واجهت الدول الإفريقية منذ استقلالها صعوبات التخلّف ومشكلات التنمية، ولم تكن نهاية الاستعمار تعني التغلّب على نقاط الضعف التي ورثتها من القوى المستعمِرة.
وللدخول في عمليةٍ تنمويةٍ اتبعت الدول الإفريقية سياساتٍ اقتصاديةٍ متنوّعة، غير أنّ السياق الدولي والقيود المحلية التي تفاقمت، بسبب الفجوة المتزايدة بين الديموغرافيا الديناميكية والزيادة المحدودة في الموارد، حالت دون إحراز تقدُّمٍ كبيرٍ في السياسات الاقتصادية والتنموية التي نُفذت على مدار عقود.
كانت تحديات التنمية التي مثَلَت أمام الحكومات الإفريقية تُحتِّم عليها وجود رؤوس أموالٍ كبيرةٍ؛ للقيام من العثرة الاقتصادية التي وقع فيها أغلب الدول الإفريقية، وذلك استجابةً للخيارات الأيديولوجية التي فُرضت عليها، وهي «الرأسمالية الغربية».
وفي هذه الدراسة؛ نحاول البحث عن أزمة الديون الإفريقية، وسنحاول الوقوف على الأسباب التي جعلت أغلب الدول الإفريقية يغرق في مستنقع المديونية الخارجية، كما نحاول الكشف عن الخدعة التي تنتهجها القوى العظمى لنهب رؤوس أموال الدول الإفريقية، وأثر هذا النهج في العمليات التنموية في إفريقيا، وسنستشرف الحلول الآنية والمستقبلة لتحرُّر الدول والشعوب من الديون البغيضة.
أولاً: إفريقيا وأزمة المديونية الخارجية:
شهد الاقتصاد العالمي أزماتٍ مختلفةٍ عبر تاريخه، وتختلف هذه الأزمات في الطبيعة وفي كيفية التطوّر وفي الحجم، ومن هذه الأزمات أزمة المديونية الخارجية التي وقعت فيها الدول النامية، وبخاصّة الدول الإفريقية، ولقد تطورت هذه الأزمة في إفريقيا بشكلٍ متفاقمٍ، كما تعددت أسبابها، وتفاوتت أحجامها.
1- السياق الدولي للديون الخارجية الإفريقية:
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ظهر نظامٌ اقتصاديٌّ عالميٌّ جديدٌ، ما أدى إلى إنشاء مؤسّساتٍ اقتصاديةٍ حديثة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وصاحبَ بروز هذا النظام الجديد تغيّرٌ كبيرٌ في الشكل الجيوسياسي للعالم؛ حيث حصلت العديد من البلدان النامية على الاستقلال، وأرادت وضع نموذجها الاقتصادي المستقلّ للتحرر من الوصاية التي تمارسها كلٌّ من القوى الاستعمارية السابقة وكتلتَي الحرب الباردة، فاجتمعت هذه الدول لأول مرة عام 1955م في مؤتمر باندونج بإندونيسيا لإعلان ولادة كيانٍ جديدٍ هو «حركة عدم الانحياز»، فظهر لأول مرة مصطلح «دول العالم الثالث» ابتداءً من هذه الحقبة.
تزامنت هذه الحقبة مع وضع الولايات المتحدة خطة «مارشال» لإعادة إعمار أوروبا، وقد استغلت أمريكا هذه الفرصة للاستثمار بكثافةٍ في الاقتصاد الأوروبي لمساعدتها على العودة إلى الركب من جديد؛ وسرعان ما أصبحت البلدان الأوروبية شركاء تجاريّين متميزين مع أمريكا، فرض هذا التوجه عملة «الدولار» لتصير عملةً عالميةً، حيث حاولت السلطات الأمريكية كبح الطلب على تحويل الدولار إلى ذهب- وكان ذلك ممكناً قبل عام 1971م- حتى لا تجفّ خزاناتهم، يشير هذا إلى التحكُّم القويّ على الاقتصاد العالمي من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها أوروبا(1).
وقد انعكس هذا الأمر سلباً على اقتصاديات دول العالم الثالث- ولا سيما الدول الإفريقية المستقلة حديثاً- التي كانت تبحث عن سبلٍ ناجعةٍ للتنمية وتشجيع اقتصادها، كانت هذه الدول في حاجةٍ ملحّةٍ إلى رؤوس الأموال لتمويل التنمية، ولم تجد مخرجاً من ذلك غير الاستدانة من الدول ذات الفائض في رأس المال، باعتبار أنّ الاستدانة ستساعدها في تحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ سريع، على أن يتمّ الدفع في المستقبل في أقساطٍ مع الفوائد، وقد أدّى الارتفاع الكبير في تكاليف خدمة المديونية خلال حقبتَي السبعينيات والثمانينيات إلى وقوع كثيرٍ من تلك الدول في فخِّ المديونية.
وفي عام 1973م بلغ مجموع ديون البلدان النامية بالفعل 111 مليار دولار، في حين كان 67 مليار دولار في عام 1970م، ومع تعدد اللاعبين في الاقتصاد العالمي المتمثلين في: البنوك الخاصّة، وحكومات الدول المتقدمة، والبنك الدولي، وحكومات الدول النامية، تضاعفت الديون الخارجية على البلدان النامية، فصارت مضروبةً في (12) بين عامَي 1968م و1980م، أي من 50 مليار دولار إلى 600 مليار دولار(2) ، وهكذا شكّلت الديون الخارجية أزمةً حقيقية للدول الإفريقية، أعاقت العملية التنموية فيها، وترجع المديونية الخارجية إلى عوامل وأسبابٍ تجذرت بدايةً من الستينيات والسبعينيات، ومازال بعضُها مؤثراً إلى الآن.
2- أسباب الديون الخارجية على الدول الإفريقية:
قامت ثلاث هيئـاتٍ دوليةٍ (هي: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية) باقتراح تعريفٍ للمديونية الخارجية سنة 1984م كما يأتي:
«المديونية الخارجية الإجمالية تساوي- في تاريخٍ محدَّد-: مجموع الالتزامات التعاقدية الجارية التي تسمح بتسديد المقيمين لدولةٍ ما إزاء غير المقيمين والمستوجبة ضرورة دفع الأصل (رأس المال) مع أو بدون فوائد، أو دفع الفوائد مع أو بدون تسديد الأصل»، وهذا ما حدّدته أيضاً مجموعةٌ دوليةٌ متعددة الأطراف سنة 1988م؛ بالنصّ على أنّ المديونية: «تعني قيمة الالتزامات القائمة والموزعة في أي فترةٍ من الزمن، للمقيمين في دولةٍ معيّنة تجاه غير المقيمين، لدفع الأساس مع وبدون فائدة، أو دفع فائدة مع أو بدون أساس».
