أ. مصطفى أنجاي (*)
لئن عرفت الحياة السياسية الإفريقية في ظلّ الإدارة الاستعمارية نوعاً من التعدّدية الحزبية؛ فإنّ الفترة من الاستقلال إلى غاية تسعينيات القرن الماضي شهدت هيمنة نظام «الحزب الواحد» (حزب الدولة)، في كتابه: (ظهور نظام الحزب الواحد في إفريقيا السوداء: تجربة الدول الناطقة باللغة الفرنسية)؛ يقدّم القانوني الجزائري أحمد ماحيو شبكة من المبررات دفعت السلطات السياسية الإفريقية، في أعقاب الاستقلال، إلى تبنّي نظام «الحزب الواحد»، هذه المبررات تعود لثلاث قضايا أساسية، هي: تحقيق الوحدة الوطنية، بناء الدولة، والتنمية الاقتصادية (1).
وبغضّ النظر عن صحّة تلك المبررات؛ فإنّ حصيلة أداء هذه الأنظمة الأحادية غير مرضية، حيث أدّت في كلّ الدول التي قامت على نظام «الحزب الواحد» إلى نقيض المقصود.
المحور الأول: التحوّل الديمقراطي في إفريقيا: الخلفية، والمسار:
أ – الخلفية: وتختلف رؤى الباحثين حول العوامل المؤدّية إلى نشوء الديمقراطية والعودة إلى التعددية السياسية في إفريقيا، ولا يهمّنا في هذا المقام الترجيح بينها، ولكن من المؤكّد أنّ القارة مع بدايات تسعينيات القرن المنصرم قد شهدت موجةً كبيرةً من الانتقال الديمقراطي، حيث لم يكد عقد التسعينيات ينتصف حتّى أصبحت الدول الإفريقية كلّها- حقّاً أو زوراً- تنتسب إلى النظام الديمقراطي، ما عدا ليبيا القذافي الذي عارضه صراحةً في (الكتاب الأخضر).
هذا الانفتاح الديمقراطي؛ عرفته القارة الإفريقية بالتزامن مع مناطق أخرى في العالم؛ في أعقاب نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين (2).
ب – المسار: اتخذ التحوّل الديمقراطي في إفريقيا مسارات عدة؛ تبعاً لاختلاف التجارب السياسية للأنظمة السلطوية القائمة، بالإضافة إلى تعدّد الديناميات المحلّية للدول المعنية، واختلافها على صعيد قوّة الأحزاب الأحادية وتجذّرها، وحجم التحالفات الموجودة بينها وبين البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو على صعيد قوّة الأحزاب والقوى المعارضة، ونضجها، وقدرتها على الحشد والتعبئة الاجتماعية.
يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من مسارات التحوّل الديمقراطي في المنطقة، مع ملاحظة أنّ الحالة الواحدة قد تأخذ بأكثر من مسار:
1 – التحوّل المتوازي: وهو ما يُعرف لدى البعض بالتحوّل المفاوض transition négociée، ويعني: اتفاق قيادات الحزب الأحاديّ والقوى السياسية والمدنية المعارضة على أرضية مشتركة؛ للانتقال إلى الديمقراطية والانفتاح السياسي والتعددية الحزبية، وتعدّ «المؤتمرات الوطنية» من أهمّ الصيغ الإجرائية التي تبنّتها الدول الإفريقية، خصوصاً الفرنكفونية منها، وتعدّ بنين والغابون وكونغو برازفيل والنيجر وتوغو والكونغو الديمقراطية؛ من أهمّ الدول الإفريقية التي جرّبت هذا المسار.
2 – التحوّل من الأعلى: تكون فيه مبادرة التحوّل الديمقراطي من الحزب الأحادي؛ كإجراءٍ استباقيٍّ للتصدّي للضغوط الداخلية والخارجية، إمّا عن طريق دعوة القوى الحيّة إلى مؤتمرات وطنية لتبنّي سياسات مصمّمة مسبقاً من الحزب الحاكم، وإمّا عن طريق إجراء تعديلات دستورية تراعي بعض مطالب المعارضة، وقد نسجّل في هذا المسار كثيراً من الدول الإفريقية، منها: كوت ديفوار، بوركينافاسو، الكاميرون، مدغشقر، تنزانيا، أوغندا، نيجيريا، غانا.
3 – التحوّل من الأسفل: يكون نتيجة المطالب والضغوط الشعبية لإحداث التغييرات والإصلاحات اللازمة للتحوّل الديمقراطي، هذا المسار غالباً ما يكون مصاحباً بنوعٍ من العنف عبر احتجاجات ومسيرات القوى السياسية والمدنية، ولعلّ حالة الانتقال الديمقراطي في مالي من أهمّ نماذج هذا المسار، حيث دفعت الضغوط الشعبية بعضَ الجيش بقيادة أمادو تماني توري إلى الانقلاب على نظام الرئيس موسى تروري الديكتاتوري، كما يمكن إلحاق حالة جنوب إفريقيا بهذا المسار.
المحور الثاني: الشباب والتحوّل الديمقراطي في إفريقيا:
أولاً: السنغال:
1 – الشباب وثورة مايو 1968م: بداية المسار نحو التعددية السياسية: تتميّز الحياة السياسية السنغالية مقارنةً بغيرها من الدول الإفريقية بشيئين: أولهما: السّلم الاجتماعي والاستقرار السياسي النسبي، وثانيهما: الانفتاح المبكّر للتعدّدية الحزبية، ما يجعل من هذه الدولة أحد أهمّ نماذج التحوّل الديمقراطي الناجح في إفريقيا.
