عمّار ياسين
باحث في دراسات السّلام والصّراع
تلعب السياسة الخارجيّة اليابانيّة دورًا محوريًّا وسط سياسات الأقطاب الدوليّة المُتنافسة على إفريقيا، خاصّةً مع اهتزاز النظام العالمي القائم، وعدم قدرة الولايات المُتحدة الأمريكيّة على مواصلة السير بمفردها في ظلّ أُحاديّة قُطبيَّة مُستمرة منذ قرابة 30 عامًا، يأتِي ذلك لاعتبارات عديدة؛ أهمّها القدرات الاقتصاديّة والتكنولوجيّة الهائلة والسُّمعة الطيّبة دوليًّا، فضلًا عن التطلُّع الياباني لإحراز تقدُّمٍ أكبر يسمح لها بالاقتراب قليلًا من الصين في إفريقيا، ولكن في غير مواضع تركيز الصين الأساسيَّة؛ لتجنُّب المزيد من توتير الأوضاع بين الجارتين.
مُحدِّدات داخليّة ماسّة بالقُدرات اليابانية الذاتيّة:
اليابان هي خامس أقوى جيش في العالم([1])، ومن أوائل الدول المُساهمة في ميزانية الأُمم المتحدة وأجهزتها المختلفة. وهي كذلك ثالث أكبر اقتصاد قومي على مُستوى العالم، وواحدة ضمن مجموعة الدول الصناعية الثماني المتحكمة في النظام النقدي العالمي، فضلًا عن كونها واحدة من أهم دول العالم من حيث الأرصدة النقدية والاستثمارات الخارجية والمساعدات الإنمائية.
وعلى الرغم من إمكاناتها الهائلة إلا أنّها تملك فقط القليل من الموارد الطبيعيّة، أضف إلى ذلك كارثة القصف النووي في كلٍّ من هيروشيما وناجازاكي قبل نحو 75 عامًا، والذي دمّر قطاعًا واسعًا من البيئة، ولا تزال له آثار سلبية شديدة السُّوء على البيئة اليابانية حتى الآن.
مُحدِّدات إقليميّة لها علاقة بطبيعة أدوار أقطاب أُخرى مثل الصين والهند:
على الرغم من أسبقية توجُّه اليابان في سياستها الخارجيّة نحو إفريقيا عن أقرب منافسيها الإقليميين؛ الصين والهند والاتحاد الأُوروبي، إلا أنّ كلاً من الصين والاتحاد الأُوروبي على وجه التحديد استطاعا التغلغل في قارة إفريقيا والاستحواذ على نصيب وافر في مُعدل التبادل التجاري مع إفريقيا؛ فالصين على سبيل المثال تستورد من إفريقيا وفوراتها الهائلة من المواد الطبيعية والمعدنيّة والثروات النفطيّة وغيرها، وتُصدِّر لإفريقيا كميات هائلة من السّلع والمنتجات متفاوتة السعر والجودة؛ وصولًا لحد إغراق تلك الأسواق بالمنتجات الصينية، والتأثير السلبي على المُنتجين الأفارقة؛ بسبب الفجوة التي تسبّبها نتيجة سياسات الإغراق وعدم الاكتراث بمصير المُنتج المحلّي.
الأمر مختلف بالنسبة للهند؛ فسياسة الهند الخارجيّة تجاه إفريقيا لا تزال في مهدها، ولم تتغلغل بعدُ إلا في أقاليم محددة؛ مثل كينيا على سبيل المثال، ولأجل ذلك تشجَّعت اليابان على تقريب وجهات النظر والتعاون مع الهند؛ بحيث تَكسبها في جانبها، ويُنافسان معًا سياسة الصين في إفريقيا، ولو في غير مراكز الانتشار الصيني؛ لعدم توتير الأوضاع بينهم.
