نجم الدين محمد عبدالله السنوسي (*)
ظلّ السّلْم مفهوماً محيّراً طوال معظم تاريخ إفريقيا بعد الحقبة الاستعمارية، وثبت أنّ السّلْم والتنمية أصعب وأعقد في تحقيقهما؛ خلافاً لتوقعات المتفائلين الأفارقة في الحقبة التي تلت الاستقلال مباشرة، وذلك لعدة عوامل داخلية وخارجية.
وهناك صورتان ثابتتان متناقضتان تحيطان بالمفهوم العام للسّلّم في إفريقيا، وإن لم يكونا قاصرَين بشكلٍ كليٍّ عليها، وهما:
1 – صورة إفريقيا التي تحفّها المخاطر ويلفّها الغموض: وتتمثل في الحروب الضاربة، والنزاعات المسلحة الدامية، والاضطرابات السياسية، والأزمات الاقتصادية الخانقة، والمجاعات، والأمراض، والنزوح، والفقر، وكلها ترمز إلى القارة البائسة.
2 – صورة رحلات الصيد البرية، وصورة إفريقيا في السينما الأمريكية: وهي صورة ظهرت مع نشأة رحلات الصيد البرية بهذه القارة وانتشارها، وبخاصة صور مجلة ناشيونال جيوغرافيك، وصور أفلام هوليود بلغة التناقضات، مثل أفلام: (الملكة الإفريقية)، أو فيلم (الخروج من إفريقيا)، وهي في الوقت نفسه صور لقارة تحفّها المخاطر والغموض.
هاتان الصورتان المتناقضتان لإفريقيا استُعملتا في صوغ التصور العام عن هذه القارة، وترسيخ مفهوم القارة البائسة، وحالة العجز الكليّ في إفريقيا؛ وتبعاً لذلك فإنّ قصص النجاح في القارة الإفريقية لا يثير الاهتمام العالمي إلا قليلاً(1).
ولأجل فَهْم السياق العام في إفريقيا والسياسة الإفريقية، وكيف تؤدّي هذه السياسة إلى الحروب والنزاعات المسلحة، والاضطرابات، والتخلّف، علينا أن ننزع صفة التجانس عن السياسة الإفريقية، أي ألا نتحدث عن نمط حكمٍ واحدٍ متجانسٍ، أو بناءٍ ثقافيٍّ اجتماعيٍّ أو اقتصاديٍّ ثابت، أو اتجاهٍ سلوكيٍّ نمطيٍّ يربط إفريقيا بعضها ببعض، ويحقّق الانسجام بين مكوّناتها؛ ففي إفريقيا تنوعٌ ثقافيٌّ واجتماعيٌّ ثري؛ إذ يتكلّم الأفارقة حوالي ألف لغة متميزة، ولكلٍّ من القبائل الكبرى لغتها الخاصّة، وتضمّ القارة أكثر من خمسة آلاف جماعة مختلفة في أربع وخمسين دولة، تشكّل طائفة من الأنساق العقائدية والأحكام القيمية المختلفة، والتي تُعدّ أمراً ضروريّاً في حياة الجماعات القبلية، مثل: جماعات الهوسا، والزولو، والسوازي، والفور، والأمهرة، والدينكا، والنوبة، وهي جماعات ما زالت تدير شؤونها في إطارٍ جماعيٍّ، وبطرقٍ تقليدية متفقٍّ عليها فيما بينهم.
إلا أنه على الرغم من التنوّع الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ توجد عدة جوانب عامّة مشتركة في الواقع الإفريقي، مثل: سيادة الدول، وأنماط السياسة الإفريقية القائمة على التوجّه الإثني، والإفراط في الاعتماد على الخارج، والانقسام بين الريف والحضر.
الاستعمار الأوروبي والمجتمعات الإفريقية:
ساهم الاستعمار الأوروبي بشكلٍ كبيرٍ في وضع بذور الحروب الأهلية في القارة من خلال النشأة المصطنعة للدول الإفريقية، ومن خلال السياسات الاستعمارية المتبعة في المستعمرات الإفريقية السابقة.
جاء التقسيم الاستعماري الذي جرى في مؤتمر برلين عام 1885م متّسقاً فقط مع مصالح الدول الاستعمارية واتجاهاتهم للتوسع، بينما كان هذا التقسيم متناقضاً مع الواقع الاجتماعي والإثني للمجتمعات الإفريقية، حيث أفرز هذا التقسيم خريطةً استعماريةً، جمعت بين مجموعات إثنية وعرقية لم يسبق لها العيش معاً، ولم يسبق لها التفاعل بعضها مع بعضها الآخر(2), كما هو الحال في السودان وتشاد وأنجولا ونيجيريا، وغيرها من الدول.
أيضاً ساهمت السياسات الاستعمارية في زيادة حدّة الصراعات في الدول الإفريقية عقب نيل هذه الدول استقلالها وإلى يومنا هذا فيما يُعرف بسياسة: (فرّق تسد)، حيث تتملك بعض الجماعات مزايا اقتصادية وتعليمية وثقافية على حساب المجموعات الأخرى، كما هو الحال في رواندا عندما سيطرت جماعة التوتسي على الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، كذلك واقع السودان عندما تمّ تنمية شماله العربيّ المسلم وتجاهل الجنوب الإفريقي؛ الأمر الذي أدّى إلى حروبٍ أهلية في البلدين(3).
كما أنّ التداخل القبلي فيما وراء الصحراء يسهّل إثارة الصراعات المحلية.
وعندما نالت معظم دول القارة استقلالها، في ستينيات القرن الماضي، لم يكن لديها الخبرة والكفاءات الإدارية والعلمية لإدارة الحكم في معظم دولها(4).
