بسمة سعد
باحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- مؤسسة الأهرام
في خطوة هي الأولى من نوعها، وتحمل العديد من الدلالات؛ استضافت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا “مؤتمر السلام والحوكمة والتنمية بين الصين والقرن الإفريقي” خلال الفترة (20-22) يونيو 2022م بمشاركة كلٍّ من السودان والصومال وجنوب السودان وكينيا وأوغندا وجيبوتي، ليُعدّ هو الحدث الأول لبكين في منطقة القرن الإفريقي، بل وفي إفريقيا بشكل عام، الذي أعلنت من خلاله بكين تفعيل إحدى أدواتها الدبلوماسية، وهي الوساطة السياسية لِلعب دور في حلّ الأزمات والنزاعات السياسية التي تشهدها دول المنطقة، وبين بعضها البعض، وإعادة الأمن والاستقرار في المنطقة، مثلما هو الحال في النزاع السوداني الإثيوبي حول الفشقة، وداخل إثيوبيا بين حكومة آبي أحمد وإقليم تيجراي.
انطلاقًا مما سبق، تهدف المقالة لمناقشة دلالات عقد بكين مؤتمرها الأول للسلام في منطقة القرن الإفريقي، وما تحمله تلك الخطوة من دلالات، وما التحديات التي تواجهها بكين قد تحول بينها وبين فاعلية تجربتها الدبلوماسية الأولى من نوعها في منطقة القرن الإفريقي، بل وفي إفريقيا عمومًا.
أولًا: دوافع ودلالات إقامة بكين مؤتمر السلام الأول في منطقة القرن الإفريقي
في إطار النظر إلى دوافع بكين لعقد مؤتمر السلام الأول، وما تحمله تلك الخطوة من دلالات؛ يتضح أن هناك دافعين رئيسيين، يُعدان محددين رئيسيين للسياسة الصينية في المنطقة، هما كالتالي:
1- منافسة واشنطن في الساحة الدولية كقوة عظمى
لطالما نأت الصين بنفسها عن التورط أو الدخول أو على الأقل إبداء رأيها في نزاع سياسي قد يدفعها إلى دعم طرف على حساب الطرف الآخر، تجنبًا لانعكاسات مواقفها سلبًا على شراكاتها الاقتصادية، وما لذلك من تأثير على مكانتها في الساحة الدولية؛ حيث يمكن القول بأن بكين تمكّنت من طرح نفسها على الساحة الدولية كقوة اقتصادية صاعدة قد تتفوق على واشنطن، بل اتسمت بفاعلية دبلوماسيتها الاقتصادية والتنموية في تعزيز علاقاتها الخارجية، لا سيما تجاه إفريقيا بشكل عام ومنطقة القرن الإفريقي بشكل خاص، إلا أنه من الشاهد أن بكين تسعى لترجمة منظورها الذاتي كقوة عظمى، عبر منافسة الولايات المتحدة كوسيط دولي في حلّ النزاعات والصراعات السياسية، فكانت منطقة القرن الإفريقي ساحة بكين التجريبية الأولى لتفعيل هذا الدور الذي يُنظَر إليه في حقيقة الأمر على أنه أداة مطلوبة من مستثمر رئيسي في المنطقة للحفاظ على مصالحه الاقتصادية والحيوية([1]).
ويُعد البُعد المفقود في السياسة الصينية تجاه المنطقة لمواجهة التحديات الثلاثة في المنطقة (الأمن والتنمية والحكم) بعدما افتتحت بكين قاعدتها العسكرية في جيبوتي، وهو ما عبّر عنه المبعوث الصيني الخاص لمنطقة القرن الإفريقي “شيويه بينغ” بقوله: “هذه هي المرة الأولى التي تلعب فيها الصين دورًا في مجال الأمن”، مؤكدًا أن بكين تريد دورًا أكثر أهمية “ليس فقط في التجارة والاستثمارات، ولكن أيضًا في مجال السلام والتنمية”([2]).
