روضة علي عبد الغفار
صحفية مهتمة بالشأن الإفريقي
“عصر إفريقيا الفرنسية قد انتهى”؛ هكذا صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل جولته الأخيرة إلى إفريقيا؛ في إشارة لاستراتيجية جديدة تجاه القارة الإفريقية بعيدة عن التدخل في شؤون القارة، ولبناء علاقات متوازنة معها.
لكن في ظل تَلقّي فرنسا صفعات عديدة في إفريقيا، ورفضها المتكرر مِن قِبَل الأفارقة في الفترة الماضية، هل يُعدّ تصريح ماكرون بمثابة إعلان هزيمة؟ أم محاولة لاستعادة النفوذ الضائع في القارة السمراء باستراتيجية جديدة؟ وهل هو انتهاء لعصر فرنسا الإفريقية حقًّا؟ أم بداية لتدخلات من نوع آخر في إفريقيا؟
في هذا التحقيق تتناول “قراءات إفريقية” الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه إفريقيا، في ظل جولة ماكرون الأخيرة إلى القارة، ونناقش مستقبل الحضور الفرنسي في إفريقيا وسط المتغيرات الجديدة على الساحة الإفريقية.
عَـودٌ على بـدء!
أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن خطة استراتيجية جديدة لتعامل بلاده مع القارة الإفريقية، قبيل جولة رئاسية قام بها في الأول من مارس الماضي، إلى أربع دول وسط إفريقيا؛ وهي الغابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وأشار ماكرون في خطاب بقصر الإليزيه في العاصمة باريس، إلى ضرورة بناء علاقة جديدة ومتوازنة ومسؤولة مع دول القارة الإفريقية، وبأن فرنسا صارت طرفًا محايدًا في القارّة الإفريقية، ودعا إلى التحلي بالتواضع والمسؤولية، رافضًا المنافسة الاستراتيجية التي يفرضها مَن يستقرّون هناك مع جيوشهم ومرتزقتهم، في إشارة إلى قوات فاغنر الروسية.
وعلى الصعيد العسكري، أوضح ماكرون أن فرنسا تُخطّط لخفضٍ ملحوظٍ لوجودها العسكري في إفريقيا، وأن فرنسا ستُنْهي استضافة قواعد عسكرية منتظمة في إفريقيا، وستنشئ بدلاً منها أكاديميات تدريب تشارك في إدارتها الجيوش الفرنسية والإفريقية.
ويتضح أن زيارة ماكرون شملت دولاً تحكمها نُظم استبدادية غير مُنتَخبة، كما تتركز الزيارة فيما يبدو على المناطق البعيدة عن المستعمرات الفرنسية السابقة في منطقة الساحل المضطربة، والتي تتصاعد فيها المشاعر المناهضة لفرنسا.
وتأتي الجولة في أعقاب طرد بوركينا فاسو للقوات الفرنسية، وإنهاء الاتفاق العسكري مع باريس؛ لتصبح أحدث دولة إفريقية تُنهي مثل هذه العلاقة مع باريس، كما سحبت فرنسا قواتها من مالي العام الماضي بعد أن بدأ المجلس العسكري هناك العمل مع مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة، وهو ما وضع حدًّا للعمليات الفرنسية ضد الحركات المسلحة، بعد أن دامت 10 سنوات.
يقول الباحث المتخصص في الشؤون الإفريقية، د. محمد تورشين: إن جولة الرئيس الفرنسي الإفريقية الأخيرة تأتي في إطار رغبة فرنسا في المحافظة على ما تبقَّى من نفوذ ومراكز ثقل في إفريقيا، لا سيما في الدول الناطقة
باللغة الفرنسية، بالإضافة إلى محاولة استكشاف دول جديدة ناطقة بالإنجليزية، مثل غانا ونيجيريا وكينيا وتنزانيا.
وأضاف أن الاستراتيجية الفرنسية تهتم بدول وسط إفريقيا؛ لأن هذه الدول تُعد من الدول التي تعتمد على عملة الفرنك الإفريقي المعتمد مِن قِبَل الإدارة الفرنسية، كما تسعى فرنسا للاعتماد على الدول الناطقة بالبرتغالية، باعتبار أن لديها شراكات استراتيجية جيدة مع أنجولا وموزمبيق وغينيا بيساو.