الإنسان والتنمية البشرية في إفريقيا:
إفريقيا تمثّل مساحتها خمس مساحة أراضي العالم، إذ تبلغ أكثر من 30 مليون كلم مربع، ولكن 6% فقط من أراضيها مزروعة، وتغطي الغابات ربع مساحتها.
وتعدّ إفريقيا الأغنى بالموارد في العالم، فمن بين الواحد والعشرين معدناً المتعارف عليها في العالم؛ فإنّ الخمسة الأعلى من حيث التصدير توجد في إفريقيا، مثل: النفط الخام والغاز الطبيعي والماس والفحم(5).
لكن وفرة الموارد الطبيعية والبشرية في إفريقيا والثروة العظيمة الناتجة عنها لم تُترجم على أرض الواقع؛ فإفريقيا تعاني تدنياً في النمو الاقتصادي طويل المدى، وسوء معيشة غالبية الأفارقة (الفقر وسط الوفرة)، وذلك ما يصفه بعض المحللين بأنه: (لعنة الموارد)، ويُعزى ذلك إلى سوء إدارة الموارد الطبيعية، بجانب النّخب الحاكمة الفاسدة، وضعف الدولة، وعدد من العوامل الخارجية(6), التي تنعكس على التنمية ووعي الإنسان الإفريقي، وطبقاً لمؤشرات البنك الدولي الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، في إفريقيا جنوب الصحراء، يبلغ متوسط عمر الفرد 47 عاماً في عدد سكان يتجاوز المليار نسمة، كما أنّ نسبة مَن تتوفر لديهم موارد الماء الصحيّ لا تزيد عن 54%، أيضاً يبرز حجم المديونية طويلة المدى الذي يشكّل عائقاً أمام تطور المجتمعات الإفريقية، حيث يبلغ إجمالي الدين الخارجي 7,176 مليارات دولار عام 2005م، وإجمالي 8,8% من أقساط الفوائد على الصادرات السلعية والخدمات والدخل، وكلّ ذلك ينعكس على التنمية في الدول الإفريقية، ويسبب تأخر عملية التعليم وتطوير الخدمات الصحية والتنموية.
وتبرز آثار سوء الإدارة بصورةٍ أوضح في التعليم بالدول الإفريقية؛ فيما أثبتته الدراسة التي أجراها معهد اليونسكو للإحصاء بشأن الموارد المدرسية والتربوية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى(7).
وفي السياق نفسه نجد مؤشر التنمية البشرية الخاص ببرنامج الأمم المتحدة يعطي دلالة مهمّة على مستوى التخلف وانعدم الاستقرار السائدَين في إفريقيا، فبين عامي (1990م -2007م) احتلت دول إفريقيا الضعيفة المراكز العشرة الأخيرة في قائمة مؤشر التنمية البشرية.
ووفقاً لتقرير بنك التنمية الإفريقي لعام 2007م في عام 2025م: سيعيش قرابة 50% من الأفارقة في مناطق ذات ندرة مائية أو نقصٍ مائيٍّ؛ نتيجة للنضوب المتزايد أو ندرة الموارد المائية، وهو ما ينعكس على الاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ للشعوب الإفريقية، وقد يفاقم من حدّة الصراعات بينها؛ فعوامل الجفاف وندرة المياه كانت سبباً لأزمة دارفور التي تصاعدت وانتقلت من صراع حول الموارد إلى أزمة إقليمية ودولية.
كما تؤثّر مؤشرات الاضطراب السياسي وعدم استقرار الحكم على الشعوب الإفريقية في تحقيق السّلْم والأمن في القارة، فطبقاً لترتيب مؤشر صندوق الدول التي تفتقر للسّلْم للعام 2007م: نجد أنّ ثماني دول من بين الدول العشر الأولى الأكثر اضطراباً سياسيّاً في العالم هي دول إفريقية، ووفقاً لتقرير مؤشّر السلام العالمي للعام 2014م: حدث تقدّمٌ طفيف في جانب السّلْم العام؛ حيث احتلت بتسوانا الرقم 36؛ متقدمة على دولٍ مثلّ كوريا الجنوبية والسعودية والكويت، وتقاسمت الدول الإفريقية المراكز العشرة الأخيرة في التصنيف مع دول آسيا؛ حيث احتلت الكنغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى والسودان والصومال المراكز من 155 إلى 158، وتأتي دولة السودان في المركز رقم 160؛ متقدمة على أفغانستان وسوريا(8).
أما فيما يتعلق بمؤشّر الفساد الدولي للعام 2007م: فتأتي سبع دول إفريقيا ضمن العشرين دولة الأكثر فساداً؛ برغم الشكوك في مصداقية مؤشرات الفساد العالمية؛ لكونها تربط الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في التقرير(9).
بصورة عامّة نجد أنّ الحروب والصراعات والنزاعات المسلحة هي التي تسيطر على صورة إفريقيا وتغطيها إعلاميّاً، وذلك بسبب انتشار العنف السياسيّ، وتكرار الحروب والنزاعات في القارة، ووفقاً لقواعد بيانات جامعة أوبسالا السويدية شهدت إفريقيا أكثر حالات الحروب والصراعات المسلحة في العالم في الفترة من (1946م – 2006م)؛ حيث سجّلت 74 حالة صراع؛ مقارنة بقارة آسيا التي سجّلت 68 حالة صراع، والشرق الأوسط 38 حالة(10).
إنّ هذه التقارير تبرز عجز المجتمعات الإفريقية عن حلّ النزاعات الداخلية بصورةٍ عامّة، إلا أنه برغم هذه الصورة النمطية عن إفريقيا برزت متغيرات دولية ساهمت في تقليل نسبة العنف في القارة الإفريقية، خصوصاً مع انتشار ظاهرة العولمة، وسرعة وصول المعلومات التي تتعلق بالنزاعات والعقوبات الدولية التي تطبّق على جرائم الحروب والنزاعات، فقد أدت هذه المتغيرات إلى انخفاضٍ كبيرٍ في النزاعات المسلحة في إفريقيا؛ حيث بلغت في (2008م – 2015م) قرابة سبعة نزاعات مسلحة فقط تنشط في إفريقيا(11).