ولقد بدأت مديونية بلدان إفريقيا السوداء تبدو مثيرةً للازعاج لدى المؤسّسات المالية الدولية منذ اللحظة التي لم تعد فيها الدول قادرةً على الدفع، أي منذ عام 1985م تقريباً.
كما اكتسبت أزمة المديونية الخارجية زخماً عالميّاً منذ عام 1982م؛ عندما أعلنت المكسيك أنها تعلّق دفع خدمة الدين، وقد أذهل هذا القرار- الذي كان متوقعاً- المجتمع المالي الدولي، والواقع أنّ أزمة عام 1982م لم تكن الأولى من نوعها، حيث إنه منذ نهاية الستينيات، وخاصّةً بعد أول صدمةٍ نفطيةٍ عام 1973م، حيث تدخّل عاملان أساسيان في عملية الاستدانة، أولهما: ازدياد أسعار الفوائد، وثانيهما: انخفاض أسعار المواد الخام للدول النامية، حيث كانت تلك المواد هي العماد الأساسي لسداد الديون الخارجية، بالإضافة إلى أسبابٍ أخرى أدت إلى تراكم الديون في البلدان الإفريقية.
ويمكن حصر أهمّ هذه العوامل في الآتي:
أ- الديون المحوّلة:
ابتداءً من سنة 1960م، وبعدما نالت معظم المستعمرات الإفريقية استقلالها، تولّد عبءٌ استعماريٌّ ثقيلٌ تمثّل في الديون التي تمّ تحويلها إليها، في وقتٍ لم يكن وضعها الاقتصادي يسمح لها بتحمّل حجم هذه الديون، وللتغلب على ذلك كان على هذه البلدان الشابّة أن تأخذ قروضاً جديدةً من مستعمِريها السابقين، أو من المؤسّسات المالية الدولية لسداد القروض القديمة، وقد أُطلق على هذه العملية «عملية تحويل الديون»(3).
ب- تذبذب أسعار النفط وأسعار المواد الخام:
منذ عام 1973م أدى ارتفاع أسعار النفط، وما يُسمّى بـ«الصدمة النفطية»، إلى تحقيق رؤوس أموالٍ مريحةٍ للبلدان المنتجة للنفط، حيث ازدادت أسعار البترول إلى 400%، ثم وضعت الدول هذه الأموال في المصارف الغربية، ثم عرضت البنوك هذه «البترودولار» على الدول النامية، ومنها أغلب الدول الإفريقية، بأسعار فائدةٍ «منخفضة» تشجيعاً لهم على الاقتراض، وكان هذا التطوّر فرصةً سانحةً للبنوك التجارية للدخول بقوةٍ في عملية الإقراض مع الدول النامية، فمثلاً كانت حصّة القطاع الخاصّ من الديون قد بلغت 36 مليار دولار في عام 1970م، ثم وصلت إلى 380 مليار دولار في عام 1980م(4) ، ويُشكِّل جميع هذه القروض في المصارف الغربية جزءاً كبيراً من الدين الخارجي العام، ومع عجز هذه الدول عن الوفاء بالتزاماتها أو التأخر عن الوفاء تتضاعف الديون وتزداد أسعار الفائدة، ومع طول المدة تجد الدولة نفسها أمام ديون حكومية وسيادية لا تسعفها مواردها الأساسية ولا نموّ اقتصادها لتجنّب الوقوع في فخّ أزمة المديونية الخارجية.
وفي يوليو 2008م؛ ارتفعت أسعار الطاقة المقوّمة بالدولار بنسبة 80%، في حين أنّ أسعار السلع الأساسية، باستثناء الطاقة، كانت قد ارتفعت إلى 35% (5) ، وفي هذه الحالة تضطر الدول المدينة إلى تأجيل دفع خدمة ديونها المستحقة، وفي مقابل انخفاض أسعار النفط أيضاً تقوم الدول المنتجة للنفط إلى تقليص استيرادها من الخارج، وفي كلتا الحالتين تُشَلُّ قدرة الدول النامية على الوفاء بالتزاماتها، وتتضاعف معها أسعار الفوائد في مقابل التضاعف في الديون.
ج- زيادة أسعار الفائدة:
أخذت أسعار الفائدة في التزايد بشكلٍ سريعٍ منذ 1979م، وأفضت إلى زيادة الديون القائمة، ومعظمها مقوّمة بالدولار، وذلك بواسطة تأثيرٍ ميكانيكيٍّ محض، والمستفيدون الأكبر في هذا الأمر هي الدول الدائنة المتقدّمة، بينما تزيد حدَّةُ الأزمة عند الدول المدينة النامية، والجدول رقم (1) يبين مستوى ارتفاع خدمة الديون (أسعار الفائدة) من العام 1980م لغاية 2010م.
الجدول رقم (1)
الديون الخارجية العامّة والخاصّة للدول النامية وحجم خدمة الديون
السنة |
حجم الديون (مليار دولار) |
خدمة الديون (مليار دولار) |
توزيع خدمة الدين بين الدائنين العام والخاص |
|
العام |
الخاص |
|||
1980 |
516 |
80 |
50 |
30 |
1990 |
870 |
140 |
119 |
21 |
1995 |
1860 |
206 |
154 |
52 |
2000 |
2122 |
345 |
201 |
144 |
2005 |
2489 |
438 |
253 |
185 |
2010 |
4076 |
583 |
180 |
403 |
المصدر: موقع البنك الدولي
د- أسبابٌ أخرى:
توجد أسبابٌ أخرى تمثَّلت في عبء المساعدات الإنمائية، ونعني بذلك القروض التي تُقدّم في شكل منح، والواقع أنّ تلك المعونات العامّة تعدُّ في حدّ ذاتها مصدراً رئيسيّاً يؤدي إلى استفحال الديون، حيث التسديدات التي تولدها تؤدي إلى نزف رؤوس أموال البلدان النامية، كما يوجد سببٌ آخر يكمن في سياسة تحديد أسعار السلع الأساسية عالميّاً؛ حيث يحتكر هذه السياسة مبادلان رئيسان للسلع الأساسية، يقعان في شيكاغو ولندن، وتعكس هذه الأسعار العالمية العرض والطلب على الصعيد العالمي، وتؤثر هذه السياسة بوجهٍ خاصٍّ على البلدان النامية التي تأتي عائدات صادراتها من منتجٍ واحدٍ أو عددٍ قليلٍ من المنتجات؛ نتيجة التدهور الحاصل في معدلات التبادل التجاري.
