برز حضور إقليم الساحل الإفريقيّ في أولويات سياسة ألمانيا الخارجية بعد تراجع ملموس لحليفتها فرنسا في الإقليم، وتعمُّق مُؤشِّراته؛ مما فرَض على برلين الانخراط بشكلٍ أكثر مباشرة في شؤون الساحل، ولا سيما في مالي التي تستقطب اهتمامًا أوروبيًّا خاصًّا في ضوء التقارب الملموس بين باماكو وموسكو في الشهور الأخيرة، والتداعيات الخطيرة المتوقّعة عقب انقلاب القائد العسكري إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو على الرئيس العسكري المخلوع بول هنري داميبا.
وتواجه خطة عمل برلين في الساحل -التي لم تتغيّر حتى الآن منذ إعلانها في قمة باو Pau (يناير 2020م)- تحديات كثيرة ناشئة في ظلّ الأوضاع الجيوسياسية العالمية والإقليمية لحظية التغيُّر، عوضًا عن مسألة ترتيب الأولويات ووضع بدائل عملية لتآكل النفوذ الأوروبي عمومًا وضمان مقبولية ألمانيا في الإقليم مع تفادي انتهاج السلوك الفرنسي التقليدي، وهي خيارات صعبة للغاية على الأقل في المدى القريب، لا سيما مع ضغوط التطورات الأخيرة في بوركينا فاسو.
ألمانيا في الساحل بين الاستمرارية والتغيير:
بادرت ألمانيا، التي أقرت واقعيًّا بتقسيم العمل الأوروبي في الساحل، وتفويض فرنسا بإدارة الملف رغم تردّي أداء الأخيرة وعدم شفافيته ماليًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، بإطلاق إطارٍ عامّ لسياساتها في الساحل في قمة “باو” لدول الساحل الخمسة التي استضافتها فرنسا قبل نحو ثلاثة أعوام، ورحَّب خلالها القادة الأفارقة الحضور بإطلاق ألمانيا وفرنسا مبادرة الشراكة من أجل الاستقرار والأمن في الساحل (P3S) التي تضمَّنت تقديم تدريبات عسكرية وعملياتية ودعم لوجيستي وتوفير معدات لجيوش دول الساحل الخمسة (عبر قنوات بعثات تدريب الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي).
كما أكدت برلين، عبر خارجيتها، على تبنّيها (مع فرنسا) مقاربة “الأعمدة الأربعة” في إقليم الساحل؛ وهي: محاربة جماعات الإرهاب المسلح؛ وبناء قدرات القوات المسلحة؛ ودعم عودة الدولة والإدارة (الحكومية)؛ وتحسين الوصول للخدمات الأساسية ودعم التنمية. وأنبأت سياسة حكومة ألمانيا الفيدرالية عن التركيز بالأساس على الثلاثة أعمدة الأخيرة، وثانوية جهودها في الأول، حسب رؤيتها، ومِن ثَم عدم نجاعة جهود “إصلاح الجهاز الأمني” في دول الساحل وفي مقدمتها حالة مالي. كما ترسي ألمانيا تقليديًّا أهدافًا مشتركة لسياساتها في إقليم الساحل، وهي الأمن والاستقرار والتنمية.
وقادت التغيرات الأخيرة إلى إرباك حسابات برلين منذ بدء فرنسا وشركائها الأوروبيين مطلع العام الجاري بسحب قواتهم، وهي جزء من قوة مكافحة الإرهاب، كما علقت مصر منتصف يوليو الفائت مشاركتها في البعثة بعد مقتل سبعة من جنودها منذ مطلع العام الجاري وتأكيدات على عزم القاهرة سحب قواتها (التي يبلغ حجمها 1050 جنديًّا) بشكل دائم.
وتُمثّل القوة الألمانية التي يبلغ عددها 1100 جندي القوة الأوروبية الأكبر في بعثة الأمم المتحدة في مالي، إلى جانب مساهمة ألمانيا بمعدات عسكرية منذ العام 2019م أبرزها تقديم تسعة وعشرين حاملة أفراد مسلحة من طراز كاسبير Casspir، وعدد 4100 من السترات الواقية للرصاص، و4300 حذاء قتالي و2700 خوذة بالستية لمالي. وفي فبراير 2022م نشرت ألمانيا خمس طائرات هليكوبتر رفع ثقيلة من طراز CH-53G Super Stallion ألمانية الصنع، و120 جنديًّا إضافيًّا إلى غاو Gao بمالي؛ لدعم عمليات “مينوسما”.
