طالما كانت القارة الإفريقية طاردة لأبنائها؛ سواء بسبب الحروب والنزاعات أو بسبب الفقر وفشل الأنظمة في توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة. كما لعب الاحتلال الأجنبي دورًا كبيرًا في تحويل أفريقيا إلى معين لا ينضب من العمالة الرخيصة والتي باتت تقبل بالعمل تحت أي ظروف غير إنسانية؛ مقارنة بأوضاعها في بلدانها الأم.
ويعد الأفارقة من أكثر شعوب الأرض تغربًا على مدار التاريخ الحديث، فإلى جانب اليد العاملة فإن هجرة العقول باتت ظاهرة أيضًا في القارة السمراء، سواء تلك الهجرة من شمالها أو من منطقة جنوب الصحراء، ليترك الأفارقة بلدانهم وعائلاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم المحلية، والبدء في رحلة صعبة من شظف العيش ومحاولات التأقلم المضنية لهم ولأجيالهم القادمة.
كما تتصاعد مسارات الهجرة الداخلية في إفريقيا كذلك بسبب سوء إدارة الحكومات للصراعات الداخلية، أو بسبب تصاعد التهديدات الأمنية، وغياب الدولة عن تنظيم التنافس على الموارد والمصادر والوظائف والتوزيع السلطوي للقيم، مما أدى إلى انتشار المليشيات والفواعل من غير الدول العابرة للحدود، والتشكيلات المسلحة التي تعمل تارة بالتعاون مع الجيوش لأهداف عرقية أو قبلية، أو تارة أخرى بالتضاد معها في تحدٍ لها بسبب المظالم والقمع.
واتجاهات الهجرة الإفريقية باتت في تصاعد مضطرد منذ عقود، حيث إن المهاجرين الأفارقة يأتون مما يقرب من خمس عشرة دولة على الأقل من إفريقيا، ومعظمها يعيش في حالة من النزاع الداخلي، فهناك أكثر من 11 مليون مهاجر إفريقي في أوروبا، معظمهم يضحي بممتلكاته ومدخراته من أجل شراء مكان على قارب يمخر عباب البحر إلى المجهول أملاً في مستقبل أفضل له ولعائلته، في حين أن الفقراء ممن لا يمتلكون ثمن شراء مقعد على مركب مهاجر فيلجأون إلى الهجرة الداخلية سيرًا على الأقدام، وفي كثير من الأحيان تاركين وراءهم كل ما يملكون فرارًا بحياتهم من مناطق النزاعات والحروب والصراعات على مناطق الرعي والزراعة والسقاية.
وهناك نوعان من دراسات التغريبة أو الشتات بالنسبة للقارة الإفريقية، النوع الأول يدرس أنماطها حول العالم وما يتعلق بتحولات الهوية التي تطرأ على المهاجرين الأفارقة في الشتات، وتتعلق كذلك بتاريخ ذلك الشتات مقارنة بالشتات الحديث في القرن العشرين، اما النوع الثاني فيتعلق بتحليل الروابط المختلفة التي حافظ عليها الأفارقة في الشتات بأوطانهم الأم، بالتركيز على الأبعاد الديموجرافية والثقافية والاقتصادية والسياسية والأيدلوجية والمعرفية.
فهناك أنواع من المهاجرين قطعوا صلتهم بأوطانهم الأم، في معظم الأحوال بسبب فشل تلك الأوطان في استيعابهم ودمجهم في بلدانهم واحتضان ثقافتهم وأديانهم المختلفة، ومن ثم يصبح المواطن معزولاً في وطنه ويشعر بغربة داخلية، وفي تلك الحالة غالبًا ما لا يشعر المهاجر بالحنين إلى وطنه الأم، بل يصبح معاديًا لكل ما تمثله من ثقافة ودين وسياسة، اما النمط الثاني فهو المغترب قسرًا بسبب شظف العيش في بلده الأصلي، بالرغم من استيعابه ثقافيا وهوياتيًا؛ وفي تلك الحالة يظل المغترب مربوطًا بوطنه الأم: يستهلك ثقافتها وفنونها ويتابع أخبارها ويشعر بالحنين إليها ويتمنى العودة في أقرب وقت ممكن.