لا يمكن الفصل بين مخرجات مؤتمر السلام، وما حمله من رسائل سياسية ودلالات كاشفة لأبعاد الاستراتيجية الصينية تجاه منطقة القرن الإفريقي، وبين الطرح الصيني لمبادئ وأُسس وآليات استعادة الأمن والسلام العالميين المنعكسين في مبادرة الأمن العالمي التي أطلقها الرئيس الصيني “شى جينبينغ” خلال افتتاح المؤتمر السنوي لمنتدى بواو الآسيوي في أبريل 2022م([3])، التي تُقدم من خلالها بكين الحلول الصينية لمواجهة تهديدات الأمن والسلم العالميين عبر الالتزامات الدولية الستة، أولها؛ الالتزام برؤية الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، للحفاظ على السلام والأمن العالميين، ثانيها؛ احترام سيادة ووحدة أراضي جميع البلدان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ثالثها؛ التمسك بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ورفض عقلية الحرب الباردة، ونعارض الأحادية، ونقول لا لسياسات التحالفات والمواجهة بين التكتلات([4]).
أما بالنسبة لرابع الالتزامات؛ فقد أخذت الشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد، مع التمسك بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، وبناء هيكل أمني متوازن وفعّال ومستدام.
خامسها؛ الالتزام بالحل السلمي للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور، ورفض المعايير المزدوجة، والاستخدام التعسفي للعقوبات الأحادية والولاية القضائية طويلة الذراع، بينما يأتي الالتزام السادس بالحفاظ على الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية، والعمل معًا على حل النزاعات الإقليمية والتحديات العالمية مثل الإرهاب وتغير المناخ وهجمات الأمن السيبراني والأمن البيولوجي([5])، مما يعكس ضمنيًّا محاولة بكين طرح رؤيتها لاستعادة أمن واستقرار النظام العالمي، أي مبادرة للسلام بصيغة ومنظور صيني منافس للمنظور الأمريكي، تحاول بكين من خلاله إثبات عجز، بل وفشل الإدارة الأمريكية في إدارة النظام الدولي والحفاظ على أمنه واستقراره في خضمّ ما تشهده الساحة الدولية وأقاليم العالم من تجاذبات حادة ونزاعات أفقدت العالم أمنه واستقراره كان نتاجها الحرب الروسية الأوكرانية، عبر اعتماد واشنطن آليات معينة كالعقوبات الأحادية وسياسة التحالفات وغلبة آلية المواجهة على الحوار والتشاور، إلى جانب محاولة بكين جذب دعم دول العالم عبر عدة ملفات حيوية محل اهتمام دولي كمكافحة الإرهاب وتغيُّر المناخ والأمن السيبراني.
بناء عليه، يبدو أن بكين تسعى لتقديم دول القرن الإفريقي كأول داعم لمبادرتها الدولية، وساحة اختبار رئيسية للوساطة الصينية في حل النزاعات التي تتسم بميزة تنافسية مقارنة بالوساطة الأمريكية، والممثلة في عدم إملاء الصين أيّ شروط سياسية ترتبط بدورها التنموي في المنطقة.