3- حجم وعبء الديون الخارجية الإفريقية:
يتمّ قياس درجة المخاطر في اقتصاد دولةٍ معيّنةٍ عن طريق مقارنة الدين العام بالناتج المحلي الاجمالي للدولة، فيستخدم الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر لمعرفة صحّة الاقتصاد ومدى تمكُّن الدولة من سداد ديونها، ويعدُّ الدين العامّ خطيراً عند وصوله إلى 70% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة في الدول النامية، و90% في الدول المتقدّمة، فمعدلات الدين العامّ المرتفعة لها تأثيرٌ كبيرٌ على الاقتصاد، لذلك يجب التركيز في استخدام الدين العامّ بطريقةٍ صحيحةٍ تؤدي إلى دفع الناتج المحلي الإجمالي وإبقاء معدلات الفائدة منخفضة، وعندما يتم استخدام الدين العامّ بشكلٍ صحيحٍ فسيكون له تأثيرٌ إيجابيٌّ على المستوى المعيشي للدولة، وذلك لأنه يسمح بنشوء مشاريع استثمارية، مثل تطوير البنى التحتية، وتطوير وسائل المواصلات وغيرها؛ مما بدوره يشجّع المستثمرين على الإنفاق عوضاً عن الادخار، وهذا ما يعزِّز النموّ الاقتصادي.
ولذا يمكن القول: إنّ الاستدانة واقعٌ يصعب تفاديه، وهي التوصية الدائمة من الدول العظمى للدول النامية كشرطٍ للتنمية، ولذا سارعت الدول النامية إلى الاقتراض؛ وبما أنّ الاقتراض بدأ بأسعار فائدة منخفضة، بالإضافة إلى وجود بعض عوامل قسريةٍ دفعت الدول إلى الاستدانة، فسرعان ما خرجت الأمور عن سيطرة الدول نفسها، وسبّبت لها أزماتٍ متكررةٍ أثقلت ميزانية الدول النامية، مع تضاعف أحجامها يوماً بعد يوم، ففي عام 2008م توزع إجمالي الديون في أقاليم العالم على النحو الآتي: إفريقيا 5.7%؛ آسيا 25.1%؛ الشرق الأوسط 9.2%؛ أوروبا الشرقية 23.3%؛ ورابطة الدول المستقلة 16.7%، وأمريكا اللاتينية 19.8% (6) ، والجدول رقم (2) يوضح حجم الديون لكلّ دولةٍ على حدة من دول إفريقيا جنوب الصحراء مقارنة بالناتج المحلي للدولة، في عام 2016م.
الجدول رقم (2)
حجم دين كلّ دولة من إفريقيا جنوب الصحراء مقارنة مع الناتج المحلي للدولة، بالنسبة المئوية، لعام 2016م
نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي |
الناتج المحلي (مليار دولار) |
الدولة |
الرقم |
125 |
1,4 |
إريتريا |
1 |
121 |
1,4 |
الرأس الأخضر |
2 |
96 |
0,9 |
غامبيا |
3 |
91 |
دون بيانات |
ساوتومي وبرنسيب |
4 |
87 |
13 |
موزمبيق |
5 |
78 |
10 |
الكونغو |
6 |
74 |
23 |
غانا |
7 |
73 |
5 |
مالاوي |
8 |
70 |
67 |
أنغولا |
9 |
64 |
دون بيانات |
سيشل |
10 |
61 |
2 |
ليسوتو |
11 |
61 |
3 |
توغو |
12 |
58 |
0,6 |
إفريقيا الوسطى |
13 |
58 |
10 |
موريشيوس |
14 |
57 |
18 |
زامبيا |
15 |
53 |
13 |
السنغال |
16 |
55 |
35 |
إثيوبيا |
17 |
55 |
32 |
كينيا |
18 |
55 |
8 |
زيمبابوي |
19 |
52 |
4 |
سيراليون |
20 |
51 |
342 |
جنوب إفريقيا |
21 |
49 |
13 |
غابون |
22 |
48 |
0,8 |
غينيا بيساو |
23 |
48 |
4 |
غينيا |
24 |
46 |
6 |
النيجر |
25 |
45 |
2 |
ليبيريا |
26 |
43 |
12 |
تشاد |
27 |
42 |
33 |
تنزانيا |
28 |
41 |
6 |
رواندا |
29 |
40 |
دون بيانات |
جنوب السودان |
30 |
39 |
7 |
بنين |
31 |
39 |
2 |
بوروندي |
32 |
39 |
7 |
مدغشقر |
33 |
39 |
25 |
كاميرون |
34 |
37 |
18 |
أوغندا |
35 |
35 |
8 |
مالي |
36 |
33 |
28 |
ساحل العاج |
37 |
32 |
10 |
بوركينا فاسو |
38 |
30 |
12 |
ناميبيا |
39 |
29 |
0,5 |
جزر القمر |
40 |
24 |
9 |
غينيا الاستوائية |
41 |
20 |
3 |
سوازيلاند |
42 |
19 |
24 |
الكونغو الديموقراطية |
43 |
15 |
18 |
بتسوانا |
44 |
13 |
212 |
نيجيريا |
45 |
المصدر: mays-mouissi.com
التحليلات الاقتصادية والمالية والتحليلات المتعلقة بالميزانية الموجهة نحو إفريقيا
وفي عام 2013م؛ بلغ إجمالي ديون دول إفريقيا جنوب الصحراء 385.268 مليار دولار(7) ، وهو ما يساوي 23% من الناتج المحلي لدول هذه المجموعة، وهي تأتي في الترتيب بعد دول أمريكا اللاتينية التي بلغ إجمالي ديونها الخارجية 1,838.194 مليار دولار، وهو ما يعادل 30% من ناتجها المحلي الإجمالي في السنة نفسها(8) ، وهو حجمٌ يتزايد على الرغم من المحاولات العديدة التي قامت بها المؤسّسات المالية الدولية لتجاوز مختلف مظاهر هذا النوع الجديد من الديون مع تراكم الضغوطات المالية القديمة وآثارها الراهنة.
وفي 2015م؛ قفز المبلغ الإجمالي لديون دول إفريقيا جنوب الصحراء ليصل إلى 416 مليار دولار، وارتفعت التدفقات المالية الصافية بنسبة 8% في السنة نفسها لتصل إلى 82 مليار دولار، أي 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى لها منذ عام 2008م، مدفوعاً بالزيادة المستمرة في صافي تدفقات الديون من الدائنين من القطاع الخاصّ وتدفق الديون القصيرة الأجل إلى 2.9 مليار دولار، وذلك مع انخفاض صافي تدفقات الدين من الدائنين الرسميّين بنسبة 20%(9).
