تمهيد:
في الـ9 من يوليو 2021م، احتفلت دولة جنوب السودان بمرور عقد كامل منذ حصولها على الاستقلال بموجب الاستفتاء الذي حصل على موافقة 98.8% من إجمالي عدد الأصوات، لكن على الرغم من ذلك إلا أن جوبا لا تزال تتحسَّس الخطى نحو الاستقرار الدائم في ظلّ هشاشة التوافقات السياسية التي ترتكز عليها البلاد، فلطالما سعت الفواعل الإقليمية –وفي مقدمتها السودان ومنظمة “الإيجاد”- للوصول إلى اتفاق نهائي بين الأطراف الداخلية، بَيْدَ أنَّه سرعان ما تتقوّض هذه الاتفاقيات، ويعود الصراع مرة أخرى.
ولعل ما تشهده جنوب السودان في الوقت الراهن من عودة الاشتباكات المسلحة يمثل أحد فصول هذه التوافقات الهشَّة، غير أن الصراعات هذه المرة تمخَّضت عن اقتتال داخلي بين أجنحة جبهة نائب الرئيس “رياك مشار”: “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، وهو ما يحمل مُؤشّرات خطيرة بشأن مستقبل الصراع، واحتمالات اتساع نطاق الاشتباكات، فضلاً عن التداعيات المحتملة على التحالف الحاكم في جوبا.
اشتباكات دامية:
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” The New York Times الأمريكية تقريرًا في الـ9 من أغسطس الجاري، أشار إلى أن جنوب السودان باتت تشهد اشتباكات دموية تهدّد اتفاق السلام الهشّ؛ حيث اندلعت صراعات مسلحة داخل أحد فصائل حكومة الوحدة الوطنية، تمخَّض عنها عشرات القتلى وآلاف من النازحين، كما أفرزت الاشتباكات المتفاقمة تأجيج الانقسامات، وإثارة المخاوف بشأن مستقبل اتفاق السلام الموقَّع بين الأطراف المتصارعة في البلاد.
كما أشار التقرير إلى أن جنوب السودان بات في حاجةٍ ماسَّة إلى قيادة سياسية مُوحَّدة وغير مشتتة، خاصةً في ظل الأزمة الإنسانية الحادة التي أضحت تعاني منها جوبا، والتي يتمثل بعض ملامحها في حاجة ملايين السكان العاجلة والمُلِحَّة للغذاء، إلى جانب عشرات الآلاف من النازحين بسبب الفيضانات، فضلاً عن تصاعد معدلات انتشار فيروس كورونا Covid 19، ومِن ثَمَّ فالسياق الداخلي لا يتحمَّل الدخول في أيّ صراعات سياسية أخرى([1]).
لماذا تجدَّد الصراع؟
ارتبطت عودة الصراعات المسلَّحة في جنوب السودان بتصاعد الاحتقان الداخلي داخل “الحركة الشعبية لتحرير السودان” (SPLM) التي يقودها نائب الرئيس “رياك مشار”؛ حيث اشتعلت الاشتباكات بعدما أعلن خصوم الأخير داخل الحركة الإطاحة به من قيادة الحزب وجناحه العسكري، وجاء ذلك بعدما شنَّت قوّات تابعة للجناح العسكري للحركة بقيادة الجنرال “سايمون غاتويتش دوال” (منافس “مشار” في الحركة) هجومًا في ولاية أعالي النيل على أنصار “رياك مشار”، وتم تعيين “دوال” كقائد مُؤقَّت للحركة، وعزى قادة الجناح العسكري هذه التحركات لفشل “مشار” في تمثيل مصالحهم، فيما أعلن أنصار الأخير أن إقالته تمثل “انقلابًا فاشلاً”، مؤكدين بأنه لا يزال يقود الحزب بشكل طبيعي.
وقبل أيام قليلة من الإطاحة به، كان “رياك مشار” قد أعلن أن ثمة محاولات للإطاحة به مِن قِبَل مَن أسماهم بـ”الذين يُفْسِدون السلام”، وعلَّل ذلك بالخلافات المرتبطة بملف تشكيل قيادة مُوحَّدة للقوات المسلحة، وهي أحد أبرز محطات اتفاق السلام المُوقَّع في 2018م، والتي وضعت نهاية للحرب الأهلية التي شهدتها جوبا منذ 2013م، وأفرزت أكثر من 400 ألف قتيل([2]).
