تجاوزت الأزمة السَّياسيَّة والأمنيَّة الشَّاملة في إثيوبيا عامها الأول مع تحقيق قوات آبي أحمد تغييرًا في معادلة القوَّة على الأرض، وتمكُّنها -بفضل دعم إريتري كامل، وواضح بالإضافة إلى دعم عسكري من الصين ودول إقليمية “متضاربة المصالح”- من امتلاك اليد العليا في “الصراع العسكري”، والعودة إلى أجواء ما قبل نهاية يونيو 2021م.
ورغم خطوات حكومة آبي أحمد “الإيجابية” مطلع العام الجاري (2022م)؛ من قبيل الإعلان عن البدء الفعلي في إطلاق مسار “حوار وطني شامل”، والإفراج عن عدد من أبرز قادة المعارضة السياسية، الذين اعتُقِلُوا عشيةَ انتخابات يونيو 2021م؛ لتفادي أيّ “اضطرابات غير مرغوبة” في العملية الانتخابية، وضمان فوز مريح لآبي أحمد وحزب الازدهار؛ فإن تسوية الأزمة الإثيوبية لا تزال مرهونة بأكملها تقريبًا بمسار الوساطات الدولية والإقليمية وتفاعلاتها وضوابط تأثيراتها في القُوَى الداخلية الفاعلة في هذه الأزمة، والتي ستحكم في النهاية مخرجات الأزمة الإثيوبية، وسُبُل وضع نهاية للاقتتال الأهلي وسيناريوهات “التسوية السياسية”، وتفادي تعميق الأزمة الإنسانية القائمة.
قراءة في أوضاع الأزمة الإثيوبية مطلع العام 2022م:
شهدت الأزمة الإثيوبية في ديسمبر 2021م نوعًا من تهدئة العمليات العسكرية، وإعلان حكومة آبي أحمد نهاية المرحلة الأولى من العمليات العسكرية ضد قوات جبهة تحرير التيجراي، وتزامَن الإعلان مع تقارير عن إرسال دبرصيون جبرميكائيل زعيم جبهة تحرير التيجراي رسالة لأنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة يطالب الأمم المتحدة بإنفاذ حظر صادرات سلاح على إثيوبيا وإريتريا ومنطقة حظر طيران فوق إقليم التيجراي لتفادي الإقليم “هجوم إبادي” genocidal assault، واتّهم في رسالته القوات الأمهرية والإريترية بارتكاب “تطهير عرقي” في غربي إقليم التيجراي مطالبًا بانسحاب هذه القوات من المنطقة([1]).
وقد بادرت الحكومة الإثيوبية في أجواء الاحتفال برأس السنة الميلادية (الأرثوذوكسية) 2022م، وما أصبحت أديس أبابا تعتبره انتصارًا حاسمًا على قوات جبهة تحرير التيجراي بالإفراج عن العديد من قادة المعارضة الإثيوبية في تعبيرٍ –عدَّه محللون إثيوبيون نسبيًّا حتى اللحظة- عن رغبتها في محادثات مع قوى المعارضة.
ورأت الحكومة -في تطوُّر لافتٍ في خطابها التصادميّ طوال الشهور الفائتة- أن “المفتاح لوحدة دائمة في البلاد هو الحوار”، غير أنَّ هذه الدعوة صاحبتها نزعة مألوفة لشخصية آبي أحمد لتضخيم الذات والقفز فوق مسؤوليات “رجل الدولة” بإعلانه أن أحد الالتزامات الأخلاقية للمنتصر “الرحمة”، في إشارة إلى ما أعلنته الحكومة من انتصارات في ديسمبر 2021م ضد قوات جبهة تحرير التيجراي([2]).