وقد أدى الشباب السنغاليّ عبر الحركة الطلابية دَوْراً مهمّاً جدّاً في المعارضة السياسية في عهد ليوبول سيدار سنغور الرئيس الأوّل للسنغال المستقلّة، وليس من المبالغة القول بأنّ شباب الحركة الطلاّبية كانوا من أهمّ الفاعلين الاجتماعيين الذين ناضلوا ضدّ سلطة «الحزب الواحد»؛ في وقتٍ كان فيه الحقل السياسيّ السنغاليّ المنغلق لا يسمح بالخروج عن الخطّ السياسي للنظام السلطوي.
منذ نجاح سنغور في القضاء على ممادو دياه- زميله ومنافسه السياسيّ ورئيس المجلس الحكومي- في أعقاب الأزمة السياسية التي اندلعت بينهما سنة 1962م، أصبح هو الحاكم الوحيد للدولة دون معارضة سياسية حقيقية، في هذا السياق قادت الحركة الطلابية في مايو 1968م ثورة نضال كبيرة وشاملة؛ للتنديد بسياسات الحزب الواحد والمطالبة برحيل سنغور.
شكّلت الجامعة السنغالية منذ الفترة الاستعمارية بؤرة للمعارضة السياسية للسلطات القائمة، وعليه؛ فإنّه من الصعب تحديد نقطة البداية الحقيقية لانطلاق ثورة مايو 1968م، لأنّها كانت عبارة عن انتفاضات متفرّقة، تراكمت رويداً رويداً، لتنفجر في مايو 1968م، وتصل إلى كلّ المناطق الحضرية.
أمام الأزمة الاقتصادية المتفاقمة عجزت ميزانية الدولة السنغالية عن تغطية نفقات التعليم العالي، فاتّخذ سنغور قراراً بإلغاء نسبة 50% من المنح الطلاّبية، وفي 18 مارس 1968م انتفضت الجموع الطلاّبية، ونظمت مسيرات احتجاجية ضدّ القرار، استهانت السلطات بالحركة وتجاهلت المطالب الطلابية، فتصاعدت وتيرة الاحتجاج، ففي 12 مايو نظّم اتحاد الطلبة السنغاليين يوماً دراسيّاً حول الأزمة، تمخّض عن الدعوة إلى إسقاط النظام، وتبعه دخول الطلبة في إضراب عامٍّ غير محدود في 27 مايو، وفي 28 مايو تضامنت نقابة الأساتذة والتلاميذ والعمّال مع الطلاّب وأعلنوا الإضراب، وفي 29 مايو اقتحمت قوّات الأمن الجامعةَ واعتقلت أعداداً كبيرة من الطلاّب والنقابيين، وفي 30 مايو امتلأت شوارع دكار بالشعب بشرائحه المختلفة، وامتدّت الاحتجاجات إلى الأقاليم والمدن الكبيرة، وفي اليوم نفسه اضطر الرئيس سنغور إلى مخاطبة الشعب في الإذاعة وإعلانِ حالة الطوارئ، وطلبِ المعونة من الجيش الفرنسي، ثمّ أخذت الأمور تهدأ في شهر يونيو، وأطلق سراح المعتقلين، وبدأت المفاوضات بين جميع الأطراف المعنية.
كانت هناك عوامل أخرى لثورة مايو 1968م غير تخفيض منحة الطلبة، نجدها في البيان الاحتجاجيّ لاتحاد الطلبة السنغالين، حيث ندّد بالسياسة التعليمية للدولة، وقلّة النسبة المخصّصة من الميزانية للتعليم مقارنة بميزانية التسيير الحكومي، وبالهيمنة الفرنسية على الجامعة السنغالية.
ونعتقد بأنّه لا يمكن فَهْم سبب هذه الثورة الشبابية، وانضمامِ الحركة النقابية وغيرها من الشرائح المجتمعية إليها، إلاّ بموضعتها في سياق «الحزب الواحد»، فكأنّ الشعب بأطيافه المختلفة أراد انتهاز هذه الثورة الطلاّبية ليعبّر عن معارضته لاحتكار نظام «الحزب الواحد» للحقل السياسي، وسدّه لكلّ إمكانات المعارضة والاحتجاج.
كان من النتائج المباشرة لهذه الثورة الشبابية: أنْ شرع سنغور في الإصلاح الدستوري، وإنشاء منصب رئيس الوزراء الذي شغله لأوّل مرّة عبدو ديوف سنة 1970م، ثم توالت الإصلاحات الدستورية لصالح الانفتاح الديمقراطي والتعدّدية الحزبية، حيث اعتمد سنغور في 1974م التعددية الحزبية المحدودة؛ قبل أن يحرّر الرئيس عبدو ديوف الحقل السياسي، ويؤسس للتعددية الحزبية المطلقة سنة 1981م، وذلك باعتماده قانون رقم 81-17 المتعلّق بالأحزاب السياسية، لتكون السنغال بذلك سابقة لجاراتها الإفريقية في التحوّل إلى الديمقراطية.
