روضة علي عبد الغفار
صحفية مهتمة بالشأن الإفريقي
“روسيا وإفريقيا ستتمكنان معًا من ضمان الأمن في جميع أنحاء العالم”؛ هكذا قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في “يوم إفريقيا” في مايو الماضي، وهو ما يضعنا أمام استراتيجية روسيَّة تتوجه أنظارها إلى القارة السمراء.
وفي عالمٍ يذهب إلى تعدُّد الأقطاب؛ تبقى إفريقيا صورة للصراع الدائم بين القوى العالمية؛ فمن أراد أن يسجل حضورًا على الساحة يجب أن يذهب إلى إفريقيا أولًا، والبحث عن موطئ قدمٍ في القارة الاستراتيجية.
وفي ضوء القمة الروسية الإفريقية الثانية، المتوقع عقدها في أديس أبابا في أكتوبر-نوفمبر 2022م، نضع العلاقات الروسية الإفريقية تحت المجهر؛ لكشف أسباب اهتمام روسيا بإفريقيا بعد فترة من الغياب، ولماذا امتنعت بعض الدول الإفريقية عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا؟ وما مستقبل التمدد الروسي في إفريقيا في ظل النفوذ الأمريكي والصيني في القارة؟
على أطلال الاتحاد السوفييتي:
لم تمتلك روسيا يومًا مستعمرة إفريقية، وبقيت خارج الصراع على القارة السمراء، كما لم تبدأ في إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الإفريقية إلا بعد اندلاع الحرب الباردة في عام 1947م، لمواجهة تأثير منافسيها مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
وأصبح النفوذ الروسي قويًّا في إفريقيا خلال ذروة قوة الاتحاد السوفييتي، فقدم الرُّوس دعمًا دبلوماسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وتعليميًّا للعديد من حركات التحرر الإفريقية، وشمل هذا أنغولا والرأس الأخضر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وغينيا ومدغشقر وتنزانيا، ونتيجة ذلك تلقَّى العديد من الشباب الأفارقة تعليمهم في موسكو.
وظلت العلاقات قائمة حتى عهد الرئيس بوريس يلتسن 1990- 1999م؛ حيث انخفض تأثير روسيا على القارة بشكل كبير، وتم إغلاق تسع سفارات وثلاث قنصليات، وانخفض عدد الموظفين التابعين لوزارة الخارجية الروسية، وتم إغلاق المؤسسات الثقافية الروسية، وإنهاء العلاقات الاقتصادية من جانب واحد، وإلغاء برامج المساعدات السخية.
لكن عندما تولى فلاديمير بوتين السلطة في عام 1999م، بدأت روسيا في استعادة نفوذها الاقتصادي والسياسي في إفريقيا تحت قيادته، وأعاد بوتين العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لروسيا مع حلفائها الأفارقة السابقين.
يرى مراقبون أن الرئيس “بوتين” عازم على إمالة ميزان القوى العالمي لصالح روسيا، بما يتماشى مع رؤيته لاستعادة مكانة موسكو في الحقبة السوفييتية كقوة عظمى، ووفقًا لذلك فإن بوتين عليه مواجهة النفوذ الأمريكي من جهة والبصمة الاقتصادية الكبيرة للصين من جهة أخرى.
من جهته يعتقد الأكاديمي والباحث المتخصص في الشؤون الإفريقية، د. محمد تورشين، أن التمدد الروسي سيستمر لمراحل متقدمة جدًّا؛ حيث إن روسيا من خلال وجودها في إفريقيا خاصة في السودان وإفريقيا الوسطى ومالي، بالإضافة إلى موزمبيق وبوركينا فاسو، نجد أن طموحاتها أكبر من أن تزاحم فرنسا أو أن تكون بديلًا لها.
وقال “تورشين” في حديثه لـ “قراءات إفريقية”: إن هدف روسيا يتمثل في أن تكون هي الشريك الاستراتيجي الأول في قطاعات الأمن والدفاع في إفريقيا، مع التنسيق التام بأن تكون الصين هي الشريك الاقتصادي الأول؛ بحيث يمكن أن يحدث تقارب بين الصينيين والروس بعد ذلك.
وأضاف أن إمكانيات روسيا لا تسمح لها بأن تكون شريكًا اقتصاديًّا كبيرًا مثل الولايات المتحدة وفرنسا، لذلك تفضل الاستثمار في قطاع الأمن والدفاع؛ باعتبار أنه قطاع رابح، كما أن موسكو وصلت إلى قدرات كبيرة في هذا المجال.
وأوضح “تورشين” أن روسيا لا تشترط على الدول الإفريقية أيّ شروط خاصة بالحريات وحقوق الإنسان للحصول على السلاح، فنجد دولة مثل نيجيريا، وهي شريكة استراتيجية للغرب، تفرض عليها الولايات المتحدة الأمريكية شروطًا قاسية من أجل الحصول على طائرات (إف 16)، لذلك لجأت إلى الطائرات الروسية.
