د. هند محروس محمد
دكتوراه كلية الدراسات الإفريقية العليا – جامعة القاهرة
ملخص:
تحظى منطقة الساحل الإفريقي باهتمام القوى الدولية الفاعلة؛ مما يجعلها نقطة تقاطع بين مصالح تلك القوى الدولية والإقليمية؛ وذلك لأنها تحتوي على العديد من الثروات الطبيعية؛ والتي جعلتها تدفع ثمنها عبر سلسلة من الاضطرابات السياسية التي أثَّرت على استقرارها السياسي والاجتماعي وجوارها الجغرافي.
وعلى الرغم من أن الوجود العسكري الفرنسي في مالي منذ توقيع الطرفين على اتفاقية تعاون مشترك عام 2013م، إلا أن مالي لا تزال تعاني من المتمردين، وكذا ينتشر العنف في بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، وفي الأجزاء الشمالية من ساحل العاج وبنين وغانا، وفي ظل تدهور الوضع الأمني، وتحوُّل أزمة مالي إلى أزمة في منطقة الساحل؛ أعلنت فرنسا عن تخفيض قواتها العسكرية في المنطقة إلى النصف، وأعلنت أنها ستكمل عملياتها الأمنية في تشاد وبوركينا فاسو، وستستخدم قواعدها في ساحل العاج والسنغال والجابون.
وتنبع أهمية هذه الدراسة من حاجة منطقة الساحل الإفريقي إلى الأمن والاستقرار سواء بالنسبة لفرنسا أو لشركائها. ومِن ثَمَّ تتمثل مشكلة الدراسة في توضيح الأسباب التي تدفع فرنسا إلى اتخاذ هذا القرار في ذلك التوقيت، خصوصًا في ظل الأزمات السياسية التي حدثت مؤخرًا في مالي وتشاد، والتي ستسمح للمتطرفين بتوسيع نطاق نفوذهم وانتشارهم في المنطقة.
مقدمة:
حرصت فرنسا بعد استقلال الدول التي كانت تابعة لمستعمراتها في السابق، على الحفاظ على مكانتها وممتلكاتها الاستعمارية السابقة، وتعزيز دورها في المنطقة؛ بهدف حماية مصالحها الأمنية واستثماراتها الاقتصادية؛ من خلال مجموعة من الاتفاقيات الجماعية أو الثنائية، فضلاً عن الوجود العسكري المباشر، فرغم استقلال جميع دول الساحل إلا أن نفوذ فرنسا ظل باقيًا بالمنطقة، بل توسَّع الوجود العسكري الفرنسي منذ عام 2013م، وتضمّن إنشاء قواعد لوجستية وعسكرية ونشر قوات برية نشطة ضمن عمليات “مكافحة النشاط الإرهابي” المتنامي في تلك المنطقة.
على جانب آخر؛ تمتلك منطقة الساحل الإفريقي الكثير من الموارد الطبيعية المهمة؛ حيث إنها غنية بالنفط والغاز الطبيعي والذهب والحديد، لكنَّ العنف والاضطرابات الجيوسياسية مستمرة، بالإضافة إلى العديد من التهديدات التي تواجهها. وقد انتشرت القوات الفرنسية في هذه المنطقة لتحقيق الاستقرار وتعزيز قوات الأمن المحلية في منطقة الساحل، وفي غضون ذلك جاء تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة افتراضية لزعماء “مجموعة دول الساحل الخمس“ )بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد)، عن خفض الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل في غرب القارة الإفريقية بشكل تدريجي.
أولًا: موضوع الدراسة
يتمحور موضوع الدراسة حول دوافع وتداعيات تخفيض الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي، في ظل امتداد التهديدات الإرهابية إلى دول المنطقة ودول الجوار، وتدخُّل فرنسا ضمن “الحرب على الإرهاب”؛ لتحقيق مصالحها في إطار التعاون والتنسيق مع دول المنطقة.
ثانيًا: مشكلة الدراسة
تحتل منطقة الساحل موقعًا استراتيجيًّا مهمًّا؛ مما يجعلها تُواجه الكثير من التهديدات كالإرهاب، والانقسامات العِرْقِيَّة والإثنية، والجريمة المنظَّمة عبر الحدود الوطنية، وتجارة بالأسلحة، والاتجار بالبشر، وتهريب المخدرات، والهجرة غير الشرعية، والأزمة الغذائية، وتغيُّر المناخ؛ فهذه كلها تحديات خطيرة للاستقرار الإقليمي أدَّت إلى اتخاذ سياسة أمنية فرنسية تجاه المنطقة، وبالرغم أن فرنسا هي الفاعل الرئيسي في منطقة الساحل الإفريقي، وتعزيز وجودها العسكري هو الوسيلة المثالية والأكثر تأثيرًا في المنطقة، إلا أنها أعلنت عن خَفْض قواتها وانسحابها تدريجيًّا، وأن القوة الفرنسية التي يبلغ قوامها 5000 جندي سيتم تخفيضها إلى النصف، فإلى أيّ مدًى حقَّقت فرنسا أهدافها في المنطقة؟
ثالثًا: تساؤل الدراسة
تسعى الدراسة في هذا الإطار للإجابة عن تساؤل رئيسي؛ هو: ما الدوافع الرئيسية لتخفيض القوات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل الإفريقي؟ وما تداعيات تخفيض الوجود العسكري الفرنسي على مستقبل الأمن في المنطقة؟
رابعًا: فرض الدراسة
كلما تقلص عدد القوات الفرنسية في منطقة الساحل الإفريقي كلما تنامى نشاط التنظيمات الإرهابية.
خامسًا: الإطار المنهجي للدراسة
اعتمدت الباحثة في هذه الدراسة على نظرية الدور؛ بحيث يبرز دور فرنسا كفاعل رئيسي، ومدى فاعلية هذا الدور وتأثيره السياسي لتحقيق مصالحها الاقتصادية؛ بحيث تحالفت مع حكومات دول المنطقة تحت مظلة “مكافحة الإرهاب”.
واستنادًا إلى ما تقدَّم، سوف تتناول الدراسة تحليل المحاور التالية:
المحور الأول: مظاهر الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.
المحور الثاني: دوافع تخفيض الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.
المحور الثالث: تداعيات تخفيض الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.
المحور الأول:
مظاهر الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي
ما بين إبقاء القوات الفرنسية في مالي لمواصلة القتال، وسحبها من منطقة الساحل الإفريقي؛ تبقى الأوضاع متوترة في ظل صعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة؛ فقد قامت فرنسا بتعزيز وجودها في المنطقة من خلال منظومة عمل متنوعة؛ تشمل المبادرات والعمليات العسكرية لتأكيد وجودها.