ووفقاً لمؤسّستي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ ارتفع متوسط مستوى الدين في دول إفريقيا جنوب الصحراء من 25.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2010م؛ إلى 34.5% عام 2015م، وباستثناء دولتَي نيجيريا وجنوب إفريقيا تصل النسبة إلى 44% من الناتج المحلي للدول المتبقية، حتى لو ظلت ديون البلدان الإفريقية أقلّ بكثير من ديون البلدان الأوروبية؛ فإنّ هذه الديون تؤثر سلباً على الميزانيات الوطنية بسبب النمو البطيء في اقتصاد هذه الدول، الأمر الذي يجعل الدول غير قادرةٍ على سداد ديونها، ففي شهر فبراير 2016م؛ أوضح نويل تشياني (Noël Tshiani)، الاقتصادي في البنك الدولي في صحيفة لو بوينت (Le Point)، أنه وفقاً لمؤشرات البنك الدولي؛ تشهد إفريقيا أدنى معدَّل نموٍّ لها منذ عام 2009م، حيث سجل 3.7% في عام 2015م؛ مقابل 4.6% في عام 2014م(10).
ثانياً: آثار الديون الخارجية الإفريقية ومدى مشروعيتها:
يظهر مما سبق؛ أنّ إفريقيا غرقت في ديونٍ طائلةٍ من الصعب أن تتحملها، ومن الطبيعي أن نرى دول القارة تعاني من مشكلاتٍ تنمويةٍ بسبب هذه الديون، ومع ذلك من الواضح أنّ عملية الاستدانة تخضع لآلياتٍ مختلفة؛ منها الدول ومنها المؤسّسات المالية العامّة والخاصّة والإقليمية، ما يقتضي القول بأنّ المسؤولية في عملية الاقتراض مشتركة؛ مع تفاوت قوة التأثير بين الجهات الفاعلة فيها.
1- آليات الاقتراض الدولية:
خلال الستينيات؛ استخدمت البلدان النامية ائتماناتٍ من الوكالات المتعددة الأطراف لتمويل التنمية والهياكل الأساسية وسدّ العجز في ميزان المدفوعات، وقد اتسمت هذه القروض بمُددٍ طويلة الأجل، تراوحت بين 25 و 40 سنة، وأسعار فائدةٍ ثابتةٍ ومنخفضة، تتراوح بين 2 و 3% سنويّاً، ولأنّ الدين آليةٌ معقَّدةٌ وعمليةٌ تستخدمها اليوم بلدانٌ كثيرةٌ للتمويل والاستثمار؛ فالجزء الرئيس منه يخضع للتفاوض، أي أنّ الحكومة يمكن أن تدخل في الديون من خلال المنتجات المالية القابلة للتداول في السوق؛ مثل السندات وأذون الخزانة.
وتتصدر الدول الصناعية الكبرى، وفي مقدمتها مجموعة الدول الصناعية السبع (G 7)، قائمة اللاعبين الأساسيّين الدوليّين في وضع السياسات التشغيلية للديون، لكونها هي التي تسيطر على البنك الدولي وشقيقه صندوق النقد الدولي، ويتمثل دَوْر الأخير في ضمان الاستقرار المالي الدولي، وتيسير النمو المتوازن للتجارة العالمية، وتعزيز الاستقرار، وإتاحة مواردها للبلدان التي تواجه صعوبات في ميزان المدفوعات، وهو عادةً ما يكون الملاذ الأخير في تقديم القروض إلى البلدان «المستفيدة»، وتكون مقابل اتفاقاتٍ تحدِّد التدابير المطلوبة لتلقّي المساعدة أو الدين المتوقّع.
ويفتقد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى التوازن الذي يمكن أن يُفضي إلى وضع سياساتٍ عادلةٍ تأخذ في الاعتبار مصلحة الدول النامية، بل غالباً ما يتمُّ تسْيِيس قراراتهما لتلبية مصلحة الدول المتقدّمة الممسكة بزمامهما، ومما يؤكد هذا الخلل في التوازن كون الدول الصناعية لا تزال تتمتع بــ60% من الأصوات، وتحتفظ مجموعة الدول الصناعية السبع (وهي: الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا)- التي تمثل عضويتها أقلّ من 4% من مجموع الدول- بالسيطرة على 45% من قوة التصويت(11) ، وحتى الآن تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على 16% من الأصوات؛ مقابل 6% من الأصوات للصين التي لديها 1.41 مليار نسمة.
وفي حين أنّ الدول المتقدّمة والمؤسّسات المالية الدولية استحوذت على عمليات الاستدانة؛ ففي أوائل السبعينيات بدأت البنوك الخاصّة أيضاّ تفرض نفسها كعملاء محتملين لعمليات الائتمان الخاصّة بها، فانضم العديد من البنوك الخاصّة معاً لإعطاء بلدان العالم الثالث قروضاً كبيرةً، تخضع لمعدلات فائدةٍ متغيّرة، ولقد لجأ العديد من الدول إلى هذا الخيار بعدما صارت قروض البنك الدولي مرهونةً بإصلاحات سياسية واقتصادية تؤثر على أداء الدول المدينة.
والجدير بالذكر في هذا الصدد: هو أنّ هذه الديون تخضع لشروطٍ مختلفة حسب الدائن، وهذه الجهات الدائنة إمّا أن تكون حكومات، وإمّا مؤسّسات تمويل إقليميةً أو دولية، وإمّا بنوكاً تجارية.
ففي حالة القروض من الحكومات: تتوقف الشروط على طبيعة العلاقة بين حكومة الدولة المقترضة والدولة المقرضة، وبطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية بينهما، وفي الغالب تدور الشروط حول سعر الفائدة وآجال السداد والضمانات وفترات السماح، ويمكن أن تمتد لتشمل ربط القروض باستيراد منتجاتٍ معيّنةٍ من الدولة الدائنة، أو نقل هذه الواردات على سفنها، أو قَصْر تنفيذ المشروعات التي تموّلها هذه القروض على شركات الدولة المقرضة.
أما في حالة المؤسّسات الإقليمية والدولية: فإنّ الشروط تتفاوت، ومن أشهر هذه المؤسّسات «البنك الدولي»، الذي يشترط أن تكون القروض لتمويل مشروعات التعمير والتنمية في الدولة المدينة، وأن تكون للحكومات أو للجهات التابعة لها، أو لجهات تضمنها الدولة، كما يُشترط ألا يكون للدولة مصدرٌ آخر للتمويل.
أما في حالة البنوك التجارية: فإنّ الشروط تتركز على سعر الفائدة، والضمانات التي يقدّمها المدين لهذه البنوك.
2- آثار الديون الخارجية على الدول الإفريقية:
إنّ النموذج الليبرالي للتنمية، الذي فرضه إجماع واشنطن على الدول النامية، لم يكن في صالح هذه الدول، كما لم يتمّ استخلاص العواقب والتطلع إلى عالمٍ تكون فيه البلدان النامية نفسها مسؤولة عن تنميتها، الأمر الذي كان يتطلب تحرير الدول النامية من سلاسلها المتمثلة في ديونها الخارجية، ولا يمكن الحديث عن التنمية، أو النمو الاقتصادي، أو تحسين الخدمات العامّة، في ظلّ غياب رؤوس أموال الدولة المعنية، فعبء الديون الثقيلة على الدول الإفريقية أغلق كلّ الآفاق التنموية في القارة، وأقصى القارة من التنافس الاقتصادي العالمي، وجعل دولها في قائمة الدول الفقيرة المثقلة بالديون، فمن بين 39 دولةً وضعها البنك الدولي في قائمة الدول الفقيرة المثقلة بالديون 33 دولة منها دولٌ إفريقيةٌ من جنوب الصحراء(12). ويعتقد العديد من المحللين أنّ ضعف الاستثمار وأداء النمو الاقتصادي في البلدان الفقيرة والمثقلة بالديون، بما فيها البلدان الواقعة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، منذ بداية أزمة الديون العالمية في عام 1982م، يمكن أن يُعزى إلى عبء ديونها الخارجية(13).