وقد انطوى الاتفاق الذي تم توقيعه في 2018م برعاية الخرطوم على عدة بنود – إضافة إلى عودة “مشار” إلى منصبه كنائب للرئيس وتشكيل حكومة وحدة وطنية-، لعل أبرزها: دمج قوات المعارضة في الجيش، فضلاً عن إعادة هيكلة عدد ولايات جنوب السودان بما يعني التراجع عن بعض القرارات التي كان “سلفا كير” قد أقرَّها بشأن إلغاء تقسيمات إدارية في البلاد، إلا أنه في الوقت الذي تأخر فيه عودة “مشار” إلى منصبه حتى فبراير 2020م؛ وذلك نظرًا لانشغال الخرطوم بالتطورات الداخلية التي شهدتها بعد سقوط نظام “البشير”، إلا أن بقية محاور اتفاق 2018م شهدت تعطيلاً تامًّا؛ خاصةً فيما يتعلق بقضية تشكيل جيش وطني مُوحَّد، وهو ما أدَّى إلى إثارة غضب الجناح العسكري في الحركة الشعبية التي يقودها “مشار”، ممَّا أدَّى إلى قرار الحركة بإقالته بعدما تم اتهامه بتراجعه عن الدفاع عن مصالحها وعدم الوفاء بالتعهدات.
انقسامات متكررة:
وقد شغل “رياك مشار” منصب نائب رئيس الجمهورية في أول حكومة في البلاد، فيما تولَّى منافسه “سلفا كير” الرئاسة، إلا أن الخلافات بينهما لم تلبث أن اشتعلت بشكل سريع، ممَّا أدَّى إلى إقالة “مشار” بعد عامين فقط في 2013م، بعدما اتهمه “سيلفا كير” بمحاولة الانقلاب عليه، خاصةً بعدما أعلن “مشار” عن رغبته في الترشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2015م، دخلت البلاد في أعقاب ذلك مرحلة جديدة من الحرب الأهلية الطاحنة بين أنصار “رياك مشار” من قبيلة “النوير” (ثاني أكبر مجموعة إثنية في جنوب السودان)، وأولئك الموالين لـ”سلفا كير” مِن قبائل “الدنكا” (التي تُشكّل الأغلبية وتهيمن على الوظائف القيادية في جوبا)، استمرت خمس سنوات متواصلة بداية من عام 2013م، وخلَّفت كما تم الإشارة سابقًا أكثر من 400 ألف قتيل، فضلاً عن مئات الآلاف من النازحين.
فعليًّا، شهدت سنوات الحرب الأهلية الخمس محاولات متكررة لبلورة اتفاق سلام بين طرفي الصراع، لعل أبرزها الاتفاق الذي جاء برعاية منظمة “الإيجاد” في 2015م بيد أن جميعها فشل في تحقيق التهدئة، حتى نجحت وساطة الخرطوم في 2018م في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإعادة ترتيب توافقات داخلية بموجبها تم الاتفاق على إعادة تشكيل ائتلاف حاكم جديد بين “كير” و”مشار”؛ عاد بمقتضاها الأخير لمنصب نائب الرئيس في فبراير 2020م.
ويعود تأسيس “الحركة الشعبية لتحرير السودان” إلى عام 1983م، عندما أرسل الرئيس السوداني الأسبق “جعفر النميري” قوة عسكرية بقيادة العقيد “جون قرنق” (من قبائل الدنكا) إلى جنوب السودان لصدّ مجموعة من مكونة من 500 عسكري من المتمردين، بيد أن “قرنق” ما لبس أن انضم إلى المتمردين، وأعلنوا أن هدفهم هو التخلص من السلطة المركزية القائمة في الخرطوم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هدف الحركة في البداية لم يكن محاولة الاستقلال عن السودان، بَيْدَ أنَّها سرعان ما تحوَّلت بعد ذلك، ودخلت في حربٍ واسعةٍ مع الحكومة السودانية استمرت أكثر من عقدين، تاركة خلفها أكثر من مليوني قتيل، ويتم الإشارة لهذه الفترة باعتبارها الحرب الأهلية الثانية في السودان، مقابل الحرب الأهلية الأولى في الفترة 1959م-1972م([3]) .
وفي 2005م، توقفت الحرب أخيرًا بموجب اتفاقية السلام الشاملة “نيفاشا”، والتي بموجبها تم الاتفاق بين “الحركة الشعبية لتحرير السودان” والخرطوم على أن يتم تعيين “جون قرنق” نائبًا للرئيس السوداني لحين الانتهاء من عملية الاستفتاء على استقلال الجنوب، غير أن خلافات أخرى بدأت تتأجج داخل الحركة ذاتها؛ حيث نشبت صراعات داخلية بين “قرنق” ونائبه في حركة تحرير السودان “سلفا كير”، إلا أن وفاة الأول في تحطم مروحية ترك المجال مفتوحًا أمام “كير” ليتولى قيادة الحركة، ويصبح نائبًا للرئيس السوداني، بينما تولى “رياك مشار” نائبًا لـ”كير” حتى تم الاستفتاء في 2011م، والتي أعقبها دخول البلاد في حرب أهلية كما تم الإشارة سابقًا.
