روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة بالشأن الإفريقي
“يجب كسر الحصار المفروض علينا من الدول العربية المُعادية، وبناء الجسور إلى الشعوب المتحررة في القارة السمراء”؛ توضّح هذه المقولة لـ ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا.
وقد كانت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية دائمًا موضع تساؤل؛ حيث ما فتئت إسرائيل تسعى للتقارب مع دول القارة الإفريقية؛ التي تشهد تنافسًا بين العديد من القوى الكبرى، لكنَّ الاختراق الإسرائيلي للقارة يأتي بدوافع مختلفة، ومكاسب سياسية واستراتيجية فريدة.
في ضوء مؤتمر إفريقيا-إسرائيل 2022م، الذي عُقِدَ في باريس في مايو الماضي، والذي أعلن خلاله وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد؛ عن عودة إسرائيل إلى إفريقيا، نناقش في هذا التحقيق: عودة إسرائيل إلى إفريقيا، وأسباب حرص إسرائيل على علاقتها بالقارة السمراء، وهل لإفريقيا دور في التطبيع العربي مع إسرائيل؟
عودة حقيقية أم شعارات واهية؟
أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، في مؤتمر إفريقيا-إسرائيل 2022م، أن مقولة “إسرائيل عادت إلى إفريقيا”، لم تَعُد شعارًا على الورق، بل إنه واقع دبلوماسي واقتصادي واجتماعي. وأضاف أن الدول التي تتعاون مع إسرائيل ستزدهر، بينما ستتخلف البُلدان التي تنعزل عن الرَّكْب.
وأشار لبيد إلى أنه سيتم التعاون لتوفير الأمن الغذائي للملايين، ومكافحة الإرهاب لضمان السلام والاستقرار، وأيضًا تطوير مجال التكنولوجيا الفائقة لخَلْق ملايين من فرص العمل للإسرائيليين والأفارقة على حد سواء، قائلًا: “سنُنَمِّي علاقات دبلوماسية أعمق لترسيخ شراكتنا التاريخية”.
وتبذل وزارة الخارجية الإسرائيلية جهودًا كبيرة لتوثيق علاقاتها مع إفريقيا، وعلى الرغم من زيادة عدد الدول الإفريقية التي تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل إلى 46 دولة، إلا أنه لا توجد سوى 11 سفارة إسرائيلية فيها، كلّ منها تدير العلاقات مع دولتين أو ثلاث دول في القارة.
وقد جاءت تصريحات يائير لبيد، في إطار جهوده لزيادة عدد السفارات، ورصد ميزانية 40 مليون دولار لتقوية التمثيل الدبلوماسي في القارة.
وتعليقًا على تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي يقول الباحث الأول بمركز أفراسيد للبحوث الإفريقية الآسيوية، ثيمبيسا فاكود([1]): إن إسرائيل تميزت في الخدمات التكنولوجية وتقنيات برامج التجسس التي تُقدّمها للأفارقة، لكنَّ التكنولوجيا التي تقدّمها إسرائيل ليست ضرورية للتنمية الإفريقية في الوقت الحالي.
وأضاف أن الأفارقة بحاجة إلى نوع مختلف من البنية التحتية، ولا يحتاجون إلى التكنولوجيا السائدة في إسرائيل بما في ذلك رقائق التجسُّس، كما يفعلون في جميع أنحاء العالم، فالتكنولوجيا التي يقدّمونها مُدمّرة للغاية؛ لأنها تتعلق أكثر بتكنولوجيا التجسس.
وأشار “فاكود” في حديثه لـ “قراءات إفريقية” إلى أن ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي، عن تخلُّف الدول التي لا تقيم شراكة مع إسرائيل، ليس حقيقيًّا؛ لأن الأفارقة لا يربحون من وراء هذه الشراكة، عدا بلدان قليلة جدًّا في شرق إفريقيا.
