روضة علي عبد الغفار
صحفية مهتمة بالشأن الإفريقي
يقول المثل الإفريقي: “عندما تتقاتل الفِيَلَة، فإن العشب هو الذي يُعاني”، وبين صراعات السياسة والأوضاع الاقتصادية والأمنية الحَرِجة، تقف دولة كينيا، الواقعة في شرق القارة الإفريقية، على أعتاب انتخابات رئاسية مرتقبة وفارقة؛ لكونها تمثل نقطة انعطاف مهمة في التطوُّر الديمقراطيّ في البلاد، بعد استمرار الرئيس أوهورو كينياتا في المنصب لفترتين متتاليتين لمدة 10 سنوات.
وتأتي هذه الانتخابات، التي ستُجرَى في التاسع من أغسطس الحالي، وسط أزمات سياسية واقتصادية وأمنية تمر بها البلاد، مما يضع المرشحين في تحدٍّ حقيقيّ ووعود انتخابية تنافسية، في ظل تطلُّعات الكينيين لمستقبل أفضل وأكثر استقرارًا..
فما أبرز التحديات التي تواجه العملية الانتخابية المقبلة في كينيا؟ وما أهم تطلُّعات وآمال الكينيين؟ وكيف يتنافس المرشحون في ظل وجود ملفات حاسمة تنتظر حلها؟.. هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق.
صراع سياسي أم عُرس ديمقراطي؟
في التاسع من أغسطس الحالي سينتخب الكينيون الرئيس الخامس لهم، وتكون بذلك سابع انتخابات عامة في البلاد منذ استئناف الديمقراطية الانتخابية التعددية قبل 30 عامًا، ويشهد هذا العام أقل عدد من المرشحين للرئاسة؛ حيث أجازت لجنة الانتخابات ترشُّح أربعة متنافسين؛ وهم: نائب الرئيس وليام روتو من ائتلاف “كينيا أولًا”، ورئيس الوزراء السابق رايلا أودينجا من ائتلاف “الحركة الديمقراطية البرتقالية”، وأستاذ القانون جورج واياكويا من حزب “الجذور”، والمحامي ديفيد واهيجا من حزب “أغانو”.
وفي حين أن “روتو” و”أودينجا” هما الأوفر حظًّا في هذه الانتخابات، إلَّا أنَّ جميع المرشحين يلعبون دورًا مهمًّا في تحفيز التجربة الديمقراطية للنُّضج. ويشترط قانون الانتخابات الكيني أن يفوز المرشح الرئاسي بأكثر من 50% من الأصوات لتحقيق فوز كامل.
فالمرشَّح ويليام روتو المنتمي لعرقية “كالينجين”، هو نائب الرئيس الحالي، والمرشَّح الرئاسي لتحالف كينيا أولًا؛ الذي يضم أكثر من 10 أحزاب سياسية، وقد اختار نائبه: رجل الأعمال ريجاثي جاشاجوا؛ لكونه من أكبر عرقية في كينيا “كيكويو”؛ الذين يُعدّ دعمهم أمرًا حيويًّا للفوز.
المرشح الثاني رايلا أودينجا سياسي مخضرم ينتمي إلى عرقية “لوس”، ويخوض الانتخابات للمرة الخامسة، ويسانده في هذه الانتخابات الرئيس أوهورو كينياتا وحزبه “اليوبيل”، واختار نائبة له مارثا كاروا؛ المناصرة لحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، وهي وزيرة العدل السابقة التي حصلت على لقب “السيدة الحديدية”.
ويظهر هنا حقيقة الصراع السياسي، فرغم أن روتو هو نائب الرئيس الحالي كينياتا، إلا أن كينياتا يدعم أودينجا؛ الذي كان المنافس الرئيسي له في انتخابات عام 2017م، مما يشير إلى إعادة صياغة معكوسة للتحالفات السياسية وعدم القدرة على التنبؤ بالنتيجة.