2 – حركة «بول فالي» والانتقال الديمقراطي للسلطة: مع تحرير الحقل السياسي في عهد عبدو ديوف؛ رأى عددٌ كبيرٌ من الحركات النقابية والأحزاب السياسية النور، إلاّ أنّ الانفتاح السياسيّ لم يكن كافياً لوضع حدٍّ لحالة الاحتقان الاجتماعي والتدهور الاقتصادي، وتفاقمت الأزمة باندلاع التمرّدِ في كازاماس 26 نوفمبر 1982م، وبدايةِ ظهور الآثار الاجتماعية الخطيرة لبرامج «التكيّف الهيكلي» التي بدأ تنفيذها سنة 1980م، وأخيراً: مع تخفيض قيمة فرنك سيفا سنة 1994م وصلت حالة الهشاشة الاقتصادية للقواعد الشعبية أقصاها، وفي هذا السياق ظهرت حركة «بول فالي» Bul faale في الأوساط الشبابية تعبيراً عن الاستياء، ورفض السياسات الاجتماعية والاقتصادية للحكومة.
يمكن أن نترجم عبارة: «بول فالي» في لغة الولوف إلى العربية بـ «لا تشغل بالك»، وهي عبارة رأت النور بوصفها ظاهرة سياسية احتجاجية في مستهلّ تسعينيات القرن الماضي، ثم انتشرت عبر قنوات نشر الثقافات الشعبية، كالموسيقى من خلال فريق الهيب هوب Positive Black Soul الذي أصدر ألبوماً باسم: «بول فالي»، والمصارعة التقليدية؛ من خلال المصارِع الأسطوريّ محمد انداو المعروف باسم «تايزون» الذي افتتح حلبة صراع بالاسم نفسه.
لم تكن «بول فالي»- بالمعنى السياسيّ الصارم- حركةً سياسية، ولكنّها بوصفها ثقافة شبابية لإثبات الذات، والتعبير عن عدم الرضا بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن الفساد الإداري، فإنّها كانت ذات أبعادٍ سياسية، حيث أدت الحركة دَوْراً كبيراًَ في انتقال الحكم من حزب عبدو ديوف الاشتراكي الذي حكم البلاد أربعين سنة، إلى حزب عبد الله واد الليبرالي، ليس للخلفية الأيديولوجية لهذا أو ذاك، بل لإرادة التغيير السياسي.
كان عبد الله واد مدركاً لاستياء الشريحة الشبابية من سياسات عبدو ديوف وتطلّعها إلى التغيير، فاستغلّ ذلك في حملته الانتخابية ضدّ الحزب الاشتراكي، وكان من عادته في الحملة أن يقول للجموع الشبابية: «ليرفع الشباب الذين ليس لديهم عمل أيديهم»، فيرفع الجميع أيديهم– طبعاً- للبطالة المستشرية بين الشباب، وقد زاد هذا الصنيع من شعبيته؛ لأنّه نجح في أن يقدّم نفسه كمجسّد للتغيير، مهموم بالشباب على مستوى التأهيل والتوظيف، وقد ولّدت هذه الوعود الانتخابية الأمل لدى الشباب.
نشط شباب حركة «بول فالي» في الحشد الشعبي؛ من أجل التغيير ووضع حدٍّ لإدارة الحزب الاشتراكي، فنظّموا قوافل وحملات في دكار والحواضر الكبيرة، بل توغّلوا إلى القرى والأرياف من أجل توعية القرويين وتشجيعهم على التصويت ضدّ السلطة القائمة، وقد نجحت الحركة، حيث شكّل الشباب نسبة كبيرة من المسجّلين في اللوائح الانتخابية، فمن مجموع 2.618.176 مسجلاً؛ كان 1.127.100 منهم شباباً بين 18 و 35 سنة؛ أي بنسبة 43%، وبفضل التعبئة الاجتماعية التي قادها شباب حركة «بول فالي» استطاع المرشّح عبد الله واد الفوزَ على غريمه السياسيّ الرئيس عبدو ديوف.
لم يكن اصطفاف الحركة الشبابية بجانب حزب عبد الله واد العامل الوحيد في خسارة الحزب الاشتراكي، ولكن من المؤكّد أنّ دَوْر الشباب كان حاسماً جدّاً في الموضوع، وبذلك يكون الشباب من أهمّ الفاعلين الذين أدّوا دَوْراً كبيراًَ في إحداث التداول السلميّ للسلطة للمرّة الأولى في السنغال، ومعلوم بأنّ عملية التداول السلميّ للسلطة من أهمّ شرائط التحوّل الديمقراطي.
3 – الرئيس واد وحركة «كفاية»: التاريخ يعيد نفسه: اتخذ الرئيس الجديد عبد الله واد تدابير وآليات لتحسين أوضاع الشباب، منها مثلاً: اعتمادَه لاستراتيجيات وخطط عمل لتوظيف الفئة الشبابية، كخطة العمل الوطنية لشغل الشباب Panej، وإنشاء عددٍ كبيرٍ من المؤسسات العاملة في مجال الشباب، من أهمّها: الصندوق الوطني لتمكين الشباب FNPJ، ومكتب توظيف شباب الضواحي OFEJBAN، والوكالة الوطنية لتوظيف الشباب ANEJ، والمجلس الأعلى للتوظيف والتكوين… وغيرها، وبرغم هذه الجهود فإنّ «واد» لم يتمكّن من تخفيض نسبة البطالة بشكلٍ ملاحظ؛ أمام تزايد الخريجين الذين يصل تعدادهم سنويّاً قرابة 100.000 شابّ وشابة.
برغم إخفاق نظام عبد الله واد في الاستجابة لتطلعات الشعب عامّة، وتطلعات الفئة الشبابية خاصّة، فإنّ المشهد السياسيّ والاجتماعيّ السنغاليّ بقي في العموم مستقرّاً وهادئاً لعشر سنوات، وإن كان يمكن قراءة الغضب الشعبي في عناوين الكثير من الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي نشأت في تلك الفترة، منها مثلاً: dafa doy (حسْبُنا)، luy jot jotna (حان الوقت)، bés du ñàkk (سيأتي يوم)، fekkee mooma maci boole (لأنّي شاهد)… وغيرها من التشكيلات السياسية والمدنية التي عبّرت عن رغبتها في مقاطعة السلطة القائمة (3).