ولكن أخيراً أصبحت هذه الصراعات تُخمد في مهدها نتيجة للضغوط الخارجية؛ ما أدى إلى حدوث تغيّرٍ في شكل هذه الصراعات التي كانت تمتد لسنوات طويلة حتى تخمد، مثل الحرب بين شمال السودان وجنوبه التي استمرت قرابة 30 عاماً؛ وهو ما يشير إلى كثافة المشاركة الإفريقية والدولية والدبلوماسية الوقائية في إدارة النزاعات في إفريقيا لحفظ الأمن والسّلْم؛ ما يساعد الشعوب الإفريقية على المساهمة بدورٍ حقيقيٍّ لحلّ النزاعات أو الحروب عبر الطرق التقليدية المتعارف عليها من قِبل الجماعات المتصارعة فيما بينها.
دور الشعوب والجماعات الإفريقية التقليدية في السّلْم والأمن:
كما ذكرنا مسبقاً؛ فإنّ إفريقيا ليست كياناً ثقافيّاً واجتماعيّاً وعرقيّاً واحداً، فهي مجموعات مختلفة، حتى في إطار الدولة الواحدة توجد عدة مجموعات تختلف ثقافيّاً وإثنيّاً، مثل دولة السودان تضم قرابة (571)(12) مجموعة عرقية.
يرجع ذلك إلى عدة عوامل، أبرزها الاستعمار الخارجي الذي قسّم الدول الإفريقية جغرافيّاً وفقاً لمصلحته الخاصّة؛ دون مراعاةٍ للجوانب الاجتماعية والثقافية للقارة الإفريقية.
إنّ هذه المجموعات الاجتماعية – وإن تعددت – فإنها تؤدّي دوراً مهمّاً في حلّ النزاعات والحروب وتحقيق السّلْم والأمن وفقاً لعاداتها وتقاليدها ومقارباتها الثقافية، وهي تختلف من مجموعة إلى أخرى.
ويوضّح الواقع أنّ الآليات القديمة لفضّ النزاعات المحلية في إفريقيا ما قبل الاستعمار كانت تحقّق قدراً في حفظ السلام والأمن وضمان التعايش السّلمي بين المجموعات المختلفة، وتمثّل الأعراف المحلية صيغة متواترة عن الحروب والصراعات لها أهميتها في ضمان بناء السلام وفضّ النزاعات في هذه المجتمعات، يقول دكتور باكوبو: «إنّ فضّ النزاعات في معظم المجتمعات الإفريقية كان يحكمه مبدأ الإجماع والمسؤولية الجماعية والتضامن الجماعي، أي أنّ الجماعات المختلفة كان يحكمها مبدأ الإجماع والمسؤولية الاجتماعية بشكلٍ متناغم بين أفرادها»(13).
إنّ دور الشعوب الإفريقية في تحقيق السّلْم والأمن بالقارة الإفريقية يتعلق – غالباً – بالجهود الذاتية لهذه المجموعات؛ للحيلولة دون امتداد الصراع واستمراره بين المجموعات المختلفة.
مجلس (جير) في نيجيريا:
تنتشر في نيجيريا الجهود المحلية لفضّ النزاعات وفرض السّلْم؛ حيث شكّلت بعض المجموعات مجلساً لفضّ النزاعات والخلافات عُرف باسم: (جير)، يقوم هذا المجلس بدور الوساطة والتوفيق بين الجماعات المتصارعة، حيث يرأس زعماء المجموعات القبلية هذا المجلس، ويقومون بمواجهة الجماعات المختلفة فيما بينهما لحلّ الصراعات، ويستندون إلى: المعايير الثقافية والقيم والضمير الأخلاقي الجمعي المتوارث لديهم لفضّ النزاع، وقد ساهم هذا المجلس في حلّ بعض الخلافات والنزاعات في منطقتهم بين مجموعتين من قبائل التيف عام 1994م، وقام بتوقيع سلامٍ بين الطرفين.
ديوان معالجة الخلافات في إقليم صوماليلاند:
أيضاً يبرز إسهام الجماعات الإفريقية في الصومال، حيث أدت عدة عوامل إلى انهيار الدولة الصومالية، ومنها نظام الحكم الفرديّ لنظام سياد بري، والاعتماد الكثيف على المؤسسات العسكرية والبوليسية في مختلف قطاعات الدولة، إضافــة إلـى العــوامل الخارجيــة المتمثلة فـي تدخل القوى الإقليمية والدولية في الحرب الأهلية الصومالية.
وأخذ انهيار الدولة الصومالية شكلاً متطرفاً، أعاد المنطقة إلى الوضع الذي كانت عليه في القرن التاسع عشر؛ من حيث غياب السلطة المركزية، والنظام القضائي، وانهيار الخدمات العامة(14).
وهنا برز حلّ النزاعات في إقليم صوماليلاند المنفصل ذاتيّاً وغير المعترف به دوليّاً عن دولة الصومال؛ حيث يعتمد الأفراد فيه على شيوخ العشائر التقليديين بوصفهم مراجع السلطة الأخلاقية، ومحفزين للوئام الاجتماعي فيما يتصل بفضّ النزاعات والتوزيع الاقتصادي والاجتماعي للموارد، وذلك يرجع لصلات الدم والقرابة التي تساهم في مبادئ الاستقرار والاحتواء والإجماع في فضّ النزاعات، الأمر الذي ينعكس على السّلْم العام وحفظ الأمن، ويقوي سلطة الزعامات التقليدية نتيجة لغياب الدولة في الصومال منذ عام 1990م.
