في الذكرى الخمسين لإنشاء الاتحاد الإفريقي عام 2013م، وضَع قادة القَارَّة خطةً طموحةً لتنمية القَارَّة في الذكرى المئوية على إنشاء الاتحاد؛ تحت عنوان “أجندة 2063″، تلك الخطة الطموحة تضمَّنت عدَّة عناصر، من بينها: أهدافٌ طويلة الأمد، ذات عناوين عريضة؛ مثل: “إفريقيا قويَّة، فتيَّة، مُتعلِّمة، مُصنِّعة، مُنتِجَة، وفاعلة في الدور العالمي”؛ وأخرى قصيرة، تعتمد على الإنجاز السريع للقضايا المُلِحَّة والعاجلة، وعلى رأسها:
• عام 2016م: التحول إلى البث التلفزيوني الرقمي في كل أنحاء إفريقيا.
• عام 2017م: تسريع إنشاء منطقة قارية للتجارة الحرَّة.
• عام 2018م: تتمتع القَارَّة باتصالات حديثة متماشية مع الاتصالات الدولية.
• عام 2019م: المضي قدمًا في توحيد مواصفات جواز السفر الرقمي الإفريقي.
• عام 2020م: العمل على إسكات صوت البنادق في القَارَّة.
• عام 2022م: تطوير برامج التجارة الإفريقية البينية؛ بحيث تكون الأولوية للتجارة بين دول إفريقيا.
وبدخولنا في العام 2020م، وبالنظر لما يجري في جَنَبَات القَارَّة من صراعاتٍ ونزاعاتٍ؛ فإن مبادرة “إسكات البنادق” تبدو في الوقت الراهن لا تزال مُغرِقة في الطموح، بالرغم من أنها مبادرة يجب أن تُوضع على رأس الأولويات، وأن تُكرَّس لها كلّ الموارد المادية والمعنوية، باعتبار أن السِّلم هو شرط أساس لتحقيق كافة الطموحات الأخرى التي تحلم بها القَارَّة السمراء بعد عقود من اليوم.
لقد كان الهدف الأوليّ لتحقيق تلك المبادرة هو العمل على احتواء النزاعات والصراعات داخلها، وأن يتم التعامل مع القضايا من خلال المفاوضات والطرق السلمية لحلّها، خاصة في ظل السعي نحو تطوير القوات الإفريقية بشكلٍ كبيرٍ، وألا يكون هناك أيّ وجود لقوات حفظ السلام من خارج القَارَّة.
كما أن تلك المبادرة تحظى باهتمام المجتمع الدولي والمنظمات الدولية؛ فقد اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار 2457 في فبراير الماضي، والمتعلّق بتلك المبادرة التي تهدف إلى تخليص إفريقيا من النزاعات، وتهيئة الظروف المواتية للنموّ والتنمية في القَارَّة السمراء.
ولكن تلك المبادرة، وبالرغم من أهميتها، والحشد الدولي الداعم لها؛ تفتقد إلى الأُسُس النظرية وإلى الحلول العملية على حدّ سواء؛ فبالرغم من الأهداف الطموحة لتلك المبادرة إلا أنه لم يقابلها تخطيط وتنظير جيدان على المستوى الأكاديمي، بالنظر إلى تشابك وتلاحم المشكلات التي تواجه القَارَّة السمراء، والتي يأتي على رأسها مشكلات الحكم الرشيد، وكذلك اتباع الإرشادات الأكاديمية والنظرية المتعلقة بعمليات التحوُّل الديمقراطي في القَارَّة السمراء، بالإضافة إلى نقص الوعي لدى الشعوب والحكومات والحركات والأحزاب على حدّ سواء بآليَّات ومفاهيم العدالة الانتقالية، والحكم الرشيد، والتحوُّل الديمقراطي، وكذلك عمليات المصالحة التي تجري في أعقاب الحروب والصراعات الدامية، والاستفادة من الدروس التاريخية الناجحة حول العالم لدول مرَّت بمثل تلك المشكلات الأمنية.
فبالرغم من تقلُّد مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقي في دورته الحالية، وكذلك وضع مبادرة “إسكات البنادق” من ضمن أولوياتها، وبالرغم كذلك من وجود مركز مكافحة الإرهاب لدول الساحل والصحراء؛ إلا أن الصراعات لا تزال جارية، وكذلك لم يتم وضع خطة متكاملة للقضاء عليها، أو تخفيف وتيرتها أو آليات نزع السلاح ومنصات للحوار بين المتنازعين، فكل تلك الخطوات مهمة للغاية على المستوى النظري من أجل وضع خريطة طريق متكاملة للقضاء على النزاعات وتنفيذ مبادرة “إسكات البنادق” في العالم الجاري.