وتعدّ حركة Y en a marre (كفاية) أهمّ الحركات الشبابية التي رأت النور في سياق السخط الجماهيريّ تجاه تنامي حالة الهشاشة الاقتصادية، وفي بيانه لسبب إنشاء حركة «كفاية» قال منسّقها وناطقها الرسمي فاضل بارو Fadel Barro: «في فترة إنشاء الحركة كانت الحياة في السنغال مطبوعة بانقطاعات الكهرباء المستمرة، بالفضائح المالية التي تُقدّر بالمليارات، بظلمٍ اجتماعيّ غير عادي، وبغطرسة نظام عبد الله واد الذي لا يلقي بالاً بمعاناة الشعب.. في تلك الفترة؛ كنا نشعر كمواطنين سنغاليين بتخلّي النخبة السياسية والنقابية والدينية عنا… ففي سياق التفكير والحوار حول هذه القضايا قرّرنا في ليلةٍ من الليالي إنشاء حركة تسمّى بـ (كفاية)» (4).
إذا كان تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي هو السبب الرئيس في إنشاء حركة «كفاية»؛ فإنّ تطورات الوضع السياسي بالسنغال هي التي أدت دَوْراً كبيراً في تشكّل هوية الحركة، وتحديد مسارها النضالي ضدّ سلطة عبد الله واد.
في 2009م خسر كريم واد ابن الرئيس عبد الله واد الانتخابات البلدية ممثلاً لحزب والده (الحزب الديمقراطي السنغالي)، عقب ذلك تمّ تعيينه وزيراً للتعاون الدوليّ والنقل الجويّ والبنية التحتية والطاقة؛ بميزانية تقرب من 50% من ميزانية الحكومة، منذ ذلك الوقت بدأ الخوف من شخصنة الحكم يتنامى في الشارع السنغالي، وفي 2011م زدادت المخاوف، وتعزّزت بعد سعي الرئيس واد لتغييرٍ دستوريٍّ يسمح له بإنشاء منصب نائب الرئيس، ودلّت المؤشرات كلّها على أنّ المنصب أُنشئ ليتقلّده ابن الرئيس كريم واد؛ تمهيداً لتوريثه الحكم بعد والده.
في هذا السياق؛ انتفضت حركة «كفاية» ضدّ مشروع القانون، ودعت الشعب للنزول في الشوارع؛ مستخدمة تكنولوجيا التواصل الحديثة كالإنترنت والهواتف المحمولة؛ بموازاة الوسائل التقليدية كالإذاعات والصحف، وقد لبّى الشعب بشرائحه المختلفة النداء، فكانت في 21 و 22 يونيو مظاهرات ضخمة في كلٍّ من العاصمة دكار وكولاك وزيغنشور، وغيرها من المدن الكبرى، وفي 23 يونيو يوم التصويت على مشروع القانون تركّزت المظاهرات في وسط مدينة دكار، وبالأخصّ أمام مقرّ البرلمان الذي شهد أعمال عنف ومواجهات خطيرة بين الشعب وقوات حفظ النظام، أمام هذه المقاومة الشعبية الشرسة اضطُرّ وزير العدل في اليوم نفسه إلى سحب القانون والتنازل لإرادة الشارع.
بعد النجاح في إلزام الحكومة بسحب مشروع القانون تنامت شعبية حركة «كفاية» وموثوقيتها في الداخل والخارج، يضاف لذلك أنّ هذه الأزمة السياسية حدثت في سياقٍ دوليٍّ مواتٍ لنجاح مثل هذه المبادرات الشعبية التي يؤدي فيها الشباب الثائر دَوْراً محوريّاً، فقد شهدت سنة 2011م اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس قبل أن تنتقل إلى مصر، ويصل صداها بشكلٍ أو آخر إلى كلّ العالم العربي (5).
وانتهزت حركة «كفاية» فرصة الاصطفاف الشعبي حولها لخوض معارك سياسية أخرى، تركت أثراً كبيراً في المسار الديمقراطي للدولة السنغالية.
كان الرئيس واد في ولايته الأولى (2000م – 2007م) قد قام بإصلاحاتٍ دستورية، قلّص فيها فترة الرئاسة من سبع إلى خمس سنوات قابلة للتجديد مرّةً واحدة، وبعد انتخابه رئيساً للدولة في الولاية الثانية كان «واد» قد أشار في غير موقف إلى أنّه لن يترشّح لولاية جديدة، إلاّ أنّه- متجاهلاً وعوده- ترشّح لولاية ثالثة، وأثار بذلك جدلاً كبيراً حول المشروعية القانونية والسياسية والأخلاقية لهذا الصنيع، وفي يناير 2013م تدخّل المجلس الدستوري وقطع الجدل القانوني بتمريره لملف ترشّح «واد»؛ اعتماداً على مبدأ: عدم رجعية القانون.
كان شباب حركة «كفاية»، بعد معركة قانون الانتخابات، قد كرّسوا غالبية جهدهم لمعارضة الولاية الثالثة للرئيس واد، وبعد تدخّل المجلس الدستوري وانسداد الأفق القانونيّ للحيلولة دون الولاية الثالثة للرئيس واد، كثّف شباب «كفاية» الجهود عبر سلسلةٍ كبيرةٍ من الإجراءات، شملت المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، بالإضافة إلى عمليات التوعية الشعبية من أجل التسجيل في اللوائح الانتخابية، والتصويت ضدّ حزب الرئيس واد.