الدُّبّ الروسي والاختراق الناجح:
تعمل روسيا على زيادة نفوذها تدريجيًّا في إفريقيا؛ من خلال الاستثمار الاستراتيجي في الطاقة والمعادن، كما أنها تستخدم القوة العسكرية والقوة الناعمة، وتعتمد موسكو في التجارة والاستثمار في إفريقيا على عدم وضع شروط من جهات فاعلة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
كما تربعت روسيا على عرش مُصدِّري السلاح لإفريقيا، بتزويدها بنسبة 39% من صفقات السلاح بين عامَي 2013-2017م. وخلال الحرب الباردة اشترت العديد من منظمات التحرير المسلحة والدول الإفريقية معدات عسكرية من روسيا، من بينها أنغولا وموزمبيق وزيمبابوي وزامبيا وغينيا.
وتسعى روسيا كذلك لاستغلال الغاز وحقول النفط في إفريقيا، وهو جزء من استراتيجيتها طويلة المدى للطاقة، فقامت الشركات الروسية باستثمارات كبيرة في صناعات النفط والغاز في نيجيريا وغانا وساحل العاج.
يعتقد د. محمد تورشين أن روسيا تعتمد عددًا من الأدوات لاختراق إفريقيا، تتمثل في الشراكات وتوقيع اتفاقيات للتعاون العسكري، للحصول على السلاح والتدريب العسكري والأمني.
وأضاف أن المنح الدراسية سواء على مستوى القيادات العسكرية أو الطلاب، ونشر اللغة الروسية، يجعل لروسيا حضورًا ثقافيًّا كبيرًا في إفريقيا، واتضح ذلك عندما تم اعتماد اللغة الروسية في إفريقيا الوسطى ضمن اللغات الرسمية للدولة.
كما أوضح “تورشين” أن شركه “فاغنر” من أدوات روسيا غير الرسمية، رغم نفي روسيا صلتها بها؛ إلا أنها تعمل لصالح المخابرات الروسية بشكل أو بآخر؛ حيث تعمل “فاغنر” بشكل فاعل في إخماد التمرد والمعارضة المسلّحة، والتصدي للجماعات الارهابية التي تستهدف المدنيين في مناطق كثيرة، وهي أداة فعّالة للتمدد الروسي.
وعليه يرى “تورشين” أن روسيا ستنجح في تحقيق نفوذ في إفريقيا لعدة اعتبارات؛ منها أن العالم الآن يتجه إلى أن يكون متعدّد الأقطاب، بعد الحرب في أوكرانيا، وأزمة الولايات المتحدة وتايوان، وغيرها من الاتجاهات العالمية، وهذه سيؤدي إلى تحرير الأفارقة من أي قيود.
وبحسب الأكاديمي المتخصص في الشأن الإفريقي؛ هناك العديد من الأنظمة الشمولية والمستبدة في إفريقيا ترغب أن تستمر في السلطة، وتحتاج إلى قوة عسكرية توفّر لها السلاح والوسائل الدفاعية، والصين كشريك اقتصادي أغرق إفريقيا في الديون؛ مما سيجعل الكثير من الأنظمة الإفريقية تتعاون مع روسيا، دون الحاجة للتعاون مع أمريكا أو فرنسا أو دول الاتحاد الأوروبي.
وأضاف أن تآكل الدور الفرنسي في إفريقيا، وظهور خطابات شعبية ترفض الوجود الفرنسي أو الإمبريالي، جعل روسيا تستثمر هذا الرفض بشكل كبير، فليس لها ماضٍ استعماري في إفريقيا، وهذا يدعم نفوذها القارة.
أوكرانيا.. مُختبر النفوذ الروسي:
يعطي تصويت الأمم المتحدة على الغزو الروسي لأوكرانيا منظورًا مهمًّا لفهم العلاقات بين موسكو والدول الإفريقية؛ حيث يكشف عن معايير الحكم والرؤى لدى إفريقيا، فقد صوّتت 28 دولة من أصل 54 لإدانة الغزو الروسي، وامتنعت 16 دولة عن التصويت، في حين لم تصوّت 9 دول.
وإذا كانت العلاقات الروسية الإفريقية في الماضي تحمل أيّ دلالات، فمن المتوقع الآن أن تُصعّد روسيا حملة نفوذها في إفريقيا ردًّا على عزلتها الدولية بعد غزو أوكرانيا.
ويعتقد مدير مركز الدراسات الإفريقية الشرق أوسطية بجنوب إفريقيا، د. نعيم جينا، أن عدم إدانة روسيا مِن قِبَل بعض الدول الإفريقية هو مؤشّر على التأثير المتزايد لروسيا في القارة، خاصةً على المستويين العسكري والأمني، لكنه ليس العامل الرئيس لصمت الدول الإفريقية عما يحدث في أوكرانيا.