ولعل من أبرز مظاهر الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة ما يلي:
أولًا: المبادرات والعمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل:
ركزت فرنسا على التعاون في مجال الأمن لدعم الحكومات في منطقة الساحل؛ لتعزيز قدراتها على مواجهة مشكلة الإرهاب، وشمل ذلك المساعدات العسكرية التقليدية (نشر المستشارين العسكريين الفرنسيين، وتوفير المعدات العسكرية، وتدريب الضباط العسكريين)، أيضًا تقديم الدعم المالي واللوجستي للقوات المحلية وقوات الشرطة([1]).
وقد سارعت فرنسا إلى مساندة القوات المالية خلال عدة عمليات عسكرية، بعد مطالبة مالي بالتدخل الدولي لمواجهة المقاتلين، وصدور قرار مجلس الأمن بدعم مالي، على الرغم من أن القرار (2085) الذي وافق على إرسال بعثة عسكرية إلى مالي لم ينصَّ على مشاركة القوات البرية للاتحاد الأوروبي مباشرةً في العمليات، وتحتج فرنسا بأن العملية العسكرية في مالي تندرج تحت البند (51) من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على “شرعية الدفاع عن النفس الفردي والجماعي” في حال تعرُّض أحد أعضاء الأمم المتحدة لعدوان مسلَّح، وقد بدأت فرنسا عملياتها الجوية في 11 يناير 2013م بعد يوم واحد من صدور قرار مجلس الأمن، وأعلنت في 15 يناير2013م أنها بدأت نشر قوات برية معزَّزة بالدبابات والمدرعات في مالي([2]).
خريطة (1) العمليات العسكرية الفرنسية
Source: https://www.aa.com.tr/ar
1- عملية “ايبرفييه“:
بدأت فرنسا عملية ايبرفييه في تشاد في فبراير عام 1986م، بطلب من السلطات التشادية، في إطار النزاع المندلع بين ليبيا وتشاد؛ دعمًا للزعيم “غوكوني عويدي” الذي أطاح به “حسين حبري”، ضمن مهمّة تقضي بحماية مصالح فرنسا، وتقديم الدعم اللوجستي لقوات الجيش والأمن التشاديين، وينتشر حوالي 950 جنديًّا فرنسيًّا في إطار العملية نفسها، موزعين على قوات برية (320 جنديًّا و80 سيارة)، وأخرى جوية (150 جنديًّا وحوالي 12 طائرة بقاعدة نجامينا)، وقاعدة دعم مشتركة تقدم الإسناد الميداني والدعم الفني للوحدات المتمركزة في مختلف المواقع([3]).
2- عملية سرفال operation serval:
تم نشر هذه القوة العسكرية الفرنسية في عهد الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا هولاند François Hollande” بناءً على طلب حكومة باماكوBamako؛ بعد تفاقم الأزمة في مالي، عقب الانقلاب العسكري في مارس 2012م، وضمن مهمة لمساعدة قوات الجيش المالي على وقف تقدم الجماعات المسلحة من المنطقة الشمالية للبلاد، ولضمان سلامة المدنيين، من أجل القضاء على المتمردين المتحالفين في تلك الفترة مع التنظيمات المتطرّفة، وحشد الجيش الفرنسي قواته الخاصة المتمركزة في منطقة الساحل الإفريقي، والتابعة لجيوش البر والجو والبحر([4]).
وبعد انتهاء القتال في أبريل 2014م، تم تخفيض عدد جنود سرفال تدريجيًّا حتى وصلوا إلى 4000 جندي، وتم استبدالهم بالبعثة الأممية التي تم تغيير اسمها من “ميسكا” إلى “مينوسما”، وفي أغسطس 2014م، انتهت “سرفال”، التي خلفت بدورها عملية “ايبرفييه”، لإفساح المجال لـ “برخان”([5]).
3- عملية بارخان Operation Barkhane:
تم إطلاق عملية Barkhane في 1 أغسطس 2014م، بعد انتهاء عمليتي “إيبرفييهEpervier ” في تشاد، و”سرفال Serval” في مالي؛ بناء على طلب دعم من حكومة مالي، وتستند عملية Barkhane على الشراكة مع دول منطقة الساحل الخمسة )بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد)؛ بهدف تعزيز التعاون في مكافحة التهديدات الإرهابية عبر الحدود، وتقليل المخاطر التي تمثلها الجماعات الإرهابية المسلحة على الاستقرار الإقليمي، كما سمحت Barkhane منذ 2014م بتدريب أكثر من 13000 جندي من دول الساحل G5 باتخاذ إجراءات تدريبية في مجالات محددة (تعليمات إطلاق النار، والإنقاذ القتالي، وكيفية تجنب العبوات الناسفة والتعامل معها،…)([6]).
خريطة (2) عملية بارخان
Source: Operation Barkhane, Public relations office, French Armed Forces Headquarters (EMA), February2020, p.16.
وتعتبر عملية بارخان من أكبر العمليات الخارجية لفرنسا، وتضم حوالي 4700 جندي، بالإضافة إلى خمس طائرات بدون طيار مجهَّزة بجهاز استشعار Optronic، و200 سيارة مدرعة، و6 طائرات مقاتلة، ومجموعة متنوعة من معدات النقل([7]). وتقدم المساعدة لدول الساحل في معركتها ضد الإرهاب ومنع الجماعات الإرهابية من إعادة توسعها في المنطقة.
4- القوة المشتركة التابعة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل (FC-G5 S) : The Force Conjoint of the G5 Sahel:
تأسست القوة المشتركة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل في عام 2017م؛ لمواجهة الجماعات المتطرفة المسلحة والعنيفة، بعد تدهور الوضع الأمني في المنطقة، وأطلق رؤساء دول المجموعة الخماسية لدول الساحل (بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر) هذه المبادرة لتعزيز سلامة وأمن شعوبهم، ومكافحة التهديدات الأمنية المشتركة؛ من خلال حشد الجهود الوطنية ومضاعفتها([8]).
خريطة (3) المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل (FC-G5 S)
Source: The United Nations, “Status Report: OHCHR Project supporting the G5 Sahel Joint Force with Implementation of the Human Rights and International Humanitarian Law Compliance Framework 1 May 2018 – 31 March 2020”, (Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights, 05 August 2020) p8.