وفي هذا الصدد يقول الأكاديمي والباحث الكيني بجامعة كبارك، د. مايكل ندوني، لـ “قراءات إفريقية”: إنه من الصعب تَوقُّع الفائز؛ نظرًا لوجود عدد كبير جدًّا من المترددين ما يقرب من 3 ملايين ناخب، علاوة على ذلك فإن المرشحَيْن الرئيسيَّيْنِ لهما شعبية كبيرة، ويبقى إقناع الناخبين المترددين عاملًا مهمًّا لحسم النتيجة، وبالتَّالي لا يمكننا تحديد المرشح الفائز في الأيام القليلة المتبقية قبل الانتخابات.
صراع بين الرئيس ونائبه:
ظهرت في الأشهر الماضية خلافات بين الرئيس الكيني “كينياتا” ونائبه “روتو”، وبرزت تساؤلات حول تأثير هذه الخلافات على الانتخابات المقبلة، خاصة أن روتو هو أحد المرشحين للرئاسة.
يرى الباحث المتخصص في شؤون شرق إفريقيا، شمسان التميمي، أنَّ كينيا ستشهد انتخابات شرسة لقيادة الدولة المستقرة نسبيًّا، وأن هذه الانتخابات ستكون الأكثر حدة في تاريخ كينيا الحديث، في ظلّ تصاعد التوترات السياسية بين الرئيس الكيني أوهورو كينياتا ونائبه وليام روتو، منذ حوَّل الرئيس دعمه إلى المرشح رايلا أودينجا.
وقال “التميمي” في حديثه لـ “قراءات إفريقية”: إن الانقسام الكبير بين الرئيس كينياتا والمرشح روتو؛ يعتبر بمثابة إعادة تشكيل للتحالفات السياسية الكينية، وأضاف أن “روتو” الذي عمل في الحكومة على مدى السنوات التسع الماضية، يعمل الآن على مناهضة المؤسسة الرئاسية، بعد أن نأى بنفسه عن كينياتا، ويقدم نفسه على أنه رجل الشعب، ويعارض النُّخبة السياسية.
في حين أيَّد الرئيس “كينياتا” منافسه الرئيسي رايلا أودينجا؛ وهو زعيم معارضة ومنتقد شَرِس للحكومة منذ عقود، وأصبح حاليًا مُرشَّح المؤسسة الرئاسية، وتم دعم هذا التأييد من قبل 26 حزبًا سياسيًّا. وتم اعتماد “روتو” مِن قِبَل الأحزاب السياسية الأخرى تحت راية التحالف الديمقراطي المتحد الجديد.
في ظل هذه المعطيات يعتقد “التميمي” أن انتقال السلطة في أحسن الأحوال سيكون محفوفًا بالمخاطر، بالنظر إلى تاريخ العنف الانتخابي في كينيا.
تحديات في طريق الديمقراطية:
تقف الكثير من العقبات أمام التجربة الديمقراطية المقبلة في كينيا، من جهته يعتقد د. مايكل ندوني أن عدم الاستعداد الملحوظ لمفوضية الانتخابات والحدود المستقلة، المنوطة بإدارة الانتخابات، يُعَدّ من التحديات الرئيسية، كما أن هناك انعدامًا للثقة في الأنظمة الانتخابية، عندما تصبح العملية الانتخابية مُسَيَّسَة.
وأضاف أنه من المحتمل أن تكون الالتماسات الانتخابية لا تُعدّ ولا تُحْصَى، والتي ستكلف البلاد مليارات الدولارات، والأكثر من ذلك هو جولة الإعادة المحتملة، وبالتالي لن يستطيع اقتصاد البلاد الراكد أن يتحمل كل ذلك.
كما تعاني دولة كينيا من صراعات عِرْقية؛ الأمر الذي قد يؤثر على إقامة انتخابات بشكل سلمي؛ بسبب مخاطر العنف السياسي التي صاحبت العديد من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ولا سيما السباق الانتخابي في عام 2007م، والذي أسفر عن سقوط قرابة 1200 قتيل و650 ألف نازح.
وقد اتخذ هذا العنف صبغة عرقية نتيجة للاستقطاب وتأجيج العداوات، وقد أدَّى ذلك إلى تنظيم الأحزاب السياسية على أُسُس عرقية بدلاً من الأيديولوجية، ممَّا ساهم في حالة من الركود السياسي وتقويض احتمالات وجود المزيد من المرشحين الإصلاحيين.