وأكد “تورشين” في حديثه مع “قراءات إفريقية” أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تُعدّ محاولة لإحياء ما تبقَّى من العلاقات المتآكلة، في ظل التنافس بين روسيا والصين والقوى الإقليمية الأخرى.
ماذا يريد ماكرون؟
أكد ماكرون انتهاء عهد الفرانكفونية وسياسة دعم الحكام المستبدّين، ولخَّص ملامح الرؤية الجديدة في: خفض الوجود العسكري في إفريقيا إلى أدنى مستوى (3000 جندي بدلاً من 5500)، وإنهاء القواعد العسكرية الفرنسية وتحويلها إلى أكاديميات تدريب تشارك في إدارتها فرنسا والدول الأوروبية والإفريقية.
كما سيتم التركيز على مشاريع التنمية ودعم الاحتياجات الإنسانية، والتوسع في العلاقات مع الدول الناطقة بالإنجليزية، وتوسيع نطاق الشركاء في إفريقيا بوصف ذلك تحديًا حيويًّا لأوروبا بأكملها، وسيتم تركيز وتعزيز القوة الناعمة مع الدول الناطقة بالفرنسية، وتسهيل التأشيرات للطلاب ودعم الرياضة.
يرى “تورشين” أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة لتجديد الشراكة المتبادلة بين إفريقيا وفرنسا هي خطوة جاءت متأخرة، في ظل إدراك فرنسا بأن العلاقات مع إفريقيا لم تعد كما كانت في الماضي، وباعتبار أن فرنسا كانت دائمًا تُخطّط لإفريقيا على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وظلت تدير إفريقيا بنفس الاستراتيجيات والخطط الاستعمارية القديمة.
وبحسب “تورشين” فإنه في ظل التطور والتنافس الحقيقي بين القوى العظمى؛ مثل الحضور الروسي والحضور الصيني، فضلًا عن الحضور الإقليمي لتركيا والبرازيل والنمور الآسيوية؛ جعلت من النفوذ الفرنسي يتراجع بشكل كبير جدًّا، وهو الأمر الذي جعل فرنسا تُعيد التفكير في علاقاتها الإفريقية.
وأردف أن الاستراتيجية الفرنسية القديمة أصبح لا مكان لها وغير مُرحَّب بها منذ عام 2015م، عندما بدأت موجات من الانقلابات العسكرية، وخروج احتجاجات ومظاهرات في العديد من البلدان الإفريقية رافضة للحضور الفرنسي ومُرحِّبة بالحضور الصيني والروسي أو القوى الإقليمية التي تُقدّم نفسها بأنها قوًى غير استعمارية وليس لديها ماضٍ استعماريّ.
ومن جهته يعتقد الباحث في الشؤون السياسية والأمنية بمنطقة الساحل الإفريقي، د. حسن كلي ورتي، أن
ماكرون يسعى لإعادة النفوذ الفرنسي في القارة، وأيضًا يسعى لمواجهة النفوذ الروسي المتزايد؛ لأن فرنسا اكتسبت مكانتها العالمية عن طريق نفوذها في إفريقيا، وعن طريق تصويت دول القارة لصالح فرنسا في كثير من القضايا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
وأوضح “ورتي” أن فرنسا تعتمد على إفريقيا من حيث الاقتصاد والطاقة والبترول واليورانيوم، لذلك تريد باريس إعادة نفوذها قدر الإمكان لإنقاذ مكانتها العالمية، وأيضًا لمواجهة القوى الجديدة على الساحة الإفريقية.
ماذا عن الأفارقة؟
كان من اللافت أن جولة الرئيس الفرنسي لم تخلُ من اعتراضات واحتجاجات مِن قِبَل الأفارقة في البلاد التي زارها ماكرون؛ فقد خرجت مظاهرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ احتجاجًا على زيارة ماكرون، واحتشد المتظاهرون أمام السفارة الفرنسية في العاصمة كينشاسا حاملين الأعلام الروسية، واتهموا فرنسا بدعم الجماعات المتمردة في البلاد والتعاون مع رواندا.