ونجد لهذا العبء الثقيل في الديون لدى الدول الإفريقية تأثيراً مباشراً في حياة المواطنين والشعوب، فلم تعد ميزانية الخدمات الاجتماعية في البلدان النامية تشكّل أولوية، ولأنّ رؤوس أموال الدول تُوجَّه إلى خدمة الديون الخارجية؛ فيلزم هذه الدول إجراء تخفيضاتٍ ضخمة في الإنفاق العام، وخصوصاً في قطاعات الصّحة والتعليم والبنية الأساسية وما إلى ذلك، ويصل الأمر- أحياناً- إلى تجميد مرتبات العاملين في الخدمة العامّة والفصل الجماعي، في مواجهة إنفاق خدمة الدين، ويوضح الجدول رقم (3) التفاوت في حصص الميزانية الموجهة إلى الخدمات الاجتماعية وإلى خدمة الديون.
الجدول رقم (3)
الحصّة المخصّصة للخدمات الاجتماعية من الميزانية لبعض الدول مقارنة بخدمات الدين (%)
خدمات الدين |
الخدمات الاجتماعية |
الدولة |
46 |
15 |
تنزانيا |
40 |
6,12 |
كينيا |
40 |
6,7 |
غامبيا |
40 |
6,7 |
زامبيا |
36 |
4 |
كاميرون |
35 |
11,4 |
ساحل العاج |
المصدر: برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD)
وفي بحثٍ موسومٍ بـ(المساعدات «المُضلِّلَة») نشرته صحيفة غارديان البريطانية؛ ورد فيه أنّ أكثر من 40 مليار دولار يتمّ نهبها سنويّاً من الثروات الإفريقية، وذكر البحث- الذي قام به تحالفٌ من حمْلة المساواة والتنمية من المملكة المتحدة ومن إفريقيا؛ بالتعاون مع مؤسسة (Global Justice Now)-: أنّ البلدان الإفريقية تلقت 162 مليار دولار في عام 2015م، في شكل قروضٍ ومساعداتٍ وتحويلاتٍ شخصية، ولكن في العام نفسه تمّ نهب 203 مليار دولار من القارة؛ إمّا مباشرةً من خلال الشركات المتعددة الجنسيات التي تعيد أرباحها وتحوّل الأموال بشكلٍ غير قانوني إلى ملاذاتٍ ضريبية، أو التكاليف التي تفرضها الاتفاقيات الدولية من خلال التكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من آثاره، كما ذكر أنّ الحكومات الإفريقية استلمت قروضاً بقيمة 32 مليار دولار في عام 2015م، ولكنها دفعت أكثر من نصف هذا المبلغ- 18 مليار دولار – فوائد لهذا الدين، مع ارتفاع مستوى الدين بسرعة(14).
وفي مؤتمرٍ عُقد في داكار (عاصمة السنغال) في أبريل 2013م، أمام طلابٍ من كلية إدارة الأعمال، ذكر الخبير الاقتصادي البوروندي ليونيل ديكمانا مارتيل (Léonce Ndikumana martèle) في أثناء عرض كتابه الموسوم بـ)ديون إفريقيا البغيضة… كيف استنزفت الديون وتهريب رؤوس الأموال القارةَ؟): كلاماً مفاده أنّ: «إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى هي إلى حدٍّ كبيرٍ دائنٌ مقابل بقية العالم؛ ففي عام 2008م بلغ رصيد رأس المال الذي نُهب من 33 دولة– هي الدول التي شملتها الدراسة المذكورة- 944 مليار دولار، مقابل ديونٍ خارجية 177 مليار دولار؛ وبالتالي فإنّ هذه البلدان خرج منها نحو 767 مليار دولار من الأصول الأجنبية الصافية». وورد في الكتاب نفسه الذي ألفه مع زميله الاقتصادي (James K. Boyce): أنّ خروج رؤوس الأموال بسبب الديون هي المسؤولة عن وفاة 77000 طفل رضيع في السنة، فبالنسبة لكلّ دولار يقدّمه الأجانب إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ ينتج منه نحو 60 سنْتاً– وهو أكثر من نصف الدولار بقليل- في شكل هروب رأس المال في العام نفسه(15).
3- أزمة المديونية وجدلية المشروعية:
أمام الوضع التعيس والآثار السلبية المتفاقمة نحو الأسوأ بسبب الديون الثقيلة؛ تثور أسئلة حول مشروعية هذه الديون، وقد ظهرت نظريات تبحث عن الأسس القانونية التي يمكن الاحتجاج بها لإلغاء الديون الخارجية، وقد اشتهرت منها ثلاث نظريات، هي:
1) الديون البغيضة (odious debt):
إنّ فكرة «الدَّيْن البغيض» نشأت في القرن التاسع عشر، ويعود أحد تطبيقاتها إلى سنة 1898م عندما سيطرت الولايات المتحدة على كوبا بعد الحرب ضدّ إسبانيا، وطلبت منها أن تقوم بتسديد الديون الكوبية، ورفضت أمريكا الديون واصفةً إيّاها بالديون «المفروضة على الشعب الكوبي دون موافقتها»، كانت الحجة الأمريكية تعتمد على أساس أنه «تم إنشاء الدين من قِبَل حكومة إسبانيا لمصالحها الخاصّة ومن قِبَل وكلاءها، ولم يكن لدى شعب كوبا صوت»، تمّ إنهاء النزاع بإبرام معاهدةٍ دوليةٍ بين الولايات المتحدة وإسبانيا، وُقّعت في باريس في عام 1898م، تمّ فيها إلغاء الدين تماماً(16).
وفي وقت لاحق، في عام 1923م، أعلنت محكمة للتحكيم الدولي، برئاسة القاضي تافت (Taft)، رئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة، أنّ القروض الممنوحة من قِبَل بنكٍ بريطانيٍّ (أُنشئ في كندا) لرئيس دولة كوستاريكا تينوكو (Tinoco) ملغيةٌ؛ لأنها لا تخدم مصالح البلاد بل تخدم المصلحة الشخصية لحكومة غير ديمقراطية، كان قرار القاضي بالنص الآتي: «إنّ حالة البنك الملكي لا تعتمد فقط على شكل الصفقة بل على حسن نية البنك، فعندما تقدّم القروض للاستخدام الفعلي لحكومة كوستاريكا في ظلّ نظام تينوكو (Tinoco)؛ يتعيّن على البنك أن يُثبت أنّ هذه الأموال قُدّمت إلى الحكومة لأغراضٍ مشروعةٍ، ولم تفعل ذلك»(17).