2- حماية المصالح الاقتصادية الصينية في المنطقة
يُعد الحفاظ على أمن واستقرار منطقة القرن الإفريقي في ضوء ما تتمتع به من أهمية جيوستراتيجية بالغة، أحد المحددات الرئيسية للسير قدمًا نحو تعزيز الشراكات التنموية الصينية الإفريقية، والحفاظ على المشاريع التنموية والاقتصادية القائمة بالفعل، لا سيما ذات الصلة بمبادرة الحزام والطريق الصينية. فخلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2021م، بلغت القيمة التعاقدية لمشاريع البنية التحتية الصينية على طول الساحل الشرقي للقارة نحو 67.9 مليار دولار، في ظل تسجيل الاستثمارات الصينية في إفريقيا بشكل عام نموًّا خلال نفس الفترة، على الرغم من الانكماش في الاقتصاد والتجارة العالميين الناجم عن انتشار جائحة Covid-19؛ حيث بلغ الاستثمار الصيني المباشر في إفريقيا 2.07 مليار دولار، تم بموجبه إنشاء 25 منطقة تعاون اقتصادي وتجاري صيني في 16 دولة إفريقية، جذبت 623 شركة باستثمارات إجمالية قدرها 7.35 مليار دولار، خلقت أكثر من 46000 فرصة عمل للدول الإفريقية، ومن المتوقع أن تصل قيمة الأرباح المالية التي يمكن أن تجنيها الصين من إفريقيا بحلول عام 2025م إلى 440 مليار دولار، وفقًا لتوقعات وكالة ماكينزي الأمريكية([6])، مما جعل بكين الشريك الاقتصادي الأكبر للقارة الإفريقية.
شكل: حجم الاستثمارات الأجنبية في إفريقيا والأقاليم الإفريقية 2020 و2021م
ولقد أوضح تقرير الاستثمارات الدولي لعام 2022م، أن الاستثمار الأجنبي المباشر إلى منطقة شرق إفريقيا زاد بنسبة 35%، ووصل إلى 8.2 مليار دولار، تضاعفت خلالها الاستثمارات الصينية بمعدل ثلاث مرات في العام 2020م لا سيما في إثيوبيا وهي محور مركزي لمبادرة الحزام والطريق الصينية([7])؛ فلدى بكين نحو 400 مشروع بناء وتصنيع في إثيوبيا فقط تبلغ قيمتها أكثر من 4 مليارات دولار([8]).
وبالتالي فإن أي صراع أو نزاع خارجي أو داخلي كالدائر بين الحكومة المركزية وقوات تيجراي يترتب عليها حالة من عدم الأمن وعدم الاستقرار يُعدّ مهددًا رئيسيًّا لتلك الاستثمارات والمصالح الصينية في إثيوبيا، وكذلك للعمالة الصينية المتمركزة في البلاد، ويضرّ كذلك بالخطط الاستثمارية والتنموية الرامية نحو رفع معدلات التنمية والأمن في ظل أزمة الغذاء العالمية ومخاطر تغير المناخ، خاصةً أن بكين أعلنت استعدادها لدعم مختلف المشاريع في مجالات الأمن الغذائي، والصحة، والنقل، وتعزيز التجارة، أو بناء القدرات.
ثانيًا: تحديات تفعيل دور الوساطة الصينية لحل النزاعات في منطقة القرن الإفريقي
هناك تحديان رئيسيان تواجههما الصين لضمان فعالية دورها كوسيط لحل نزاعات منطقة القرن الإفريقي، يمكن توضيحهما على النحو التالي:
1- افتقار بكين لخبرة كافية للوساطة في حل النزاعات:
باعتبار الوساطة الصينية أحد مستجدات الدور الخارجي الصين، فليس لدى بكين خبرة كافية في مجال الوساطة لحل النزاعات، مما أضفى قدرًا كبيرًا من الارتباك حول الآليات أو طبيعة الخطوات الصينية التي ستتخذها بكين للعب دور فعال في حل النزاعات في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما يزيد من صعوبات ومعوقات فعالية هذا الدور، في ظل تداخل واتسام الأزمات السياسية التي تواجهها دول المنطقة بالتعقيد الشديد؛ سواء داخل الدول كالنزاع بين الحكومة الإثيوبية وممثلي إقليم تيجراي، أو بين الدول وبعضها البعض كالنزاع الإثيوبي السوداني حول أراضي الفشقة، وهو ما انعكس في مخرجات مؤتمر السلام والتنمية؛ حيث لم يتطرق الموضوع إلى مقترحات محددة لحل العديد من الأزمات والنزاعات في المنطقة، لا سيما أن غالبيتها يأتي نتاج لأسباب اجتماعية وثقافية متجذرة تفتقر بكين أيّ خبرة في التعامل معها، كما لم يناقش المؤتمر أي صراع محدد، وتم الاكتفاء بالقول: إن جميع الأطراف قد وافقت على “الحفاظ على السلام والاستقرار”، وهو ما أضفى قدرًا من الغموض حول مدى فهم بكين للتعقيدات السياسية في المنطقة، وآلياتها الدبلوماسية لحل هذه النزاعات([9]).