ووافق قرار مجلس الأمن رقم 2359 الصادر في 21 يونيو 2017م، على تشكيل قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب، والتي تم إقرارها مِن قِبَل رؤساء الدول الخمس في المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل([9])، ودعا قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2391 (2017م) دول المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل إلى “إنشاء إطار امتثال صارم، يمنع انتهاكات وتجاوزات قانون حقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي الإنساني مِن قِبَل القوَّة المشتركة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، ويحقّق فيها، ويعالجها، ويبلّغ عنها علنًا”([10]). وتحدّد الترتيبات التقنية الموقعة في 23 فبراير 2018م بين الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول المجموعة الخماسية الإطار العام للعملية وأدوار مختلف الأطراف المعنيَّة ومسؤولياتهم([11]).
ودعمًا لبلدان المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، وبالتعاون معها؛ صمَّمت المفوضية السامية لحقوق الإنسان إطارَ امتثالٍ مُفصَّل بحسب البيئة التشغيلية السائدة([12])، وتم التنسيق بين القوة المشتركة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل مع بعثة الأمم المتحدة MINUSMA، والتي لديها بالفعل أكثر من 15000 جندي وضابط شرطة، وتبلغ تكلفتها ما يقرب من مليار دولار سنويًّا([13]).
وتغطي المجموعة الخماسية لدول الساحل مساحة جغرافية واسعة، عبر 3300 كيلومتر من الغرب إلى الشرق، و1600 كيلومتر من الشمال إلى الجنوب، وتتكون من سبع كتائب عسكرية منتشرة في دول الساحل، مقسَّمة عبر ثلاثة قطاعات (Fuseaux)؛ هي القطاع المركزي، ومقره الرئيسي في نيامي-النيجر؛ والقطاع الغربي ومقره الرئيسي في نيما- موريتانيا؛ والقطاع الشرقي، ومقره الرئيسي في نجامينا- تشاد([14]).
5- ائتلاف منطقة الساحلCoalition Sahel :
تم الإعلان عن ائتلاف منطقة الساحل إبّان انعقاد مؤتمر قمة باو Pau في 13 يناير 2020م، مِن قِبَل رؤساء دول (فرنسا وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد)، بحضور الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس المجلس الأوروبي والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي والأمين العام للفرنكوفونية([15])، ويهدف الائتلاف من أجل الساحل إلى توفير استجابة جماعية لتحديات منطقة الساحل ومكافحة الإرهاب، وتعزيز القدرات العسكرية لدول المنطقة، ودعم استعادة ســلطة الدولة على المستوى الإقليمي، ومؤازرة المســاعدة الإنمائية أو السياسية أو الأمنية([16]).
6- قوة تاكوبا :Takuba Task Force
تعني كلمة “تاكوبا” (Takpuba/Takuba/Takoba) السيْف الذي اشتُهر استخدامه في منطقة الساحل الغربي، وخاصةً بين الطوارق والهوسا والفولاني، وتم إنشاء قوة “تاكوبا” العسكرية بمبادرة فرنسية تحت قيادة عملية برخان في وحدة مشتركة. وفي 27 مارس 2020م، صدر بيان مشترك عن ممثلي 13 دولة (فرنسا، بلجيكا، جمهورية التشيك، الدنمارك، إستونيا، ألمانيا، مالي، هولندا، النيجر، النرويج، البرتغال، السويد، والمملكة المتحدة) تعهّدوا فيه بتقديم الجهود اللازمة للتغلُّب على “مرونة الجماعات الإرهابية“([17]).
وقد وقَّع على البيان كلٌّ من (المفوضية الأوروبية، والمجلس الأوروبي، وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسويد والمجر وهولندا وبلجيكا والبرتغال وكندا وجمهورية التشيك والدنمارك والنرويج ورومانيا، وإستونيا وليتوانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا). بالإضافة إلى الدول المُوقِّعة من الجانب الإفريقي وهي: تشاد وموريتانيا والنيجر وساحل العاج وغانا وتوغو وبنين، والتحالف من أجل الساحل ومفوضية الاتحاد الإفريقي([18]).
وتم توقيع الاتفاقية الفنية الإطارية لقوة “تاكوبا” في مقر وكالة الدعم والمشتريات التابعة لحف الناتو NATO Support and Procurement Agency (NSPA)([19])، في كابيلين- لوكسمبورغ في 9 يونيو، وهي (فرقة عمل عسكرية أوروبية متعددة الجنسيات لقوات العمليات الخاصة)، وتتألف من ثماني دول أوروبية، وتقودها فرنسا، كما تقدم المشورة والمساعدة للقوات المسلحة في “مالي” في حربها ضد الإرهاب في منطقة الساحل، بالتنسيق مع الجهات الفاعلة الدولية الأخرى على الأرض، بما في بعثة الأمم المتحدة (مينوسما MINUSMA) المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي([20])، وتتألف قوة “تاكوبا” من حوالي 600 إلى 900 جندي؛ 40٪ منهم فرنسيون، وتضم فِرَقًا طبية ولوجستية([21])، وشاركت فرقة تاكوبا في أكتوبر 2020م في أول عملية مشتركة، أُطلق عليها اسم “العاصفة”، ونُفِّذت على الحدود النيجيرية مِن قِبَل قوة برخان العسكرية الفرنسية والجيوش المحلية([22]).
ثانيًا: القاعدة العسكرية “قاعدة نجامينا” في تشاد:
بعد استقلال الدول الإفريقية عن المستعمرات الفرنسية في القارة الإفريقية تباعًا؛ قررت فرنسا الحفاظ على التعاون العسكري مع الدول المستقلة، بموجب توقيع معاهدات دفاع مشترك، مع الحفاظ على الأمن الداخلي في إفريقيا؛ فأبرمت فرنسا وجيبوتي معاهدة تعاون دفاعي في ديسمبر 2011م، دخلت حيّز النفاذ في 1 مايو 2014م، وتؤكد البنود الأمنية في المعاهدة التزام فرنسا بالاستقلال والسلامة الإقليمية لجمهورية جيبوتي، كما تمنح المعاهدة أيضًا تسهيلات محددة للقوات الفرنسية المتمركزة في البلاد([23])، وقامت فرنسا بتحديث مواثيق الدفاع مع 27 دولة إفريقية، مما أرسى أساسًا قانونيًّا لمواصلة نشر فرنسا للقواعد العسكرية.
وكانت فرنسا تمتلك في البداية مائة قاعدة في إفريقيا، ثم تم تخفيضها بعد ذلك إلى خمسة قواعد عسكرية دائمة في نهاية التسعينيات في إطار الاتفاقيات الأمنية بين فرنسا والدول التي توجد بها القواعد العسكرية وهي (جيبوتي– تشاد- كوت ديفوار- الجابون- السنغال)، وبسبب ارتفاع التكلفة والتطور التكنولوجي في الوسائل العسكرية، تمَ تقليصها إلى ثلاث قواعد عسكرية دائمة في (جيبوتي – السنغال –الجابون)([24])، ويعتبر الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل هو الأكبر؛ حيث تنتشر القوات الفرنسية على أراضي عدد من دول المنطقة، بحوالي 1000 جندي في مالي، 1200 في تشاد([25]).
