أوضحت جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية في كينيا ونيجيريا والسنغال أولوية “الأزمة الإثيوبية” في أجندة الولايات المتحدة.
وعبَّر بلينكن في نيروبي عن تخوُّف بلاده من تصاعد العنف وتوسُّع القتال في أرجاء إثيوبيا، “وما نراه خطرًا متناميًا على وحدة البلاد وسلامة الدولة”؛ ليتجسَّد بشكل أكبر وجود سيناريو “تقسيم إثيوبيا” حال فشل الوساطات الحالية التي تعني عمليًّا إخراج آبي أحمد من المشهد السياسي، مع وجود ضغوط متزايدة من مسؤولين في الإدارة الأمريكية بإعلان الوضع في إثيوبيا في مرحلة “الإبادة”؛ مما سيمثل –حسب معنيين بالأزمة- مرحلةً فاصلةً في مقاربة واشنطن للأزمة، وتَعتبره أديس أبابا خيانةً وإشارةً إلى تخلِّي واشنطن عن شرعية الحكومة والوقوف في صفّ “المتمردين”([1]).
كما أكَّد بلينكن خلال زيارته الإفريقية دعم واشنطن لجهود وساطة الاتحاد الإفريقي وكينيا للتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في “شمالي نيجيريا”([2]).
وبينما تتصاعد المواقف الأمريكية من نظام آبي أحمد ترقُّبًا لمردودات الوساطات الإفريقية التي تدعمها واشنطن (لا سيما الكينية والنيجيرية)؛ فإن الأدوار الدولية الأخرى ذات أهمية كبيرة في ضبط مسار الأزمة الإثيوبية في الفترة المقبلة، إما في مسار الحيلولة دون تفكُّك الدولة الإثيوبية (وهو خيارٌ تطرحه قوى دولية جرَّاء التهديدات الحالية بالرغم من صعوبة تحقُّقه لاعتبارات مكانة إثيوبيا الإقليمية وشراكاتها الدولية)، عبر خيارات مصالحة وطنية شاملة في ظل غياب -متوقع وحتميّ تقريبًا- لرأس النظام الحالي آبي أحمد المتَّهم بارتكاب جرائم حرب وتجويع جماعي موثَّقة (وما يتحدث عنه مسؤولون أمريكيون من ترتيب اتهامه بارتكاب قوّات حكومته والقوات الحليفة لها “إبادة”)، أو إرفاده بدعم عسكري ودبلوماسي لموازنة زخم انتصارات قوى المعارضة باختراقات (وسط تقارير ترددت في 11 نوفمبر عن توجُّه قوات عفرية إلى شمالي إقليم التيجراي) واستعادة توازنه.
ويمكن رصد أهم هذه الأدوار على النحو التالي:
1- الاتحاد الأوروبي
أكد دبلوماسيون بالاتحاد الأوروبي في 4 نوفمبر الجاري، وفي مقدمتهم بيتر سانتو P. Santo المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، استعداد الاتحاد “لاستخدام جميع أدوات سياساته الخارجية، بما فيها الإجراءات التقييدية، لتعزيز السلام والالتزام بجهود الإغاثة الدولية وقانون حقوق الإنسان والمساعدة في إنهاء الصراع”، وأن ذلك قد يتضمن إمكانية فرض عقوبات بمقتضى نظام عقوبات حقوق الإنسان الخاص بالاتحاد الأوروبي (الذي يشبه قانون ماجنتسكي العالمي الأمريكي Global Magnitsky Act. ويتوقع أن يشمل نظام العقوبات حظر سفر وتجميد أصول وزراء وقادة عسكريين وسلطات إقليمية، وكذلك فرض قيود على المعونات والمساعدات، ومنع مبيعات الأسلحة لإريتريا وإثيوبيا([3]).