2- غياب التوافق بين الأطراف المتنازعة
هناك تحديان رئيسيان قد تواجههما بكين لضمان فعالية دورها في حل نزاعات المنطقة؛ أولهما: هو افتقاد الأطراف المتنازعة لأي أرضية مشتركة يمكن الاستناد عليها للوصول إلى نقطة التقاء يمكن البناء عليها لتسوية النزاع، أو بالمعنى الآخر غياب إرادة حقيقية بين أطراف النزاع للتوصل لتسوية مُرضية، وهنا من اللافت غياب إريتريا المنخرطة في الأزمة الإثيوبية وصوماليلاند عن مؤتمر السلام. ثانيهما: ضعف أو غياب التوافق على بكين من طرفي أو أحد أطرف النزاع للعب الصين دور الوسيط في حل نزاعات المنطقة، أو على الأقل التشكيك في حياد بكين للعب دور الوسيط في حل النزاعات. فعلى سبيل المثال: غاب ممثل تيجراي عن المؤتمر مما قد يُشير إلى حد ما إلى عدم قبول ممثلي تيجراي بالوساطة الصينية في حل النزاع بين الحكومة الإثيوبية وإقليم تيجراي([10])، مع الأخذ في الاعتبار الموقف الصيني الداعم للحكومة الإثيوبية خلال حربها على إقليم تيجراي.
خلاصة القول: وضعت بكين نفسها في محل اختبار وتقييم مِن قِبَل المجتمع الدولي حول مدى فعالية دورها في حل النزاعات التي تواجهها منطقة القرن الإفريقي، وكيف ستنجح في جَمْع الفرقاء والمتنازعين على طاولة الحوار والتفاوض، في ظل ما تواجهه من تحديات، وتأثير هذا الدور على المصالح الصينية في المنطقة، لا سيما في ظل وضع واشنطن التحركات الصينية في الساحة الدولية عمومًا، ومنطقة القرن على وجه الخصوص، تحت المراقبة الدقيقة في إطار حربها الباردة مع بكين.
[1] – Kate Bartlett, Beijing Seeks Mediator Role in Turbulent Horn of Africa, voa news, 30 June 2022.
https://www.voanews.com/a/beijing-seeks-mediator-role-in-turbulent-horn-of-africa-/6639852.html
[2] –Idem.
[3] – لياو ليتشيانج يكتب: لماذا اقترحت الصين مبادرة الأمن العالمي؟، المصري اليوم، 4 مايو 2022م.
[4] – تعليق ((شينخوا)): مبادرة الأمن العالمي تقدم حلاً صينيًّا لمعضلات الأمن العالمي، أخبار عربية، 24 أبريل 2022م.
[5] – المرجع السابق.
[6] – Hatem Sadek , Opinion| US, China, and the war over the wealth of Africa, Daily News, 9 May 2022.
https://dailynewsegypt.com/2022/05/09/opinion-us-china-and-the-war-over-the-wealth-of-africa/
[7] – WORLD INVESTMENT REPORT 2022, UNITED NATIONS CONFERENCE ON TRADE AND DEVELOPMENT, 2022. https://unctad.org/system/files/official-document/wir2022_en.pdf
[8] – Kate Bartlett, OP.CIT.
[9] – Idem.
[10]–Idem.