تمكّن المرشّح «ماكي سال» من الفوز على الرئيس واد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بنسبة 65.80% صوتاً ضدّ 34.20%، بفضل الحشد الشعبي لحركة «كفاية» وغيرها من القوى المجتمعية.
هذا الحدث يؤكّد- بالإضافة إلى ثورة الطلاّب في مايو 1968م في عهد الرئيس سنغور، وحركة «بول فالي» ضدّ الرئيس عبدو ديوف في العقدين الأخيرين من القرن الماضي- دَوْرَ الشباب التاريخيّ في مسار الديمقراطية، والانتقال السلمي للحكم في السنغال.
فهل كانت السنغال حالة استثنائية في المنطقة؟ أو أنّ هناك دولاً أخرى أدت فيها الشريحة الشبابية دَوْراً مماثلاً في التحوّل الديمقراطي؟ هذا ما سنقف عليه في الفقرة التالية.
ثانياً: بوركينافاسو:
1 – ثورة 1966م: انتفاضة شعب من أجل الخبز والماء والديمقراطية: بعد الاستقلال، رغبةً في القطيعة مع النظام الاستعماري، وتعزيز السيادة الوطنية، اعتمدت فولتا العليا (بوركينافاسو) دستوراً جديداً في ديسمبر 1960م، ولكن النظام الدستوري للدولة الجديدة انهار بعد انتفاضة شعبية سنة 1966م ضدّ سلطة الرئيس موريس ياميغو.
بعد تحقيق فوزٍ كبيرٍ في الانتخابات الرئاسية سنة 1965م، بنسبةٍ تتجاوز 99% من مجموع الأصوات، واجه الرئيس الأوّل لفولتا العليا (بوركينافاسو) المستقلّة موريس ياميغو أزمةً اقتصاديةً كبيرةً؛ ناتجة عن الفساد الإداريّ والتدبير السيّء للموارد الوطنية، وفي 1966م اتخذ الرئيس تدابير إصلاحية، ممثّلة في سياسات التقشّف التي من ضمنها: تخفيض نسبة 20% من أجور العاملين، ووقف ترقيتهم لمدّة سنتين، ووضع حدّ للعلاوات الأسرية والدعم الحكوميّ للمدارس الأهلية، هذا في حين كان الرئيس وأعضاء حكومته ينفقون المبالغ الضخمة في رفاهيتهم، حيث كان الرئيس في هذه الأثناء يحتفل بزفافه مع زوجته الثانية- ملكة جمال كوت ديفوار- في برازليا (6).
إزاء سياسات التقشّف، التي تمسّ بالدرجة الأولى العاملين في الوظائف العمومية، بدأت الحركات النقابية النزول إلى الشوراع مطالبة بحقوقها، فقام الرئيس بمنع الاجتماعات النقابية وحجر الحق في التظاهر، اخترق النقابيون الحجر ودعوا الشعب للتظاهر يوم 3 يناير 1966م، كان الشباب في واجهة الملبّين للدعوة، فقد كان طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس أوّل النازلين إلى الشارع حاملين لافتات مكتوب عليها: «الخبز، الماء، والديمقراطية»، وسرعان ما التحقت أطياف المجتمع بالشباب والنقابيين، ووصل عدد المتظاهرين إلى أكثر من 100.000 شخص في العاصمة واغادوغو فقط، وأمام هذا الضغط أعلن الرئيس تنازله عن سياسات التقشّف التي اتخذها، إلاّ أنّ هذا التنازل لم يكف لتهدئة غضب الشارع الذي رفع سقف المطالب إلى تنحّي الرئيس، في النهاية أدرك الرئيس أنّه لن يستطيع فعل شيء لكسب ثقة الشعب من جديد؛ فاضطُرّ إلى التنازل عن السلطة لصالح أبي بكر سنغولى لاميزانا الذي كان المفاوض الوسيط بين المتظاهرين والرئيس.
2 – بوركينافاسو في وحلّ الحكم العسكري: استمرّ سنغولى في السلطة 14 عاماً، وفي 1980م نظمت نقابات الأساتذة مظاهرات ضدّه، وتصاعدت وتيرة المظاهرات، حتّى عمّت جميع الشرائح الاجتماعية، فقام وزير خارجيته الأسبق سَي زربو بالانقلاب عليه، وتقلّد منصب رئاسة الدولة، ثمّ لم يتمكّن الانقلابيّ الجديد من التحكّم بالوضع، حيث وُوجه هو الآخر بمظاهرات عنيفة من النقابيين، ما دفع جان باتست ويدراغو إلى الانقلاب عليه سنة 1982م، وفي 1983م بعد خلافات سياسية بين ويدراغو الانقلابيّ الجديد ورئيس وزارئه توماس سنكارا؛ عزل الرئيسُ وزيره الأوّل، فقام سنكارا بتنظيم انقلاب ضدّه سنة 1984م.
في عهد الرئيس سنكارا عاشت فولتا العليا (بوركينافاسو) في فترة من الهدوء والاستقرار بسبب الدعم الشعبيّ الذي تمتّع به الرجل، بالإضافة إلى بوادر الإقلاع الاقتصاديّ التي بدأت تلوح في الأفق؛ بفضل الإصلاحات الجذرية التي اتخذها في مجال الزراعة والتعليم ومحاربة الفساد، كان الرئيس سنكارا داعياً إلى القطيعة مع الغرب (7), معارضاً للإمبريالية وسياساتِ الاستعمار الجديد التي تتبعها القوى العالمية تجاه إفريقيا، وبرغم تحسُّن الأوضاع الاقتصادية للبلد في عهده؛ فإنّ الرجل راح ضحيّة توجّهه السياسيّ المعادي للغرب، حيث قام زميله ورفيق دربه بليز كومباورى بالانقلاب عليه سنة 1987م، بعد أربع سنوات من حكمه الرشيد.
3 – بوركينافاسو في عهد الديمقراطية الشكلية: في عهد الرئيس بليز عرفت الدولة للمرّة الأولى انفتاحاً سياسيّاً، وانتقالاً إلى التعددية الحزبية، استجابةً للضغوط الداخلية، وانسجاماً مع السياق الإقليميّ الذي أصبح فيه التحوّل الديمقراطيّ ظاهرة عامّة، ففي 1991م اعتمدت الدولة- بعد استفتاءٍ شعبيٍّ للمرّة الأولى من تاريخها- دستوراً جديداً يفتح الحقل السياسي، ويتقبّل المعارضة والتعددية الحزبية.
التحوّل الديمقراطي في بوركينافاسو كان على خلاف بنين وتوغو والنيجر، وغيرها من دول المنطقة التي كانت فيها عملية الدمقرطة حصيلةَ تفاوض صريحٍ وعادلٍ بين القوى والمكونات السياسية والاجتماعية، كان الأمر في بوركينافاسو إجراءً استباقيّاً من نظام بليز لتكميم أفواه المعارضين والتخلّص من الضغوط الخارجية.
كان الدستور المعتمد 1991م في مادته الـ 37 يحدّد مدّة الرئاسة بسبع سنوات قابلة للتجديد مرّة واحدة، وقبل سنة من انتخابات 1998م قام بليز بتعديل الدستور وحذف بند تحديد الولاية الرئاسية بفترتين، ثمّ شارك في الانتخابات وفاز برغم النسبة الضئيلة جدّاً للمشاركة في الانتخابات، التي لم تتجاوز 25% من المسجلّين، وفي 2000م، في سياق الانتفاضة الشعبية بسبب مقتل الإعلاميّ نوبر زنغو- الذي كان يقوم بتحقيقات تمسّ الرئيس والمقرّبين إليه، قام بليز بتعديل الدستور مجدّداً وتحديد فترة الرئاسة بخمس سنوات قابلة للتجديد مرّة واحدة؛ رغبةً منه في تسكين غليان الشارع، ولكن تمسكاً بمبدأ «عدم رجعية القانون» قام بليز بالترشّح مرةّ أخرى في 2005م و 2010م، وحقّق فيهما فوزاً كبيراً.
بعد انتخابه رئيساً للبلاد للمرّة الرابعة في 2010م، رجع بليز إلى عادته، وشرع في اتخاذ إجراءات لتعديل الدستور منذ 2011م، ليتمكّن من الترشّح مرّة أخرى في انتخابات 2015م، هذا الأمر أحدث جدلاً كبيراً في المسرح السياسيّ البوركيني، حتّى في صفوف الحزب الحاكم وحلفائه التقليديين، فضلاً عن الأحزاب السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني.
4 – «المكنسة الوطنية» وانهيار نظام بليز: كانت الحركة الشبابية المعروفة بـ «المكنسة الوطنية» على رأس منظمات المجتمع المدنيّ التي ناضلت ضدّ تعديل المادة 37 من الدستور البوركيني، تأسست الحركة عام 2013م من قِبل فنانَيْن شابَّيْن؛ من أجل التعبير عن الاستياء حيال الفسادِ المالي، وانتهاكاتِ حقوق الإنسان، وانغلاقِ الحقل السياسي الذي احتكره رجلٌ واحدٌ منذ ما يقرب من 27 سنة.
انضمّ الشباب إلى الحركة بشكلٍ كبير، وهم في غالبيتهم لم يعرفوا نظاماً آخر غير نظام بليز، حيث وُلدوا وعاشوا في ظلّ حكمه الطويل، لم يكتف الشباب بإبداء معارضتهم لسياسة بليز، بل اتخذوا مبادرات مدنية تعبّر عن وطنيتهم العالية، وتُعدّ عمليات تطهير وتنظيف الطرقات والشوارع والمستشفيات وغيرها؛ من أهمّ هذه المبادرات التي ساهمت مساهمةً كبيرةً في منح الثقة بالحركة، ودفعت الشباب إلى الانخراط فيها بشكلٍ كبير.
وعلى غرار حركة «كفاية» بالسنغال؛ فإنّ انقطاع الكهرباء، وقذارة الشوارع والأماكن العمومية، والبطالة، والهشاشة الاقتصادية…، وغيرها من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردّية، هي العوامل الأساسية لميلاد حركة «المكنسة الوطنية»، وبعيداً عن المعترك السياسيّ فقد كانت المظاهرات الأولى التي نظمّتها الحركة داخلة في الإطار الاجتماعي، كالاعتصام الذي نظّمته لاستنكار انقطاعات الكهرباء المتكّررة في العاصمة وغادوغو، والاعتصام الذي نظمته أمام أحد المستشفيات العمومية لإجبار إدارتها على الاعتذار عن سوء الخدمات والتعهّد بتحسينها.
