاف من اللاجئين الإثيوبيين في الإقليم الذين يواجهون خطر المجاعة، وطالبا بعدم إعاقة وصول الإغاثة الإنسانية إلى الإقليم.
لكنَّ هذه الدعوات الدولية واجهت باستمرار، حتى نهاية يوليو 2021م، تجاهلًا مستغربًا مِن قِبَل رئيس الوزراء الإثيوبي، الحائز على جائزة نوبل للسلام في العام 2019م، والذي أثار الحرب والموت في إقليم القرن الإفريقي بدلًا من السلم والاستقرار.
[1] Teferi Mergo, Ethiopia’s Problems Stem From Internal Colonialism, Foreign Policy, July 22, 2021 https://foreignpolicy.com/2021/07/22/ethiopias-problems-stem-from-internal-colonialism/
[2] Hafsa Mohamed and Mohamed Ahmed, PERSPECTIVE: Abiy Ahmed’s Destabilization of Ethiopia, Homeland Security Today.US July 26, 2021 https://www.hstoday.us/subject-matter-areas/counterterrorism/perspective-abiy-ahmeds-destabilization-of-ethiopia/
[3] Kemal Kirişci, The 1951 Refugee Convention is falling short of its mission. Could the Global Compact on Refugees help? Brookings, July 26, 2021 https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2021/07/26/the-1951-refugee-convention-is-falling-short-of-its-mission-could-the-global-compact-on-refugees-help/
[4] Simeon Ateba, USAID Administrator Samantha Power again pushes for an end to “atrocities and famine” in Tigray, Today News Africa, July 26, 2021 https://todaynewsafrica.com/blog/2021/07/26/usaid-administrator-samantha-power-again-pushes-for-an-end-to-atrocities-and-famine-in-tigray/