كما تُعدّ زيارة ماكرون للغابون حسَّاسة؛ إذ تتهمه المعارضة هناك أنه من خلال هذه الزيارة يدعم الرئيس “بونغو” الذي انتُخب في ظروف مثيرة للجدل عام 2016م، وقد يكون مرشحًا مجددًا هذا العام([1]). كما رفض الرئيس فليكس تشيسكيدي “التعامل الأبوي” وازدواجية المعايير، ورفض السياسة الفوقية التي تمارسها الدول الغربية، وفي القلب منها فرنسا([2]).
وجاءت هذه الأحداث لكي توضّح صورة فرنسا الاستعمارية، ورفضها لدى الأفارقة، وهو ما يحاول ماكرون جاهدًا تغييره, حيث يرى مراقبون أن فرنسا فقدت مصداقيتها في إفريقيا بسبب الوعود التي لا تفي بها، فمنذ ما يزيد على 15 عامًا قالت فرنسا أيضًا: إنها بصدد تغيير سياستها، ولكنها لم تُطبّق في الواقع شيئًا مما تقوله، ولذلك استقبل الأفارقة زيارة ماكرون بالرفض.
كما لم تطوّر فرنسا حتى الآن سياسةً تتواءم مع التحوّلات الاجتماعية والسياسية في إفريقيا، مع ظهور منافسين جدد على الساحة الإفريقية؛ مثل الصين وروسيا وإسرائيل وتركيا كشركاء في التنمية.
في هذا الصدد يقول د. حسن كلي ورتي في حديثه لـ«قراءات إفريقية»: إن إفريقيا قارّة غنية بالموارد، لكنها في نفس الوقت فقيرة جدًّا من حيث التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهناك أفارقة يعيشون تحت خط الفقر، وبناءً عليه يرى الشباب الأفارقة أن هذا الفقر سببه الرئيسي فرنسا.
وبالتالي رُفعت أعلام روسيا في مظاهرات عديدة في إفريقيا؛ تعبيرًا عن غضب الشعوب الإفريقية تجاه فرنسا التي جعلت من دولهم دولاً فقيرة على مدار ما يزيد عن مائة عام، وبالتالي هناك رفض كبير من طرف الشباب والمثقفين الأفارقة تجاه فرنسا.
وأشار “ورتي” إلى أن ما حدث بين ماكرون والرئيس الكونغولي في المؤتمر الصحفي، والمظاهرات التي خرجت في تشاد ورفعت شعار “فرنسا بره.. تشاد حرة”، وغيره من الاعتراضات الشعبية؛ كل هذا بسبب عوامل تراكمية أدّت إلى اتخاذ الشعوب الإفريقية هذه المواقف تجاه فرنسا.
وأوضح “ورتي” أن فرنسا مرفوضة مِن قِبَل الأفارقة؛ لأن المواطن الإفريقي يشعر بكراهية شديدة تجاه فرنسا وماكرون؛ لأنه تسبَّب فيما وصلت إليه القارة الإفريقية، ولو كانت العلاقات الفرنسية الإفريقية قائمة بالتساوي بمنظور رابح ورابح، لمَا وصل الوضع إلى ما هو عليه الآن.
وأضاف أن فرنسا تسعى لإعادة نفوذها في القارة؛ لأنه لو خرجت من يدها الدول الإفريقية المتبقية تحت نفوذها؛ فلن تجد لها تأثيرًا على المجتمع الدولي، وكما قال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران: “بدون إفريقيا لا يوجد لفرنسا تاريخ في القرن الواحد والعشرين”.
الموت البطيء:
ينظر كثير من المراقبين إلى جهود الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون عبر زياراته التي بلغت 18 زيارة منذ فترته الرئاسية الأولى، بأنه يخوض معركة وجود في إفريقيا بعد التراجع المريع في نفوذ فرنسا السياسي والثقافي، ويحاول الالتفاف على نتائج السياسات القديمة عبر صياغة نهج ربما يجد قبولاً نسبيًّا.