في حين تنتشر الصين في جميع أنحاء إفريقيا، وتُقدّم ما هو ضروريّ للقارة؛ من حيث تنمية الاقتصاد والبنية التحتية والزراعة، وما إلى ذلك، إلى جانب لاعبين تقليديين آخرين في إفريقيا مثل أمريكا وبريطانيا وألمانيا، لذا فإسرائيل ليست شريكًا أساسيًّا بدونها ستنهار إفريقيا.
وأضاف الباحث الجنوب إفريقي أن إسرائيل تعمل بِجِد حتى يتم قبولها؛ لذا فإن وعد أو تهديد وزير الخارجية الإسرائيلي بتخلُّف الدول الرافضة للشراكة، غير واقعي؛ لأن إسرائيل تواجه الكثير من المعارضة داخل القارة، بينما نجد موقفًا مختلفًا مع الصين؛ لأن الصين مطلوبة وتوفر ما يحتاجه الأفارقة، ويعتقد “فاكود” أن إسرائيل تُضَخِّم أهميتها وموقعها في إفريقيا، في حين أنه ليس كذلك.
لماذا إفريقيا؟
بدأ الاختراق الإسرائيلي لقارة إفريقيا في السنوات الأخيرة، بعد أكثر من 4 عقود من القطيعة معها، عقب حرب أكتوبر 1973م؛ حيث تم إغلاق العديد من السفارات الإسرائيلية في الدول الإفريقية، ورفعت الدول الإفريقية حينها شعار “مصر إفريقيا وإفريقيا مصر”.
ومع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في سنة 1991م، بدأت تعود العلاقات رويدًا رويدًا مع التركيز على الجوانب الأمنية والعسكرية، إلا أن تولّي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة عام 2009م، كان بمثابة نقطة تحوُّل كبيرة في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ حيث شهدت تغيرًا ملحوظًا تجسَّد في الزيارات التي قام بها إلى إفريقيا، وافتتاحه مقرًّا دبلوماسيًّا في كيغالي عاصمة رواندا، ومشاركته في القمَّة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” عام 2017م، كأول زعيم غير إفريقي يُدْعَى لحضور القمة.
ويقف خلف هذا الاختراق الإسرائيلي المتنامي للقارة الإفريقية شعار أعلنه بنيامين نتنياهو، ونصه “إسرائيل تعود إلى إفريقيا، وإفريقيا تعود إلى إسرائيل”.
ففي عام 2016م، زار نتنياهو أربع دول في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، هي: أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا؛ حيث تُشكِّل هذه الدول أهمية استراتيجية بالنسبة لإسرائيل، باعتبارها تمتلك ممرات ومنافذ بحرية حيوية مطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر.
ثم وجَّهت إسرائيل نفوذها نحو إفريقيا الغربية؛ ففي شهر أغسطس 2017م، رفعت السنغال وغينيا مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وهي دول ذات أغلبية مسلمة، كما تعهد السنغال بدعم ترشيح إسرائيل عضوًا مراقبًا في الاتحاد الإفريقي.
في هذا الصدد يقول الأكاديمي والباحث في الشأن الإفريقي، د. محمد بشير جوب: إن بنيامين نتنياهو نجح في استمالة دول الغرب الإفريقي، فربط نفوذ إسرائيل في دول الشرق والوسط الإفريقي بدول غرب إفريقيا، ليمتد نفوذها على دول الحزام الإفريقي.
وأضاف أن نتنياهو اعتبر هذه الخطوة تحقيقًا لإحدى أولويات إسرائيل على الصعيدين الوطني والدولي، وعلى مدار سنتين فقط من الاختراق الإسرائيلي للحزام الإفريقي انعكس ذلك على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وزاد حجم التبادل التجاري بين إسرائيل ودول إفريقيا جنوب الصحراء إلى 850 مليون دولار مع نهاية عام 2019م.
وأشار “جوب” في حديثه لـ“قراءات إفريقية” إلى أن إسرائيل تسعى لاستغلال بعض العوامل لتعزيز نفوذها في إفريقيا، منها: ظاهرة العنف المتزايد في القارة كـحالة الساحل الإفريقي، بالإضافة إلى التمركز الجديد للقوى الدولية كما في حالة الصراع الروسي الفرنسي في مالي، فهذه العوامل قد تجعل إسرائيل تبرز نفسها كلاعب قويّ في القارة، خاصةً بعدما نالت ثقة زعماء بعض الدول الإفريقية الذين فضَّلوا التعاون مع شركات التجسس الإسرائيلية.