مصالح وأهداف سياسيّة يابانيّة في إفريقيا:
1- كسب الكُتلة التصويتيّة الإفريقيّة الكبيرة في المحافل الدوليّة:
على الرغم من كون إفريقيا لا تتمتع بوزن تصويتي كبير في مجلس الأمن؛ حيث لها فقط ثلاثة أصوات غير دائمة من أصل خمسة عشر صوتًا بمجلس الأمن، ولا تملك بطبيعة الحال أيّ أصوات دائمة ضمن الخمسة الكبار، إلا أنّ إفريقيا تتمتع بثِقَل دولي كبير فيما يخص مجمل الهيئات والمؤسسات الدوليّة الأُخرى حتى داخل الأُمم المتحدة نفسها؛ فالأمم المتحدة تعترف بـ54 دولة إفريقيَّة؛ بإمكانها أن تلعب دورًا مُهمًّا في مُعارضة أو تأييد أيّ من القضايا الدولية بالغة الأهميّة والتعقيد أحيانًا، وتُصبح تبعًا لذلك لاعبًا مهمًّا في حَسْم بعض الملفّات العالقة.
2- ضمان تأييد القارة الإفريقيّة لمسعى اليابان في الحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن الدولي بدعوى “إصلاح منظومة الأُمم المُتحدة”:
تُنادي اليابان بألا تقتصر العُضويّة الدائمة في مجلس الأمن على خمسة أعضاء فقط؛ بحيث يكون هناك فاعلون جُدد لديهم نفس الحق في استخدام الفيتو، وعلى رأس هؤلاء اليابان، ولعلّ مردّ ذلك إلى وجود اليابان كثالث أكبر المُساهمين في ميزانيّة الأُمم المتحدة بصفة عامّة، وفي ميزانيّة قوات حفظ السّلام بصفة خاصّة بعد الولايات المتحدة والصين، وهو ما لا ترى مردوده عليها وهي بمعزل عن العضوية الدائمة.
لذا، تُحاول اليابان أن تصل لمُبتغاها بصورة هادئة، ومن دون مُعارضة علنيّة تجعلها تُلوّح على سبيل المثال بورقة الإسهامات المالية الضخمة سنويًّا مقابل الضّغط وإعادة إصلاح منظومة الأُمم المتحدة وإدخالها كطرف في المعادلة، فهي تحاول كَسْب صفّ الأفارقة وضمان كُتلتهم التصويتيّة الكبيرة في المستقبل، وفي الوقت نفسه تُطمئِن الأفارقة بأنها ستدعم مسعاهم في نيل سبع عُضويات بمجلس الأمن؛ عُضويتان دائمتان، وخمس عُضويات غير دائمة بحسب “توافق أُوزولويني 2010م” الذي طمح في إعادة الاعتبار للقارة الإفريقيّة، وأوصى بالمُضيّ قُدُمًا نحو لعب دور فاعل في النظام العالمي؛ من خلال توسيع العضوية الدائمة وغير الدائمة للقارة، على أن يكون الاتحاد الإفريقي هو المسؤول عن اختيار تلك العضويات الإفريقية الجديدة المأمول ضمّها لمجلس الأمن.
جدول يُوضّح إسهامات الدول العشر الأُولى في ميزانية الأُمم المتحدة العامة([2])
بالنظر في الجدول، نجد اليابان تأتي ثالثًا بنسبة حوالي 8.5% من إجمالي ميزانية الأُمم المتحدة، وبفارق ضئيل عن المساهم الثاني الصين. المفارقة أنَّ ما تدفعه اليابان سنويًّا يُعادل مجموع ما تدفعه دولتان من الدول الخمس دائمة العضوية؛ وهما فرنسا وبريطانيا.
جدول يوضّح إسهامات الدول العشر الأُولى في ميزانية قوات حفظ السّلام الأُمميّة([3])
بالنظر في الجدول أعلاه، نجد أن اليابان تأتي ثالثًا أيضًا بنسبة تزيد عن نسبتها في الجدول السابق، وتظل المُفارَقة على حالها؛ اليابان تُسهم بما يقترب من مجموع ما تُسهم به دولتان من الدول الخمس دائمة العضوية؛ وهما فرنسا وبريطانيا.