قامت عشائر إقليم صوماليلاند بإنشاء ديوانٍ خاصٍّ لمعالجة الخلافات بين العشائر وجلسات بين الأقاليم، وهي بمثابة ميثاق صلح يهدف إلى إعادة الممتلكات المسروقة أو المغنمة، وخلافات الأراضي، وسائر الموارد المتاحة التي تؤدي للخلاف بين العشائر في هذا الإقليم، وقد ساهم هذا الديوان في حلّ الخلافات والنزاعات في تحقيق قدرٍ كبيرٍ في حفظ السّلْم والأمن بين العشائر على خلاف الأوضاع السائدة في باقي الصومال(15).
مجلسٍ (ماتوأوبوت) العرفيٍّ في أوغندا:
كذلك يبرز دورٌ آخر للمجتمع الإفريقي في تحقيق السّلْم والأمن عبر منظماته الأهلية، من خلال فرض الأعراف التقليدية على أطراف النزاع، والتزامها بقبول نتائج التوفيق والوساطة، ويمثّل ذلك جماعة (الأكولي) في أوغندا؛ حيث توجد لديهم آليات لحلّ النزاعات عبر مجلسٍ عرفيٍّ يسمّى (ماتوأوبوت)، وهو مجلسٌ لحلّ النزاعات بين أفراد هذه المجموعة، وهو قائمٌ منذ ما قبل الاستعمار البريطاني لأوغندا إلى يومنا هذا؛ برغم تراجع دوره في الفترة الأخيرة نتيجة للتغيرات التي حدثت في أوغندا وإفريقيا بشكلٍ عامٍّ، وتعتمد الجماعة على مبدأ أنّ النزاع بين أفراد الجماعة يخصّ الجماعة عامّة بالمعنى الحقيقي، وكلّ فرد في جماعة الأكولي يُعدّ منتمياً بدرجةٍ أو أخرى لكلٍّ من المتصارعين، ويعني ذلك إشعار كلّ الأفراد بتحمّل قدرٍ من المسؤولية فيما وقع من إساءة؛ وأنه إذا تعرّض أحدهم للإساءة يحقّ له أن يركن للآخرين (الجماعة) في حالة الخصام.
تقوم جماعة الأكولي عبر مجلس (ماتوأبوت) بفضّ النزاعات وفرض السّلْم والأمن فيما بينهم بناءً على مبدأ الإجماع، بالإضافة لذلك هناك مجالس لشيوخ القبائل، ومجالس قيادات الجماعة، تتألف من رجال ونساء على السواء، ويمثل دعامة ذاتية لتنظيم العلاقات بين الأفراد.
تمر عملية فضّ النزاعات بواسطة مجلس (ماتوأبوت) عبر عدة مراحل:
1 – حثّ الجناة بالإقرار بالمسؤولية، أو ما وقع من أخطاء، عقب عرض الأدلة من جانب الشهود.
2 – حثّ الجناة على إبداء ندمٍ وأسفٍ حقيقيَّين.
3 – حثّ المجني عليهم بالعفو عن الجناة.
4 – يقوم الجناة بناءً على اقتراحٍ من ديوان الشيوخ بأداء دية للمجني عليهم.
5 – تختم المصالحة بين ممثلي الجناة وممثلي المجني عليهم، وتتم المصالحة من خلال طقوس بتناول الأعشاب (ماتوأبوت) مرّة الطعم، والغرض منها الإحساس بالمرارات النفسية التي خيّمت على نفوس الطرفين أثناء الصراع، ولكي لا يعودوا إليها مرة أخرى.
نموذج: (أوبونتو):
ويوجد نموذج أكثر تأثيراً في الوجدان الإفريقي، وهو منتشرٌ بين المجتمعات الإفريقية بشكلٍ كبيرٍ، يُعرف بنموذج: (أوبونتو)؛ حيث يتبنّى شيوخ القبائل والعشائر هذا النموذج الذي يتضمّن الوساطة والتحكيم والمساعي الحميدة بين الجماعات المختلفة في وقت النزاع وتحقيقاً للسّلْم والأمن، ونجد أنّ قبائل الهوسا في نيجيريا ترتبط بهذا النموذج في احتواء خلافاتها فيما يتعلق بقضايا الأسرة والنزاعات الزوجية والسرقة والإضرار بالممتلكات، وكلّ أشكال النزاعات.
وتقوم مقاربات الأبونتو على وجود صلة بين النزاعات والمصالحة، ولا تعتبرهما منفصلتَين، وتقوم فكرة الأبونتو على أنّ طرفي النزاع بحاجة للتصالح لكي يعيدا بناء الثقة الاجتماعية والتماسك الاجتماعي، ويحافظا عليها، مع الحرص على الحيلولة دون ظهور ثقافة تآمرية تفرّق بين الأفراد والعائلات والمجتمع ككل(16).
استفاد مجتمع جنوب إفريقيا من قيم الأبونتو وأفكاره في فضّ النزاعات وتحقيق السلام بين الشعوب المختلفة من خلال أفكار نيسلون مانديلا الزعيم التاريخي للمجتمع الأسود الإفريقي، والأب ديزموندتوتو في ضرورة تناسي الماضي القائم على الظلم والفصل العنصري بين البيض والسود في جنوب إفريقيا الذي استمرّ لعقود طويلة، وخلّف شرّخاً بين مجموعات المجتمع المختلفة، والبدء في صفحة جديدة تقوم على تحقيق السلْم والأمن بين أفراد المجتمع، وذلك عبر لجنة الحقيقة والمصالحة لجنوب إفريقيا، وقد ساهمت هذه اللجنة في خفض التباغض العنصري، وفتح آفاقٍ جديدةٍ للتعايش في مجتمع جنوب إفريقيا، وبذلك أثّرت ثقافة الأبونتو في أن تكون نهجاً إفريقيّاً شعبيّاً اجتماعيّاً في فضّ النزاعات وفرض السّلْم والعدالة في المجتمع الإفريقي.