أما عن أسباب حرص إسرائيل الدائم على تعميق علاقتها مع إفريقيا، فقد ذكر “جوب” أن إسرائيل تسعى لفك العزلة الدولية، والحيلولة دون استمرار الانجراف السياسي لدول العالم ضدها؛ حيث تعتقد إسرائيل أن تأييد القوى الدولية لها -مثل أمريكا- غير كافٍ لضمان وجودها وبقائها كدولة.
لذا تُولي إسرائيل أهميةً كبيرةً للدول الإفريقية؛ لكسب أصواتها في المحافل الدولية، وتخفيف الخناق القانوني الدولي عليها، فهدف إسرائيل الأول هو تغيير التصويت الإفريقي في الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى من المعارضة إلى الدعم.
كما أضاف الأكاديمي والباحث السنغالي، أن إسرائيل تبحث عن بديل اقتصادي؛ لأن الاقتصاد الإسرائيلي يخسر مليارات الدولارات بين السنة والأخرى؛ نتيجة حملة المقاطعة الأوروبية للمنتجات الزراعية من المستوطنات الإسرائيلية، بحسب المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء؛ ولذلك فإن إسرائيل حريصة على إيجاد بديل للأسواق التي تتعرَّض بها للخسارة، وهذا يتوفر في إفريقيا الغنية بالمواد الخام.
وأكد “جوب” أن إسرائيل تسعى أيضًا إلى مدّ نفوذها في أيّ منطقة حيوية تساعد على تطويق الأمن القومي العربي بشكل عام؛ ونظرًا للأهمية الاستراتيجية لبعض الدول الإفريقية تعمل إسرائيل على استمالة هذه الدول لتحقيق المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للأمن القومي الإسرائيلي، ولقد تحقق جزء كبير من هذا المشروع بالنسبة لإسرائيل.
إسرائيل والاختراق الناعم:
تستخدم إسرائيل عدة أدوات لتحقيق أهداف سياستها الخارجية في القارة الإفريقية؛ إلا أن التركيز على القوى الناعمة، واستغلال الأداة الثقافية كان أهم هذه الأدوات، وتنوَّعت مظاهر القوة الناعمة الإسرائيلية لكسب عقول وقلوب الأفارقة مثل المساعدات التنموية، وتغيير الصورة السلبية لإسرائيل أنها كيان يحتلّ أراضي الفلسطينيين، فضلًا عن الجاليات اليهودية التي لها دور في تكريس الوجود الإسرائيلي في القارة الإفريقية.
حيث تُسَوِّق إسرائيل نفسها لإفريقيا على أن لديها خبرات أمنية متطورة في مكافحة الإرهاب، وأنها أنتجت وسائل تكنولوجية متطورة للمراقبة والتنصت، وأن لديها شركات خاصة في جيش الدفاع الإسرائيلي من شأنها أن تقوّي وتطوّر أداء الحرس الرئاسي ووحدات النخبة في الدول الإفريقية، وبهذه المعطيات المُغرية يجد الرؤساء الأفارقة في إسرائيل مُبتغاهم.
ومن أهم الدول الإفريقية التي تستعين عسكريًّا بإسرائيل: إثيوبيا، كينيا، أنغولا، جنوب إفريقيا، ساحل العاج، ملاوي، زامبيا، توغو، نيجيريا، الكاميرون، والنيجر، ويطلق الجيش الإسرائيلي عليها “الدبلوماسية العسكرية”، التي تشمل تدريبات مشتركة، وتعيين ملحقين عسكريين بدول القارة.
كما عملت إسرائيل على إحداث نوع من المشابهة بين معاناة الأفارقة واليهود، ومقارنة وضع اليهود في أوروبا في ظل النازية، وما تعرَّضت له شعوب إفريقيا في زمن الاستعمار الأوروبي، واستغلال الإبادة لقبيلة “التوتسي” في رواندا والتشابه بينها وبين محرقة اليهود.