3- إثبات حضور اليابان كلاعب دولي فاعل في القضايا المحورية، ومنها قضايا الأمن الإنساني والسِّلْم في إفريقيا:
وذلك في ظل تنامي الدور الصيني وتغلغله في مختلف مناحي القارة، وظهور قوى إقليمية أُخرى صاعدة بصورة لافتة مثل الهند. ففي هذا الصّدد، تخشى اليابان من زيادة نقاط الضعف الاقتصادية والاجتماعية للقارة الإفريقية، ومِن ثَمَّ زيادة اعتمادها على الصين نتيجة تَبِعات جائحة كورونا واستمرار الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني لأجلٍ غير مُسمَّى([4])؛ حيث أثَّرت تَبِعات جائحة كورونا واستمرار الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني سلبًا على سلاسل الإمداد من وإلى القارة الإفريقية وُصولًا لحدوث أزمة أمن غذائي متصاعدة لا تَقدر القارة الإفريقية على إدارتها أو حلّها من تلقاء نفسها. لذا، تشعر اليابان بالضَّغط من أجل إسراع خُطواتها الحَذِرة والبروز أكثر على الخريطة الإفريقيّة.
نقطة الانطلاق في السياسة الخارجيّة اليابانية تجاه إفريقيا:
شَهِدَ عام 1993م نقطة الانطلاق الأبرز في سياسة اليابان الخارجيّة تجاه إفريقيا، في وقتٍ كانت القارة تُعاني فيه من إشكاليات عُضال؛ سواءٌ من ناحية الفِكاك من ويلات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو الإبادة الجماعيّة في رواندا، أو التخلُّص من الطّغمة العسكريّة الحاكمة في كلٍّ من الصّومال وإثيوبيا.. إلخ، وهو الوقت الذي تزامن فيه تفكُّك الاتحاد السوفييتي وظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة أُحاديَّة قُطبية تقود العالم.
ابتكرت اليابان في ذلك الوقت مؤتمرات “تيكاد”، وهي مبادرة حكوميّة يابانية بمثابة منتدى دوري لنقاش واسع النطاق حول مستقبل التنمية في القارة الإفريقية([5]). وأصبح يُعقد كل خمس سنوات مرة على الأقل، إلى أن تخطَّى حاجز الـ8 أدوار انعقاد، منهم دورتان في إفريقيا، في كينيا، ومؤخّرًا في تونس، ولعلّنا نلحظ التوزيع الإقليمي الذي تقوم به اليابان حتى في استضافة مؤتمرات “تيكاد”، وتوزيع اهتمامها على مختلف الأقاليم الإفريقية الفرعيّة.
تهدف مؤتمرات “تيكاد” إلى المساعدة في تعزيز حوار السياسات رفيعة المستوى بين القادة الأفارقة وشركائهم في التنمية. وقد تطوّر إلى منتدى عالمي رئيسي لتعزيز التنمية في القارة بموجب “مبادئ الشعور بالملكيّة الإفريقيّة African Ownership والشراكة الدولية International Partnership“؛ حيث باتت هذه المفاهيم بمثابة عوامل أساسيّة في إطلاق الشراكة الاقتصادية الجديدة لتنمية إفريقيا “نيباد”.
مصالح وأهداف أمنيّة وعسكريّة يابانيّة في إفريقيا:
ظهرت اليابان أمنيًّا وعسكريًّا في إفريقيا في عام 2009م؛ أي قبل إنشاء قاعدتها العسكريّة في جيبوتي بنحو ثلاث سنوات، وتمثل سبب وجودها حينذاك في “مُكافحة القرصنة” على السواحل الصُّوماليّة، وتأمين الممرات الملاحيّة؛ بهدف تسيير عملية التجارة الدولية في المنطقة باعتبارها واحدة من أهم القنوات الفاعلة في عملية التجارة الدوليّة من وإلى القارة الإفريقيّة.
