انتهى سباق الانتخابات الرئاسية السنغالية الذي انعقد في 24 فبراير الماضي بعد تأكيد المجلس الدستوري عن فوز التحالف الحاكم بنسبة 58.27% من أصوات الناخبين التي وصلت إلى أربعة ملايين ناخب.
وعلى غرار الانتخابات في الدول الإفريقية عامة؛ كانت الزوبعة السياسية والصراع بين المنافسين حادًّا، ويعكس ذلك عن مرحلة التحول الكبير التي تمر بها الساحة السياسية الإفريقية؛ نتيجة عوامل كثيرة، لعل من أهمها: ظهور الفاعلين الجدد في الساحة السياسية، وأغلبهم هم الشباب والفئات المهمَّشة التي أدركت مؤخرًا أن من الخطورة ترك الساحة السياسية للأقلية النخبوية كي تنفرد باتخاذ القرارات في القضايا المصيرية للشعوب.
أضف إلى ذلك ظهور جيل “التكنولوجيا” الجديد الذي أصبح مشبَّعًا بوسائل التواصل والتفاعل الحديثة بعيدًا عن التموقع الأيديولوجي الضيِّق؛ فأصبح يتفاعل مع محيطه السياسي أكثر من السابق؛ على طريقة يحدِّدها هو بنفسه، فصار مؤثرًا رئيسيًّا وليس متفرجًا أو متأثرًا فحسب. ويبحث هذا الجيل عن ترجمة أفكاره وقناعاته عند أول فرصة يجدها سواء عن طريق الانتخاب أو إبداء الرأي، أو اتخاذ موقف معين. ولقد ظهر هذا جليًّا في الانتخابات الرئاسية السنغالية.
تدافع الجبهات
لعل من أهم ما تميزت به الانتخابات الإفريقية منذ استقلال دولها هو الصراع المحتدم الذي يأخذ أشكالاً مختلفة بين الجبهات السياسية التي تأخذ لنفسها منطلقات مختلفة. بعض هذه المنطلقات تستند على أيديولوجيات تسربت من أفكار الدول المستعمِرة لإفريقيا، فتلقَّفَها بعض النُّخَب الإفريقية بالقبول، واستسلموا لها. ففي حين لم يكتب النجاح للجبهة اليسارية التي كانت جزءًا من مقاومي الاستعمار الغربي كي تستطيع التمدد وتجد قوة مركزية لها في الشعوب الإفريقية؛ فإن الجبهة الليبيرالية الغربية سرعان ما وجدت قوة مركزية في المجتمع الإفريقي نتيجة تبنِّي أغلب النخب الإفريقية لها.
عندما نلقي نظرة على الساحة السياسية في الدول الإفريقية التي شهدت تداولاً سلميًّا للسلطة نجد الفكر الليبيرالي الغربي مسيطرًا عليها. في وقت أفل فيه نجم الجبهة اليسارية التي تقمصت ثوب “البنافرقانية” (panafricanisme) فيما بعد، فيما لم تجد الجبهات المحافظة -مع تمتعها بتأييد شعبي واسع- على فرصة لتنافس الجبهتين.
شكلت القوى الحزبية التي لها نفوذ في الساحة السياسية الإفريقية أقلية يمكن أن نطلق عليها بـ”الأقلية الغالبة” “La minorité dominante“؛ فهي أقلية لكنها هي التي تسيطر على الأغلبية بشكل أساسي، وتتحكم في كل مفاصل الدولة. والقيم الديمقراطية التي تروِّجها هذه الأقلية وتنسب نفسها إليها، يكون صعبًا الجزم بأنها قِيَم عليا تدافع عنها لتمكين الأنسب والأولى للحكم، أم أنها مجرد وسيلة لتمكين نفسها في الحكم بأشكال مختلفة وفق منطق “الدور”؟
مسألة “النظام” Le système
أخذت النقاشات التي دارت حول “النظام” حيزًا كبيرًا في برامج بعض المرشحين؛ فرغم كثرة الأحزاب في السنغال إلا أن أغلبها تتفق في العرض السياسي؛ وهو كونها تشكِّل مع بعض نظامًا (système) يختزل المبدأ الديمقراطي في نفسه، وينبذ كل طرح يعارضه، ويسمح هامش الحرية الموجود داخل هذا النظام بتنافس بين أشخاص هذا النظام من خلال الأحزاب السياسية. ويُنْتِج هذا صراعًا مزدوجًا يتمثَّل في صراع داخلي بين أنصار النظام أنفسهم، وصراع آخر بين أنصار النظام (pro-système) ومناوئي النظام (anti–système).
حضر هذا الصراع الازدواجي بقوة في الطرح السياسي الذي تداولته التحالفات الفاعلة في هذه الانتخابات؛ فتعرضت جبهة أنصار النظام التي تتمثل في الأحزاب الكلاسيكية والمسيطرة على الحياة السياسية لعدة تشوهات في بنيتها الداخلية، أدَّى ذلك إلى إقصاء الحزب الاشتراكي (PS) الذي أسَّسه “لوو بول سنغور”، وحكم البلاد لأربعة عقود متتالية. ثم إقصاء الحزب الديموقراطي السنغالي (PDS) الذي أسَّسه “عبد الله واد”، وحكم 12 سنة، وهو أعرق الأحزاب المعارضة في السنغال. ولأول مرة في تاريخ السنغال يغيب هذان الحزبان عن انتخابات رئاسية منذ تأسيسهما.