بأيّ حال فقد اعتبرت الخطوة أهمّ اختراق في الأزمة الإثيوبية منذ اندلاع الحرب في إقليم التيجراي في نوفمبر 2022م التي هدَّدت بدورها وحدة الاتحاد الفيدرالي الهشّ في إثيوبيا المكوّن من حوالي 80 جماعة إثنية مختلفة. لكن رغم أهمية هذه الخطوة (تحديدًا الإفراج عن معارضين سياسيين بالسجن)؛ اعتبر محللون إثيوبيون -بينهم مسؤولون سابقون بحكومة آبي أحمد- أنها تستحق التقدير لكنها تظل (مجرد) خطوة أولى في طريق السلام، ولفتوا إلى وجوب تعلم الإثيوبيين من دروس الأزمة من بينها ارتكاب “حكومتهم” فظائع ضد المدنيين باستخدام مسيرات قتالية([3]).
لكنَّ عددًا من أبرز المحلِّلين المعنييِّن بالشأن الإثيوبي، من بينهم وليام ديفيسون W. Davison كبير محلِّلي الشؤون الإثيوبية بمجموعة الأزمات الدولية Crisis Group، لم يتحمّسوا للتطورات الأخيرة، بما فيها الإفراج عن السجناء السياسيين، ورحّبوا بها على حذرٍ لافتٍ -ومبرّر في واقع الأمر. ومن جهة أخرى فإنه برغم إيجابية تقديم التيجرانيون مقترحات لتسويةٍ يتم التفاوض حولها، وتتعلق بعمل دولي ملزم، ومع كونها أمرًا إيجابيًّا، لكنها تظل مقترحات غير واقعية، ومِن ثَم فإنه ليس هناك “تقدّم حقيقيّ” في مسار تسوية سلمية لمسألة “غربي التيجراي”؛ إضافةً إلى عقبة أخرى لا تزال ماثلة أمام السلام، وفق “ديفيسون” تتمثل في امتلاك التيجراي جيشًا نظاميًّا كبيرًا “ربما يفوق عدده مئات الآلاف”، وعقيدته الأساسية هي حماية إقليم التيجراي الذي يواجه تهديدًا وجوديًّا([4]).
الوساطة الأمريكية: مقاربات جديدة
تواجه الدبلوماسية الأمريكية في القرن الإفريقي بشكل عام، وإزاء الأزمة الإثيوبية المتفاقمة منذ الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة في نوفمبر 2020م، مأزقًا خطيرًا بعد خسارتها اثنين من أبرز حلفائها في الإقليم، وربما في القارة الإفريقية بأكملها -حسب كثير من المراقبين الأمريكيين-، وهما آبي أحمد ورئيس الوزراء السوداني المستقيل عبد الله حمدوك. وتزايد مع نهاية العام الماضي ومطلع العام 2022م انتقادات وجّهها محللون أمريكيون إزاء تردُّد بلادهم في انتقاد “هجمات متمردي التيجراي” على “الحكومة المنتخبة ديمقراطيًّا”، والنظام الدستوري (مع ملاحظة استمرار عمل إثيوبيا بدستور مؤقت منذ تسعينيات القرن الماضي في ظاهرة دستورية نادرة قياسًا لدولة بحجم إثيوبيا وأهميتها إفريقيا)؛ وإن صمت “واشنطن وبروكسل” على الاعتداء شجّع المتمردين على توجُّه أنظارهم نحو أديس أبابا، وأن يكون هدفهم النهائي هو عزل آبي أحمد([5]).
وبموازاة هذه الرُّؤى الآخذة في التصاعد، ومن منظور أمريكي صرف، رأت واشنطن أن خطوتها المتمثلة في تعيين مبعوث أمريكي جديد للقرن الإفريقي (السفير السابق في تركيا ديفيد ساترفيلد) خلفًا للمبعوث الحالي جيفري فيلتمان (المقررة نهاية يناير الجاري)؛ ستشكل “في حد ذاتها” بداية مرحلة جديدة للصراع الإثيوبي، بالتزامن مع موافقة مجلس الشعب الإثيوبي على تكوين مفوضية الحوار الوطني “تسعى لحلول سياسية للانقسامات العديدة داخل المجتمع الإثيوبي”، رغم أن الحوار على النحو الذي صوّرته حكومة آبي أحمد لن يشمل المعارضة المسلّحة للحكومة، ومن ثَم فإنه لن يؤدي إلى طريق نحو محادثات أكثر شمولًا وأهمية، حسب أجندة المفوضية([6]).