وتُعدّ قاعدة نجامينا الجوية في تشاد أكبر تمركز عسكري فرنسي في منطقة الساحل، كما يقع المقر الرئيسي لـ“عملية برخان” في نجامينا عاصمة تشاد، وتضم كتيبتين للمشاة، وحوالي900 جندي، إضافة إلى العديد من العربات المدرعة، وعدد من الطائرات ميراج 2000 المقاتلة([26]).
المحور الثاني
دوافع تخفيض الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي
في 10 يونيو 2021م، بعد أسبوع من الانقلاب العسكري الجديد في باماكو، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن نهاية عملية بارخان Operation Barkhaneكعملية خارجية، والسماح بدلاً من ذلك بتقديم الدعم والتعاون مع جيوش دول المنطقة. ووصفت السلطات المالية عملية الانسحاب الفرنسي بهدف تم إسقاطه من منتصف الرحلة([27])، وجاء إعلان ماكرون لعدة دوافع كما يلي:
أولًا: الخسائر المادية الفرنسية الناتجة عن الوجود العسكري
لم تُحسِّن فرنسا الوضع الأمني بشكلٍ كبيرٍ، فقد خسرت 59 جنديًّا فرنسيا في منطقة الساحل، بينهم 52 في مالي([28])، وأنفقت فرنسا وحدها حوالي 880 مليون يورو سنويًّا على عملياتها لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك، وعلى الرغم من عدم وجود نتائج إيجابية في مالي، إلا أن فرنسا اتبعت ذات الجهود في بوركينا فاسو وسارت في نفس المسار إلى حد كبير، ويبدو أن المخاوف من أن الحكم العسكري لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع الأمني لها ما يبررها، ولا يقتصر الأمر على خطر نشوء فراغ بسبب الانسحاب الفرنسي؛ حيث يسعى المجلس العسكري المحلّي إلى تعزيز سلطته. ومن المرجح أن تظل استراتيجية التصدي الشامل للجماعات المتطرفة العنيفة العاملة في البلاد مستمرة([29]).
وكلفت عملية برخان فرنسا تكاليف مالية كبيرة؛ حيث تم رصيد ميزانية للعملية تُقدر بـ(695 مليون يورو في عام 2019م، وأقرب إلى مليار يورو في عام 2020م)، وهو ما يعادل 76 في المائة من إنفاق فرنسا على مهامها وعملياتها العسكرية في الداخل والخارج وسط الضغط الاقتصادي الناجم عن جائحة Covid-19([30]).
ثانيًا: إعادة هيكلة أولويات فرنسا في الساحل وتقليص عدد القوات
يمكن اعتبار إعلان فرنسا عن تقليص دورها بأنه جرس إنذار إلى الشركاء الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية، بأن فرنسا لن تكون وحدها في وجه العاصفة المسلحة التي تضرب دول الساحل الإفريقي، خاصةً وأن خطر الجماعات الإرهابية ينعكس بشكلٍ مباشرٍ على كامل القارة الأوروبية وليس فرنسا وحدها، وبالتالي فإن الاستراتيجية الفرنسية ستتوجه نحو تفعيل شراكة أوروبية متكاملة في إفريقيا، واستبدال عملية بارخان بعملية أوروبية فرنسية مشتركة، ويمكن أن تكون قوة تاكوبا هي نواة هذه العملية مع ضرورة إبقاء القواعد والقوات الفرنسية بالحد الأدنى في أماكن نفوذ فرنسا التقليدية([31]) .
وقد تعهدت فرنسا في يونيو2021م، بإعادة انتشار قواتها العسكرية في منطقة الساحل، ولا سيما من خلال مغادرة معظم القواعد الشمالية في مالي (كيدال وتمبكتو وتيساليت)([32])، والتخطيط لتقليص قواتها العاملة في المنطقة بحلول عام 2023م، إلى 2500 -3000 جندي فقط من حوالي 5000 موجودين حاليًا. وقد سلمت قاعدتها في” كيدال” إلى بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي في 12 أكتوبر2021م؛ وتم تسليم القواعد في “تيساليت وتمبكتو” إلى القوات المالية في 15 نوفمبر و14 ديسمبر([33]).
وسيستند إعادة تنظيم الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل على أربعة محاور: تقديم المشورة للقوات المسلحة المحلية، عبر العناصر الفرنسية في السنغال [EFS] والقوات الفرنسية في كوت ديفوار [FFCI]. ودعم المجموعة الأوروبية في القتال، وقوات تاكوبا الخاصة. و”إعادة تأمين” لصالح القوات المتحالفة والشريكة، لا سيما مع العتاد الجوي. ومتابعة العمليات المستهدَفة ضد قادة التنظيمات الإرهابية[34].
ثالثًا: الضغط على فرنسا لسحب القوات العسكرية
تصاعدت التوترات بين مالي وفرنسا عندما طردت الحكومة المالية السفير الفرنسي “جويل ماير” في 31 يناير 2022م، وتم منح السفير مهلة 72 ساعة لمغادرة البلاد([35])، كما تدهورت العلاقات بعد تراجع المجلس العسكري في مالي عن التزاماته السابقة بإجراء انتخابات في فبراير2022م، واقترح الاحتفاظ بالسلطة حتي 2025م.
وتزامن انعدام الأمن مع تآكل الثقة الشعبية في حكومات منطقة الساحل، وبعد انقلاب مالي في أغسطس 2020م ضد الرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا، وقع انقلاب مايو2021م، وتدهور الوضع الأمني مع الحكومة التي يَنظر إليها الجمهور على أنها فاسدة وتخدم مصالحها الذاتية، تمامًا مثل انقلاب عام 2012م الذي أطلق الأزمة الحالية، وأظهرت طريقة الإطاحة بـ”أبوبكر كيتا” مدى السرعة التي يمكن أن تؤدي بها إخفاقات الحكم إلى تقويض جهود تحقيق الاستقرار، خاصةً إذا دفعت الناس إلى النزول إلى الشوارع والجنود إلى التمرُّد، وقد كان الأمر مثيرًا للقلق بالنسبة للشركاء الأجانب الذين كانوا يضخُّون مئات الملايين من الدولارات في قوات الأمن المالية. وأشار وزير الدفاع الألماني إلى أن بعض قادة المجلس العسكري قد تم تدريبهم في ألمانيا وفرنسا، وفي أعقاب الانقلاب، علّق الاتحاد الأوروبي بعثاته الأمنية والدفاعية في مالي([36]).