وقال “جينا” في حديثه لـ “قراءات إفريقية”: إن هناك حنينًا عند بعض الدول الإفريقية إلى دور الاتحاد السوفييتي في نضاله ضد الاستعمار والفصل العنصري، لكنهم نسوا أن روسيا اليوم ليست اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في الماضي، وأن بوتين قد تبرَّأ في الواقع من جزء كبير من تراث الاتحاد السوفييتي.
وأضاف أن هناك شعورًا بين العديد من الأفارقة بأنه لا ينبغي التورط في حروب بين القوى العالمية، وأنه يجب على الدول الإفريقية والقارة ككل تطوير موقف عدم الانحياز.
وبرزت تساؤلات عما إذا كانت علاقة روسيا المتزايدة بإفريقيا يمكن أن تُشكّل لها نقطة قوة في حربها على أوكرانيا، خاصةً بعد زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” لعدد من الدول الإفريقية، إثيوبيا وأوغندا والكونغو برازافيل، في يوليو الماضي.
في هذا الصدد يقول د. نعيم جينا: إن أهمية إفريقيا لروسيا فيما يتعلق بحربها على أوكرانيا تكمن في تصويتها في المحافل الدولية، فمثلاً مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تمتلك روسيا حق النقض “الفيتو”، لكن في الجمعية العامة للأمم المتحدة نجد أصوات الدول الإفريقية، والتي تزيد عن 50 صوتًا، مهمة لروسيا.
وأضاف “جينا” قائلًا: “إذا كانت هناك محاولة لتمرير قرار ينتقد الغزو الروسي، في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تبدأ الشهر المقبل؛ فإن إبقاء الكتلة الإفريقية إلى جانب موسكو، أو حتى محايدة فإن ذلك سيساعد روسيا”.
روسيا.. البديل المُرّ:
لتقييم مستقبل العلاقات بين روسيا وإفريقيا، من الضروري أن يكون واضحًا أن الشراكات التي تسعى إليها روسيا في إفريقيا قائمة على مستوى النُّخب، من خلال مساعدة القادة غير الشرعيين على الاحتفاظ بالسلطة.
تعمل هذه الاستراتيجية لصالح روسيا والقادة المعنيين الذين يكتسبون غطاء دبلوماسيًّا دوليًّا، وموارد لتوطيد السلطة محليًّا، وقوة مرتزقة وأسلحة وعائدات من صفقات الموارد، وبالتالي فإن ارتباطات روسيا تزعزع استقرار مواطني البلدان المستهدفة بطبيعتها، مما يؤثر على التنمية الاقتصادية، وانتهاكات حقوق الإنسان، واستمرار الحكومات غير الشرعية.
وتأتي جهود موسكو الدبلوماسية لتعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية، وما يرتبط بها من طموحات جيوسياسية، في وقت يتراجع فيه نفوذ الولايات المتحدة وفرنسا في إفريقيا.
حيث تبدو روسيا حريصة على سد الفجوة إلى جانب ترسيخ العلاقة التجارية بينها وبين إفريقيا، وقد حاول بوتين التأكيد على مكانة روسيا كشريك يمكن الاعتماد عليه في القارة، وبأعباء أقل من الولايات المتحدة أو القوى الغربية الأخرى، وإقناع العديد من القادة الأفارقة بأن موسكو يمكن أن تقدم -دون قيود ولا شروط– دعمًا عسكريًّا واقتصاديًّا، في وقت تواجه البلدان الإفريقية احتياجات مُلحة.
يرى د. نعيم جينا أن روسيا تتصرف بشكل انتهازي في إفريقيا، في محاولة لكسب النفوذ؛ حيث تفقده القوى الأخرى، وهي تسعى إلى زيادة نفوذها في إفريقيا الفرنكوفونية، خاصةً في تلك البلدان التي ينحسر فيها النفوذ الفرنسي.
وأكد “جينا” أن أمريكا تدرك محاولات موسكو لزيادة نفوذها في إفريقيا، ويتجلى ذلك في الخطة الأمريكية الجديدة لإفريقيا، التي كشف عنها وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، في جنوب إفريقيا في أغسطس الماضي؛ حيث أكد التزام الولايات المتحدة بشراكة أقوى مع إفريقيا، ودعا الدول الإفريقية صراحةً إلى دعم أوكرانيا.
وختامًا.. فإن مشاركة روسيا ووجودها في إفريقيا لا يزالان مُتخلّفين عن القوى الكبرى الأخرى من نواحٍ كثيرة، لكن طموحات موسكو قد تدفعها لمزيد من التوغل في القارة السمراء رغم احتمال اصطدام مصالحها بمصالح الصين أو الولايات المتحدة.. فما هي خطط الدُّبّ الروسي على أعتاب القمة الروسية الإفريقية القادمة؟