في معظم قضايا العالم الثالث والدول النامية، تقبع مسألة الوعي العام وقضايا التنظير الأكاديمي في قلب المشكلات التي تواجه تلك الشعوب؛ حيث تظل الثقافة السياسية السائدة في تلك البلدان متأخرة بصورة كبيرة عن نظيرتها في الدول المتقدمة، ومن ثَمَّ تصبح عائقًا أمام إيجاد حلول قد تبدو سهلة في دول العالم الأول بأن يجلس الجميع إلى طاولة الحوار والتفاهم حول تقديم التنازلات وعمليات المقايضة السياسية من أجل المصلحة العامة، ففي الوقت الذي قطعت فيه الدول المتقدمة شوطًا كبيرًا في ذلك الاتجاه منذ قرون منذ صلح ويستفاليا في عام 1648م، والذي وضع حجر الأساس للنظام الدولي الحالي؛ بعدم التدخل في شؤون الدول، واحترام السيادة، وكذلك تنحية الخلافات الدينية والمذهبية جانبًا؛ فإن العالم الثالث لا يزال يشهد حروبًا طاحنة وطويلة الأمد في صراعات دامية يمكن أن تُحَلّ بآليات الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وباتباع إرشادات فترات العدالة الانتقالية، وبفهم الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية لمختلف الصراعات حول جنبات القَارَّة السمراء.
فحتى الآن تقبع قضية التسامح الديني والمذهبي في قلب الصراعات الدامية في القَارَّة السمراء، مثل حالات التطهير العرقي التي شهدتها جمهورية إفريقيا الوسطى، في ذلك المجتمع الذي افتقد إلى أبسط أُسُس التسامح الديني التي وُجِدَتْ منذ قرون ليس في القَارَّة الأوروبية فقط، ولكن عبر العالم الإسلامي كله، عندما كان المسلمون يعيشون جنبًا إلى جنب مع اليهود والمسيحيين، وكذلك كانت تتعايش تحت مظلته مختلف الأعراق والأجناس واستطاعت الحضارة الإسلامية أن تصهرهم في بوتقتها الثقافية والدينية المتسامحة، التي أخرجت علماء من كافَّة المذاهب والأديان والبلدان في العالم الإسلامي.
كما أن القَارَّة السمراء تفتقد إلى أُسُس الحكم الرشيد الذي يعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، ومن ثَم تتصاعد الصراعات المسلحة حول الموارد والثروة والسلطة وتقسيمها، كما تستغل بعض الحكومات الاستبدادية تلك الصراعات من أجل “شرعنة” وجودها، لا سيما الحكومات العسكرية منها، والتي تخلق أعداء، وتعمل على تغذية الصراعات من أجل تعظيم قيمتها الأمنية، ومن ثَمَّ فإن “أمننة” الصراعات في رؤية تلك الدول تُعَدّ من أُسُس وجودها، وتعظيم وتضخيم ميزانيات قواتها الأمنية، والتي لا تعمل على نزع السلاح وفضّ المنازعات بقدر ما تقوم باستغلال تلك القوات الأمنية المتضخمة من أجل حماية سلطاتها وتُحَوِّل البنادق إلى صدور شعوبها، كما يتم استغلال ذلك بصورة واضحة في النزاعات الدينية؛ كما في حالة إفريقيا الوسطى، أو في حالات الحروب الأهلية كما في حالة جنوب السودان.
كما أن التدخلات من القوى الكبرى والإقليمية تسهم في إذكاء نيران تلك الصراعات باعتبار المصالح التي تَجنيها تلك القوى سواء الكبرى أو الإقليمية من جراء دعم فصائلها التي تُحقّق مصالحها أو من خلال عمليات تصدير السلاح المغرية والمربحة، أو من خلال دعم بعض العرقيات من أجل تحقيق مكاسب حدودية مثل تلك الصراعات التي تهدف إلى إعادة رسم حدود البلاد بناء على التجمعات العرقية والدينية، وعدم وضع اعتبار لحدود الدول الوطنية وسيادتها على أراضيها.
وبالرغم من ذلك؛ فهناك حالات مضيئة في القَارَّة السمراء تستحق الإشادة والدعم والمحاكاة، مثل نموذج إثيوبيا الحالي الذي لا يزال في طور التشكل، والذي يهدف إلى إرساء السلام في منطقة القرن الإفريقي، وإزالة الحواجز النفسية التي تَحُول دون تحقيق السلام مع إريتريا، ومحاولة استيعاب الأقليات والعرقيات المنتشرة على الحدود بين الجانبين، وكذلك محاولة عمل إصلاح مؤسسي لهياكل الدولة، وتطهير أجهزتها السيادية من العناصر التي تعمل على إذكاء الصراعات و”أمننتها”؛ بهدف تحقيق مكاسب مادية أو سلطوية، ومن ثَمَّ فإن تلك التجربة تستحق تسليط الضوء عليها باعتبار أن أديس أبابا تضع أولى أقدامها على سُلَّم الحكم الرشيد، وإدارة مرحلة انتقالية في عملية التحول الديمقراطي يمكن تعميمها في أنحاء القَارَّة السمراء.