لكن رغبة فرنسا المتكررة في تغيير سياساتها وعلاقاتها مع إفريقيا تفتقر إلى المبادرات العملية على الأرض، الأمر الذي دفع صحيفة لوموند الفرنسية إلى كتابة افتتاحية تدقّ ناقوس الخطر، وتدعو فيها إلى التحرّك بسرعة، لفعل ما يتوجب من أجل أن “تتعافى فرنسا في إفريقيا”، وعلى فرنسا أن تحذو حذو المملكة المتحدة التي قطعت كل علاقاتها مع مستعمراتها القديمة بشكل صريح بعد استقلالها عنها، قبل أن تُعيد نَسْج علاقات جديدة مع الدول التي كانت تستعمرها، لكن على أساس من الاحترام المتبادل.
أما فرنسا فهي ما زالت لم تغادر عسكريًّا العديد من مستعمراتها السابقة، وتنظر إليها بخلفية استعمارية، وقد آنَ الأوان لها لتنسحب فعليًّا وذهنيًّا بهدوء من كل أشكال وجودها وفكرها الاستعماري؛ إذا أرادت أن تُعيد صياغة شراكاتٍ جديدة على أُسُس تحترم فيها سيادة شعوبها، وتقطع فيها كل ترسّبات تاريخها الاستعماري.
من جهته يرى د. حسن كلي ورتي، أنه من الصعب أن تترك فرنسا الاستراتيجية الاستعمارية القديمة تجاه دول القارة الإفريقية، وأن ما تسعى إليه الآن من استراتيجية جديدة من المحتمل أن يُعيد لها بعض النفوذ، لكنَّه احتمال ضعيف؛ لأن النُّخَب الإفريقية تُعيد النظر في علاقة فرنسا بـدولهم، ويبحثون عن بديل لفرنسا، وأضاف أن فرنسا إذا قامت بتغيير استراتيجيتها قبل عشر سنوات كان يمكن أن يلقى ذلك فاعلية عن الآن.
وأردف “ورتي” أن هناك تغلغلًا صينيًّا داخل القارة الإفريقية، وأنه قد أعطى ثماره من حيث الجوانب الاقتصادية، وأيضًا الوجود الروسي في الجوانب الأمنية والعسكرية ظهر بشكل لافت للأنظار.
وفي نفس السياق يرى د. محمد تورشين، أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تحتاج إلى المصداقية والإرادة، وتحتاج أن تحذو فرنسا خطوات جادة نحو السياسة الخارجية الجديدة؛ برسم واقع جديد يقوم على التعاون المتبادل والاحترام المشترك، وبدون ذلك ربما تفشل الرؤية الجديدة.
وأضاف “تورشين” أن التحديات التي تواجهها فرنسا كثيرة جدًّا، فهناك تحديات إقليمية باعتبار أن البُعد الشعبي رافض للحضور الفرنسي في المنطقة، بالإضافة إلى أن تنافس القوى الدولية على إفريقيا يُعدّ من التحديات الكبيرة جدًّا، فهناك قوى إقليمية ليس لديها ماضٍ استعماري وتعمل على إثارة الشعوب الإفريقية ضد الدول المستعمرة مثل فرنسا، ومن هذه القوى تركيا والبرازيل وكوريا.
ويعتقد “تورشين” أن التحديات كبيرة جدًّا، ومن الصعب أن تحظى فرنسا بنفس المكانة التي حظيت بها في الماضي، وإنما ستعمل بشكل أو بآخر على اكتساب نفوذ جديد مختلف عن السابق.
وختامًا.. كما قال الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك: “من دون إفريقيا، ستنزلق فرنسا إلى مرتبة دول العالم الثالث”، فهل ما تتعرَّض له فرنسا في إفريقيا هو الموت البطيء؟ أم تجد الاستراتيجية الفرنسية الجديدة طريقًا لتحقيقها، ويستطيع ماكرون إقناع الأفارقة من جديد؟