وتحكم الرؤية الأمريكية الحالية نظرة آبي أحمد وأنصاره لتاريخ العلاقات الأمريكية الإثيوبية، وتأكدهم من تغاضي واشنطن -المتعمد والدالّ في جوانب كثيرة- عن القمع الداخلي والانتهاكات التي استمرت طوال أعوام هيمنة جبهة تحرير التيجراي، وتساؤلهم عن دوافع الولايات المتحدة الأخيرة. ويأتي هذا الاعتبار وسط مخاوف موضوعية من أن تقود الدبلوماسية الأمريكية الحالية إلى إعادة إنتاج نظام على غرار نظام جبهة التحرير الديمقراطية الإثيوبية المنحلَّة بقيادة جبهة تحرير التيجراي([7]).
على أيّ حال فإن إدارة بايدن تواصل، لا سيما منذ مطلع العام الجاري، تقييم هذه التطورات وتحاول التعويل على الاتجاهات “الإيجابية” مع عزمها على تغيير المبعوث الأمريكي لشؤون القرن الإفريقي فيلتمان.
ورغم هذه الإشارات الإيجابية لكن الشكوك لا تزال تحيط بمدى جدية حكومة آبي أحمد في سلام دائم، كما تثور تساؤلات حقيقية عن استدامة خطواتها نحو السلام. وربما تكون القاعدة السياسية لرئيس الوزراء آبي أحمد مُوحَّدة على العداء لجبهة تحرير التيجراي، لكن في ظل غياب أيّ تهديد عاجل من عدو مشترك؛ فإن المصالح المتنافسة والمتناقضة في أحيان أخرى ستصعّب تسويتها.
وعلى سبيل المثال؛ فإن بعض جماعات الأمهرا المسلحة (التي دعمت آبي أحمد طوال أكثر من عام مضى) ترى في الوقت الحالي أن قرارات العفو التي أصدرتها الحكومة بحق معارضين سياسيين مطلع العام 2022م تمثل خيانة. كما يتوقع أن تواصل إريتريا أجندتها الخاصة دون النظر لجهود الإثيوبيين تسوية مشكلاتهم وخلافاتهم السياسية سلميًا. كما تظل مسألة محاسبة الأطراف المتورطة في انتهاكات وجرائم حرب عالقة مستقبلًا([8]).
ويمكن تلمُّس الأهمية التي تُوليها واشنطن لوساطتها في الأزمة مع تعيين مبعوثها الجديد للقرن الإفريقي في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بهذا الخصوص، وتأكيده “أنَّ عدم الاستقرار الجاري في القرن الإفريقي والتحديات السياسية والأمنية والإنسانية المتشابكة في الإقليم تتطلب تركيز الولايات المتحدة الدائم. وأن خبرة السفير (الأمريكي السابق في تركيا ديفيد ساترفيلد) الدبلوماسية لعقود، وعمله وسط بعض أكثر الصراعات في العالم تحديدًا ستكون أداة مهمة في جهدنا المتواصل لتعزيز قرن إفريقي سلمي ومزدهر، وتقدم المصالح الأمريكية في هذا الإقليم الاستراتيجي”([9]).
وثمة ملاحظة مهمة هنا تتعلق بالآثار الواضحة لمقاربة إدارة بايدن للأزمة الإثيوبية (التي استهلكت جُلّ جهود الإدارة تجاه القارة الإفريقية في العام 2021م دون تحقيق النتائج المرجوة) في السياسة الداخلية، كما تجسّد مؤخرًا –على سبيل المثال- في تصويت التجمعات الإفريقية –لا سيما الإثيوبية منها- في ولاية فيرجينيا لصالح المرشح الجمهوري لتولّي منصب الحاكم بها على خلفية ما اعتبره الكثير منهم “ألم التجاهل” وأسلوب “بايدن” في الأزمة الإثيوبية([10]).
ويتوقع أن يحقّق تعيين مبعوث أمريكي جديد لشؤون القرن الإفريقي نهاية يناير الجاري، وانفتاح الرئيس جو بايدن على رئيس الوزراء الإثيوبي للمرة الأولى في غضون عام كامل من تولي الأول إدارة بلاده بمكالمة هاتفية في 11 يناير الجاري (تباين مضمونها بين “تغريدة” لآبي أحمد على “تويتر” وبيان الخارجية الأمريكية)، دفعة للدبلوماسية الأمريكية لحلحلة الأزمة الإثيوبية، وتعزيز “الحوار الوطني الشامل” الذي تعهدت حكومة آبي أحمد بإطلاقه (وهو مطلب أمريكي رئيس منذ تولي بايدن إدارة الولايات المتحدة). وبعد ساعات من هذا التقارب “المهم”، لفت مراقبون كثر إلى هشاشة تأثير مكالمة جو بايدن لآبي أحمد (11 يناير الجاري) في تغيير حقيقي في مواقف الأخير تجاه أيّ تسوية مقترحة، بما فيها ما أعلنه من إطلاق حوار وطني دون وضع أجندة واضحة لهذا الحوار حتى الآن؛ إذ تلت تلك المكالمة بفارق ساعات قليلة ضربة جوية شنتها قوات الحكومة الفيدرالية على إقليم التيجراي، أودت بحياة نحو 60 مدنيًّا([11]).
وحتى اللحظة، وترقبًا للديناميات التي قد تعمد إليها الإدارة الأمريكية لإنقاذ حضورها التقليدي في الإقليم، يبدو أن حالة التوتر الأمريكي- الإثيوبي ستظل حاكمة لنجاعة “الوساطة الأمريكية” من عدمها، مع الأخذ في الاعتبار الدلالة القوية لمؤشرات الانفراجة بمحادثة الرئيس جو بايدن (11 يناير 2022م)، ثم ما تلاها بساعات وجيزة تكرار حكومة آبي أحمد شنّ ضربات جوية بمسيرات على إقليم التيجراي، رغم أن الدافع الرئيس –المعلن- لمحادثة “بايدن” كان حثّ آبي أحمد على وقف مثل هذه الهجمات([12]).
العامل الصيني: الدبلوماسية وتوسيع النفوذ
تملك الصين حضورًا لافتًا ومتزايدًا في إقليم القرن الإفريقي وإثيوبيا بشكل خاص غلب عليه الطابع الاقتصادي، وتبعه اهتمام بكين العسكري متجسدًا في إقامة قاعدتها العسكرية الوحيدة خارج أراضيها في جيبوتي (2016م)، وامتد هذا النفوذ في الأزمة السياسية الحالية في إثيوبيا إلى التدخل المباشر في التطورات السياسية في الإقليم بالمخالفة للسياسة الصينية المعلنة بعدم التدخل في شؤون الدول.
وتشمل مصالح الصين في القرن وجودها العسكري في جيبوتي، وسعيها حسب الدبلوماسية الأمريكية لإقامة قاعدة عسكرية في كينيا، كما أنها أكبر مستثمر أجنبي مباشر في إثيوبيا التي يعاني اقتصادها بقوة من الإنفاق على الحرب وتداعياتها الاقتصادية.
وبادرت الصين بإعلان استحداث منصب مبعوثها للقرن الإفريقي، بينما تراجع الولايات المتحدة دبلوماسيتها في الإقليم برُمّته فيما اعتبره مراقبون رغبة صينية للاستفادة من تراجع حدة الأزمة في إثيوبيا؛ للضغط من أجل التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار والتوجه نحو السلام([13])، أو مرحليًّا التنافس مع الولايات المتحدة في استقطاب جهود الوساطة الكينية في الأزمة الإثيوبية التي تحظى بدعم أمريكي واضح حتى اللحظة الحالية.
وفي سياق الدبلوماسية الصينية النشطة في القرن الإفريقي منذ نهاية العام الماضي بزيارات وزير خارجيتها “وانج يي” لثلاث دول في إقليم القرن الإفريقي وشرق إفريقيا (إثيوبيا وإريتريا وكينيا)، حثت الصين دول القرن الإفريقي على تسوية خلافاتها الإثنية والدينية والإقليمية المتنوّعة “بطريقة إفريقية” في تطابق للرؤية مع ما تروّجه أديس أبابا من تبنّي حلول إفريقيا للمشكلات الإفريقية، وتجاهل أيّ دور “ضروريّ أو مفترَض” للمنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمنع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مِن قِبَل الحكومة الإثيوبية ضد مواطنيها، وجاءت مقاربة بكين لتطابق تطلعها لدور نَشِط للغاية في القضايا الأمنية في الإقليم في الفترة المقبلة.
ورغم عدم تحديد بكين أجندة المبعوث الصيني المرتقب؛ فإن التوقُّعات كلها تؤكّد أن أزمة “حرب التيجراي” هي الأكثر إلحاحًا. وفي سياق التورُّط الإريتري في هذه الحرب لفت الانتباه بدء “وانج وي” جولته الإفريقية بزيارة إريتريا، ومهاجمة العقوبات الأمريكية عليها. ومن هناك دعت الصين دول القرن الإفريقي لعقد مؤتمر إقليمي للسلام يمكن أن يقدم له المبعوث الصيني المرتقب الدعم اللازم.
واعتبر مراقبون خطوة الصين بتعيين مبعوث لها في القرن الإفريقي مجرد جزء من خطة الصين الطموحة للعب دور أكبر في سياسة الإقليم وأمنه، لا سيما أن الصين من بين الدول المشكوك في إمدادها النظام الإثيوبي بمعدات عسكرية بما فيها المسيرات، مما أكَّد تحوُّل سياسات الصين في القرن الإفريقي بشكل كبير من المسائل الاقتصادية إلى النواحي العسكرية؛ خاصةً أن تعيين مبعوث خاص يعني عدم اقتصار سياسات بكين لاحقًا، ورسميًّا، على التجارة، بل إن جُلّ اهتمامه سينصبُّ على الشؤون السياسية والأمنية، ويتوقع أن تقدم بكين، التي أكدت الخارجية الأمريكية في العام الماضي مساعيها لإقامة قواعد عسكرية في كينيا وتنزانيا، بمجرد إبراز عضلاتها العسكرية على دعم “حروب بالوكالة” حسب المحلّل الكيني ناسونجو موليرو Nasong’o Muliro بالجامعة التقنية في نيروبي([14]).
ويُتوقع أن تحقّق الوساطة أو التأثير الصيني في الأزمة نجاحًا ملفتًا في الشهور المقبلة في ضوء العديد من المؤشرات الأخيرة أبرزها ربط الصين (الشريك التجاري الأكبر مع القارة الإفريقية في العام 2020م بحجم تبادل تجاري بلغ 187 بليون دولار لصالح الصين بشكل شبه مطلق) بكينيا عبر مبادرة الحزام والطريق بمشروعات ضخمة في ميناء ممباسا تم اكتمالها خلال زيارة وانج يي الأخيرة؛ وتشابك مصالح الصين في إقليم المحيط الهندي مع إقليم القرن الإفريقي مما يدفع لتصور أن الاهتمام الاستراتيجي الصيني الحالي بالقرن الإفريقي سيحظى بدفعة أكبر من قدرة الصين الاقتصادية الهائلة في الإقليم الذي يواجه في العام الحالي واحدة من أسوأ موجات الجفاف في آخر ثلاثة عقود([15]).
