كتب: حامد فتحي
وقعت السلطات الانتقالية التشادية والعديد من جماعات المعارضة التشادية، اتفاقاً للسلام في العاصمة القطرية الدوحة، في الثامن من أغسطس الماضي، بهدف وضع حدّ للحرب المستمرة منذ سنوات في هذا البلد، وبدء خطوات المصالحة الوطنية.
وشارك في توقيع الاتفاق الذي احتضنته الدوحة وفد من الحكومة الانتقالية، وممثلون عن المعارضة المسلحة، وممثلون عن الاتحاد الأفريقي ومنظمات دولية وإقليمية، ووزراء خارجية دول جوار تشاد، ليبيا والسودان وتوغو.
وينص اتفاق الدوحة للسلام في تشاد على وقف شامل لإطلاق النار والتزام الأطراف الموقعة على الاتفاق، المجلس العسكري الانتقالي والحركات العسكرية المسلحة، عدم القيام بأي عمل عدائي أو انتقامي على أساس عرقي أو سياسي، كما يؤكد على نبذ خطاب الكراهية، ويشتمل على آليات وبرنامج نزع السلاح وإطلاق الأسرى وإعادة الاندماج، استناداً إلى المعايير الدولية. وأحال اتفاق الدوحة للسلام العديد من القضايا الإشكالية على الحوار الوطني الشامل، الذي قرر المجلس العسكري الانتقالي في تشاد عقده في 20 أغسطس الحالي.
فهل ستنجح هذه المصالحة في وضع حد للصراع في هذا البلد ، الذي يعاني من أزمات طاحنة ، ويعيد الاستقرار من جديد؟
سلام الدوحة:
بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي إتنو في 20 أبريل 2021م، تشكّل مجلس عسكري تولَّى قيادة البلاد، برئاسة الضابط محمد إدريس إتنو، ابن الرئيس الراحل، بعد حصوله على رتبة فريق في سلسلة ترقيات غير معهودة.
وحاز محمد إدريس (محمد كاكا) على مباركة فرنسية وقبول إفريقي كواقع لمرحلة انتقالية، بينما رأى قطاع واسع من المعارضة داخل البلاد وخارجها أنَّ ما حدث هو انقلابٌ على الشرعية، والتي بحسب الدستور تجعل من رئيس الجمعية الوطنية رئيسًا للبلاد، بعد خلوّ منصب الرئاسة بمقتل إدريس ديبي، لحين إجراء انتخابات رئاسية في غضون 45-90 يومًا.
وأعلن المجلس العسكري الانتقالي برئاسة ديبي الابن عن مرحلة انتقالية مدتها 18 شهرًا، تُجْرَى بعدها انتخابات حرة وديمقراطية وشفّافة، وحلّ البرلمان والحكومة. ودعا محمد كاكا -الذي شكَّل حكومة انتقالية في مايو 2021م ضمّت وجوهًا من المعارضة السياسية- إلى حوار وطني شامل، واستقبل رموزًا من المعارضة في الخارج.
وفي أغسطس 2021م، جرى الإعلان عن تشكيل اللجنة المُنظِّمة للحوار الوطني الشامل، بقيادة الرئيس السابق للبلاد، قوكوني وداي، وأُلحقت بها لجنة أخرى باسم اللجنة الفنية الخاصة المتعلقة بمشاركة المعارضة السياسية العسكرية في الحوار الوطني الشامل؛ للعمل على تسهيل مشاركة المعارضة العسكرية بصفة خاصة.
وعقب شهور من التأخير، انطلقت الجولة التمهيدية للحوار الوطني الشامل في العاصمة القطرية؛ الدوحة، وشاركت فيها معظم الحركات السياسية والمسلّحة المُعارِضَة، بدايةً من 13 مارس 2022م حتى انتهاء المشاورات في 30 يوليو الماضي، ليتبعها الإعلان عن اتفاق الدوحة للسلام، والذي وقَّعه كاكا مع عدد 42 من الحركات والأحزاب المُعارِضَة، بتاريخ الثامن من شهر أغسطس الجاري.
بينما امتنعت 18 حركة مسلحة وحزبًا معارضًا عن التوقيع على الاتفاق، وأعلنت عن تشكيل تجمع باسم “الإطار الدائم للتشاور والتفكير”، وجاء في بيانها عن أسباب رفض التوقيع: “لاحظنا منذ بداية المفاوضات أن الوفد الحكومي لم يكن لديه رغبة جادة لإجراء مفاوضات حقيقية تؤدي إلى اتفاقية سلام من شأنها أن تسمح لجميع الحركات السياسية العسكرية وحلفائها بالمشاركة الفعلية في الحوار الوطني الشامل ذي السيادة، وهنا تقع المسؤولية الكاملة عن فشل هذه المفاوضات، وربما الحوار الوطني داخل البلاد، على عاتق المجلس العسكري الانتقالي الحاكم”.