وتجدر الإشارة إلى أن “مشار” كان قد سبق له الانشقاق عن حركة (SPLM) في تسعينيات القرن الماضي، وقام بتشكيل حركة منفصلة توصل من خلالها إلى اتفاق سلام مع الحكومة السودانية للرئيس السابق “عمر البشير” في عام 1997م، تولَّى على أثرها “مشار” مساعدًا للبشير ومنسقًا لمجلس الولايات الجنوبية، بَيْدَ أنه سرعان ما أعلن استقالته في عام 2000م، وعاد إلى صفوف التمرُّد، ثم العودة مرة أخرى لصفوف الحركة الشعبية بعدها بعام واحد، بعدما اتهم الخرطوم بإرسال قوات لمحاربة عناصره في جنوب السودان.
ماذا بعد؟
ثمة تخوفات بشأن اتساع رقعة الصراعات الراهنة في جنوب السودان، وهو ما أشارت إليه بالفعل بعض التقارير الصحفية المحلية في جنوب السودان، والتي أشارت إلى أن الاشتباكات لم تَعُدْ مقصورةً على ولاية “أعالي النيل” التي تُمثِّل المعقل الرئيسي للحركة، بل امتدت الاشتباكات إلى بعض الولايات الأخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بعد عام واحد من الاتفاق الذي رَعَتْهُ منظمة “الإيجاد” في 2015م والذي بموجبه تم الاتفاق على عودة “مشار” نائبًا لرئيس جنوب السودان، قام الجنرال “تعبان دينج قاي” بالإعلان عن عزل “رياك مشار” من رئاسة الحركة الشعبية، في خطوة أشبه إلى حد كبير بما حدث خلال الأيام السابقة، غير أن الاتهامات وُجِّهت في 2016م إلى حكومة “سيلفا كير” بالتنسيق مع تحركات “قاي” للإطاحة بـ”مشار”، وعزّز ذلك قيام “كير” بتعيين “تعبان” في منصب نائب رئيس الدولة بدلاً من “رياك مشار”.
لذا، التزمت جبهة الرئيس “سيلفا كير” الصمت لتجنُّب الانحياز إلى أيّ طرف؛ انتظارًا لما ستؤول إليه التطورات، بَيْدَ أنَّ هذا الصمت ربما يُعْزَى إلى محاولة “كير” تجنُّب تكرار التسرع في إظهار موقف واضح كما فعل في 2016م، ومِن ثَمَّ الدخول كطرف في الصراع الراهن، إلا أن الرئيس “سيلفا كير” اكتفى بدعوة الأطراف المتصارعة إلى ضرورة وَقْف الاقتتال، إلَّا أنَّ هناك بعض التقارير أشارت إلى مخاوف بشأن احتمالات تفاقم الصراع الراهن ليشهد انخراط جبهة الرئيس فيه أيضًا ممَّا سيزيد حدة الأزمة.
من ناحية أخرى، يمتد القلق من التداعيات المحتملة لهذا الصراع على السياق الإقليمي الذي يشهد حالة من التوتر المتصاعد، سواء في إثيوبيا التي تمر بأزمة طاحنة؛ ربما تؤثر على مستقبل تماسك الدولة أو استمرار وحدتها خلال الفترة المقبلة، بعدما امتدت الصراعات المسلحة لتشمل غالبية الأقاليم الإثيوبية، ولم تعد تقتصر فقط على الحرب في إقليم التيجراي، فيما تواجه إريتريا حالة متفاقمة من الاحتقان الداخلي في ظل ارتفاع وتيرة الحشد التي تقوم بها المعارضة المسلحة ضد الرئيس “أسياس أفورقي”؛ مما ينذر باحتمال انفجار الوضع الداخلي في أيّ وقت، ولا تُعدّ الصومال بمعزل عن السياق الإقليمي المتأزم في ظل الأزمة السياسية المعقدة التي تواجهها مقديشو بعدما فشلت حتى الآن محاولات إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وكادت الأمور تخرج عن السيطرة بعدما أعلن الرئيس “محمد عبد الله فرماجو” تمديد فترة ولايته المنتهية لعامين إضافيين قبل أن يتراجع بعدما بدأت إرهاصات حرب أهلية واسعة تتبلور، لكن على الرغم من ذلك لا تزال حالة الاستقرار في الصومال هشَّة وقابلة للانفجار في أيّ وقتٍ، خاصةً في ظل استمرار فشل تنظيم الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية، وهو ما انعكس بدوره في تزايد نشاط حركة الشباب المسلحة في البلاد.