وفي معظم الأحيان يظل المغترب مهاجرًا ليس إلى بلد بعينه، ولكنه يعمل على الترحال أينما وجد رزقه وعمله، وتظل حالة الاغتراب والحل والترحال مزمنة، دائمة الاستصحاب له ولأبنائه من بعده. وتشير الأرقام إلى أن معظم حالات الشتات الإفريقي المستوطنة للدول المضيفة كانت في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر عندما ازدهرت تجارة العبيد واختطاف الأفارقة من دول غرب إفريقيا والسفر بهم عبر الأطلسي إلى أمريكا والبرازيل وهايتي، وبعد الثورة الأمريكية أصبحوا مواطنين أمريكيين وانقطعت صلتهم بصورة شبه نهائية بأوطانهم الأم.
واليوم يعرّف الاتحاد الأفريقي الشتات الإفريقي بأنه يتكون من “أناس من أصول إفريقية يعيشون خارج القارة بصرف النظر عن جنسيتهم أو قوميتهم وإذا كانوا يريدون العودة إلى إفريقيا أم لا”. والآن هناك جهود للاتحاد الإفريقي لإعادة دمج أفارقة الشتات ببلدانهم من أجل مساهمتهم في تنمية القارة وبنائها، حيث تفيد الكثير من قراراتها المتعاقبة بشأن الشتات الإفريقي بأنها “تدعو وتشجع كل المنضمين للشتات الإفريقي على المشاركة بكل قوتهم في بناء القارة والاتحاد الإفريقي”.
والقارة الإفريقية بأوضاعها الراهنة تعد طاردة للكفاءات، ولا يختلف ذلك شمالها عن جنوبها؛ فقضايا النزاعات المسلحة والصراعات العرقية والمذهبية والدينية، والمنافسة على المصادر والوظائف والتوزيع العادل للثروة وغياب الحكم الرشيد كلها أمراض قد ابتليت بها معظم دول إفريقيا، وكلها تركت وراءها مسارات طويلة من الدماء، كما يوضحه الجدول التالي:
كما تشير الأرقام والإحصاءات إلى زيادة الهجرة، سواء الخارجية أو الداخلية، بصورة مضطردة، منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث أفادت الإحصاءات لعام 2020 أن أعداد الهجرة الإجمالية، الداخلية والخارجية، قد بلغت 40 مليون نسمة، بما يشير إلى حجم الأزمة التي تواجه إفريقيا، وهو ما يتطلب حلولاً عاجلة على مستوى الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الأخرى نزولا حتى حكومات الدول، بما يحتم محاولة الإسراع في عكس ذلك الاتجاه، لما يحمله من مشكلات اجتماعية جمة تواجه القارة السمراء.
وبالرغم من أن هناك بعض الفوائد من وجود العاملين بالخارج من حيث تحويلهم للعملات الأجنبية وضخها داخل اقتصاد دولهم، إلا أن الهجرات الداخلية تستنزف موارد تلك الدول، كما أن الكثير من المهاجرين النهائيين يعملون على قطع صلاتهم بأوطانهم الأم، والاستثمار في بلدانهم الجديدة والعمل على استقرارهم بها. وهناك العديد من التداعيات السلبية على القارة الإفريقية، لاسيما فيما يتعلق بالأكثر ضعفًا وهشاشة من السكان، من الفقراء والمعدمين والطاعنين في السن، الذين غالبوا ما لا يجدون أولادهم وأحفادهم إلى جوارهم في أوقات الأزمات والمرض، بما يؤدي إلى تداعيات اجتماعية غير محمودة.