وبحسب البيان فهذه هي النقاط الخلافية: مسألة عدم أهلية أعضاء الهيئات الانتقالية للترشح في أول انتخابات رئاسية بعد الفترة الانتقالية. والمطالبة بإلغاء لجنة تنظيم الحوار الوطني الشامل بشكلها الحالي لإفساح المجال للشَّراكة الرباعية (الحكومة وحلفاؤها، والمجتمع المدني، والأحزاب السياسية المعارضة في الداخل، والحركات السياسية العسكرية وحلفاؤها). والإصرار على تأكيد سيادة الحوار الوطني الشامل. والتوزيع المتساوي لعدد المندوبين بين مختلف أصحاب المصلحة في الحوار الوطني الشامل. وتعديل ميثاق الفترة الانتقالية. وإعادة هيكلة قوات الدفاع والأمن ليصبح جيشًا وطنيًّا جمهوريًّا حقيقيًّا. وإطلاق سراح سجناء الرأي (السياسيين والصحفيين) وأسرى الحرب.
استبعاد الفاعلين:
ومن بين الفاعلين الذين لم يُوقِّعوا على اتفاق السلام: جبهة الوفاق من أجل التغيير (فاكت) المسؤولة عن مقتل الرئيس إدريس ديبي، بزعامة محمد مهدي علي، وثلاث حركات مسلحة أخرى، وقوى سياسية مدنية.
يقول المدوّن والناشط الاجتماعي التشادي، حسين بن ياسر: “الاتفاق لا يمثل جميع الأحزاب والحركات المسلحة، وحركة فاكت هي السبب في تحريك المجتمع التشادي العسكري والمدني اليوم”. وأضاف لـ”قراءات إفريقية”: “جبهة فاكت تُمثّل رؤية غالبية الشباب التشادي للتغيير، واستبعادها يعني أنّ ما حدث في الدوحة ليس سوى مسرحية لشرعنة الحكم العسكري”.
ومن جانبه، يقول الصحفي التشادي، علي موسى علي: “الاتفاقية ضمّت أصنافًا من الحركات بعضها كان لها وزن في السابق، ولكن مع الأيام خسرت قوتها وضعفت وتعب قادتها في الخارج فجنحوا للسلم، والبعض الآخر حركات لا تحمل شيئًا في الواقع سوى اسمها فقط، وتنشط في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام فقط، وأغلبها ظهر في الفترة الانتقالية وأثناء الدعوة إلى الحوار”.
وأضاف في حديثه لموقع “قراءات إفريقية”: “بينما الحركات التي لم توقّع بتقديري هي الأقوى من حيث القدرة العسكرية والتأثير؛ فمن ضمن الحركات التي لم توقع على الاتفاق جبهة فاكت التي أدخلتنا في هذا النفق عندما قامت بهجومها العسكري في أبريل 2021م”.
ويكشف هذا الاستبعاد عن نوايا المجلس العسكري الانتقالي في توليف مرحلة انتقالية تعطي الشرعية لمرحلة لاحقة من المرجح بقوَّة أن يكون على رأسها الجنرال محمد كاكا رئيسًا للبلاد عبر الانتخابات المُرتَقَبة، وذلك بدعم فرنسي غربي كبير؛ حيث كان لفرنسا دور كبير في صدّ هجمات حركة فاكت بعد مقتل ديبي الأب.
ومن المحتمل بشدة أن تكون نوايا المجلس العسكري حَسْم التمرد العسكري بالقوة؛ حيث لن تتنازل الحركات المسلحة المُعارِضَة لاتفاق الدوحة عن موقفها، ولن يقبل المجلس العسكري بشروطها التي تستبعد محمد كاكا من الفترة المقبلة. ويهمل هذا السيناريو الموقف الشعبي غير المؤيد لمنظومة الحكم، وكذلك يدفع بحركة فاكت وغيرها إلى طلب الدعم من روسيا لمواجهة الحكومة المدعومة فرنسيًّا.
السلام المنقوص:
من جانب آخر هناك آمال مُعلّقة على الاتفاق، وبالتأكيد هناك مكاسب تحققت تتعلق بتنازلات من السلطة نسبيًّا عن القبضة الأمنية، وإشراك عناصر كانت في المعارضة في الحكم، وهو ما يعني تكوين تحالف سلطوي مُوسَّع.
ويقول الصحفي التشادي؛ طاهر زين: “الحكومة منفتحة على الحوار مع الحركات المقاطعة للاتفاق، وربما هناك تسوية ستتم مع المقاطعين؛ لأن هذه الحركات مطالبها واضحة، وفي البداية كان من المتوقع أن تُناقَش هذه المطالب في الدوحة، لكن الحكومة رفضت مناقشتها، وتذرَّعت بأنّها من أعمال الحوار الوطني الشامل الذي سيُعْقَد في العاصمة إنجمينا”.