تطور دور المجتمعات المحلية في فرض السّلْم والأمن:
تزايد دور المجتمعات المحلية في إفريقيا بشكلٍ كبيرٍ في احتواء الخلافات والحروب والنزاعات، وأصبحت تأخذ بُعداً أكثر استقلالية واعترافاً من قِبل الدول التي تضمّ هذه المجموعات؛ لأنها تقوم بدور الدولة في تحقيق العدالة وفرض السّلْم والأمن، بل في بعض الأحيان يكون للمجتمعات الإفريقية تأثيرٌ ونفوذٌ أكبر من الدولة نفسها في حلّ النزاعات واحتواء الصراعات عبر الآليات التقليدية المتعارف عليها، وهنا تأتي شرعية الاعتراف بها من قِبل الجماعات القَبَلية نفسها، وسرعة هذه المجتمعات القَبَلية في إنفاذ السلام والأمن، والحيلولة دون توسّع الصراع وامتداده ليصل إلى مجموعات أخرى.
من جانب آخر ساهم ضعف الأنظمة القضائية في الدول الإفريقية الهشّة في تقوية مناعة المجتمعات المحلية، وساعدها في أن تقوم بمهام المحاكم الشرعية في احتواء النزاعات بين هذه المجموعات؛ وهو ما ترك لدى الأفارقة صورة تمثّل ضعف المحاكم الشرعية في احتواء خلافاتهم؛ حيث يرى العديد منهم أنّ هذه المحاكم تعمل على تأجيج النزاع، وتقوم على أنساق قيمية غربية تساعد على إفساد العلاقات لا دعم أواصرها، نذكر في ذلك قبائل اليوربا في نيجيريا بوصفها نموذجاً لعدم الثقة في المحاكم الشرعية الحكومية؛ حيث ينطلقون من مقولة: «لن تعودوا من المحكمة وتظلوا أصدقاء»، وهذا دليلٌ على عدم الرضا عن هذه المحاكم الحكومية مقابل تقبّل حكم المحاكم المجتمعية واستمرارية العلاقة بين الأطراف المختلفة، وهنا تبرز أهمية دور المجتمعات الإفريقية في عملية استدامة السلام بين المجتمعات المحلية في إفريقيا(17).
أصبح هناك تقدّمٌ كبيرٌ للمجتمعات المحلية في القوانين والتشريعات المحلية في إفريقيا؛ برغم وجود تمثيل سابق لهم في ذلك، خصوصاً في فترة الاستعمار البريطاني فيما يُعرف بـ (الحكم غير المباشر) الذي يفوّض المجتمعات المحلية في إدارة البلاد، وفي حلّ الخلافات التي تحدث بين المجموعات المختلفة، ولجمع الضرائب، وتنظيم الأمور السياسية والأمنية نيابة عن الدولة.
فقد أوجد الاستعمار ما يسمّى: (الإدارة الأهلية) بوصفها نمطاً من أنماط الحكم، فقد كان هذا النموذج يُحكم به بين قبائل الهوسا في شمال نيجيريا، وقد تم تطبيقه بالسودان بعد النجاح الذي حققه في نيجيريا، فقد أصدرت الإدارة البريطانية مجموعة من القوانين، في الفترة من عام 1922م وحتى عام 1932م، منح بموجبها نظار القبائل والعمد والمشايخ مزيداً من الصلاحيات القضائية لدعم نفوذهم، كما مُنحوا سلطات إدارية.
وانتهت هذه المرحلة بصدور قرارٍ سياسيٍّ بحلّ الإدارة الأهلية وتصفيتها عام 1971م(18)؛ فقد كان رجال الإدارة الأهلية هم القادة المحليون الذين تعتمد عليهم الحكومة في أداء كثيرٍ من المهام في المجالات المختلفة، خصوصاً عند المجتمعات الريفية في القرى.
وكان الاستعمار الفرنسيّ على خلاف ذلك، فقد قامت سياسته على أسلوب الحكم المباشر، حيث يرفض تفويض صلاحياته للمجموعات المختلفة؛ لذلك ضعفت هذه المجموعات في الدول الفرانكفونية عقب خروج الاستعمار الفرنسي منها، ولم تسهم في القيام بدورها المتعارف عليه في حلّ النزاعات وفرض السّلْم في القارة الإفريقية.
إلا أنه في الآونة الأخيرة خصوصاً مع انتشار النزاعات والحروب في إفريقيا بشكلٍ كبيرٍ، ومع انتشار مجازر الإبادة والتطهير العرقي في القارة، لجأت بعض الدول الإفريقية إلى الجماعات الإفريقية التقليدية لحلّ النزاعات مرة أخرى، وعدم تغييبها عن إدارة الصراعات والنزاعات وفرض السّلْم والأمن.
وبرز الدور الجديد للمجتمعات الإفريقية التقليدية المحلية في ضمّهم للنظم القضائية الشرعية، ومنحهم سلطات وصلاحيات في المحاكم الداخلية لحلّ الخلافات سلميّاً، مثل: الأكولي في أوغندا، وفي رواندا برز دور هذه المجموعات بشكلٍ كبيرٍ ومؤثّر عقب أحداث المجازر والمذابح الجماعية التي شهدتها في عام 1994م؛ حيث سمحت السلطات لهم بتطبيق أحكامهم الخاصة بدلاً عن الأحكام الحديثة المرتبطة بالقانون والدولة، حيث يقوم الشيوخ والزعماء لدى جماعة (بانياروندا) بتكوين مجلسٍ عُرف باسم: (جاكاكا)، نشأ على مستوى الجماعة، وما لبث أن استمد مكانة قومية في رواندا، حيث يركز في ثلاثة جوانب لإدارة النزاعات التي تنشأ بين أفراد المجموعة، وهي: (الحوار، والمصالحة، والتعويض)(19).