وفي 6 نوفمبر وقَّعت 16 دولة ضمَّت دولًا بالاتحاد الأوروبي أبرزهم فرنسا وألمانيا (ولم توقّع إيطاليا)، إضافة إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا على بيان مشترك مهمّ صاغته وزارة الشؤون الخارجية الدانماركية حول “الوضع في إثيوبيا”، وبشكل خاص حول التحقيق الأممي الإثيوبي المشترك (الذي قامت به مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights (OHCHR) ومفوضية حقوق الإنسان الإثيوبية Ethiopian Human Rights Commission (EHRC) لأوضاع حقوق الإنسان بإثيوبيا.
وبعد تناول مقررات التقرير المشترك بلغة معتدلة للغاية إزاء أداء الحكومة الإثيوبية في الأزمة الطاحنة؛ خلص البيان إلى التأكيد على دعم مجموعة الدول المُوقِّعة “لاستقرار إثيوبيا ووحدتها وسلامة أراضيها، وتطلع الدول الموقّعة على البيان للعمل مع ممثل الاتحاد الإفريقي في القرن الإفريقي (الرئيس النيجيري الأسبق أوليسجون أوباسانجو)، والأمم المتحدة، في جهودهما لوقف العداءات، وإنهاء الحصانة (عدم المحاسبة)، ودعم حلّ دائم لمسألتي السلم والأمن([4]).
وقد حظي هذا البيان بتقدير وإشادة مِن قِبَل حكومة آبي أحمد. وفي منتصف نوفمبر الجاري حذَّر الاتحاد الأوروبي من تعرُّض إثيوبيا لخطر التفكُّك حال عدم التوافق على محادثات تقود إلى وقف إطلاق النار، الأمر الذي عزَّز التصوُّر الأمريكي لحجم المخاطر التي تحيط بالدولة الإثيوبية نفسها([5]).
2- الصين
أما الصين، وفي سياق سياساتها الإفريقية القائمة على “مبدأ عدم التدخل” في شؤونها الداخلية، وعلاقاتها المتميزة مع إثيوبيا (حيث حافظت الصين على مكانتها كشريك اقتصادي أول لإثيوبيا طوال أكثر من عقد من الزمان، وبفارق كبير عن الولايات المتحدة الحليف التقليدي لإثيوبيا في عهود مختلفة)؛ فإنها أعلنت عن دعمها لمبدأ “حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية”، وترحيبها بالمساعي الحميدة لممثل الاتحاد الإفريقي في القرن الإفريقي. ودعت بكين “جميع الأطراف المعنية” والدول الإقليمية لدعم تحركاتها. كما أعلنت بكين ترحيبها بعرض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس بذل مساعيه الحميدة وتتوقع تحسُّن التنسيق بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي للقيام بدور إيجابي مشترك في تعزيز السلام والمصالحة في إثيوبيا([6]).
3- روسيا
تتمتع روسيا وإثيوبيا بعلاقات كلاسيكية عزَّز منها تبنّي السلطات في البلدين المذهب الأرثودوكسي دينًا رسميًّا في عقود طويلة؛ لكنَّ الفتور الأمريكي الإثيوبي في الشهور الأخيرة، وصولًا إلى فرض واشنطن عقوبات على إثيوبيا في أكتوبر 2021م، على خلفية حرب التيجراي؛ دفع بعض المراقبين إلى توقُّع تعزيز عكس إثيوبيا مسارها الجيوسياسي في السنوات الأخيرة، والتقارب بشكل أكبر من الصين (تمامًا كما طبّقت جبهة تحرير التيجراي هذه السياسة في سنوات حكمها قبل وصول آبي أحمد)، وأن تقارب إثيوبيا من روسيا في الوقت الراهن يحمل دلالات خطيرة تفوق قيمته الرمزية، منها تحول روسيا إلى مصدر لدعم عسكري يُعوّل عليه إثيوبيًّا (في تكرار لأجواء الحرب الباردة عسكريًّا في القرن الإفريقي). وتُقدّر روسيا تقليديًّا أهمية إثيوبيا الاستراتيجية كمنصة لتوسيع نفوذه في إقليم القرن الإفريقي الكبير وشرق إفريقيا، كما تنظر روسيا للنجاح المرتقب في علاقاتها مع إثيوبيا (حال تجاوز الأخيرة الحرب الأهلية الدائرة حاليًا واستمرار نظام آبي أحمد) كتجربة يُحْتَذَى بها في علاقات روسيا ببقية دول القارة الإفريقية([7]).