ونجد أن المرشحين الرئيسيين في هذه الانتخابات: روتو وأودينجا، لا يُعتبران من عِرْقية “كيكويو”، وهي أكبر مجموعة عرقية في كينيا، مما يُنْذِر بتحوُّل في التحالفات العرقية، بغضّ النظر عن الفائز.
في هذا الصدد يرى “ندوني” أن الانتخابات مختلفة هذه المرة، فمنذ دخول الدستور الجديد حَيّز التنفيذ في عام 2010م، التزم السياسيون بحلّ أيّ نزاعات في المحكمة بدلاً من المظاهرات، وأضاف قائلًا: لقد سمعنا المرشح ويليام روتو في المناظرة الرئاسية؛ أنه في حالة خسارته في الانتخابات سوف يسعى للحصول على تعويض من المحكمة العليا بسبب طريقة تعاملها مع التماسات الانتخابات الرئاسية.
وأردف “ندوني” أن المرشحين إذا حافظوا على هذا التقليد؛ ستقل الاحتجاجات الجماهيرية التي تؤدي إلى تصعيد التوترات وانتشار العنف، واستبعد الباحث الكيني أن يكون هناك عنف عِرْقي إلى حدّ ما؛ لأن عرقية “كالينجين” وعرقية “كيكويو”، وهما أكبر عِرْقيتين في كينيا، على نفس الجانب السياسي غالبًا.
بينما أوضح شمسان التميمي أنه برغم التغيير الواقع منذ انتخابات 2007م في كينيا، إلا أن مخاطر العنف وانتهاكات حقوق الإنسان لا تزال مرتفعة، وبالرغم من الإصلاحات المؤسسية على مدى العقود الماضية، واعتماد دستور جديد، وانخفاض التوترات الاجتماعية نسبيًّا؛ فإن الكينيين يدركون تمامًا إمكانية اندلاع أعمال عنف قبل الانتخابات وبعدها.
بين المطرقة والسندان:
تواجه كينيا العديد من الأزمات التي أثقلت بدورها كاهل الكينيين، على رأسها الأزمة الاقتصادية، ورغم أن الحكومة الكينية أصدرت مؤخرًا تقريرًا يُظهر أن الاقتصاد سجَّل أعلى معدل نموّ له منذ 11 عامًا، إلا أن العديد من الكينيين يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار السلع الأساسية، مما أدَّى إلى ارتفاع نسبة الفقر، والشعور باليأس والإحباط من القادة السياسيين.
ومن القضايا المصيرية كذلك: معضلة البطالة التي ترتبط بالاقتصاد الكيني الضعيف، والتي وصفها الخبراء بأنها قنبلة موقوتة، وفي هذا الصدد تباينت الوعود المقدَّمة من المرشحين الرئاسيين؛ حيث قال “روتو” في اجتماع حاشد في غرب كينيا: إنه سيتم تخصيص الأموال لبائعي الخضار، وأصحاب العربات، وجميع الأفراد في أسفل السُّلم الاقتصادي؛ لمنحهم فرصة لتأسيس أعمال تجارية والاعتماد على أنفسهم.
بينما وعد “أودينجا” بتقديم راتب شهري قدره 6000 شلن كيني، حوالي 52 دولارًا، للشباب العاطلين عن العمل والأُسَر الفقيرة، كوسيلة لحلّ مشكلة البطالة، قائلًا: أعرف من أين أحصل على المال، وهذا الوعد دَيْن في رقبتي.
كما أصبحت الرعاية الصحية قضية رئيسية في الحملة الانتخابية مرة أخرى، كما كانت في انتخابات عام 2017م، حيث لا يزال الوصول إلى الرعاية الصحية بأسعار معقولة بعيد المنال بالنسبة للعديد من الكينيين.
وفي هذا الصدد وعد “روتو” بخطة تأمين صحي عامة، تضمن لأيّ شخص يدخل المستشفى أن يخرج بفواتيره الطبية؛ التي سيدفعها الصندوق الوطني للتأمين الصحي، بينما تعهد “أودينجا” بتأسيس خطة تسمى “رعاية بابا”؛ التي يقول إنها ستعالج كل الإجهاد الذي يُصاحب مرض أحد أفراد الأسرة.