المحور الثالث:
تداعيات تخفيض الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي
أولًا: زيادة التهديدات الأمنية في منطقة الساحل
إن ما تعانيه دول منطقة الساحل الإفريقي يعكس صور ومستويات التهديدات الأمنية المتعددة والمتشابكة الممتدة من مستوى الفرد إلى الجماعة صعودًا نحو الدولة كأداة([37])؛ لذلك فالإخفاقات المتكررة للجيوش الإقليمية لاحتواء التهديد من الجماعات المسلحة هي نتاج السمات المشتركة لضعف الدولة واختلال وظيفتها، بما في ذلك الفساد المستشري، والفوضى الهيكلية، والإضعاف المتعمد للتماسك العسكري والسيطرة مِن قِبَل القادة الوطنيين القلقين من التهديدات ومن خطر الانقلابات([38]).
وتشكل الهجمات الإرهابية مصدر قلق؛ فقد تمكَّنت الجماعات الإرهابية من نشر مَخالبها لتتجاوز مركز وجودها في مالي عبر المناطق القاحلة في الساحل، إلى الجنوب من الصحراء، لتصل إلى الدول المجاورة التي ليست أعضاء في مجموعة الساحل الخمسة، بما في ذلك بنين، وكوت ديفوار، وتوجو، ومن الواضح أن العنف المسلح أدَّى إلى تدمير الاقتصادات المحلية الهشَّة، وأعاق جهود المساعدات الإنسانية في المنطقة، وتوجد في المنطقة بؤرتان ملتهبتان للتطرف العنيف وعدم الاستقرار؛ الأولى: تشمل مالي وجوارها المباشر؛ بوركينا فاسو والنيجر، في الساحل الغربي؛ حيث تنشط العديد من الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والتي بايع بعضها في السنوات الأخيرة تنظيم “داعش”. أما البؤرة الثانية: فإنها تشمل حوض بحيرة تشاد، الذي يضم نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون، التي تعاني منذ البداية -خاصة نيجيريا- من إرهاب جماعة بوكو حرام، ومنذ عام 2016م ظهرت مجموعة منشقة من بوكو حرام أعلنت مبايعتها لتنظيم “داعش”، وعلى الرغم من ادعاءات كبار المسؤولين وبعض دارسي الحركات المسلحة العنيفة بأن بوكو حرام قد انتهت؛ إلا أن الواقع يثبت عكس ذلك رغم مقتل زعيمها “أبوبكر شيكاو”([39]).
ويؤثر تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في منطقة الساحل على أمن واستقرار مناطق الجوار الجغرافي المباشر وغير المباشر، وغرب القارة وشرقها، بالإضافة إلى منطقة حوض البحر المتوسط، والجنوب الأوروبي؛ وذلك في ضوء تشابك العديد من الملفات الأمنية الشائكة التي تُمثّل تحديًا مشتركًا لتلك المناطق، مثل نشاط التنظيمات الإرهابية التي استطاعت نَسْج شبكة مُعقَّدة بين الفروع والعناصر المؤيدة لها في مناطق مختلفة، وهو ما يُهدّد الأمن الإقليمي، وملف الهجرة غير النظامية الذي يُشكِّل تهديدًا صريحًا للأمن الأوروبي، بالإضافة إلى ملفّ الجريمة المُنظَّمة في ظلّ السيولة الحدودية بين دول المنطقة وبين المناطق الجغرافية المجاورة، التي سهَّلت تحرك وانتقال التنظيمات الإرهابية وجماعات التهريب بين الدول دون أي مقاومة(([40].
ومنذ عام 2011م تواجه مالي تمردًا تقوده جماعات مسلحة مختلفة، بما في ذلك تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى، والمتمردين المرتبطين بتنظيم القاعدة، وامتد الصراع إلى بوركينا فاسو والنيجر، وقد نفَّذت الجماعات المسلحة هجمات متعددة على المدنيين في سياق صراع وحشي متعدّد الأوجه، وتم الإبلاغ عن أكثر من 6,000 حالة وفاة بين المدنيين بين عامي 2017 و2021م في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وفقًا لبيانات مواقع النزاع المسلح، وقد نزح أكثر من 1,200,000 شخص من بوركينا فاسو منذ عام 2016م؛ وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وفي يونيو2021م، قتل مسلحون مجهولون 130 مدنيًّا في قرية سولهان في بوركينا فاسو، وهو أسوأ هجوم على المدنيين حدث حتى الآن في هذا النزاع، وأعلنت داعش مسؤوليتها عن هجمات متعددة على المدنيين في عام 2021م، بما في ذلك هجوم في 21 مارس أسفر عن مقتل 137 شخصًا في عدة مواقع في النيجر، كما قامت ما يسمى بجماعات “الدفاع عن النفس”، التي أُنشئت في معارضة لجماعات نصرة JNIM وداعش ISGS، بمذابح ضد المدنيين، مما أدى إلى وقوع أعمال انتقامية دموية، وفي مارس 2020م، شنَّت إحدى هذه الفئات “للدفاع عن النفس”، وهي جماعة كوغلويوغو”، سلسلة من الهجمات المروعة على قرى في بوركينا فاسو أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 43 شخصًا، وقبل ذلك بشهر، قتلت ميليشيا عرقية مسلحة “دان نا أمباساغو” 32 قرويًّا في أوغوساغو- مالي([41]).
ثانيًا: تعثر الجهود الفرنسية في مكافحة الإرهاب:
من الواضح أن الحلول العسكرية لم تنجح تمامًا في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، وثمّة مخاوف لدى صانعي السياسة ودارسي الجماعات المسلحة في العالم من تكرار نماذج سابقة في الجبهة الإفريقية، وفي سياق هذا الجدل تطرح مقاربة أفريكانستان رسالة تحذير لمنطقة الجوار العربي والأوروبي من أن يتحول إقليم الساحل والصحراء إلى قنبلة سكانية موقوتة قد تنفجر في أيّ وقت؛ ففي غضون عشر سنوات سوف يتضاعف عدد سكان الإقليم الذي قد يصبح بمثابة كابوس لمناطق الجوار. إن دروس الحرب الأمريكية ضد الإرهاب تعلمنا أن الكلاشينكوف وحده لا يستطيع هزيمة الخطاب الأيديولوجي المسيطر، أو حل المشكلات الهيكلية التي تغذي التطرف لدى الشباب الذين يواصلون الانضمام إلى بوكو حرام، والقاعدة، وداعش في الصحراء الكبرى([42]).