ثم جاء الفقيه الروسي ألكسندر ساك (Alexander Sack)، وحاول صياغة نظرية «الديون البغيضة» لتكون مكتملة الشروط والأركان، وأورد لها ثلاثة شروط، هي:
– عدم الموافقة (الديون المتعاقد عليها دون موافقة الشعب).
– عدم وجود منفعة عامّة (الأموال المستخدمة لفائدةٍ خاصّة للزعيم وشركائه، وليس من أجل السكان).
– ومعرفة الوضع من قِبَل الدائنين(18).
وفي عام 1927م؛ حاول ألكساندر ساك (Alexander Sack) صياغة النظرية في مواجهة الحكام المستبدين، واشتهر بمقولته: «إذا كانت السلطة الاستبدادية تتعاقد على دين لا وفقاً لاحتياجات الدولة ومصالحها، بل لتعزيز نظامها الاستبدادي، لقمع السكان الذين يحاربونها، فإنّ هذا الدين بغيضٌ لسكان الدولة بأكملها، وهذا الدين ليس إلزاميّاً للأمّة: فهو دينٌ للنظام، دين شخصي للسلطة التي تعاقدت عليه؛ وبالتالي؛ فإنه يزول مع سقوط هذه السلطة»(19).
2) القوة القاهرة:
حسب لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة؛ تعني القوة القاهرة: «… الحالة التي يكون فيها حدثٌ غير متوقع خارج إرادة الشخص الذي صدر منه، ويجعل من المستحيل تماماً بالنسبة له أن يحترم التزامه الدولي بموجب المبدأ القائل بأنّ الاستحالة غير ملزمةٍ لأحد»، فالقوة القاهرة والتغيير الجوهري في الظروف انطبقت بشكلٍ واضح على أزمة الديون في الثمانينيات، وأدى عاملان أساسيّان إلى إثارة أزمة الديون بشكلٍ أساسي منذ عام 1982م، هما: الارتفاع الكبير في معدلات الديون مع الفوائد التي فرضتها حكومة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي منذ نهاية عام 1979م، وانخفاض أسعار صادرات بلدان المحيط من عام 1980م، وقد تسببت البلدان الدائنة في هذين العاملَيْن، وهذه حالة «قوة قاهرة» تغیّر الوضع بشکلٍ أساسي، وتمنع المدینین من الوفاء بالتزاماتهم(20).
3) حالة الضرورة:
بالإضافة إلى الحجج المذكورة؛ يمكن الاحتجاج بحالة «الضرورة»، عندما ينطوي استمرار السداد على التضحيات السكانية التي تتجاوز القدر المعقول، من خلال التأثير المباشر على الالتزامات الأساسية للدولة تجاه المواطنين. وفي هذا الصدد؛ تنصّ لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي على ما يأتي(21): «لا يمكن للمرء أن يتوقع إغلاق الدولة مدارسها وجامعاتها ومحاكمها، أو قطع الخدمات العامّة على نحوٍ يشيع الفوضى في مجتمعها ببساطة فقط لسداد الدائنين الأجانب أو المحليّين، هناك حدودٌ معقولةٌ يمكن توقعها من الدولة كما الفرد».
وفي اجتماعٍ للجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، عُقد في داكار في جمهورية السنغال يومي 17 و 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003م، جمَع مسؤولين وخبراء من 80 دولة، منهم وزراء مالية وبنوك مركزية إفريقية، فضلاً عن خبراء من المجتمع المدني الدولي والإفريقي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والأوساط العلمية، اقترح الرئيس السنغالي عبدالله للمشاركين خطة عمل للنظر في مدى إمكانية إفريقيا الاستفادة قانوناً من تطبيقات «الديون البغيضة»(22).
ووفقاً لنظرية ألكساندر ساك القائل بأنه: «ينبغي ألا تُنقل الديون السيادية- المتكبدة دون موافقة الشعب ودون الاستفادة منها- إلى الدولة الخلف، ولا سيما إذا كان الدائنون على علمٍ بهذه الحالة»، بالإضافة إلى الحجج الأخرى؛ فإنه من الوارد إعادة النظر في مشروعية جميع الديون الإفريقية لمعرفة مدى انطباق القاعدة عليها، ثم تطبيقها إذا لزم.
ثالثاً: الحلول الآنية والمستقبلية لأزمة الديون الإفريقية:
في ظلّ استمرار أزمة الديون الإفريقية يلزم البحث عن حلولٍ لها بمشاركة كلّ الفاعلين الأساسيّين في المجتمع المالي الدولي، ومنذ استفحال الأزمة في الثمانينيات إلى الآن تعددت المبادرات والحلول والمقترحات، سواء من الدول الدائنة، أو الدول المدينة، أو المؤسسات المالية الخاصّة والعامّة، ولكن حتى الآن لم يلح في الأفق حلٌّ نهائي لأزمة المديونية الإفريقية الخارجية.
1- حلول دوليةٌ متعثرة:
أثار تفاقم الديون لدى الدول النامية مسؤولية الدائنين والمدينين على حدٍّ سواء، وركزت مؤتمراتٌ حكوميةٌ ودوليةٌ على الواقع الإفريقي، ففي عام 1996م أُنشئت مبادرة «البلدان الفقيرة المثقلة بالديون» برعاية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي(23) ، ورافقتها منذ عام 2005م مبادراتٌ متعددةٌ الأطراف، شملت المؤسّسات المالية الدولية والدائنين الرسميّين والدائنين من القطاع الخاصّ، لتخفيف عبء الديون، وإيجاد حلٍّ نهائي للأزمات المتكررة المتمثلة في الإفراط في المديونية في هذه البلدان، ولكنها ظلّت حلولاً غير ناجعةٍ لسبب بسيطٍ؛ هو أنّ قسماً كبيراً من الباحثين عن الحلول يُعَدُّ جزءاً أصيلاً من المشكلة، ويُشكّل حجرة عثرة أمام أيّ مخرجٍ مرتقبٍ من المعضلة، ففي عام 2005م قررت مجموعة الدول الثماني إلغاء أكثر من 100 مليار دولار من الديون لــ 14 بلداً إفريقيّاً. وبعد عشر سنوات عاد حجم الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لهذه البلدان إلى مستواه السابق، أو حتى تجاوزه مع حلول عام 2016م(24) ، وهو تكرارٌ لفشل سابق؛ حيث سدّدت بلدان الجنوب ستة أضعاف ديونها لعام 1980م؛ لتجد نفسها مديونة بأربعة أضعاف بعد ذلك(25). والأسوأ من ذلك أنّ ما يقرب من 300 مليار دولار حُوّلت من البلدان المثقلة بالديون- بين عامَي 1999م و2001م- في شكل تحويلاتٍ صافيةٍ للديون الخارجية؛ ولم تكن إلا لتمويل نمو الاقتصادات في دول الشمال(26).