وفي خضمّ النقاش الوطنيّ حول تعديل المادّة 37؛ تَدْخلُ الحركة خطّ المعارضة السياسية ضدّ مشروع الرئيس بليز كومباورى، صحيح أنّ الأحزاب السياسية أبدت معارضتها للمشروع منذ 2011م، إلاّ أنّ دخول حركة «المكنسة الوطنية» في الخطّ أعطى زخماً كبيراً، حيث نقل معارضة المشروع من المعارك السياسية الضيّقة إلى قضيةٍ وطنيةٍ مصيريةٍ للدولة والأمّة.
في 28 أكتوبر، قبل يومَيْن من تاريخ التصويت على مشروع مراجعة الدستور في البرلمان، نظمّت الحركة بالتنسيق مع تحالف الأحزاب السياسية المعارِضة ومنظمات المجتمع المدني مسيرةً مليونية في «ميدان الثورة» بالعاصمة واغادوغو؛ لإقناع الرئيس بالتخلّي عن رغبته في تعديل الدستور والترشّح لولاية أخرى، ولكن هذا الحشد الشعبي الذي لم يشهد البلد مثله لم يكن كافيّاً لجعل الرئيس بليز يتراجع عن مشروعه، فزاد ذلك من تصميم الحركة الشبابية وعزمها، فنزلت في الميدان تتجوّل في الطرقات والشوارع لحشد الناس ودعوتهم إلى المشاركة في المسيرة التي تعتزم الحركة تنظيمها في 30 أكتوبر يوم التصويت على المشروع في البرلمان.
وتمكّنت الحركة من كسب تجاوب القاعدة الشعبية، حيث استجاب الناس للدعوة، ونزلوا إلى الشوارع زرافات وفرادى يوم 30 أكتوبر للحيلولة دون تمرير البرلمان للتعديل الدستوري، وعمّت المظاهرات كلّ الحواضر الكبرى للدولة، وبعد ساعات من المواجهات مع قوات الأمن استطاع الثوّار في العاصمة واغادوغو الوصولَ إلى مبنى البرلمان وإضرام النار عليه، كما أضرموا النار على مبنى التلفيزيون الوطني، وبيوت بعض القيادات السياسية المؤيدة للرئيس بليز، ثمّ توجّهت الجموع الغاضبة إلى القصر الرئاسيّ بحيّ وغا 2000 الفاخر، فاضطرّ الرئيس بليز إلى التخلّي عن مشروع التعديل الدستوري، وحاول أن يقنع الشعب بالرجوع إلى المنازل دون جدوى، حيث لم تعد المسألة مسألة مادّة دستورية واحدة، فقد انقطعت عرى الثقة بين القمة والقاعدة، ووصل الأمر إلى حدّ لم تعدّ فيه الجموع الثائرة تتحمّل النخبةَ الحاكمة، وبعد محاولات عدّة لاستيعاب الأزمة؛ أيقن الرئيس بليز أنْ لا منجى له إلاّ بالاستقالة والهروب خارج البلاد.
5 – الفترة الانتقالية ومواجهة «المكنسة الوطنية» للدولة العميقة وفلول النظام السابق: بعد سقوط نظام بليز نشأ فراغٌ تشريعي، فقام إسحاق زيدا- قائد كتيبة الحرس الرئاسي- بتعطيل الدستور ومؤسساتِ الدولة وإعلان نفسه رئيساً جديداً لبوركينافاسو، فقامت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) بإدانة بوركينا وتعليق عضويتها وفق «الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحوكمة الرشيدة»، فاضطر العسكر تحت الضغوط الداخلية والخارجية إلى التنحّي واختيار رئيسٍ مدنيٍّ (ميشيل كافاندو)، والعودة إلى الشرعية الدستورية.
لم تنته مهمّة حركة «المكنسة الوطنية» برحيل بليز كومباورى، بل أدت بالإضافة إلى القوى المجتمعية الأخرى دَوْراً كبيراً في حراسة الديمقراطية، ومحاربة فلول نظام بليز في الفترة الانتقالية، يمكن تلمّس دَوْر الحركة في هذه الفترة في مساعيها من أجل استقالة أحد وزراء الفترة الانتقالية المُتهَمين بالفساد المالي، وفي جهودها في حلّ كتيبة الحرس الرئاسيّ التي كانت آلة عسكرية يديرها الرئيس بليز عن بُعد.
لا شكّ بأنّه لم يكن لشباب حركة «المكنسة الوطنية» أن يحقّقوا كلّ هذه النجاحات بمفردهم لو لم يحظوا بدعم القوى المجتمعية الأخرى، ولكن مع ذلك تبقى الحركة هنا من أهمّ الفاعلين المدنيين الذين قاموا بدَوْرٍ محوريّ في إسقاط أنظمة تنتسب إلى الديمقراطية شكلاً، وترفض كلّ تغييرٍ سلميٍّ للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع.
المحور الثالث: الشباب وآفاق الديمقراطية في إفريقيا:
لم يكن اختيارنا لهاتَيْن الدولتَيْن (السنغال، وبوركينافاسو) لتفرّدهما بالمشاركة الشبابية في تعزيز العملية الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة فقط، بل لاعتبارات أخرى، من أهمّها: حداثة التجربة ونجاحها الباهر في الدولتَيْن، بالإضافة إلى الزخم الإعلاميّ الذي صاحبهما، في تزامنٍ مع ما كان يجري في العالم العربي من ثوراتٍ شعبيةٍ قادتها الشريحة الشبابية ضدّ الديكتاتورية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا…، وبرغم أنّ الديناميات الداخلية الخاصّة بالدول المعنية هي التي تفسّر هذه الانتفاضات الشعبية؛ فإنّ علاقات التأثّر والتأثير غير مستبعدة في عالمٍ تنتقل فيه الأخبار بسرعة الضوء.
في ظلّ ما سبق: أيّ مستقبل للمشاركة الشبابية في العملية الديمقراطية تأسيساً وتعزيزاً في دول إفريقيا جنوب الصحراء؟
في الإجابة عن هذا السؤال، نزعم بأنّ دور الشباب في تثبيت دعائم الديمقراطية سيتنامى بشكلٍ كبيرٍ، وذلك للمعطيات الواقعية الآتية:
1 – المعطى الديموغرافي: تُقدّر الدراساتُ السكّانية بأنّ ما لا يقلّ عن ثلثي سكان القارة من الشباب، ما يجعل من هذه الشريحة رهاناً سياسيّاً في المستقبل القريب والمتوسّط، وإن كانت بحاجة إلى التوعية والتأهيل لتتمكّن من القيام بمسؤوليتها تجاه دولها وأمّتها بكفاءة ومهنية.
2 – المعطى العولمي: برغم أنّ الديناميات المحلّية هي التي سيكون لها الكلمة الأخيرة في تهيئة مشاركة الشباب في تسيير دولهم نحو الأفضل؛ فإنّ تعولم قضية الشباب والسياقات الإقليمية والدولية؛ تسمح بالتنبؤ بأنّ القارة الإفريقية ستشهد، على غرار القارات الأخرى، مزيداً من مشاركة الشباب في تعزيز الديمقراطية في بلدانهم.
3 – معطى الاندماج الإقليمي: تتجه القارة الإفريقية إلى الاندماج السياسيّ والاقتصاديّ في إطار اتحادياتٍ وكتلٍ إقليمية، كالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وقارية كالاتحاد الإفريقي، هذا الاندماج سيؤدّي في النهاية- ليس فقط إلى تقريب المعايير والحقائق السياسية والاقتصادية؛ بل أكثر من ذلك- إلى التقريب بين الشعوب، والانتقال السريع لتجارب سياسية ومدنية من دولةٍ إلى أخرى، وفي هذا الإطار نشير إلى ما أكّده كثيرٌ من الباحثين والمحلّلين بخصوص استفادة حركة «المكنسة الوطنية» ببوركينافاسو من تجربة حركة «كفاية» بالسنغال على مستوى التنظيم واستراتيجيات التواصل والحشد الشعبي، ومعلومٌ أنّه كانت هناك زيارات ثنائية الجانب بين قيادات الحركتَيْن لتبادل الخبرات (8).
هذا، ويربط كثيرٌ من الباحثين كذلك بين نجاح الحركتين وظاهرة نشوء أشكالٍ جديدة من التشكيلات الشبابية في كثيرٍ من الدول الإفريقية، تنشأ في الغالب بشكلٍ عفويٍّ كحركات غير سياسية؛ مطالبةً بتحسين الأوضاع الاجتماعية، ومندّدةً بسوء الإدارة والفساد المالي والاستبداد السياسي.
ويمكن أن نذكر من هذه الحركات التي نشأت في السنوات الخمس الماضية في الدول الإفريقية: حركة Filimbi في الكونغو الديمقراطية، وتعني: «الصفّارة» بالسواحلية، وفي الغابون حركةÇà suffit comme çà، وتعني: «يكفي هكذا» بالفرنسية، وفي بورندي حركة Tournons la Page، وتعني: «لنقلبْ الصفحة» بالفرنسية.
الهوامش والاحالات:
(*) كاتب وباحث من مالي.
(1) Ahmed Mahiou, L’avenement du parti unique en Afrique noire : l’expérience des états d’expression française, coll. Bibliothèque africaine et malgache Droit et Sociologie, Librairie général de droit et de jurisprudence, 1969, 421 pages.
(2) هناك عدد من الدول الإفريقية عرفت الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية قبل تسعينيات القرن الماضي.
(3) Moda Dieng, Une jeunesse, deux alternances : De Bul Fale à Y en a marre,
http://www.leral.net/Une-jeunesse-deux-alternances-De-Bul-Fale-a-Y-en-a-marre_a70723.html
(4) حوار فاضل بارو مع صحيفة Le faso، على الرابط: http://lefaso.net/spip.php?article48994
(5) للوقوف على علاقات التأثّر والتأثير بين الربيع العربي وحركة «كفاية» انظر: «تداعيات الثورة العربية على الحراك السنغالي»، د. هارون باه، مجلة البحثية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، م 1، 2014م، منشورات مؤسسة خالد الحسن، مركز الدراسات والأبحاث.
(6) http://lemessagerdafrique.mondoblog.org/2013/01/02/3-janvier-1966-le-premier-soulevement-populaire-contre-un-regime-en-afrique/
(7) توماس سنكارا: هو مَن غيّر اسم الدولة من «فولتا العليا» إلى «بوركينافاسو» سنة 1984م، لأنّ الاسم الأوّل كان استعماريّاً، و «بوركينا فاسو»: عبارة عن كلمتين مركبتين من لغة موري وجولا المحليتين، ويمكن ترجمتها بالعربية بـ «بلد الرجال الكمّل».
(8) Benjamin Roger, Y’en a marre », « Balai citoyen », « Filimbi »… : l’essor des sentinelles de la démocratie, Jeune Afrique, http://www.jeuneafrique.com/228193/politique/y-en-a-marre-balai-citoyen-filimbi-l-essor-des-sentinelles-de-la-d-mocratie/