وبالرغم من أن فرنسا ركَّزت جهودها على دعم المؤسسات الأمنية الإقليمية عبر التمويل والمعدات وتدريب الجيوش الإفريقية عامة ودول الساحل الإفريقية خاصةً في مجال حفظ السلام، ومواجهة العديد من المشكلات الناتجة عن الحروب([43])، إلا أنها تشعر بعجزها عن إحلال الأمن في منطقة الساحل، فقد نجحت عام 2013م في مطاردة مقاتلي الجماعات الإرهابية التي كانت قد استولت على شمال مالي شهورًا قبل ذلك التاريخ، ومنعتهم من الوصول إلى وسط البلاد في العملية العسكرية “سرفال”، واعتقدت باريس أنها يمكن أن تنهض بمهام تأمين البلاد بشكل نهائي عبر القضاء على الجماعات الإرهابية المسلحة، فأنشأت بعثة عسكرية أخرى “بارخان” في العام التالي، قوامها حوالي 13 ألف جندي، لكن ذلك كله لم يفلح في تجفيف الإرهاب والقضاء على منابعه([44]).
وتعتقد الحكومات أن الحل هو تجنيد جنود جدد على نطاق واسع، وهكذا زادت مالي وبوركينا فاسو والنيجر من عدد أفرادها العسكريين إلى حد غير مسبوق منذ عام 2019؛ في عام 2020م، وعلى سبيل المثال، أعلنت الحكومة النيجيرية أنها ستضاعف عدد قواتها إلى 50.000، على مدى السنوات الخمس المقبلة، ونتيجة لهذا التوسع السريع، يتم إرسال جنود جدد إلى الجبهة -في منطقة غير مألوفة وغير مضيافة- بعد تدريب بسيط، والأهم من ذلك أن التعاون العسكري لا يعالج المشكلة الأساسية، وهي مشكلة سياسية بالأساس، ولا شك أن حل النزاعات في الساحل يكمن في تقوية الدول الضعيفة وإضفاء الشرعية عليها، وهو مشروع طويل الأمد، ولكن في حالة عدم وجود إصلاح فعال في القطاع الأمني (والإصلاح السياسي)، فإن النهج الحالي يتخلف فعليًّا بشكلٍ فعَّال عن نظام وكيل تدعم فيه الجهات الأجنبية الفاعلة الجيوش الإفريقية –لا سيما في مالي وبوركينا فاسو– تتعاقد من الباطن مع الميليشيات لمحاربة الجماعات المسلحة، ومع ذلك، فإن استخدام مجموعات الحراسة الأهلية لم يثبت بعد فعاليتها سواء في مكافحة الحركات الإرهابية أو في منع العنف الطائفي، على العكس من ذلك، تقتل الميليشيات الآن المدنيين أكثر من الجماعات المسلحة نفسها، وفقًا للكثيرين في مالي وبوركينا فاسو([45]).
ثالثًا: إتاحة الفرصة لصعود أطراف دولية أخرى لسد الفراغ في منطقة الساحل
سيحفز تقليص حجم الوجود الفرنسي في منطقة الساحل العديد من القوى الدولية الأخرى لاقتناص الفرصة، والتمدد في المنطقة، ومنها على سبيل المثال: الصين والتي ارتفع رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر لديها بشكل كبير في جميع أنحاء المنطقة، وروسيا التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في أجزاء شتى من القارة، حتى وصل الأمر إلى حد خروج المظاهرات الشعبية المطالِبة باستبدال الدور الفرنسي بالدور الروسي مثلما حدث في مالي عقب الانقلاب الأخير([46]).
والخشية من توغل القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا AFRICOM وروسيا والصين في مناطق نفوذها العسكري، فبالنسبة للولايات المتحدة هناك رابطة بين القوتين الفرنسية والأمريكية تتمثل في عضويتهما في حلف شمال الأطلنطي NATO ، ويمكن داخل مقر هذا الحلف في بروكسل التفاهم بشأن خطوط التماس العسكري الفرنسي/الأمريكي وإيجاد أرضية جديدة تتناسب مع النكسات التي تواجهها العسكريتان الأمريكية والفرنسية؛ بحيث يتم تأمين مناطق النفوذ الغربية في إفريقيا من تطلعات وشراهة الصينيين والروس، خاصة وأن الزحف الروسي والصيني لإفريقيا وصل بالفعل إلى مناطق نفوذ فرنسية؛ فقد استطاعت الصين مثلًا إقامة قاعدة عسكرية لها في جيبوتي أرسلت لها 10,000 جندي صيني تبعد بعض الكيلومترات عن القاعدتين العسكريتين الأمريكية والفرنسية هناك([47]).
وتدخل روسيا كأحد الفواعل الرئيسية في رسم خريطة توازنات القوة في إطار الاستراتيجية العسكرية في غرب إفريقيا؛ حيث وقَّعت في عام 2019م اتفاقية تعاون مع وزير الدفاع في مالي على هامش المنتدى العسكري والفني الدولي “ARMY 2019، والتي بموجبها أعلنت روسيا استعدادها لمشاركة القوات المالية في عملية تحقيق السلام، ويعتبر ذلك تحركًا متعدِّد المصالح لمزاحمة القوات العسكرية الأوروبية، وكسب مزيد من النفوذ في القارة([48])، وتشكل روسيا همًّا ثقيلًا لفرنسا ففي إفريقيا الوسطى استطاعت روسيا النفاذ إليها، وقد كشف وزير الخارجية الفرنسي عن بداية صراع بينهما وصرح في18 يونيو 2021م، فلقد نفذت روسيا الاستيلاء على السلطة في جمهورية إفريقيا الوسطى عبر مرتزقة قوة Wagner، ومن ناحية أخرى اعتبر أن مثل هذا التهديد غير مرجح في منطقة الساحل، واتهم الوزير إفريقيا الوسطى بالتواطؤ مع روسيا ضد فرنسا، وأن الميلشيات الموجودة في Banguiبالداخل تُشرف على نهب الثروات، ومع ذلك حاول وزير الخارجية الفرنسي ابتلاع حقيقة أن هناك تغولًا روسيًّا في مناطق نفوذ فرنسية (توظف شركة Wagner 3000 رجل بإفريقيا الوسطى الواقعة تحت وطأة حظر الأمم المُتحدة تصدير السلاح إليها) بقوله: “لا أعتقد أنه خطر”، فلم يُكتشف في الوقت الحالي اختراق روسيّ كبير، لكنه يُناقض نفسه وهو يشير إلى حالة أخرى من التغول الروسي في مالي، وهو كلام غير مُترابط وغير مفهوم؛ إلا أنه يؤكد القلق والخشية الفرنسية من الزحف الروسي على مناطق النفوذ الفرنسية، فكيف يمكننا الاقتناع بأن فرنسا ستتخلى عن دورها العسكري في إفريقيا والحالة هذه؟!، فالأَوْلَى إزاء الزحف الروسي والصيني والطموح الأمريكي ممُثلًا في AFRICOM لإزاحة فرنسا عن مناطق نفوذها بإفريقيا أن تمضي العسكرية الفرنسية في دَعْم قدراتها عددًا وعتادًا لا خفضهما([49]).