كما تزايد الحضور الألماني في بقية دول الساحل، ومنها النيجر على خلفية مخاوف برلين الأمنية، ولا سيما بعد اكتمال خروج القوات الفرنسية من مالي أغسطس 2022م، وضرورة إدارة القوات الألمانية للقاعدة الجوية في نيامي (عاصمة النيجر) التي تمثل قاعدة عمليات “مينوسما” في مالي، وتقوم بدور كبير في تنسيق التعاون في أنشطة مكافحة الإرهاب (إلى جانب نيجيريا والنرويج والأمم المتحدة) بين أقاليم النيجر ونيجيريا والكاميرون وتشاد حول بحيرة تشاد، والمساعدة في انتقال الإقليم من حالة الاحتياج للمساعدات الإنسانية الطارئة إلى إقرار الأمن والتنمية به.
كما قرَّر البوندستاج الألماني في مايو الماضي شمول بوركينا فاسو وموريتانيا في عمليات التدريب العسكري التي تقوم بها القوات الألمانية في الإقليم، كما انضمَّت بوركينا فاسو منذ العام 2019م لمبادرة التمكين والتعزيزEnable and Enhance Initiative التي تتبنَّاها الحكومة الفيدرالية، وتقدّم الدعم للقوات المسلحة (للدول الشريكة) في مجالات التدريب والمعدات وإصلاح القطاع الأمني.
إضافة إلى تركيز ألمانيا التقليدي في بوركينا فاسو على قطاعي الزراعة والأمن الغذائي ودعم سياسة “التحول إلى اللامركزية” (انطلاقًا من رئاسة ألمانيا لمجموعة المانحين الدوليين لبوركينا فاسو، والضامن الأكبر للالتزامات السياسية والمالية الدولية نحوها).
التوتر مع مالي: التصعيد المتبادل
دخل التوتر بين مالي وألمانيا في طَوْر مباشر عندما علّق المجلس العسكري الحاكم في مالي مؤقتًا عملية تدوير قوات “مينوسما” (وأكبرها القوة الألمانية) في يوليو بعد أيام من إلقاء القبض على 49 جنديًّا من ساحل العاج، حليفة فرنسا التقليدية في غرب إفريقيا، قالت السلطات: إنهم دخلوا مالي دون تصريح من سلطاتها، وبسبب موقف باماكو من مطالب الأمم المتحدة “السماح بحرية الحركة لقوات حفظ السلام (حوالي 12 ألف جندي في مالي) للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان” التي اتُّهِمَت بارتكابها قوات حكومية مالية بالتعاون مع عناصر من المرتزقة الروس (الذين تقدرهم التقارير الغربية بنحو 1000 عنصر)، وهو الأمر الذي رفضته الحكومة رفضًا قاطعًا.
وفي المقابل أوقفت ألمانيا منتصف أغسطس 2022م جميع عمليات المراقبة والنقل التي تقوم بها في مالي بعد مَنْع السلطات المالية لعملية انتشار أفراد “مخططة سلفًا” من بينهم 140 جنديًّا ألمانيًّا في مهمة محددة، وهي أن يحلوا محل القوات الفرنسية المنسحبة من مالي.
وجاءت خطوة ألمانيا، التي أكدت وقتها سريانها “حتى إشعار آخر”، وسط مواصلة تهديد الإرهابيين والمرتزقة الروس لاستقرار مالي واتهام وزيرة الدفاع الألمانية كريستينه لامبريشت نظيرها المالي العقيد ساديو كامارا بالتدخل في عمل بعثة الأمم المتحدة، بعد أن لفت مسؤولون ألمان صراحة إلى أن اعتماد الحكومة الانتقالية المالية على المرتزقة الروس لدعمها في الشؤون الأمنية “ليس في صالحنا ويجب تفاديه”، مما أكسب التصعيد أبعادًا دبلوماسية خطيرة ومتعددة الأطراف.
وعلى طرفي النقيض، استبق خبراء ألمان خطوة برلين الأخيرة بالتأكيد قبل أسابيع على أن قيود الحكومة المالية المتعاقبة على بعثة الأمم المتحدة منذ نهاية العام 2021م جعلت من عمل البعثة “شبه مستحيل” مستقبلًا، بينما يبدو أن باماكو تنظر بقلق بالغ، ومبرر في واقع الأمر، لأداء القوات الألمانية في البلاد، وتتحوط لأن تقوم تلك القوات باستئناف أدوار القوات الفرنسية في البلاد، ومنها “دعم جماعات إرهابية” نَشِطَة في مالي طيلة العقد الفائت حسب اتهامات متكررة طالت باريس من نظام باماكو الحالي.