حاولت اليابان الاستفادة من الاهتمام العالمي بمكافحة القرصنة، وحجزت لنفسها مكانًا على الأرض عندما بدأت تقوم بعمليَّة “دفاعيَّة” خاصّةً بإجلاء رعايا يابانيين وإسهامات أُخرى في مُكافحة القرصنة.
وبالتالي، سعت اليابان من وراء قضية مكافحة القرصنة لما هو أوسع من تأمين حركة التجارة الدولية، وهو حجز مكانة أكبر في القارة الإفريقية، وتبوُّء مكانة أرفع من الناحية الأمنية والعسكريّة، وعدم الاكتفاء فقط بالوجود الاقتصادي والتنموي؛ وهو ما استطاعت بالفعل أن تُنجزه في 2011م بإنشاء قاعدتها العسكريّة في جيبوتي؛ قاعدة قوات الدفاع الذاتي “ Japan Self‑Defense Force Base Djibouti (JSDF)“.
الانتقال السَّلِس من القوَّة الناعمة إلى الصُّعود السِّلْمي:
خرجت اليابان من نهجها القديم المرتكز فقط على الجوانب التنموية، وبات لها أنشطة قبالة ساحل الصُّومال وخليج عدن؛ بعد أن حظيت هجمات القراصنة الصّوماليين باهتمام دولي كبير منذ عام 2008م؛ حيث أظهرت اليابان نهجًا أقوى في حفظ وبناء السّلام في إفريقيا أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ من خلال إرسالها قوات الدفاع الذاتي اليابانية للمُشاركة في عمليات مكافحة القرصنة مطلع عام 2009م، وأرسلت كذلك سُفنًا تابعة لقوات الدفاع الذاتي البحريّة لمرافقة السُّفن التي تحمل العَلم الياباني، وكذا السّفن التي تضم يابانيين في طواقمها، وحتى سُفن الدول الأخرى التي لها علاقات جيدة باليابان([6])؛ باعتبار أنها واحدة من القوى الضاربة في الأساطيل البحريّة في آسيا([7]) والعالم([8]).
نتيجةً لذلك، كان من الطّبيعي أن تثبّت اليابان أقدامها في إفريقيا([9]) بعد ثلاثة أعوام فقط من قيامها بلعب أدوار أمنية وعسكرية في عمليات مُكافحة القرصنة، لذا أنشأت لأول مرة على الإطلاق قاعدة عسكريّة تابعة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية عبر البحار في جيبوتي؛ مكَّنتها تلك القاعدة من اتخاذ إجراءات متواصلة في مُحاربة القرصنة في مياه المنطقة، ومكَّنتها كذلك بعد أشْهُر من إنشاء القاعدة من إرسال نحو 300 عضو من قوات الدفاع الذاتي البريّة للمُشاركة في بعثة أُممية لحفظ السّلام في جنوب السّودان([10]).
لم تكتفِ اليابان بالمشاركة الحَذِرة في الملف الأمني والعسكري الإفريقي من خلال الإسهام لأول مرة في قوات حفظ السّلام بجنوب السّودان، وإنشاء قاعدة عسكريّة في جيبوتي، بل سعت لتوسيع هذا الدور من خلال ترقية سريعة لمكاتب الاتصال التي أُنْشِئت في كلٍّ من جيبوتي وجنوب السّودان إلى مرتبة السفارتين الكاملتين؛ حيث تم تدشين السفارة اليابانية في جيبوتي رسميًّا بعد أقل من عام واحد على إنشاء القاعدة اليابانية العسكريَّة، فضلًا عن بناء نقاط ارتكاز دبلوماسيّة كقواعد استراتيجيّة للعمليات المرتبطة بشكل وثيق بإجراءات بناء السّلام([11]).