كما يهيمن الأداء الضعيف لقطاع الزراعة على خطابات الحملة؛ حيث أثَّر الأداء الضعيف للقطاع في السنوات الأخيرة على سُبل عيش ملايين الكينيين، مما أدَّى إلى تفاقم الهجرة من الريف إلى الحضر، وانخفاض إنتاج المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والأرز والذرة.
وقد تعهد كل من “روتو” و”أودينجا” بتخفيض تكلفة إنتاج الغذاء؛ من خلال دعم أسعار المدخلات مثل الأسمدة والبذور والكيماويات، وكذلك ضمان سوق ثابت للمنتجات الزراعية بأسعار مُغرية.
كما تسيطر قضية الفساد على منصات الحملة الانتخابية، الذي فشلت الإدارات السابقة والحالية في معالجته؛ ففي أوائل العام الماضي صدم الرئيس أوهورو كينياتا العديد من الكينيين عندما كشف أن أكثر من ملياري شيلينغ كيني، حوالي 17 مليون دولار، تُسْرَق من الخزائن العامَّة كل يوم.
ووفقًا لمؤشر الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، تحتل كينيا المرتبة 137 من أصل 180 دولة، وفي ذلك تعهد “أودينجا” بسجن الذين ثبتت إدانتهم، وسدّ جميع الثغرات التي يستخدمها الأفراد عديمو الضمير لسرقة الحكومة، بينما تعهد “روتو” باتخاذ نهج جديد قائم على الأدلة.
في هذا الصدد يقول دكتور مايكل ندوني: إن الكينيين يتعرضون لارتفاع تكاليف المعيشة بصورة مستمرة، وآمالهم مُعلَّقة على الحكومة التي سترفع الحمل الثقيل من على رقابهم، وأردف قائلًا: الشعب الكيني لديه آمال كبيرة في أن يتم تغيير الحكومة؛ لأن ذلك سيُحدث تغييرًا في أسلوب الحوكمة إلى الأفضل، كما يتوق معظم الكينيين إلى انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية بدون توترات وعنف.
ومن جهته قال شمسان التميمي: إن المتنافسيْن الرئيسيَّيْنِ قَدَّما وعودًا طموحة بنموّ اقتصاديّ مطرد، وتعليم ورعاية صحية مجانيَّيْنِ، ولكنْ من الصعب تنفيذ تلك الوعود؛ نظرًا للحالة السيئة للاقتصاد والدَّيْن العام المتزايد.
وأوضح الباحث المتخصص في شؤون شرق إفريقيا؛ أنه لتحقيق هذه الوعود يتوجب على الفائز في الانتخابات أن يضع مصلحة الوطن والشعب كأولوية قصوى، وذلك من خلال محاربة الفساد، ودعم القطاعات الرئيسية في البلاد التي ستُحدث نقلة اقتصادية وتنموية في رفاهية الشعب.
وأكد “التميمي” أن خريطة الطريق تبدو متاحة لكينيا لتحقيق نهضة اقتصادية في ظل الديمقراطية والاستقرار النسبي الذي تتمتع به؛ حيث إن كينيا وتنزانيا هما البلدان الوحيدان، من بين دول مجموعة شرق إفريقيا، اللذان يشهدان انتقالًا سلميًّا للسلطة بعد انتهاء الفترة الرئاسية للرئيس، وقال “التميمي”: إن ملامح الفترة القادمة في كينيا تبدو مزدهرة بالرغم من وجود عقبات أمامها.
وختامًا.. فإنها أيام معدودات تفصل الشعب الكيني عن التجربة الديمقراطية الأهم والأكثر تأثيرًا في حياته، وأمام مصير فارق وآمالٍ كبيرة على الحكومة المرتقبة، تبقى الانتخابات الكينية ذات تأثير مهمّ على محيطها الإقليمي، الذي يعاني من عدم الاستقرار والحروب الأهلية، لتعزيز الديمقراطية في المنطقة..
وأمام انتخاباتٍ يترقبها الداخل والخارج، هل تُسطّر كينيا تجربة ديمقراطية تزخر بها إفريقيا؟ أم للسياسة رأي آخر؟!