ويُضَاف لذلك الأزمات السياسية والأمنية المتفاقمة التي تعاني منها منطقة الساحل والصحراء وليبيا، وبالتالي فالسياق الإقليمي يشهد درجة حادَّة من التوتر والاحتقان، وهو ما يُفسّر تصاعد التخوفات بشأن تأثير الأزمة الراهنة في جنوب السودان على بقية الأزمات في الإقليم.
من جانبها؛ أعلنت الخرطوم أن الأحداث الراهنة في جوبا تزيد الأمور تعقيدًا، داعيةً كافة الأطراف للتوقف الفوري عن القتال وعدم الانجراف نحو الحروب والبدء في مشاورات سلمية، فيما يستعدّ رئيس الوزراء السوداني “عبد الله حمدوك” لزيارة جوبا خلال الأيام المقبلة لمحاولة تهدئة التوتر الراهن في البلاد، فيما عقدت منظمة “الإيجاد” (التي تضم 7 دول من شرق إفريقيا) اجتماعًا افتراضيًّا طارئًا لوزراء خارجية الدول الأعضاء لبحث التطورات الراهنة في جنوب السودان، بقيادة وزيرة خارجية السودان الرئيس الحالي للمنظمة “مريم صادق المهدي”، وأكد البيان الصادر عن الاجتماع ضرورة توقف الاشتباكات الراهنة، ودعوة كافة الأطراف للحوار للتوصل إلى حلول ودية للصراع.
لكن، في الوقت الذي ينتقد فيه الجناح العسكري للحركة الشعبية “مشار” لتنفيذ البند الخاص بعودته لمنصب نائب الرئيس، بينما تجاهل التمسك ببند الترتيبات الأمنية ودمج القوات العسكرية للحركة في جيش جنوب السودان، مما ترك قوات الحركة باقية في مناطقها تعاني من أوضاع صعبة، إلَّا أنَّه لا يزال بإمكان “رياك مشار” –المعروف بقدرته العالية على المناورة- الدخول في مفاوضات مع قادة الجناح العسكري بقيادة “غاتويش”، والحيلولة دون تفاقم الأزمة، وربما يساعد التدخل السريع مِن قِبَل منظمة “الإيجاد” في ذلك، لتجنُّب إثارة أزمة جديدة في الإقليم الملتهب.
في النهاية، رغم بقاء سيناريو التهدئة مطروحًا في ظل الدعوات الراهنة بضرورة وضع دستور جديد لجنوب السودان يتمخّض عنه تقسيم عادل للسلطة؛ إلا أن التوترات الراهنة تنذر أيضًا بتفاقم حدة الصراعات المُسلَّحة خلال الفترة المقبلة، خاصةً بعدما أعلنت السلطات في جوبا عن تأجيل موعد الانتخابات التي كانت مقررة في 2022م إلى أجَلٍ غير مسمَّى، وهو ما من شأنه أن يزيد حالة الاحتقان الداخلي ويدفع نحو تجديد العنف في البلاد، في الوقت الذي باتت جوبا تشهد تراجعًا ملحوظًا في مستوى الاهتمام الدولي، وبالتالي ففي ظل حالة “الاستعداد للانشقاقات” التي تهيمن على “الحركة الشعبية لتحرير السودان” والسياق الإقليمي المتوتّر والمُحفّز للصراعات، فضلاً عن الانشغال الدولي في الوقت الراهن بالعديد من الملفات الشائكة، ربما تدفع المعطيات الراهنة في جنوب السودان بالبلاد إلى حافة حرب أهلية جديدة، وهو ما يجعل الحاجة مُلِحَّة إلى دور فاعل وسريع من بعض القوى الإقليمية للتدخُّل لتجنُّب السيناريو الكارثي، وفي ظل مزاعم بعض الأطراف الداخلية في جوبا بعدم حيادية موقف الخرطوم، ربما تكون مصر هي الأكثر قبولاً وقدرةً على القيام بهذا الدور في الوقت الراهن، في ظل حيادية الموقف المصري وخبرات القاهرة السابقة في هذا الشأن.
[1] -Abdi Latif Dahir, Deadly Clashes Threaten South Sudan’s Shaky Peace Deal, The New York Times, Aug. 9, 2021, available on: https://nyti.ms/3AzzGmc
[2] – معارك طاحنة بين فصائل متناحرة داخل حركة نائب رئيس جنوب السودان، إندبندت عربية، 7 أغسطس 2021م، متاح على الرابط التالي:
[3] – تاريخ “الحركة الشعبية لتحرير السودان” من الانشقاق حتى “إعلان القاهرة”، سبوتنك عربي، 17 نوفمبر 2017م، متاح على الرابط التالي: