باتت الهجرة من دول الجنوب النامي إلى دول الشمال المتقدِّم تُمثِّل ظاهرةً في العقود الماضية، فيما يدل على فشل منظومات التنمية في تلك الدول، وكذلك استمرار الدول الغنية في استنزاف موارد الدول الفقيرة، بدون أن تقوم بدورها بالاستثمار المطلوب في تلك الدول من أجل تحقيق التنمية في بلدانها.
كما تُعَدُّ ظاهرة الهجرة غير الشرعية من إفريقيا إلى أوروبا ذات أبعاد إنسانية مؤلمة للغاية؛ باعتبار أن فقراء يأتون من مجاهل القارة السمراء يُخاطِرون بحياتهم وحياة أطفالهم، فقط من أجل الرهان غير المأمون على حياة أفضل. وبالرغم من أن تلك الحياة ربما لا تأتي مطلقًا، وبالرغم من الأعداد الكبيرة للوفيات أثناء تلك الرحلة المؤلمة والطويلة والشاقَّة؛ إلا أنَّ هناك بُعدًا آخر لتلك الرحلة المؤلمة، وهو وصول التحويلات المالية من المهاجرين الأفارقة في أوروبا إلى بلدانهم في إفريقيا جنوب الصحراء إلى مُعَدَّلات غير مسبوقة.
ففي تقرير نشَره مركز “بيو” البحثيّ بالتعاون مع البنك الدولي؛ أظهرت الأرقام زيادة نسبة التحويلات المالية إلى إفريقيا جنوب الصحراء بمقدار 10%، وهي الزيادة الأكبر حول العالم بمقاييس عام 2017م؛ حيث وصلت إلى رقم قياسيّ؛ وهو 41 مليار دولار.
وتشير إحصاءات التقرير إلى أن المهاجرين حول العالم أرسلوا رقمًا قياسيًّا في عام 2018م إلى بلدانهم، وهو 625 مليار دولار، ما مثَّل زيادةً مقدارها 7%، فيما يشير التقرير إلى أنه من المتوقَّع أن الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير؛ حيث إنَّ تلك هي إحصاءات القنوات الرسمية لتحويل الأموال، ولا يتم حساب القنوات غير الشرعية أو الأموال المحمولة ذاتيًّا من تلك البلدان إلى القارة السمراء، خاصة في منطقة جنوب الصحراء؛ حيث يستخدم 40% فقط من السكان الخدمات المالية، في حين أن ثلثي القطاع غير الزراعي يُعتَبَرون جزءًا من الاقتصاد غير الرسمي.
ويشير التقرير إلى أن واحدًا من كل أربعة مهاجرين (23%) في إفريقيا جنوب الصحراء يعيشون في أوروبا والولايات المتحدة، وقد تلقت دول نيجيريا وغانا والسنغال وكينيا معظم التحويلات بين دول جنوب الصحراء في عام 2017م؛ حيث إنَّ تلك الدول الأربع ذاتها هي التي يحمل جنسياتِها العددُ الأكبر من المهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة.
كما تشير الأرقام إلى أن غالبية المهاجرين في العالم من إفريقيا جنوب الصحراء في السنوات من 2010 حتى 2017م، في حين يتربع السوريون على رأس القائمة بسبب أحداث الثورة السورية، يليهم مواطنو السودان بـ1.9 مليون، ثم جنوب السودان بما يقارب 1.75 مليون مهاجر.
وقد تصاعدت أرقام المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بمقدار 31% في الفترة ما بين 2010 و2017م، كما يشير التقرير إلى أن ما يقرب من 25 مليون إفريقي من جنوب الصحراء يعيشون خارج بلد الولادة في عام 2017م.
وتشير تلك الأرقام إلى أبعاد مهمة؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية، فظاهرة الهجرة، وبالرغم من أنها ليست جديدة على العالم؛ إلا أنها شهدت تسارعًا ملحوظًا في السنوات السابقة بسبب عدم الاستقرار السياسي، وكذلك الفساد الذي يؤدي إلى تآكل مدخولات المواطنين، وانهيار الطبقات المتوسطة في بلدان جنوب الصحراء، بالإضافة إلى سوء الإدارة الاقتصادية التي تؤدي إلى التضخم وارتفاع الأسعار، وعدم قدرة المواطنين على شراء السلع لا سيما المستوردة منها في ظل ارتفاع العملة الأجنبية في كثير من البلدان بسبب تلك السياسيات، ومن ثَمَّ يجد المواطن نفسه مدفوعًا إلى الهجرة، سواء الشرعية أو غير الشرعية.
كما تؤدِّي ظروف الحروب الأهلية مثل حالة جنوب السودان إلى ازدياد حالات الهجرة، فبالإضافة إلى العقود التي شهدت تهميشًا من الدولة السودانية للجنوب، والذي يفتقر إلى البِنْيَة التحتية والمرافق، أدَّت الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي إلى مضاعفة آلام سكان الجنوب، والذين كثيرًا ما يَقعون ضحيةً لاستغلال منظمات التنصير والتي تعمل على تهجيرهم واستغلالهم دينيًّا، بالإضافة إلى ما حدث في جمهورية إفريقيا الوسطى، والتي شهدت هي الأخرى تطهيرًا عرقيًّا ضد المسلمين، وشهدت نزوحًا جماعيًّا لهم، سواء في دول الجوار الإفريقية، أو في أوروبا وأمريكا؛ حيث يوجد في الغرب الآن ما يقارب 720 ألف مهاجر من جمهورية وسط إفريقيا وحدها.
وبالنظر إلى السياسات الاحتكارية التي تمارسها الشركات والمؤسسات الغربية العملاقة في إفريقيا، والتي تعتمد على استنزاف الثروات الطبيعية لدى تلك البلدان؛ فإن المواطن الإفريقي البسيط، والذي لا يستطيع الوصول إلى الوظائف العليا أو العمل مع تلك المؤسسات فإنه يجد نفسه غير قادر على إعالة نفسه وأسرته في الكثير من تلك البلدان التي تشهد نِسَبًا عالية من الفقر والمرض، لا سيما في حالة انهيار الأنظمة السياسية كحالة جمهورية إفريقيا الوسطى، وكذلك بسبب المجاعات والحروب الأهلية مثل حالة جنوب السودان.
وبالرغم من الآثار الاجتماعية السلبية على المهاجرين، والذين يضطرون للعيش في بلدان غير بلدانهم كلاجئين أو مهاجرين؛ فإن تلك الأرقام التي تشير إلى تصاعد عدد التحويلات المالية بمليارات الدولارات تُمثِّل الوجه الآخر للهجرة في إفريقيا. فهذه الأموال التي تُرْسَل إلى بلدانهم الأم تشير إلى رغبة أولئك المهاجرين إلى العودة مرة ثانية إلى بلدانهم، وبالرغم من جودة الأحوال المعيشية والصحية في دول المهجر، إلا أنَّ المهاجرين يعملون على إعادة إرسال تلك الأموال إلى أوطانهم الأم، في الأغلب من أجل إعانة أقاربهم وأُسَرهم الفقيرة التي لا تزال في تلك البلدان، مما يساهم في تخفيف معاناة الفقراء وإعالتهم، بعيدًا عن العجز الحكومي لتلك البلدان.
ولكن لا تزال تلك الأموال المُحَوَّلَة بصورة رسميَّة والمودَعَة في بنوك الدول الإفريقية تُمَثِّل رهينة لحالات الفساد السياسي والفشل الحكومي؛ حيث تعمل بعض الدول الإفريقية على التوسع في الاستدانة والاقتراض من البنوك مستخدِمَةً تلك المليارات في مشروعات غالبًا ما تتعرَّض هي الأخرى للنهب والفساد، فيما يتم وضع الديون التي اقترضتها تلك الحكومات على كاهل الأجيال الجديدة، بما يُمثِّل عائقًا لعمليات التنمية في تلك البلدان في الوقت ذاته.
ومِن ثَمَّ فإن الإصلاح السياسي يُعَدُّ شرطًا أساسيًّا لنُمُوّ تلك البلدان من أجل عكس حركة إهدار الأموال، سواء عن طريق الفساد الحكومي أو التوسع في الاستدانة، أو عن طريق إبرام عقود إذعان مع الشركات الكبرى تُمثّل استنزافًا لموارد تلك الدول، مثل القطاع النفطي الذي يشهد فسادًا في العديد من البلدان الإفريقية، التي تعطي للشركات الأجنبية نِسَبًا عالية تصل إلى 70% من قيمة النفط مقابل التنقيب، تلك العقود التي غالبًا ما يشوبها فساد حكومي؛ عن طريق إبرامها خارج نطاق الرقابة الشعبية والبرلمانية، بما يُمثِّل استمرارًا للفساد بطرقٍ مختلفةٍ.