ومما يدلُّ على الإخفاق الذريع الذي مُنيت به مختلف المبادرات الدولية: التعثُّر الاقتصادي والتنموي الذي عرض لبلدان الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا، حيث أدت صعوبات التدفق النقدي في مواجهة متطلبات التمويل المتزايدة، ودفعت الدول إلى استخدام موارد التمويل الخارجي على نطاقٍ واسع، مما أدى إلى زيادة نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، ففي عام 1985م بلغ متوسط نسبة الدين الخارجي في جميع بلدان الاتحاد الاقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا رقماً قياسيّاً، حيث وصل إلى 74.57 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ثم شهدت النسبة- في فترة ما بين 1986م إلى 1994م- زيادة تراوحت بين 70.55 إلى أكثر من 100% بعد تخفيض قيمة الفرنك الإفريقي في يناير 1994م، أي بنسبة 88 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي(27).
وفي الآونة الأخيرة؛ كرّست الجمعية العامّة للأمم المتحدة دوراتٍ استثنائيةً لإفريقيا، حيث رأت أنّ من الضروري إيجاد الطريق الصحيح لتكييف البلدان المدينة مع الضرورات الاقتصادية التي يجب أن تظلّ منسجمةً سياسيّاً واجتماعيّاً- من ناحية، وعدم الاعتماد على التمويل الخارجي فقط- من ناحيةٍ أخرى.
2- مقترحاتٌ وحلول إقليمية إفريقيةٍ:
رأت الدول النامية أنّ الوعود الدولية غير قادرة على حلّ أزمة المديونية، وبادرت إلى تقديم مقترحاتٍ للدول الدائنة للوصول إلى حلولٍ نهائية، وتمّ عقد قممٍ على مستوى الدول الإفريقية، وعلى مستوى دول عدم الانحياز، وفي 1986م انعقد مؤتمران لهاتين القوتَيْن الإقليميتَيْن.
وتلخصت مقترحات القمّتين فيما يأتي:
– مبدأ المسؤولية المشتركة بين الدائنين والمدينين.
– تخفيض أسعار الفائدة الحقيقية على الديون.
– وضع حدودٍ معقولة لخدمة الديون.
– ضرورة تعديل شروط صندوق النقد الدولي.
– ضرورة وجود آليات تكفل مساعدة الدول المدينة.
– زيادة تدفق القروض للدول المدينة.
– تشجيع صادرات الدول المدينة إلى الدول الدائنة.
– الجمع بين حلّ مشكلة الديون ومشكلة التنمية.
– المعاملة الخاصّة للدول الإفريقية الفقيرة.
وطالب الإعلان الدائنين والمدينين ببعض الإجراءات:
أ- الإجراءات التي يجب على الدول الإفريقية الأخذ بها:
– تحسين تسيير المديونية، وتدعيم التعاون مع المؤسّسات المختصة (البنك الإفريقي للتنمية، المركز الإفريقي للدراسات النقدية، اللجنة الاقتصادية لإفريقيا، منظمة الوحدة الإفريقية).
– تخفيض معدلات التضخم، وتشجيع البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي في القارة الإفريقية.
– تطوير أسواق رؤوس الأموال الوطنية، وإنشاء صندوق نقد إفريقي.
– العمل على إنشاء نادي للمدينين الأفارقة؛ مهمته المشاركة في تسوية أزمة المديونية الإفريقية.
ب- الإجراءات التي يجب على الدول الدائنة الأخذ بها:
– تحسين البيئة الاقتصادية الدولية، وجعلها ملائمة للتصحيح الاقتصادي في الدول الإفريقية.
– ضرورة الإفصاح عن الأموال الإفريقية الخاصّة المودعة في بنوكها.
– زيادة الحصص المالية الموجهة لإفريقيا في إطار مساعدات.
– تخفيض أسعار الفائدة وزيادة مدة القروض.
– منح أجل استحقاق لمدة 50 عاماً، وفترات سماح تبلغ 10 سنوات، بالنسبة للقروض الجديدة.
– تعليق مدفوعات خدمة المديونية الخارجية لفترة 10 سنوات ابتداءً من 1988م.
– إعادة جدولة متعددة السنوات؛ بحيث لا تقلّ عن 10 سنوات، وبمعدلات فائدة معدومة(28).
لم تكن هذه المقترحات إلا حبراً على ورق، ولم تتلق استجابةً من الدول الدائنة، وفي 2003م في اجتماع اللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة؛ أوصى الخبراء بإنشاء لجنةٍ فنية خاصّة للتجاوب السريع مع المقترحات والسياسات الشاملة الجديدة بشأن تخفيف عبء الديون الإفريقية، مصرّين على ضرورة أن تتألف اللجنة من خبراء من الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا (NEPAD)، والاتحاد الإفريقي، ومصرف التنمية الإفريقي، وبعض الدول الأعضاء، والمنظمات المدنية، تحت إشراف اللجنة الاقتصادية لإفريقيا(29).
3- الديون الخارجية الإفريقية بين دعوات الإلغاء النهائي والبحث عن حلول أخرى:
للخروج نسبيّاً أو نهائيّاً من أزمة المديونية؛ يتحتَّم على الدول الإفريقية تحقيق توازنٍ بين صادراتها وحجم ديونها بنسبة 100%، مع الاستثمار بمقدار 40% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي، وأن يتجاوز النمو الاقتصادي للقارة 7%، وهذا ما هدفت إليه خطة الأمم المتحدة للألفية والشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا(30) ، إلا أنّ ذلك لا يتحقق إلا إذا تحمَّلت الدول الدائنة مسؤوليتها، والمشاركة في الحلول بقبول مبادرات الدول المدينة، ومن المقترحات التي لم تلق استجابة: اقتراح الرئيس السنغالي السابق عبدالله واد إلى إنشاء صندوقٍ إقليمي للديون، يكون إطاراً مؤسّسيّاً وتشغيليّاً يشمل الدائنين والمدينين وغيرهم من المشاركين في السوق المالية الدولية، ويكون لديه استقلالية واسعة في التوجيه والعمل وفق تقنيات معيّنة، تشمل مسؤولية الدائن كما المدين، ويضع حدّاً لاستنزاف رؤوس الأموال الإفريقية(31).