وقال سفير إثيوبيا في روسيا Alemayehu Tegenu Aargau في خضم الأزمة الجارية بعد فرض حالة الطوارئ: إن تحركات الجماعات المناهضة لحكومة بلاده (قاصدًا المجموعات التسعة التي اتفقت في واشنطن على تكوين تحالف “معارض” لنظام آبي أحمد في الخامس من نوفمبر الجاري)، “لا طائل منها وبائسة”، ولفت، في تصريحات نقلتها وكالة “تاس” الروسية 6 نوفمبر الجاري، إلى أن أديس أبابا غير محاطة “بأيّ قوات”، وأن تلك أنباء مزيفة تروّجها “الدول الغربية”([8]).
4- تركيا
اتسمت العلاقات التركية- الإثيوبية في العقد الأخير بتوجُّه عام نحو تقويتها، لا سيما في الجانبين الاقتصادي والعسكري؛ حيث ارتفعت الاستثمارات التركية في إثيوبيا إلى 2.5 بليون دولار، مع حلول تركيا في قائمة أهم ثلاث دول مُساهِمَة باستثمارات خارجية مباشرة في إثيوبيا. وتركَّزت الاستثمارات التركية في قطاع النسيج داخل المناطق الصناعية الإثيوبية. إضافةً إلى إسهام الاستثمارات التركية في مشروعات البنية الأساسية بما فيها مساهمة شركة يابي ميركيزي Yapi Merkezi في تشييد خط سكك حديدية بقيمة 1.7 بليون دولار يربط بين أواش-كومبولتشا (التي استولت عليها قوات التيجراي في الأيام الأخيرة)- هارا- جيبايا([9]).
وأثارت تقارير (مطلع نوفمبر الجاري) عن توثيق البلدين علاقتهما، ونشرت الحكومة الإثيوبية طائرات مُسيَّرة تركية الصُّنع في حربها الضارية ضد قوات إقليم التيجراي، بمقتضى اتفاق التعاون العسكري الذي وقَّعه آبي أحمد ورجب طيب أردوغان خلال زيارة الأول لأنقرا في أغسطس الماضي (2021م). وكانت أديس أبابا قد طلبت رسميًّا في شهر أكتوبر الفائت مسيرات “بيرقدار تي-بي2 Bayraktar TB2” التي تُعدّ من أكثر المسيرات فعالية على مستوى العالم([10]).
خلاصة:
كان التورط الإريتري في الأزمة الإثيوبية العامل الأكبر في تعقيد هذه الأزمة حاليًا، كما حضرت عوامل أخرى زادت من تعقيدها؛ فقد قصفت الحكومة الإثيوبية مدنًا بإقليم التيجراي باستخدام طائرات مسيرة اشترتها من دول متعددة في إقليم الشرق الأوسط، كما وطَّدت حكومة آبي أحمد علاقات قوية للغاية مع الصين التي كانت حتى العام 2020م المصدر الرئيس للاستثمار الخارجي في إثيوبيا؛ (حيث كانت الشركات الصينية الأصل مسؤولة عن 31% من جميع المشروعات الجديدة في إثيوبيا؛ مقارنةً بنسبة 21% من الشركات الأمريكية، و5% من الشركات البريطانية. كما نوَّعت أديس أبابا اعتمادها على مصادر التمويل الخارجية بالتوجُّه إلى عدد من الدول (بينها دول عربية)، مما ساهم في تعنُّت أديس أبابا([11]) في العديد من ملفَّات سياساتها الداخلية والخارجية.
غير أن القراءة الأمريكية الغربية للأزمة ومؤشرات التحوُّل التقليدي للنظر لإثيوبيا على أنها قوة استقرار يُعوَّل عليها؛ تَكشف –في جانب منها- عن تخوُّف غربي من فَقْد حليف إفريقيّ استراتيجي مثَّل لقرون حليفًا موثوقًا نجح في استعمار العديد من الشعوب الإفريقية المحيطة بالحبشة الإثيوبية، وتكوين دولة حديثة مثَّلت التجربة الأكبر فيما يُعْرَف بديناميات الاستعمار الداخلي “الأسود”، وما يعنيه ذلك من انفلات الأمور في إثيوبيا وإقليم القرن الإفريقي برُمَّته على نحو غير مسبوق –حرفيًّا- منذ قرون.
[1] – Max Bearak and John Hudson, On first Africa trip, Blinken confronts questions ofU.S. leverage in deepening crises, The Washington Post, November 18, 2021 https://www.washingtonpost.com/national-security/blinken-africa-trip-crises/2021/11/17/1c1c1ff0-4782-11ec-973c-be864f938c72_story.html
[2] -Chrispin Mwakideu, Blinken eyes African conflicts, human rights concerns on official visit, DW, November 19, 2021 https://www.dw.com/en/blinken-eyes-african-conflicts-human-rights-concerns-on-official-visit/a-59873867
[3] –Alexandra Brzozowski and Benjamin Fox, EU prepared to issue sanctions over Tigray war, officials confirm, EURACTIV, November 4, 2021 https://www.euractiv.com/section/africa/news/eu-prepared-to-issue-sanctions-over-tigray-war-officials-confirm/
[4]– Ministry of Foreign Affairs of Denmark, Joint statement on the situation in Ethiopia, November 6, 2021 https://um.dk/en/news/newsdisplaypage/?newsID=EEF7ACB1-A037-4AEC-9726-9D39B502BBB5
[5]– Alberto Nardelli, EU Sees Risk of Ethiopia’s Disintegration Unless Cease-Fire Is Reached, Bloomberg, November 16, 2021 https://www.bloomberg.com/news/articles/2021-11-16/eu-sees-risk-of-ethiopia-disintegration-unless-cease-fire-agreed
[6] – Chinese envoy calls for time, space for goods offices to play out in Ethiopia, CGTN, November 9, 2021 https://news.cgtn.com/news/2021-11-09/China-calls-for-time-space-for-goods-offices-to-play-out-in-Ethiopia–152HuSJEN1K/index.html
[7] –Solomon Aynishet, Will U.S. Sanctions Against Ethiopia Provide Russia with Regional Opening? Walta Media, October 12, 2021 https://waltainfo.com/will-u-s-sanctions-against-ethiopia-provide-russia-with-regional-opening/
[8] –Ethiopian envoy in Russia slams reports on rebels’ surrounding Addis Ababa as fake news, Russian News Agency, November 6, 2021 https://tass.com/world/1358285
[9]– Samuel Getachew, Ethiopia – Turkey: Ankara’s ongoing economic and military support, The Africa Report, November 2, 2021 https://www.theafricareport.com/141761/ethiopia-turkey-ankaras-ongoing-economic-and-military-support/
[10]– Dan Sabbagh, Ethiopia-Turkey pact fuels speculation about drone use in Tigray war, The Guardian, November 4, 2021 https://www.theguardian.com/world/2021/nov/04/ethiopia-turkey-pact-fuels-speculation-about-drone-use-in-tigray-war
[11]– Yohannes Woldemariam and Nic Cheeseman, Foreign powers are intervening in Ethiopia. Theymay only make the conflict worse, The Washington Post, November 19, 2021 https://www.washingtonpost.com/outlook/foreign-powers-are-intervening-in-ethiopia-they-may-only-make-the-conflict-worse/2021/11/19/55266426-487d-11ec-95dc-5f2a96e00fa3_story.html