وأردف لـ”قراءات إفريقية”: “الحركات التي وقَّعَت منها ثلاث حركات عسكرية تاريخية، مقابل معارضة أربع حركات مسلحة ناشطة”. وردًّا على سؤال حول الهدف من الحوار بعد استبعاد القوى الفاعلة؟ قال الصحفي التشادي: “الاتفاق تمهيد لشرعنة حكم المجلس العسكري؛ حيث كان المخطط لاتفاق الدوحة في البداية مشاركة 12 حركة مسلحة من الفاعلين في الماضي القريب والحاضر، لكن المجلس العسكري بالاتفاق مع فرنسا ضَخَّمَا العدد إلى 42 حركة؛ بحيث يُوقّع الاتفاق وفق رؤية الحكومة، ويلعب العدد معادلة تهميش دور المعارضين بالنسبة لعدد أكبر يُوقّع، ولهذا يُنْذِر الاتفاق بعواقب غير إيجابية”.
ولدى الصحفي علي موسى علي تفاؤل محدود، يقول: “مع ذلك أعتقد أنها خطوة نحو السلام، وتُعدّ الاتفاقية تاريخية؛ حيث وقَّع عليها أبرز زعماء المعارضة في آخر ثلاثين سنة مثل؛ تيمان أردمي ومحمد نوري، وربما تكون هذه فرصة لفتح صفحة جديدة يكون فيها الحوار هو الأساس لحلحلة مشاكل البلاد”.
احتمالات عودة الصِّدام:
بناءً على ما سبق يمكن تقرير عدة نقاط ارتكاز تُشكّل المشهد التشادي اليوم، وستلعب الدور الأساسي في الفترة المقبلة، وهي:
1- لن يقبل المجلس العسكري الانتقالي بشروط الحركات غير المُوقِّعة على اتفاق الدوحة، وتحديدًا ما يتعلق باستبعاد الجنرال محمد كاكا من الترشُّح للانتخابات، وإعادة تشكيل لجنة الحوار الوطني الشامل.
2- تدعم فرنسا بقوة اتفاق السلام بشكله الحالي، والمضي قُدُمًا لعقد اتفاق الحوار الشامل في إنجمينا؛ كونها تعلم أنّ وجود كاكا على رأس السلطة مع المجموعة الحاكمة هو الضامن الوحيد لمصالحها ونفوذها في تشاد، وفي سبيل تحقيق ذلك ستدعم عملًا عسكريًّا لتقويض خطر الحركات المسلحة غير المُوقِّعة على اتفاق الدوحة.
3- تدرك الحركات المسلحة غير المُوقِّعة على اتفاق الدوحة، وخصوصًا حركة فاكت، أنّ تجدد الحرب قادم لا محالة، ولهذا ستعمل على تعزيز قوتها، وفي ظل التنافس الغربي-الروسي على منطقة الساحل والصحراء، وطرد النفوذ الفرنسي من مالي لصالح روسيا، من المرجّح أن تلجأ فاكت وغيرها لطلب الدعم الروسي.
4- لا تأتي معارضة اتفاق الدوحة من حركات مسلحة فقط، بل هناك قوى سياسية فاعلة رفضت الاتفاق، وأخرى لم تشارك في مؤتمر الدوحة التمهيدي، وتشارك الحركات المسلحة المعارضة نفس الشروط.
5- يفتقر محمد كاكا إلى الشعبية خارج أوساط الفئات المنتفعة من السلطة، فلا يوجد إرث من الإنجاز يمكن أن يستند إليه، فضلًا عن تنامي العداء الشعبي تجاه فرنسا التي يدين لها هو ونظام حكمه الانتقالي بالفضل في سيطرتهم على العاصمة، وصدّ تقدُّم المعارضة المُسلّحة.
6- يُعزّز تشكيل القوى المعارضة التي لم توقّع على اتفاق الدوحة لتجمُّع باسم “الإطار الدائم للتشاور والتفكير” من خياراتها في مواجهة المجلس العسكري الانتقالي، وربما تلجأ إلى تنويع أساليب الضغط بين الاحتجاجات الشعبية والعمل المسلح.
وتبعًا لذلك، من المرجَّح أن تُعاود الحركات المسلحة القتال ضد السلطة الانتقالية، وبشأن ذلك يقول الصحفي التشادي طاهر زين: “عدم التوقيع يعني العودة إلى الحرب، لكن لا يعني ذلك أنَّ هناك حربًا في الوقت الحالي”. ويرى الصحفي علي موسى علي أنّ هذه الحركات ستنتظر عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في إنجمينا، قبل التحرك ضد السلطة الانتقالية.
وحضرت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا ولجنة حوض بحيرة تشاد والاتحاد الأوروبي وغيرهم من المنظمات الدولية والإقليمية، فضلًا عن دول الجوار، توقيع اتفاقية الدوحة.
وبحسب اتفاق السلام؛ تشمل أجندة الحوار الوطني الشامل في إنجمينا -لم يُحدد موعده بعد- قضايا منها: الإصلاح الجذري للجيش، مراجعة ميثاق الفترة الانتقالية، مسألة ترشح أعضاء الأجهزة الانتقالية للانتخابات، مدة المرحلة الانتقالية، شكل الدولة والدستور، المصالحة الوطنية، وقضايا الاقتصاد والموارد والإدارة الحكومية. وبحسب الاتفاق فإنّ مخرجات المؤتمر ملزمة، وسيتم تشكيل حكومة مصالحة وطنية تتولى تنفيذ هذه المخرجات.