هذا، ومن المتوقع ألا تكتفي اليابان فقط بالتركيز على جيبوتي باعتبارها “أُم القواعد العسكريّة” في إفريقيا؛ لما لها من أهمية استراتيجية كمنطقة عبور من وإلى القارة، ولا أيضًا جنوب السّودان بسبب العوائد النفطية الكبيرة التي يجري اكتشافها بأثمان زهيدة وبعطاءات هائلة، ولكن هناك خطّة يابانيّة جادة للتوسّع شيئًا فشيئًا([12]). وعلامة ذلك استئجارها مساحة إضافية لتوسيع نطاق قاعدتها العسكريّة في جيبوتي، ولكونها أصبحت شريكًا استراتيجيًّا لمُنتدى أسوان للسّلام والتنمية المُستدامَين([13])، ولكونها كذلك داعمًا ومُموّلاً أساسيًّا لبرنامج تعزيز السّلم والأمن والاستقرار بإفريقيا التّابع لمركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السّلام([14])، بجانب أنشطة أُخرى ذات صلة بالشراكة مع مكتب الأُمم المتحدة الإنمائي.
إن اليابان أمامها الآن فرصة سانحة للتوسُّع أكثر في ظلّ استمرار حلقات الصّراع في إفريقيا وفقدان الأفارقة الثقة في كثير من الأقطاب الدوليّة مثل الولايات المتحدة والصين وأقطاب أُوروبيين مثل فرنسا وروسيا؛ لأسباب مختلفة، أهمّها: تكبيل البلدان الإفريقيّة بأعباء مادية كبيرة نتيجة تسهيل عملية الاقتراض بديلًا عن الاستثمار، وأيضًا بسبب سياساتهم التدخلية في شؤون القارة الداخلية، وعدم الاكتراث بمبدأ “الحُلول الإفريقيّة للقضايا الإفريقيّة”؛ الذي يُمثّل حجر زاوية في العقل الجمعي الإفريقي.
نتائج واستشراف لمُستقبل السياسة الخارجيّة اليابانيّة تجاه إفريقيا:
1- المُلاحَظ في سياسة اليابان الخارجيّة تجاه إفريقيا أنها خالية من ثمّة مشروطيّة سياسيّة أو اقتصاديّة، وهي بذلك تُقدِّم نفسها للأفارقة باعتبارها مُغايِرَة للولايات المتحدة المتدخِّلة في أدق تفاصيل ما يجري في الشؤون الإفريقية؛ بداعي الحفاظ على الأمن والسّلم الدوليين، ومُغَايِرَة كذلك عن السياسة الخارجيّة الصينيّة التي تضع مشروطيّة سياسيّة وحيدة هي الاعتراف بوجود دولة واحدة تضم الصين وتايوان معًا ونظامَيْ حُكمٍ ليس أكثر.
2- تزامنت الانطلاقة اليابانيّة الأُولى نحو إفريقيا مع دخول القارة الإفريقية مرحلة فارقة في تاريخها؛ حيث شهد ذلك الحين العديد من الحروب الأهلية، ومنها الإبادة الجماعيّة في رواندا 1994م، والتحوّل الديمقراطي والسياسي في جنوب إفريقيا في أعقاب القضاء على نظام الفصل العنصري الذي امتدَّ طويلًا؛ كان رِهان اليابان في ذلك الوقت في محلّه؛ بدليل لِحاق أقطاب عديدة بها مثل الصين والاتحاد الأُوروبي وروسيا، وغيرهم، برَكب الاهتمام بإفريقيا مطلع الألفية الجديدة.