مسار الوساطة الإفريقية والكينية: الواقع والمآلات
ثمة إجماع عززته المواقف والشواهد المتواترة بعدم وجاهة الاعتداد بجدية وساطة الاتحاد الإفريقي في الأزمة الجارية على مستويات عدة، سواء نقطة انطلاقها بالنظر لأطراف الأزمة بحد أدنى من الحياد والموضوعية، أم تحديد أسباب الأزمة بشكل جاد قائم على معاينة وقائعها وليس الامتثال برواية وحيدة مصدرها أديس أبابا، أم الانفتاح على كافة المخرجات الممكنة وليس الارتهان بهدف محدد مسبقًا كما اتضح في بيانات الوسيط الإفريقي “أوليسجون أوباسنجو” بخصوص الأزمة قبيل تراجع دوره في الأسابيع الأخيرة. وحسب محللون فإن الاتحاد الإفريقي لا يمكن النظر له كوسيط أو منظمة ذات قدرة على البدء في وساطة صادقة هادفة لحل الأزمة في إثيوبيا بالنظر إلى عدم امتلاك الاتحاد أو وسيطه السياسي المخضرم رؤية موضوعية للأزمة الإثيوبية، كما أنه لم يعلق على أحداث العنف ضد المدنيين واستخدام حكومة آبي أحمد “سلاح التجويع” بحقهم في ذروة احتدامها، إلى جانب منح الاتحاد عبر مراقبته لانتخابات يونيو 2021م نوعًا من المصداقية لنظام آبي أحمد رغم الانتهاكات الخطيرة للعملية الانتخابية برمتها([16]). كما لا يتوقع أن تحقق جهود الاتحاد الإفريقي (الذي لم يدرج الأزمة الإثيوبية على جدول قمته رغم اشتعالها لقرابة عامين منذ منتصف العام 2020م) في الحيلولة دون أيّ تجدُّد للأعمال العدائية المتبادلة أي نتائج ملموسة.
وفي ضوء شخصية آبي أحمد، والدعم المستمر الذي يحصل عليه من قُوًى إقليمية ودولية؛ فإنه لا يُتوقع أن يوافق على أيّ محادثات سياسية أو مفاوضات حتى يُحْكِم سيطرته على كافَّة أرجاء البلاد، وهي مسألة بحاجة إلى مزيد من الوقت([17])، وهو المسار الذي يؤيده الاتحاد الإفريقي بشكل تامّ ومتطابق وفق تحليل بيانات وسيطه “أوباسانجو” قبل تجميد وساطته فعليًّا.
ومقابل عجز الاتحاد الإفريقي التام، تُعدّ كينيا وسيطًا إقليميًّا مثاليًّا من وجهة نظر الفاعلين الدوليين؛ وعلى سبيل المثال: كانت نيروبي محطة مهمة في جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية (نوفمبر 2021م) برمجت خلالها الإدارة الأمريكية تنسيقًا كاملًا مع كينيا للوساطة في الأزمة الإثيوبية حظيت لاحقًا بتحفظات إثيوبية معلنة بمطالبة آبي أحمد (نهاية ديسمبر 2021م) الإدارة الأمريكية التعامل مباشرة مع بلاده وعدم التعويل على “الوساطة الكينية”.
وفي المقابل تملك كينيا علاقات اقتصادية وطيدة مع الصين قابلة للتصاعد في الفترة المقبلة مع تركيز بكين على الاستثمار في قطاع البترول في كينيا (خاصة في منطقة كيبيفو Kipevu بمدينة ممباسا بتكلفة تتجاوز 400 مليون دولار)، بينما تمثل ديون كينيا المستحقة للصين نحو 67% من إجمالي ديونها الخارجية؛ مما يثير تخوّفات لدى قطاعات كينية كبيرة باحتمالات فقد الحكومة الكينية إدارتها لمرافق رئيسة مثل ميناء ممباسا إن عجزت كينيا عن دَفْع مستحقات ديونها لدى الصين([18]).
وتعزّز المقاربة الصينية تجاه القرن الإفريقي بقوة الوساطة الكينية كرافعة للتدخل الصيني على الأقل في هذه المرحلة المبدئية (بالنسبة لبكين)، فقد أعلن وزير الخارجية الصيني من نيروبي (6 يناير الجاري) عزم بلاده تعيين “مبعوث صيني خاصّ لشؤون القرن الإفريقي”؛ لمحاولة المساهمة في جهود تسوية العديد من المشكلات في الإقليم الذي بات يُمثّل نقطة ارتكاز الصين في القارة الإفريقية ورأس جسر في مبادرة الحزام والطريق الصينية نحو عمق القارة الإفريقية([19]).
ورغم التحفُّظ الإثيوبي المشار له إزاء “الوساطة الكينية”، فقد شهد التبادل التجاري بين كينيا وإثيوبيا في الربع الثالث من العام 2021م زيادة في صادرات الأولى للثانية بنسبة 68% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2020م، وكان السبب الرئيس في هذه الزيادة صادرات المواد الغذائية (بينما أكد برنامج الغذاء العالمي بالأمم المتحدة في ديسمبر 2021م معاناة أكثر من 9 ملايين إثيوبي من نقص الغذاء في شمالي البلاد وحدها([20]).
وتشير هذه المعطيات إلى تفهُّم أن كينيا تظل هي الطرف الإفريقي المؤهل –واقعيًّا بشكل تامّ- للتوفيق بين جميع الوساطات الدولية الضرورية لحسم الأزمة الإثيوبية رغم تجدد اعتماد آبي أحمد لغة “المنتصر” متجاهلًا الأبعاد البنيوية للأزمة السياسية والقابلة لتجديدها في أيّ وقت حال تجاهل معالجة أسبابها ومظاهرها.
الأزمة الإثيوبية: ماذا بعد؟
تبقى خيارات المجتمع الدولي محدودة في فرض تسوية عاجلة للأزمة الإثيوبية، ويمكن أن يكون العامل الأول في هذا القصور متمثلًا في عدم رغبة الأول في الضغط بشكل كامل على نظام آبي أحمد تخوفًا من انفلات الأوضاع في إثيوبيا، وقدرة الأخير، كما حال نموذجه الأثير نظام أسياس أفورقي، على الاستفادة من تناقضات السياسات والمصالح الدولية والإقليمية في إقليم القرن الإفريقي لصالح “استدامة التخلف” والقمع السياسي دون أي محاسبة دولية على انتهاكات ترقى -وفق تقارير أممية موثقة- إلى جرائم الحرب.
وتعزز فرص هذا السيناريو التشاؤمي حقيقة الأوضاع الراهنة من تسارع الوساطات الأمريكية والأوروبية والإفريقية وبعض الدول الإقليمية لتثبيت وقف إطلاق نار بين قوات الدفاع الوطنية الإثيوبية ومقاتلي جبهة تحرير التيجراي دون تحقيق نجاح يُذْكَر حتى منتصف يناير 2022م، مع وجود دلائل خطيرة على نزوع نظام آبي أحمد (وربما بضغط، أو على الأقل تشجيع، من أسمرا) لمواصلة الضربات الجوية التي عاد لتوجيهها ضد أهداف في إقليم التيجراي (ونفت الحكومة لاحقًا مسؤوليتها عن استهداف مدنيين “بمُسَيَّرَات”، واتهمت جبهة تحرير التيجراي باستخدام “الدعاية” للفت انتباه المجتمع الدولي([21]).
ويمثل التنافس الأمريكي- الصيني في الإقليم ورقة رابحة في يد “آبي أحمد”، فبينما كانت الولايات المتحدة المانح الأكبر لإثيوبيا حتى اندلاع حرب التيجراي حيث منحتها -وفقًا لجيفري فيلتمان- 4.2 بليون دولار في الفترة 2016-2020م على خلفية اعتبار واشنطن لإثيوبيا شريكها المستقر في الإقليم، مقابل دعم الأخيرة لواشنطن في كافة مجالات اهتمامها في القرن الإفريقي لا سيما الحرب على الإرهاب في الصومال؛ فإن تراجع هذا التأثير الأمريكي في إثيوبيا (والقرن الإفريقي)؛ أظهر استعداد الصين التام لشغل “فراغ القوة” هذا، لا سيما –كما سبقت الإشارة- بعد مؤشرات قوية على انتهاج الصين دبلوماسية الانخراط السياسي المباشر في شؤون القرن الإفريقي بالمخالفة “لتقاليد السياسة الخارجية الصينية” التي تنأى -حسب تأكيدات بكين- عن التدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى([22]).
واتضحت تلك المؤشرات في زيارات وزير الخارجية الصيني وانج يي لأديس أبابا وإريتريا وكينيا. لكن يظل العامل الحاسم في الأسابيع المقبلة في مسار ونجاعة الوساطات الدولية والإقليمية قدرة –أو عجز- الإدارة الأمريكية على العودة القوية لإقليم القرن الإفريقي، والانخراط بشكل ملموس في قضاياه وفي قلبها الأزمة الإثيوبية.