وبطبيعة الحال لا يمكن فصل قرارات ألمانيا الأخيرة عن اتهامات باماكو لفرنسا التي تكررت بشكل حادّ في منتصف أغسطس الفائت (وبعد اكتمال عملية انسحاب القوات الفرنسية التي استغرقت ستة أشهر كاملة) بتسليحها الجماعات المسلحة، ووصول العلاقات بين باماكو وباريس إلى مستوى جديد من التراجع بعد وصف وزير خارجية مالي -في خطاب وُجِّه مباشرة لمجلس الأمن الدولي- تحركات فرنسا في مالي “بالأعمال العدائية”، مؤكدًا انتهاك فرنسا لمجال مالي الجوي “أكثر من 50 مرة في العام الجاري؛ لجمع المعلومات لصالح الجماعات الإرهابية في الساحل، وإلقاء الأسلحة والذخيرة لمساعدتهم”؛ حسب نص الخطاب.
مع ملاحظة تجاهل باريس الرد بوضوح على ما تراه باماكو توفّر أدلة على تورط باريس في “دعم إرهابيين”؛ إذ اكتفت الأولى برد “دبلوماسي” غرَّدت به السفارة الفرنسية في باماكو بالتأكيد على أن “فرنسا لم تدعم بكل وضوح، مباشرة أو غير مباشرة، هذه الجماعات الإرهابية التي تظل أعداءها في كل مكان على الأرض، (ولا سيما) أن فرنسا فقدت 53 جنديًّا فرنسيًّا في مالي خلال الأعوام التسعة الأخيرة”.
وقادت هذه التطورات برلين إلى تغيير “إجباري” في سياساتها، وربما فك ارتباط تكتيكي مع فرنسا في مالي على وجه الخصوص، ومحاولة تدارك خطايا سياسات باريس في بقية دول الساحل.
الحلول الوسط وتعزيز الارتباطات الإقليمية:
مثل استمرار وجود “المرتزقة الروس” في مالي ضغطًا مباشرًا على ألمانيا لتفادي الإقدام على خطوة “الوقف الكامل لعمليات حفظ السلام” في الأولى؛ كما دفَع ما يلاحظه خبراء معنيُّون من فقدان فرنسا والاتحاد الأوروبي (الذي علَّق “مُؤقتًا” عمليات تدريبه في مالي في أبريل الماضي على خلفية اتهامات لقوات عاصمي غويتا ومرتزقة روس بقتل مئات المدنيين الماليين، وتصاعد مخاوف الاتحاد الأمنية بخصوص سلامة قواته)، ودُوَله الأعضاء تأثيرهم في مالي برلين إلى مراقبة الأوضاع هناك دون مزيد من التدخل “السياسي”، والتركيز على معالجة المشكلات الأمنية التي تهدّد بدورها بانفلات الأوضاع في بقية دول الإقليم.
وبالفعل عادت فرص “الحلول الوسط” بين باماكو وبرلين مطلع سبتمبر الجاري، بعد نحو أسبوعين من قرار التجميد، بإعلان القيادة الألمانية استئناف العمليات في مالي، ومنها إلى بعض دول الجوار، لكن عادت القيادة (19 سبتمبر) لتكرر إعلانها تعليق دوريات المراقبة التي تقوم بها في شرقي مالي بعد رفض منحها “حقوق التحليق” فوق الأراضي المالية (تحديدًا بين مدينة غاو المالية التي تضم القاعدة الألمانية الرئيسة في مالي ونيامي عاصمة النيجر المجاورة لمالي) حسب بيان للجيش الألماني تدارك في نهايته بالتأكيد أن الجيش يفترض “أن الترخيص الضروري سيصدر قريبًا”.