يتم تجميع الشيوخ وزعماء الجماعة في البلدة لفضّ النزاع، ومعهم المدعى عليه والمدعي والشهود أمام عُشبة تقليدية تسمّى: (جاكاكا)، لها مكانتها لدى هذه المجموعة، ويسعى زعماء هذه المجموعات المحلية إلى رأب الصدع بدلاً من إصدار الأحكام، وقد حقّق هذا النموذج الإفريقي في إدارة النزاع وفرض الأمن والسّلْم درجة نجاح أهّلته بأن يتم دمجه في النظام القضائي الرسمي في رواندا.
ودعمت الدولة هذه الجماعات المحلية بصورة أكبر لتحقيق السلام والأمن في المجتمع؛ ففي عام 2001م تم استيعاب ما يقارب 260 ألفاً من الرجال ذوي حُسن السيرة والسلوك في الجماعات المحلية لإقامة أكثر من عشرة آلاف محكمة (جاكاكا) في شتى أنحاء رواندا؛ بهدف الاستقرار السياسي والأمني في رواندا عبر المجتمعات المحلية؛ وبذلك أصحبت هذه المجتمعات الإفريقية في رواندا نموذجاً يُحتذى به في تحقيق السّلْم والأمن.
كذلك تُعدّ المحاكم العرقية والمحلية عنصراّ مهمّاً وحيويّاً لتحقيق السّلْم وفضّ النزاعات في دولٍ مثل: بستوانا ونيجيريا في النظام القضائي، كما هو الحال لدى قبائل الإيبو في نيجيريا، والأشانتي في غانا، وهو نظام عرقي قضائي لفضّ النزاعات، يتسم بالتدرّج الهرمي في بنيته؛ حيث يبدأ برأس العائلة لحلّ القضايا الصغيرة والأسرية، وإذا استعصى الحلّ تحوّل إلى رؤساء العائلات، وتعرف باسم: (كجوتلا)، ثم تحوّل القضايا ذات النزاعات والمسائل الأكثر تعقيداً في المجتمع إلى محاكم (كجوتلا العليا)، وهي تصدر من زعيم القبيلة ومشايخها، ويكون هناك تفويض من قبل هذه الدول للمحاكم المحلية بأن تقوم بهذا الدور الاجتماعي والسياسي والأمني لحفظ الاستقرار في مناطقهم.
إنّ المبدأ العرفيّ والمحليّ كان سبباً لحفظ النسيج الاجتماعي والتعايش السلمى بين المجموعات الإثنية والقبلية المختلفة، والحدود الجغرافية الموحدة، وبُنيت عليه أعرافٌ قوية ساعدت في تحكيم وفضّ المنازعات القبلية التي كانت تنشب من وقتٍ لآخر بين تلك المجموعات، فيما عرف الآن بمناطق السودان المختلفة (بالجوديات وتحكيم الرواكيب بين المتنازعين)، في حالات جبر الأضرار ودفع الديات بدلاً من القصاص والأحكام القانونية التي لا تعالج النزاعات، وتترك بعض الرواسب في النفوس سرعان ما تتجدد وتتهدد الأمن القومى، ومثال ذلك: مقررات مؤتمر الفور والعرب 1989م، ومقررات مؤتمر المساليت والرزيقات 1996م، ومقررات مؤتمر الأمن الشامل بنيالا 1997م(20), حيث أسهمت هذه المؤتمرات القبلية في تحقيق الاستقرار والأمن بين القبائل المتحاربة في تلك الفترة.
لكن غياب المجتمعات المحلية عن القيام بالدور المنوط بها أدّى فيما بعد إلى تفجير الصراع في إقليم دارفور منذ 2003م؛ نتيجة للفراغ الذي أحدثته المجتمعات المحلية في حلّ الصراعات بطريقة فعّالة وسريعة بين القبائل الرعوية والزراعية في الإقليم.
في دارسةٍ أجراها معهد الولايات المتحدة للسّلْم لدول القرن الإفريقي الثلاث: (السودان – الصومال – إثيوبيا)(21) في تسعينيات القرن الماضي، وجدت أنّ إخفاق هذه الدول في إدارة الخلافات الداخلية وانتشار العنف، وعدم فضّ النزاعات فيها، يرجع إلى غياب المجتمعات المحلية فيها، وعدم قدرتهاعلى القيام بدورها الحقيقيّ.
وتكمن المشكلة في أنّ النّخب الحديثة التي سيطرت على السلطة عقب الاستقلال في هذه الدول أفلحت في اغتصاب السلطة من النّخب التقليدية التي كانت تتمتع بدرجةٍ كبيرةٍ من الاستقلال الذاتي في تسيير بعض القضايا للمجتمعات المحلية؛ ولذلك حدث فشل في إدارة هذه الدول، وانتشرت الحروب والنزاعات فيها بشكلٍ كبير، ولا سيما مع تآكل السلطة الحاكمة وتفشي الفساد؛ ما أدى إلى غياب الحلول السريعة المجدية التي كانت تقوم بها المجتمعات المحلية في فضّ النزاعات وفرض السّلْم والأمن، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى انهيار الدولة في الصومال، وانفصال إريتريا عن إثيوبيا، وجنوب السودان عن شمال السودان نتيجة لسياسة منتهجة من قبل النّخب الحاكمة الحديثة لفترات طويلة في تلك الدول، بالإضافة للعامل الخارجي الذي أسهم في تفكك هذه الدول، وما زالت هذه الدول تعاني الصراعات الداخلية نتيجة لتغييب هذه المجتمعات المحلية في تحقيق السّلْم والأمن.