خاتمة:
مع تفاقم الوضع الأمني في منطقة الساحل الإفريقي، والذي كان الدافع للتدخل الفرنسي في المنطقة من البداية؛ تسعى فرنسا لتخفيض وجودها العسكري مع الإبقاء على نفوذها في المنطقة التي تثير أطماع اللاعبين الدوليين والإقليميين، ولا سيما الصين التي تعمل على توسيع نفوذها بكافة الآليات في معظم أرجاء القارة الإفريقية في نطاق مبادرة الحزام والطريق، والتي تشمل منطقة الساحل؛ لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، خصوصًا بعد إقامة قاعدة عسكرية صينية لها في جيبوتي، فبالرغم من الوجود العسكري الفرنسي المتمثل في القاعدة الرئيسية في تشاد والقواعد الأصغر في أماكن أخرى، والعمليات العسكرية الفرنسية المتعددة والموجودة، والتي لم تنعكس إيجابيًّا على الوضع بالمنطقة، إلا أن فرنسا عجزت عن حلّ الأزمة الأمنية في المنطقة بمفردها التي كانت وما زالت تشكل إشكالية أمنية معقدة، لا سيما في بلدان مثل مالي وبوركينا فاسو، كما أنها لم تحظَ بتأييد واسع من شعوب دول المنطقة، مما يساعد على قدرتها إقناع الجماهير وتجنيد المقاتلين.
[1]– Tobias Koepf ,France and the Fight against Terrorism in the Sahel The History of a Difficult Leadership Role( Paris: The Institut français des relations internationales (Ifri), Sub Saharan Africa Program, June 2013)p.13.
[2]– د. محمد بوبوش، الأمن في منطقة الساحل والصحراء (عمان : دار الخليج ،2017) ص163-164.
[3]– ليلي ثابتي، “في 10 سنوات.. 7 عمليات عسكرية فرنسية في إفريقيا (إنفوغرافيك)”، 2 فبراير 2016م الرابط: https://www.aa.com.tr/ar
[4]– منتدى التكنولوجيا العسكرية والفضاء، “أعوام من التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الرأي العام نفذ صبره”، 21 يناير 2021م، متوفر على الرابط: https://army-tech.net/forum/index.php?threads/%D8%A3%
[5]– المرجع السابق نفسه.
[6] -French Defense Ministry, “Operation Barkhane“, Public relations office, French Armed Forces Headquarters (EMA), February2020, pp3:16.
[7] -Christopher Griffin,” Operation Barkhane and Boko Haram: French counterterrorism and military cooperation in the Sahel”, TRENDS WORKING PAPER (Abu Dhabi: TRENDS Research & Advisory may 2015) p24.
[8]– U N Human Rights,” Project supporting the G5 Sahel Joint Force with Implementation of the Human Rights and International Humanitarian Law Compliance Framework”, https://www.ohchr.org/EN/Countries/AfricaRegion/Pages/G5-Sahel.aspx
[9]– U N, Security Council, Resolution 2359 (2017) Adopted by the Security Council at its 7979th meeting, on 21 June 2017, pp1-2.
[10] U N, Security Council, Resolution 2391 (2017) Adopted by the Security Council at its 8129th meeting, on 8 December 2017, pp1-6.
[11] -U N Human Rights,” Project supporting the G5 Sahel Joint Force with Implementation of the Human Rights and International Humanitarian Law Compliance Framework”, Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights.
[12] -Ibid.
[13]– International Crisis Group, “The Social Roots of Jihadist Violence in Burkina Faso’s North”, Africa Report N°254 (Brussels, Belgium: International Crisis Group, 12 October 2017) p15.
[14]– The United Nations, “Status Report: OHCHR Project supporting the G5 Sahel Joint Force with Implementation of the Human Rights and International Humanitarian Law Compliance Framework 1 May 2018 – 31 March 2020″(Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights, 05August 2020) pp7-12.
[15] –Coalition Sahel, https://www.coalition-sahel.org/en/coalition-pour-le-sahel/
[16] -United Nations, Security Council: Resolution 2531 (2020) , Adopted by the Security Council on 29 June 2020,p2.
[17]– د. شيماء محيي الدين، “الوجود العسكري الفرنسي ومكافحة الإرهاب في الساحل: ماذا بعد برخان؟”، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، القاهرة، 4 أبريل 2020، على الرابط: https://pharostudies.com/?p=4146
[18] -GIORGIO LEALI, ” France announces Mali troop pullout and rethink of counterterrorism plan for Sahel”, February 17, 2022, https://www.politico.eu/article/france-partners-troop-withdrawal-mali/
[19]– NATO Support and Procurement Agency (NSPA): تعد وكالة الدعم والمشتريات التابعة لحف الناتو مزود خدمات الناتو الرئيسي، وتقدم خدمات للحلف والدول الأعضاء فيه وشركائه، وتجمع ما بين الدعم اللوجستي لحلف الناتو وأنشطة المشتريات، مما يوفر حلول دعم متعددة الجنسيات تتسم بالفاعلية والكفاءة.
[20] -NATO , NSPA to support Takuba Task Force in Mali”,15 Jun. 2021 https://www.nato.int/cps/en/natohq/news_185374.htm?selectedLocale=en
[21] -Le Monde avec AFP et Reuters, ” Le retrait des troupes françaises au Mali se precise”, 14 février 2022,
[22]– مونت كارلو الدولية ” قوة “تاكوبا” الأوروبية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل تخطو خطواتها الأولى في مالي”، 5 نوفمبر 2020م، متوفر على الرابط: https://www.mc-doualiya.com/%D8%A3%D9%5%D8%A7%D9%84%D9%8A
[23]– Degan Sun & Yahia H. Zoubir,” Sentry Box in the Backyard: Analysis of French Military Bases in Africa”, Journal of Middle Eastern and Islamic Studies (in Asia), (Shanghai: Middle East Studies institute,2011)Vol. 5, No. 3, P89.