وبالتوازي مع هذه التطورات نشطت ألمانيا في مقاربة مهمة مفادها التواصل مع الأطراف الإقليمية المعنية بالساحل والمجاورة له؛ واتضح ذلك بشكل خاصّ في حضور ملف الوضع الأمني في الساحل في محادثات ألمانية مغربية بين وزيري خارجية البلدين (نهاية أغسطس) في الرباط (هي الأهم من نوعها منذ عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ربيع 2022م)، أعلنت الخارجية الألمانية رَغْبتها في الاستفادة من خبرات المغرب التي تترأس وتشارك في رئاسة جهات دولية معنية بمواجهة الجماعات الإرهابية مثل المنتدى العالمي لمواجهة الإرهاب وقوة مهام إفريقيا للتحالف العالمي ضد داعش.
كما كان لافتًا اجتماع المستشار الألماني أولاف شولتز خلال حضوره اجتماعات الدورة العادية في نيويورك (21 سبتمبر الفائت) مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، ورئيس الاتحاد الإفريقي الحالي السنغالي ماكي سال، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي التشادي موسى فقي، ورغم تناول الاجتماع قضايا إفريقية عامة؛ فإن التقارب مع ليبيا يبرز بوضوح تامّ تبنّي برلين سياسات نشطة وشمولية لقضايا الساحل مقارنة بالفترة الماضية، وأنها تعوّل على دور ليبيا “مستقرة” في إعادة قَدْر من الاستقرار للإقليم على الأقل في ملفي الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وتوفير مصادر مأمونة للطاقة لدول الاتحاد الأوروبي.
رؤية ألمانيا في الساحل على المحك:
يتَّسق الاضطراب الحالي في سياسات ألمانيا في الساحل، بالتزامن مع تراجع فرنسي ملحوظ، ومساعي ارتباط ألماني مباشر في شؤون الساحل ودول جواره؛ لتنسيق هذا الارتباط على المدى البعيد، مع مخاوف تكرار النموذج الفرنسي.
وفي مؤشر على ذلك رأى المستشار الألماني شولتز، في ردّه منتصف سبتمبر الفائت على سؤال حول توقعاته لمستقبل الوجود العسكري الألماني في مالي، أن حكومته تعمل على هذه المسألة “آخذة في الاعتبار جميع العوامل”، وأولها ضمان أمن الجنود الألمان المشاركين في العمليات الأممية في مالي”، إضافة إلى نَيْل حقوق التحليق ومسألة استخدام الدرونز، ومسألة هل ثمة أمان كافٍ لتعويض ما كان يقوم به الفرنسيون حتى الآن؟
وواضح من هذه الرؤية اضطراب ما عُرِفَ بالأعمدة الأربعة للسياسات الألمانية (والفرنسية) في الساحل والتركيز على الجانب الأمني ومسألة “الأمن الغذائي” (بمعنى المعونات التقليدية) بشكل شبه حصري، وتجاهل خطورة القضايا السياسية والتنموية المزمنة في بقية دول الساحل واحتمالات وقوع اضطرابات سياسية مفتوحة على كلّ الاحتمالات؛ ترقبًا لأداء نظام إبراهيم تراوري الذي يُتوقع أن يتزايد تصادمه مع النفوذ الفرنسي، وبالتالي تحميل برلين أعباء عسكرية وسياسية إضافية في الإقليم.
لكن في المحصلة يبدو أن برلين تتجاهل تمامًا المشكلات المعقَّدة في إقليم الساحل، وتواصل -بتعديلات سطحية طفيفة- سياسات فرنسا التي قادت –إلى جانب عوامل محلية في دول الساحل- إلى تعمُّق أزمتي الإرهاب وعدم الاستقرار السياسي، وينبئ هذا التجاهل عن عجز ألماني مُرتَقب عن تفادي تآكل النفوذ الأوروبي بشكل عام في الإقليم والسيطرة على المشكلات الخطيرة التي تتضح أسبابها يومًا بعد آخر فيما يركز شركاء الساحل الغربيون على المخاوف من “المرتزقة الروس”؛ وتكتفي برلين، في الحرب الضارية ضد الإرهاب، على تبنّي سياسة ناعمة، على ما يبدو، مع تجاهل عمدي للأسباب الجذرية التي تقود للإرهاب وتصنعه في إقليم الساحل على نحوٍ يجوز معه الجزم بأن ألمانيا تكرر السيناريو الفرنسي في الساحل “بحذافيره”؛ ريثما تتم السيطرة مرة أخرى على تفاعلات هذا الإقليم بالغ الهشاشة السياسية والضعف الاقتصادي في مواجهة موجة عالمية عاتية تأتي إفريقيا ككل والساحل بشكل خاص في مقدمة ضحاياها.