[1] Andres Schipani, Ethiopia’s offer of talks signals breakthrough in Tigrayan conflict, Financial Times, January 12, 2022 https://www.ft.com/content/b654f120-01aa-41b1-92e2-f3017b7845bf
[2] Ibid.
[3] Ibid.
[4] Ibid
[5] Gabriel Negatu, The US risks losing its influence in the Horn of Africa. Here’s how to get it back, Atlantic Council, January 11, 2022 https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/the-us-risks-losing-its-influence-in-the-horn-of-africa-heres-how-to-get-it-back/
[6] Michelle Gavin, Ethiopia Conflict Dynamics Shift as New U.S. Envoy Takes Over, Council on Foreign Relations, January 10, 2022 https://www.cfr.org/blog/ethiopia-conflict-dynamics-shift-new-us-envoy-takes-over
[7] Ibid
[8] Ibid.
[9] Aggrey Mutambo, China, US up stakes in troubled Horn with special envoys, The East Africa, January 8, 2022 https://www.theeastafrican.co.ke/tea/rest-of-africa/china-us-up-stakes-troubled-horn-with-special-envoys-3675756
[10] Witney Schneidman, Will Biden deliver on his commitment to Africa in 2022? Brookings, January 10, 2022 https://www.brookings.edu/blog/africa-in-focus/2022/01/10/will-biden-deliver-on-his-commitment-to-africa-in-2022/
[11] Ethiopia – Will The War Ever End? The Citizen, January 14, 2022 https://www.thecitizen.in/index.php/en/newsdetail/index/6/21339/ethiopia—will-the-war-ever-end
[12] Cara Anna, Ethiopian drone strike kills 17 on day of Biden-Abiy call, Associated Press, January 11, 2022 https://apnews.com/article/joe-biden-africa-kenya-ethiopia-abiy-ahmed-33a1c6942729a5b7c72fe9c614389fd1
[13] Cara Anna, China to appoint Horn of Africa envoy amid Ethiopia crisis, Associated Press News, January 6, 2022 https://apnews.com/article/china-elections-united-states-race-and-ethnicity-africa-1645cbbb688383adb8755bf38c10e837
[14] Mohammed Yusuf, China to Appoint Horn of Africa Special Envoy, VOA, January 6, 2022 https://www.voanews.com/a/china-to-appoint-horn-of-africa-special-envoy/6385449.html
[15] Strategy and ambition: In Wang Yi visit, China’s long Africa game, The Indian Express, January 13, 2022 https://indianexpress.com/article/explained/in-wang-yi-visit-chinas-long-africa-game-7720305/
[16] Mulugeta G Berhe, Why the African Union’s mediation effort in Tigray is a non-starter, The Conversation, October 13, 2021 https://theconversation.com/why-the-african-unions-mediation-effort-in-tigray-is-a-non-starter-169293
[17] Ethiopia – Will The War Ever End? Op. Cit.
[18] Mohammed Yusuf, China to Appoint Horn of Africa Special Envoy, Op. Cit.
[19] Cara Anna, China to appoint Horn of Africa envoy amid Ethiopia crisis, Op. Cit
[20] Carolyne Tanui, Kenya’s Exports To Ethiopia Up 68 Pc On Increased Food Consignments, Capital Business, January 7, 2022 https://www.capitalfm.co.ke/business/2022/01/kenyas-exports-to-ethiopia-up-68-pc-on-increased-food-consignments/
[21] Chrispin Mwakideu, Ethiopia at crossroads as drone attacks worsen Tigray crisis, DW, January 14, 2022 https://www.dw.com/en/ethiopia-at-crossroads-as-drone-attacks-worsen-tigray-crisis/a-60418585
[22] Rajen Harshe, The Ethiopian Civil War: Untangling domestic and international repercussions, Observer Research Foundation, January 3, 2022 https://www.orfonline.org/expert-speak/the-ethiopian-civil-war/