المجتمع المدني الإفريقي والسّلْم والأمن في القارة:
لا يوجد في إفريقيا مجتمعٌ مدنيٌّ بشكلٍ مستقلٍّ عن الدولة، كما هو متعارف عليه في الدول الغربية التي يتمتع فيها المجتمع المدني بالقدرة على الحركة والعمل، وتشكيل النقابات، ورفع المطالب التي تدعم عملية الحقوق والواجبات، فإفريقيا تختلف بشكلٍ كبيرٍ عن الدول الغربية؛ حيث ما تزال الدولة هي المتحكم في المجتمع كله، وهي التي تضع القوانين والدساتير، ولا تسمح بالتعدد الحزبي، ولا بقيام المنظمات التطوعية التي قد تعتبرها أداة لعدم الاستقرار وللصراع حول السلطة، بالإضافة إلى أنّ المجتمع الإفريقي لم يتطور في تفهمّ منظمات المجتمع المدني ويتقبل برامجها وأنشطتها؛ وذلك يرجع إلى أنّ المجتمعات الإفريقية ما زالت تقليدية، وترتبط بالعادات والتقاليد والمعاير الثقافية في حلّ النزاعات والخلافات (مجتمع تقليدي).
إلا أنه بالرغم عن بطء نمو المجتمع المدني في إفريقيا؛ فإنها شهدت انتشار الجمعيات الأهلية المعروفة بمشاركتها في بناء السلام وفضّ النازعات.
ومن هذه الجمعيات الأهلية المعروفة بمشاركتها في بناء السلام وفضّ النزاعات:
– المركز الإفريقي لفضّ النزاع.
– مركز فضّ النزاعات (ccr).
– معهد الدراسات الإثنية (ISS).
– شبكة غرب إفريقيا لبناء السلام ((WANEP.
– صندوق تنمية المرأة الإفريقية(22) (AWDF).
– ومراكز دراسات العدالة والسلام في السودان.
بالإضافة إلى بحوث الجامعات، مثل جامعة (الخرطوم – بحري – الفاشر)، حيث تسهم في تحليل النزاعات والحروب، وتقديم المقترحات البناءة في فضّ النزاعات.
إنّ تنوع الجمعيات الأهلية يعكس الاهتمام بالمشاركة في بناء السلام، مع بروز مظاهر تهدد المجتمع الإفريقي، كانتشار الأسلحة الصغيرة، وتزايد تجنيد الأطفال، وتنامي الفقر، وقضايا المرأة، والحروب المستمرة؛ وقد ساهمت شبكة منظمات المجتمع المدني في غرب إفريقيا في جذب الانتباه إلى المأزق الليبرالي بحشد النساء والجمعيات الأهلية، وسائر فئات المواطنين، في محادثات السلام التي أدت إلى اتفاقية أكرا السّلمية بين الحكومة وجماعات التمرد في أغسطس 2003م(23).
كما ساهمت المنظمات الأهلية والمجتمعية في تطوير نُظم الإنذار المبكر للتكتلات الإقليمية، كالتجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا (الايكواس)، وهيئة التنمية بين الحكومات (الإيقاد)، فقد شاركت هذه الجمعيات في خطط بناء السلام على المستوى الهيكلي، وفي ترسيخ السّلْم في ليبيريا والسودان عام 2005م.
أيضاً في الفترة (1995م – 2005م) حصلت ما يقارب ثلاثة آلاف من الجمعيات الأهلية في بلدان هيئة التعاون والتنمية على 5 مليارات دولار لكي تنفقها في قضايا السلام والتنمية، وتعرف بالتنظيمات المجتمعية، حيث يتدفق الدعم المادي عبرها؛ لأنها تعتبر مستقلة في ولائها عن هيمنة الدولة، وأكثر فاعلية في تنفيذ المشاريع التنموية، ويقلّ فيها الفساد والتعقيدات البيروقراطية الحكومية؛ وبرغم ذلك يوجه النقد في بعض الأحيان لهذه الجمعيات بسبب عجزها عن التنسيق مع القطاعات الحكومية في مجتمعات ما بعد الحروب، واستدامة السلام، إلى درجةٍ قد تصل إلى التنافس مع الجانب الحكومي في الحصول على المنح والمساعدات، وهو ما قد يُفسد العلاقة بين المجتمع المدني والدولة في إفريقيا(24).
النتائج والتوصيات:
يمكننا أن نخلص من خلال ما سبق إلى النتائج الآتية:
– إفريقيا القارة ليست كياناً موحّداً متجانساً، سواء في العرق أو اللغة أو الثقافة المشتركة أو العادات والتقاليد.
– إفريقيا قارةٌ غنيةٌ بالموارد، ولكن هذه الموارد غير مستغلة بالشكل الأمثل.
– ساهم الاستعمار في تقسيم شعوب القارة الإفريقية إلى جماعات متفرقة بين الدول، وضمّ مجموعات أخرى إليها لا تنسجم معها ثقافيّاً، الأمر الذي أدى إلى إشعال الحروب والنزاعات بين المجموعات المختلفة.
– لم تستطع الأنظمة التي أعقبت الاستعمار اتباع سياسات رشيدة لإدماج المجتمعات التقليدية في أنظمتها؛ مما ساهم في زيادة حدّة الصراعات داخل المجتمعات الإفريقية بشكلٍ مضطرد.
– أن هناك جهوداً وبرامج عملية لفضّ النزاعات لدى الجماعات التقليدية، تتناسب مع المعايير الاجتماعية والثقافية المحلية، وتساعد على القبول بنتائج فضّ النزاعات والخلافات.