وقد أدى تغيُّر مواقف بعض الدول العربية من إسرائيل إلى دَفْع كثير من الدول الإفريقية إلى أن تحذو حذوها، ولم تَعُد القضية الفلسطينية عنصرًا مهيمنًا في علاقة إفريقيا مع العالم العربي والإسلامي.
إفريقيا والصراع العربي الإسرائيلي:
إنَّ التوجُّه الإسرائيلي للقارة الإفريقية يشكل جزءًا من الصراع العربي- الإسرائيلي، وجزءًا من نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على اكتساب الشرعية والهيمنة والتحكم في المنطقة، وتطويق الأمن القومي العربي.
حيث تعمل إسرائيل على تحجيم النشاط العربي في إفريقيا من خلال تطويق الدول العربية بحزام مُوَالٍ لإسرائيل، وتعميق الخلافات بين الدول العربية والإفريقية، والسيطرة على البحر الأحمر؛ لأن وجودها فيه يُؤمِّن لها الحفاظ على أمنها القومي والوصول للعالم الخارجي.
يقول الخبير في الشأن الإسرائيلي، أنس أبو عرقوب: إن التطبيع العربي خرج مؤخرًا إلى العلن، والعلاقات الإسرائيلية الإفريقية كان تجري بموازاة ذلك؛ فالسياسة الخارجية الإسرائيلية تعمل منذ عقود خلف الكواليس على الصعيدين العربي والإفريقي، لكن بعد “الاتفاقيات الإبراهيمية” صار متاحًا تنفيذ مشاريع عملاقة مشتركة إسرائيلية إماراتية في إفريقيا.
وأضاف “عرقوب” لـ “قراءات إفريقية” أن الكثير من الدول الإفريقية كان ترى حرجًا في إعلان علاقتها السرية مع إسرائيل؛ حفاظًا على علاقاتها مع الدول العربية، لكن هذه العقبة باتت من التاريخ.
وأشار الخبير في الشأن الإسرائيلي إلى أن العلاقات الإسرائيلية الإفريقية توثقت لأسباب إفريقية ذاتية؛ من بينها: اقتناع جزء من النُّخَب الحاكمة في إفريقيا بأن الطريق لتعزيز العلاقات مع واشنطن والتغاضي عن ملفات حقوق الإنسان يمر عبر إسرائيل.
من خلال التدقيق في العوامل التي أدَّت إلى قطع العلاقات الإسرائيلية- الإفريقية، عقب حرب أكتوبر 1973م، لا يُشكِّل الدين عاملًا حاسمًا في هذه العلاقات، فمثلًا غينيا التي تبلغ نسبة المسلمين فيها 80% لم يُؤخّرها هذا عن إعادة العلاقات مع إسرائيل، وأيضًا السنغال التي تبلغ نسبة المسلمين 85%، بينما اتضح أن عامل العلاقات بمصر أكثر أهمية، وبالتالي تُشكّل تجربة الدول العربية وغياب تأثيرها في إفريقيا عاملًا مساعدًا في عودة العلاقات الإسرائيلية- الإفريقية.
وختامًا.. فإن القُوَى الدولية تجد مآربها دائمًا في إفريقيا، وتخطو خطًى حثيثة للتقارب مع القارة السمراء؛ لكَسْب تأييدها وشراكتها، وهو ما كان يجب أن ينتبه له العالم العربيّ، إذا أراد أن يُعيد التاريخ الذي اصطفت فيه إفريقيا جنبًا إلى جنب مع الدُّوَل العربية، وناصرت فيه القضايا العربية.
ويُعيد مؤتمر إفريقيا-إسرائيل 2022م، أهمية القارة الإفريقية على السطح من جديد، ويثير تساؤلات عديدة بعد إعلان إسرائيل عودتها إلى إفريقيا، أبرزها: هل نجد لاعبين جدد في القارة السمراء لمزاحمة الوجود الإسرائيلي؟