[24] – للمزيد انظر: هند محروس محمد، “الوجود العسكري الأجنبي في منطقة القرن الإفريقي وتأثيره على الأمن الإقليمي منذ 2001م”، رسالة دكتوراه (القاهرة: كلية الدراسات الإفريقية العليا، 2021م)، ص ص127-128.
[25]– للمزيد انظر: د. رضوان بوهيدل، جيوسياسية التنافس الدولي على منطقة الساحل الإفريقي، (عمان: مركز الكتاب الأكاديمي, 2020م) ص 106-107.
[26]– المرجع السابق نفسه.
[27] -CHARLES MILLON,” France’s strategy in the Sahel”, Geopolitical Intelligence ServicesAG, ,JANUARY 25, 2022, https://www.gisreportsonline.com/r/france-military-sahel/
[28] – Afrik Soir,” France : Le chef d’Etat-major des armées pleure le départ de Barkhane, sa lettre émouvante aux soldats”, 17 février 2022, https://afriksoir.net/actualite/france-thierry-burkhard-chef-etat-major-armees-depart-barkhane-lettre-emouvante-soldats/
[29]– Méryl Demuynck, Julie Coleman J.D, “Political Upheaval and Counter-Terrorism in Burkina Faso: Between a Rock and a Hard Place”, Report, The International Centre for Counter-Terrorism(ICCT) , 1 Feb 2022, https://icct.nl/publication/political-upheaval-and-counter-terrorism-in-burkina-faso/
[30]– Denis M. Tull ,” Operation Barkhane and the Future of Intervention in the Sahel”,(SWP) Stiftung Wissenschaft und Politik ( Berlin: German Institute for International and Security Affairs,NO . 5 JANUARY 2021 ) , p3.
-[31] وحدة الأزمات، مركز جنيف للدراسات السياسية والدبلوماسية، قمة فرنسية مع دول الساحل الإفريقي ..G5 ملفات الإرهاب والتعاون العسكري في الواجهة :مستقبل الدور الفرنسي في إفريقيا“، (باريس: ملف العلاقات الفرنسية الإفريقية، مركز جنيف للدراسات السياسية والدبلوماسية 9 يوليو 2021 ) ص3، https://www.centredegeneve.org/
[32] -Par Le Figaro avec AFP ,” Sahel : une deuxième base militaire française transférée aux Maliens”, 16 November 2021, https://www.lefigaro.fr/flash-actu/sahel-une-deuxieme-base-militaire-francaise-transferee-aux-maliens-20211116
[33] -Secretary- Council report, MONTHLY FORECAST, New York: JANUARY 2022, https://www.securitycouncilreport.org/monthly-forecast/2022-01/mali-16.php
[34] -LAURENT LAGNEAU · “La Russie critique la stratégie française au Sahel et assure le Mali de son soutien militaire“27 DÉCEMBRE 2021, http://www.opex360.com/2021/12/27/la-russie-critique-la-strategie-francaise-au-sahel-et-assure-le-mali-de-son-soutien/#google_vignette
[35]– GIORGIO LEALI, ” France announces Mali troop pullout and rethink of counterterrorism plan for Sahel”, February 17, 2022, https://www.politico.eu/article/france-partners-troop-withdrawal-mali/
[36]– Crisis Group “A Course Correction for the Sahel Stabilisation Strategy”, Africa Report N°299 (Brussels, Belgium :International Crisis Group,1 February 2021)p6-7.
[37]– وحدة المجلات في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية (معد)، شؤون عربية (مصر: جامعة الدول العربية. أمانة العامة، وحدة المجلات، خريف 2016م) المجلد 167، ص194.
[38] -Marc-Antoine Pérouse de Montclos , ” Rethinking the response to jihadist groups across the Sahel”,Research Paper (London: Chatham House, the Royal Institute of International Affairs ,2 march 2021) p6
[39]– د. حمدي عبد الرحمن، “معضلة الأمن في الساحل والصحراء وتأثيرها على دول الجــوار العــربي”، بقلم خبير(مصر: رئاسة مجلس الوزراء، مركز دعم القرار ودعم اتخاذ القرار، 12 أغسطس 2021م) العدد15، ص9، الرابط: https://idsc.gov.eg/DocumentLibrary
–[40]أحمد عسكر، “تمدد موسكو: كيف تؤثر الأزمة السياسية بين باريس وباماكو على حضور فرنسا العسكري بإفريقيا؟“، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، أبو ظبي، 3 فبراير، 2022م، متوفر على الرابط:https://www.interregional.com/en/health-exposure/
[41]“- Sahel: Amnesty identifies Serbian weapons in stockpiles of brutal armed groups”, Amnesty International August 24, 2021, https://www.amnesty.org/en/latest/news/2021/08/sahel-amnesty-identifies-serbian-weapons-in-stockpiles-of-brutal-armed-groups/
[42]– د. حمدي عبد الرحمن، “معضلة الأمن في الساحل والصحراء وتأثيرها على دول الجــوار العــربي”، بقلم خبير (مصر: رئاسة مجلس الوزراء، مركز دعم القرار ودعم اتخاذ القرار، 12 أغسطس 2021م) العدد 15، ص10، الرابط: https://idsc.gov.eg/DocumentLibrary7
[43] -Babacar Gaye ,Sécurité et défense en Afrique subsaharienne : quel partenariat avec l’Europe ?, Revue internationale et stratégique( IRIS), 2003/1 (n° 49),p18.
[44]– إدريس الكنبوري، ” فرنسا .. تحديات فرض الأمن في مالي ودول الساحل الإفريقي” ، (ألمانيا وهولندا: المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ،20 أبريل 2018م) متوفر على الرابط: https://www.europarabct.com
[45] -Marc-Antoine Pérouse de Montclos, “Rethinking the response to jihadist groups across the Sahel”, Research Paper, op.cit, pp.20-21.
[46]– منى قشطة: إعادة صياغة الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي.. الدوافع والمآلات”، المرصد المصري، يوليو 12, 2021، متوفر على الرابط: https://marsad.ecss.com.eg/59058/
[47]– بلال المصري، “الدور العسكري الفرنسي بمنطقتي الساحل والصحراء تراجع أم إعادة صياغة ؟”، المركز الديمقراطى العربي 2. سبتمبر 2021م، متاح على الرابط: https://democraticac.de/?p=77032
[48]– زينب مصطفي رويحه، “ما بعد الانسحاب: دوافع وتداعيات خروج الولايات المتحدة من الساحل الإفريقي“، قراءات إفريقية، 3 فبراير2020م-، متاح على الرابط: https://www.qiraatafrican.com/home/new/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%
-[49] بلال المصري ،”الدور العسكري الفرنسي بمنطقتي الساحل والصحراء تراجع أم إعادة صياغة؟، مرجع سبق ذكره.