3- مثَّل تحدّي عدم وجود وفورات في الموارد الطبيعيّة في اليابان مدخلًا مهمًّا لاهتمام اليابان بإفريقيا التي تملك وفورات هائلة من الغذاء والموارد الطبيعية بما فيها النفط والغاز الطبيعي والغاز المُسال، وثروات معدنيّة أُخرى بكميات ضخمة تفوق حجم مجموع احتياج القارة منها بأضعاف. ومثَّل مطلع الألفيّة الجديدة نُقطةَ تحوُّل ثانية في سياسة اليابان الخارجيّة تجاه العالم بصفة عامة، وتجاه إفريقيا بصفة خاصّة؛ وذلك بفضل تنامي الاعتماد على التكنولوجيا وإحلالها بدلًا من الوسائل التقليدية في الزراعة والصناعة ومختلف مناحي الحياة، ومِن ثَم وَجدت اليابان نفسها أمام فرصة كبيرة لنَيْل مكانة أرفع إقليميًّا ودوليًّا.
4- حافظت اليابان على الملامح الأساسيّة لسياستها الخارجيّة تجاه إفريقيا، والتي توافقت مع النظرة الواقعيّة الإفريقيّة بخصوص أسبقية التنمية على إحلال السّلام والأمن، وكان في سياستها الخارجيّة تجاه إفريقيا ثمّة اتساق بين مختلف الاستراتيجيّات والآليات المُطبّقة، سواءٌ في وَضْع تصوُّر مع مطلع الألفية الجديدة لما ترغب اليابان في أن ترى نفسها عليه، وبدء سياسة المؤتمرات وإنشاء وكالة “جايكا”، والدخول الحذر في بوتقة الملف الأمني والعسكري الإفريقي عبر بوابة حفظ السّلام في جنوب السّودان عام 2009م، وأثناء تلك الفترة ساهمت في مكافحة القرصنة، ثم التطوّر شيئًا فشيئًا إلى حد إنشاء قاعدة عسكريّة لها في جيبوتي بداعي مكافحة القرصنة وحماية تجارتها الدولية، ثم التركيز أكثر على تنمية التمثيل الدبلوماسي في كلٍّ من جيبوتي وجنوب السّودان كنقطتي انطلاق لتوسُّعات أُخرى، وهو ما يُظهر حالةً من الاتساق والتناغم في السياسة الخارجيّة اليابانية بصفة عامّة.
5- نجحت اليابان في استراتيجيّة الصّعود السّلمي حتى وإن كانت بوتيرة بطيئة نسبيًّا، لكنها وتيرة شِبْه ثابتة وخالية من أيّ تقلُّبات في المزاج العام الإفريقيّ؛ فالقوات اليابانيَّة مُنضبطة وتتعامل باحترافيَّة في جوانب محدَّدة؛ حتى إن توسُّعها في مساحة القاعدة العسكريَّة الخاصَّة بها في جيبوتي واستئجار أراضي إضافية لتوسيع مهام تلك القاعدة؛ يُعتبر أحد المُؤشِّرات المهمة على حُسْن النظر للدور الأمني والعسكري الياباني، والذي لا يزال محدودًا في الواقع في القارة الإفريقيّة.
6- من ناحيةٍ أُخرى، لم تنجح اليابان في سد الفجوة وتقريب المسافة بينها والصين في مساحة النفوذ في إفريقيا؛ حيث إنّ اليابان سابقة على الصين في سياستها الخارجيّة الموجّهة لإفريقيا، ولكنها لاحقة عليها في الواقع من حيث الانتشار وحجم التبادل التجاري وحتى النفوذ ودوائر التأثير والتأثر؛ وكلّ هذه الأمور تُقْلِق صانع القرار الياباني؛ لأن أحد أهداف سياستها الخارجية تجاه إفريقيا هو مُجاراة اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين في إفريقيا، وحَجْز مكانة تليق باليابان، وتكون متَّسقة مع رؤيتها ودورها كقطبٍ دوليّ يسبق العالم ككل في التكنولوجيا التي أصبحت هي المُحرّك الرئيس للاقتصاد والسياسة معًا.