وبما أنّ كلّ هذه المقترحات لم تجد آذاناً صاغيةً من الدول الدائنة المتطورة؛ فقد برزت مقترحاتٌ راديكاليةٌ دعت إلى إلغاءٍ نهائي لهذه الديون، ورُوِّج لهذه الفكرة في محافل مختلفة؛ وذلك بالاعتماد على الحجج القانونية (المشروعية)، وعلى الحجج الاقتصادية، ويكون ذلك من خلال إنشاء آلية تحكيمٍ عادلةٍ وشفافةٍ لإعادة هيكلة ديون القارة، ومحاولة إيجاد تسويةٍ سياسية على المستوى الوطني، تكون أكثر قدرةً على توجيه استراتيجياتها وسياساتها لمكافحة الفقر، ولا مانع من التوصل إلى إلغاءٍ نهائي للديون، كما حدث ذلك بالفعل عندما أعلنت الولايات المتحدة في عام 1776م إلغاء الديون المتعاقد عليها مع المملكة المتحدة من أجل كسر التبعية، وكما أوقفت المكسيك تماماً سداد ديونها الخارجية في عام 1914م، ودفعت دائنيها إلى إلغاء 80% من قيمة الائتمانات في عام 1942م(32) ، وهناك أمثلةٌ أخرى متعددة.
خاتمة:
وصل سقف الديون الخارجية في الدول الإفريقية إلى حدٍّ لم تعد تطيقه هذه الدول، وليست الحكومات فقط هي مَن تدفع فواتير هذه الديون، بل الشعوب والأجيال القادمة هم مَن سيعاني أكثر من حدّة هذه الأزمة، ونجد أنّ أغلب هذه الشعوب التي تتولى سداد هذه الديون ليس لها دورٌ أو صوتٌ في الصفقات التي تُعقد في خدمة الدول الإمبريالية.
وفي ختام البحث نورد جملة من النتائج والتوصيات التي توصلنا إليها:
– أصبحت المديونية الدولية آلة في أيدي القوى العظمى للسيطرة والهيمنة على اقتصاد العالم.
– شكّلت أزمة الديون الخارجية على الدول الإفريقية عقبةً رئيسةً أمام تحقيق أي تقدُّمٍ اقتصاديٍّ تنموي.
– تفتقد بعض الديون الخارجية للدول الإفريقية المشروعية؛ اعتماداً على الحجج القانونية والاقتصادية.
– ترجع أسباب فشل الحلول الرامية إلى حلّ أزمة المديونية الإفريقية إلى تلكؤ الدول والمؤسّسات الدولية الدائنة.
– تتوقف التنمية الاقتصادية الإفريقية على التحرر من الديون البغيضة، والدخول في علاقةٍ اقتصادية متوازيةٍ مع بقية دول العالم.
التوصيات:
– يجب على الدول الإفريقية أخذ زمام المبادرة للتحرّر من أزمة الديون.
– يجب الأخذ في الاعتبار صوت الشعوب ومصلحة الأجيال في صفقات الاستدانة.
– على الدول الإفريقية الاحتجاج بالحجج القانونية والاقتصادية للتخلُّص من الديون البغيضة مهما كلفها الثمن.
– على الدول الإفريقية إنشاء وتفعيل مؤسساتها الاقتصادية؛ للإسهام في تقليل الآثار السلبية لأزمة الديون الخارجية.
الإحالات والهوامش:
(1) Eric TOUSSAINT et Damien MILLET, L’origine de la crise de la dette du tiers monde, p.3.
(2) Armelle BEAH, Historiographie de l’Endettement des pays en développement: spécificité des pays de l’UEMOA, UNIVERSITE D’ORLEANS Laboratoire d’Economie d’Orléans Univ. Orléans, CNRS, LEO, UMR 7322, F-45067, Orléans, France, DR LEO 2015-22, p.1.
(3) Pablo LAIXHAY, L’endettement des pays dits en voie de développement. Un exemple: le Burkina Faso, https://www.anti-k.org 30-12-2017
(4) المصدر نفسه.
(5) Gladys Cecilia Hernández PEDRAZA Évolution de la dette externe du Tiers Monde au cours de l’année 2008 http://www.alterinter.org 13/07/2009.
(6) صندوق النقد الدولي 2008م.
(7) صندوق النقد الدولي 2013م.
(8) صندوق النقد الدولي 2013م.
(9) World Bank, International Bank for Reconstruction and Development, International Debt Statistics 2017, p.18.
(10) Vitraulle MBOUNGOU, Dette publique : une nouvelle crise en Afrique? http://www.afriqueexpansion.com 26/09/2017
(11) قوة التصويت بصندوق النقد الدولي، http://www.aljazeera.net 28/04/2009م.
(12) Pays pauvres très endettés (PPTE), donnees.banquemondiale.org.
(13) Milton A. IYOHA, External debt and economic growth in sub-Saharan African countries: An econometric study, African Economic Research Consortium, Nairobi March 1999 p.21.
(14) Karen McVEIGH, World is plundering Africa’s wealth of ‘billions of dollars a year, https://www.theguardian.com, 25/05/2017.
(15) Léonce NDIKUMANA et James K. BOYCE, La dette odieuse de l’Afrique. Comment l’endettement et la fuite de capitaux ont saigné un continent, Dakar, éditions Amalion 2013.
(16) Eric TOUSAINT, Quelques fondements juridiques de l’annulation de la dette http://www.cadtm.org/IMG/pdf/Fondements_juridiques_de_l_annulation_Eric_T.pdf.
(17) المصدر نفسه.
(18) NDIKUMANA et BOYCE، مصدر سابق.
(19) Eric TOUSAINT, La dette odieuse selon Alexandre Sack et selon le CADTM, http://www.cadtm.org, 18/11/2016
(20) المصدر نفسه.
(21) المصدر نفسه.
(22) ONU, Commission économique pour l’Afrique, Résoudre le problème de l’endettement extérieur de l’Afrique pour financer le développement, https://www.uneca.org.
(23) L’Afrique aura-t-elle besoin d’une nouvelle initiative « Pays Pauvres Très Endettés » ? Trésor-ECO, n° 164 Mars 2016, République française p.1.
(24) Falila GBADAMASS, L’endettement des pays africains, qui doivent beaucoup à la Chine, inquiète, http://geopolis.francetvinfo.fr, 26/10/2017.
(25) Eric BERR, La dette des pays en développement : bilan et perspectives, Université Montesquieu-Bordeaux IV, p.9.
(26) BERR, p.9.
(27) BEAH, p.3.
(28) كمال محمد المصري، تمويل التنمية الاقتصادية، أزمة المديونية الدولية، ص27.
(29) ONU, Commission économique pour l’Afrique, Résoudre le problème de l’endettement extérieur de l’Afrique pour financer le développement, https://www.uneca.org.
(30) Moustapha KASSE, Endettement de l’Afrique, quelles voies de sortie après PPTE? p.15.
(31) KASSE p.16.
(32) BERR p. 10