– أهمية اعتماد الاحتواء والمشاركة والإجماع، وما يستلهم الحوار والعدل، كأساس لمعالجة أسباب الأزمات، ونجاح عملية صنع السلام بين الشعوب الإفريقية.
– هناك دورٌ بارزٌ لمنظمات المجتمع المدني، وللقدرات الذاتية، في قبول الأطراف كافة بها، يقتضي فسح المجال لها لتقوم بما هو منوط بها في تعزيز السّلْم والأمن في القارة الإفريقية.
– سرعة المجتمعات المحلية في حسم الصراعات وفرض السّلْم والأمن قلّل من التدخلات الخارجية التي تساهم في تصعيد الصراعات.
– أصبح للمجتمعات والشعوب الإفريقية دورٌ مؤثر في تحقيق العدالة عبر محاكم معترف بها في بعض البلدان الإفريقية، حيث أسهمت في تحقيق قدرٍ كبيرٍ من السلام الاجتماعي والثقافي بين الوحدات الاجتماعية المختلفة.
التوصيات:
1- إعطاء المجتمعات المحلية في إفريقيا دوراً بارزاً في حلّ النزاعات المحلية دون تدخل الدولة؛ إلا في حالات الصراعات والصدامات العنيفة التي تهدد الأمن القومي.
2 – إدماج القوانين المحلية مع القوانين العامّة في المحاكم الخاصة، وذلك لفاعليتها في حلّ النزاعات بين الأطراف المجتمعية المختلفة، مع تدريب المجتمعات المحلية على القوانين والأحكام القانونية والشرطية؛ للتناسب مع القوانين العامّة، حتى لا تؤدي إلى غياب الدولة بشكلٍ كامل.
3 – إشراك منظمات المجتمع المدني في قضايا السلام، ورفع وعي الشعوب الإفريقية بدورها، لمنع النزاعات والحروب في القارة، ولتقوم بمهام الإنذار المبكر في منع النزاع، وتقديم الدراسات والبحوث للجهات ذات الصلة بقضايا الحرب والسلام.
الاحالات والهوامش:
(*) محاضر بكلية العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية – جامعة الزعيم الأزهري – السودان.
(1) ديفيد ج. فرانسيس: إفريقيا السلم والنزاع، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2010م، ص 9.
(2) أحمد إبراهيم محمود: الحروب الأهلية في إفريقيا، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2001م.
(3) حمدي عبدالرحمن: التعددية وأزمة بناء الدولة في إفريقيا الإسلامية، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، القاهرة، 1996م.
(4) عبدالله التركمان: التنمية في إفريقيا المعوقات وآفاق المستقبل، الحوار المتمدن- العدد 2818، 2-11-2009م.
(5) تنتج إفريقيا ما يقارب عشرة ملايين برميل نفط سنويّاً، ويبلغ إجمالي نصيبها من الإنتاج قرابة 12% عالمياً، كما تملك ما نسبته 18% من الغاز الطبيعي الخام في العالم، ويُعدّ الذهب من أنفس المعادن التي تنتجها إفريقيا ، حيث تنتج 2,1% من ذهب العالم، وتنتج 98% من الماس، و 4,5% من الكوبالت.
(6) ديفيد ج. فرانسيس، مرجع سابق، ص 10.
(7) www.unesco.org.
(8) مؤشر السلام العالمي 2014، ar.wikipedia.org.
(9) ديفيد ج. فرانسيس، مرجع سابق، ص 10.
(10) تقدّر منظمة الإغاثة الإنسانية البريطانية «أوكسفام»، في تقريرٍ نشرته في أكتوبر/تشرين الأول 2007م، أنّ كلفة هذه النزاعات بلغت خلال الفترة (1990م إلى 2005م) نحو 300 مليار دولار، شملت 23 بلداً إفريقياً، وهو حجمٌ يساوي تقريباً حجم كلّ المساعدات المالية والاقتصادية التي تلقتها هذه البلدان في الفترة نفسها، انظر: عبدالله التركمان: التنمية في إفريقيا المعوقات وآفاق المستقبل، مرجع سابق.
(11) في السودان: (دارفور – جبال النوبة – النيل الأزرق)، كينيا في فترة ما بعد الانتخابات عام 2007م، والصومال، والكنغو (المنطقة الشرقية)، وتشاد 2008م، ودولة جنوب السودان التي تشهد صراعاً حول السلطة عقب انفصال الجنوب عن الشمال، والصراعات التي حدثت في رواندا أو ساحل العاج.
(12) إبراهيم محمد حاج موسى: التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان، دار الجيل – بيروت، 1970م، ص 3.
(13) تيم مورث: المقاربات المحلية الذاتية المنشأ لبناء السلم وإدارة النزاع وحله، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2010م.
(14) عزو محمد عبد القادر ناجي: أثر العوامل الداخلية والخارجية في عدم الاستقرار السياسي في إفريقيا، الحوار المتمدن: العدد 2376، 2008م.
(15) تيم مورث، مرجع سابق.
(16) تيم مورث، مرجع سابق.
(17) إيزاك البرت: فهم السلم في إفريقيا، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2010م.
(18) أثر الإدارة الأهلية لولايات دارفور على الوضع العام في السلام، مركز الراصد للبحوث، الخرطوم، 2011م.
(19) إيزك البرت، مرجع سابق.
(20) أثر الإدارة الأهلية لولايات دارفور على الوضع العام في السلام، مركز الراصد للبحوث، الخرطوم، 2011م.
(21) إيزك البرت، مرجع سابق.
(22) worldbank.org
(23) طوني كاربو: بناء السلام في إفريقيا، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2010م.
(24) طوني كاربو، مرجع سابق.