وبناءً على ما تقدم، يستشرف الباحث أحد سيناريوهين اثنين لمستقبل السياسة الخارجيّة اليابانيّة تجاه إفريقيا:
السيناريو الأول: بقاء حالة التمدُّد البطيء والمحسوب للغاية مِن قِبَل اليابان في ملفاتها التنموية والأمنية والعسكرية على حد سواء، وفي تلك الحالة ستكون النتائج أقلّ من المردود الحالي بالنظر لعامل تسارع الأحداث الإقليمية والدولية المُشار إليه.
السيناريو الثاني: التَّغيُّر النِّسبي في سياسة اليابان الخارجيّة تجاه إفريقيا تبعًا لتغيُّر سياسات الصين الأمنية والعسكريّة تجاه إفريقيا في السنوات القليلة القادمة؛ خاصّةً حال بلوغها المرتبة الأولى عالميًّا في حجم الاقتصاد، وتخطّيها الولايات المتحدة الأمريكية مع مطلع عام 2030م؛ بحسب تقدير صندوق النقد الدولي، واستكمالًا لهذا التصوُّر ستحاول اليابان كَسْب الهند في صفّها؛ لأنها تعلم أنها لن تكون قادرةً وَحْدها على مُجاراة الصين في إفريقيا؛ ومِن ثَمَّ يُمكن الاتّكاء على الهند والسعي نحو تضافر الجهود معًا في سبيل التخفيف من حدّة الدور الصيني في إفريقيا.
[1]– سبوتنك عربي، “الخامس عالميًّا.. ما هي قدرات الأسطول الحربي الياباني؟“، 4 سبتمبر 2019م، آخر تحديث: 14 يناير 2022م:
[2]– Ministry of Foreign Affairs of Japan, “Diplomatic Bluebook 2020“, (Japan’s Foreign Policy to Promote National and Global Interests, chapter 3, 5 Japan’s Efforts at the United Nations). Available at: https://www.mofa.go.jp/policy/other/bluebook/2020/html/chapter3/c030105.html#:~:text=With%20regard%20to%20the%20assessed,after%20the%20U.S.%20and%20China.
[3]– Ibid.
[4] -Céline Pajon, “Japan Steps up its Africa Engagement“, (East Asia Forum, May 18, 2022):
https://www.eastasiaforum.org/2022/05/18/japan-steps-up-its-africa-engagement/
[5]– إندو ميتسوغي، “استكشاف السياسة اليابانية تجاه إفريقيا من خلال مؤتمر طوكيو الدولي الخامس للتنمية الإفريقية” مقالة مُترجمة من اليابانيّة إلى العربيّة، (اليابان: مجلّة نيبون- اليابان بالعربي، منشورة في 31 مايو 2013) متاحة على:
-[6] إندو ميتسوغي، مرجع سبق ذكره.
[7] -Kyle Mizokami, “Why Japan’s Navy is the Best in Asia (And Not China)“, January 24, 2018:
https://nationalinterest.org/blog/the-buzz/why-japans-navy-the-best-asia-not-china-24201
[8] -Kyle Mizokami, “Unsinkable: 5 Most Powerful Navies Sailing Around the World’s Oceans” August 7, 2019:
[9]– Rob Edens, “Why Japan Is Expanding Its Military in Africa” (The National Interest: November 4, 2016):
https://nationalinterest.org/feature/why-japan-expanding-its-military-africa-18291
[10]– إندو ميتسوغي، مرجع سبق ذكره.
[11]– المصدر نفسه.
[12] -Rob Edens, ” Why Japan Is Expanding Its Military in Africa“, (The National Interest: November 4, 2016):
https://nationalinterest.org/feature/why-japan-expanding-its-military-africa-18291
[13]– مُنتدى أسوان للسّلام والتنمية المُستدامَين، الشُّركاء الاستراتيجيين: https://www.aswanforum.org/partners
[14] -CCCPA, “Pre-deployment Training for Egyptian Peacekeepers Joining MINUSCA“, (CCCPA: August 2, 2022) Available at: https://www.cccpa-eg.org/news-details/1050