ولكن، وبالرغم من ذلك التاريخ الطارد لأبناء إفريقيا، وبالرغم من مسارات الدم الطويلة التي خلّفها المهاجرون وراءهم، إلا أن المستقبل ربما يحمل وعودًا أفضل لاسيما لجيل الشباب؛ حيث إن القارة السمراء هي قارة فتية، وبها أعلى نسب للشباب مقارنة بعدد السكان في العالم، كما أن وجود الثروات المعدنية بها لفت أنظار القوى العالمية للاستثمار في تلك القوة البشرية الهائلة، ومن ثم باتت مختلف التجمعات التجارية والدول الرائدة في مجال الاقتصاد مهتمة بتدشين برامج للاستثمار في التعليم والتدريب من أجل تأهيل السكان الأفارقة لوظائف المستقبل في بلدانهم بدون الحاجة إلى الهجرة إلى الخارج.
فبدلاً من سياسات الاستعباد القديمة، فإن اتجاهات الاستثمار الأجنبي في إفريقيا اليوم باتت في تصاعد، فبعد عقود من الهجرة غير الشرعية التي خطت على مياه البحار مسارات الدم لشباب إفريقيا، فإن مختلف الشركات الكبرى، لاسيما في المجالات التقنية والرقمية، باتت تدخل في منافسة على بدء الأعمال والمشروعات الضخمة في القارة السمراء، فهناك أكثر من دولة كبرى من مجموعة الدول السبع باتت مهتمة بإفريقيا، كما أن دول الخليج العربي كذلك التفتت بقوة إلى الاستثمار في إفريقيا، لاسيما في الدول المجاورة لها في منطقة القرن الإفريقي، والعمل على ربط تلك الاقتصادات بها وعقد شراكات تتعلق بتوريد العمالة وكذلك مجالات التدريب والزراعة والاستفادة من الموارد المائية.
لكن وعود المستقبل البراقة لن تتحقق من تلقاء ذاتها، أو بمحفزات خارجية وحدها، فلا تزال هناك الكثير من التحديات التي تواجهها إفريقيا ويجب أن تتغلب عليها في المستقبل القريب؛ فبالرغم من وجود بحيرات عظمى في القارة السمراء وعدة أنهار تجري في مختلف البلدان، وكميات أمطار لا بأس بها؛ إلا أن الترشيد في استخدام المياه وإجراء الاتفاقات التي تضمن الاقتسام العادل لحصص المياه، والعمل على سن القوانين المنظمة لذلك يعد من أهم التحديات لإفريقيا في المستقبل، مع موجات التصحر والجفاف، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات التي تأتي بدون استعداد من البنى التحتية، وكذلك موجات الجفاف الممتدة، والتي تخلف وراءها أوبئة وأمراض فتاكة في ظل هشاشة البنية الصحية، كما من الممكن أن تؤثر تلك العوامل المناخية على الكثير من الوظائف المعتمدة على الزراعة وصيد الأسماك، حيث يتوقع البنك الدولي أن يكون هناك 86 مليون مهاجر إفريقي بسبب تغير المناخ في السنوات القادمة، كما تهدد النزاعات المسلحة الاستقرار والأمن، وهما من الشروط المسبقة لأي استثمار مستقبلي.
إن تسابق الدول الكبرى على الاستثمار في إفريقيا ليس البطاقة الذهبية للخروج من الفقر أو الرصاصة الفضية التي تقضي على كل المشكلات، فالمسئولية تقع على عاتق الشعوب قبل الحكومات في الضغط على صناع القرار من أجل تهيئة الظروف المناسبة لخلق المناخ الاستثماري المناسب، وعلى رأس ذلك يأتي الفساد الذي يلتهم الموارد والمكاسب ويشجع على نهب ثروات إفريقيا بأبخس الأثمان، كما أن الحوكمة والتحول الرقمي وتسهيل فتح الأعمال كلها عوامل أساسية لاستقبل المزيد من الاستثمارات في مختلف القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية في إفريقيا التي تقبع الآن على مفترق طرق؛ إما أن تستغل مواردها ومقدراتها أحسن استغلال، أو أن تستسلم للكوارث المناخية القادمة والخضوع لمافيا الفساد ويقتل الناس بعضهم بعضًا على موارد المياه ومراعي الأغنام.