لكن رغم هذه التشوهات استقوى أنصار النظام بما تبقَّى من مكوناته، وقدم ثلاثة مرشحين كلهم تخرجوا من مدرسة الحزب الديمقراطي السنغالي، لكنهم انفصلوا عنها نتيجة انشقاقات لاحقة. تقدم من صفوف المرشحين الموالين للنظام زعيم حزب التحالف من أجل الجمهورية (APR) “ماكي صال”، وزعيم حزب (REWMI) “إدريس سك”، والمرشح المنشق أخيرًا عن حزب (PDS) “ماديكي نياغ”.
حظي الأول بأكبر تحالف انتخابي بعدما نجح في شق صفوف المعارضة، والحفاظ بقدر الإمكان على التحالف الذي أوصله إلى السلطة عام 2012م.
كان التنافس الانتخابي بين ممثلي النظام تقليديًّا، أي بدون اتفاق في المضامين، وهو الاستسلام للنظام القائم مع الأيديولوجية التي تضبط حركته دون التجرؤ على نقده، مع اختلاف طفيف في البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكسابقة سياسية في السنغال؛ فقد ظهر طرح جديد ومختلف من قبل مناوئي النظام (anti–système)، وتجرأ أصحاب هذه الجبهة في هذه المرة على نقد النظام، والكشف عن مثالبه؛ وخرج رموز هذه الجبهة من التقنوقراطيين الذي لم يتربوا في مدارس الأحزاب الكلاسيكية. وحمل لواء هذه الجبهة المرشح عثمان سونكو زعيم حزب الوطنيين من أجل العمل والتضامن (PASTEF)، كما يُحْسَب “عيسى صال” زعيم حزب الاتحاد والتجمع (PUR) حسب توجهاته السياسية من داعمي هذه الجبهة.
ولقد أدت الخطابات الشعبية لهذا التيار إلى تَشكُّل قاعدة شعبية ونخبوية بدأت تقتنع وتناصر أطروحات هذه الجبهة؛ فشكلت مشاركتها في هذه الانتخابات حضورًا قويًّا حققت فيها نتائج تاريخية في السياسة السنغالية.
الحسم الشعبي
رغم كل الضجة التي صاحَبت العملية الانتخابية؛ استطاع التحالف الحاكم الحصول على ولاية ثانية، والفوز في الانتخابات، وبنسبة عالية. لم يتفاجأ بعض المراقبين من هذه النتيجة؛ حيث إن التحالف الحاكم بزعامة “ماكي صال” علم مسبقًا بالتداعيات المترتبة على فقد الولاية الثانية. وذلك لأسباب كثيرة؛ منها: تورط عديد من الشخصيات حول الرئيس على ملفات فساد أثبتتها التحقيقات الأولية للأجهزة الرقابية الرسمية للدولة. ومازالت تلك التقارير في رفوف القصر الرئاسي تنتظر الإحالة إلى النائب العام لتحريك الدعاوى القضائية في شأنها.
ولقد صرح وزير العدل في مقابلة له مع صحيفة (JEUN AFRIQU) بوجود تعويضات مالية يدفعها بعض هذه الشخصيات في الخفاء.
هذا ما جعل العملية الانتخابية مشوبة بتدخلات شديدة من الحكومة للفوز، بدءًا من إبطال القانون الانتخابي الذي كان نتيجة إجماع بين كل القوى السياسية منذ 1992م، وإبداله بقانون جديد لم تحظَ المعارضة بالمشاركة في نقاشه. وصولاً إلى إصدار أوامر لتعديل هذا القانون، رغم أن الاتفاقية الدولية التي وقَّعت عليها السنغال مع دول غرب إفريقيا تمنع أيّ تعديل للقوانين الانتخابية في أقل من ستة أشهر قبل انعقاد العملية الانتخابية.
بالإضافة إلى فرض القوة القانونية وصل حرص التحالف الحاكم على الفوز في هذا الانتخابات إلى استخدام حرب نفسية قبل صدور النتائج الرسمية. فسارع الوزير الأول للحكومة بالإعلان عن فوز الرئيس ماكي صال بـ 57% في التلفزيون الرسمي للدولة، بعد أقل من أربع ساعات من انتهاء عمليات التصويت.
ولقد حافظت اللجنة الوطنية للانتخابات على هذه النتيجة؛ فصارت 58.27%، وهذا ما أيده المجلس الدستوري.
ولقد أعلنت المعارضة رفضها القاطع لهذه النتائج، مع عدم القيام بالطعن عليها في المجلس الدستوري؛ بعدما يئست من فاعلية السلطة القضائية التي لطالما اتهمت الحكومة باستخدامها لتصفية حساباتها معها. إلا أن الحكومة ترفض كل الاتهامات بالتزوير والتلاعب بالنتائج الموجَّهة إليها، مصرِّحةً بأن النتائج هي تعبير حقيقي عن الإرادة الشعبية.
بعيدًا عن التهم المتبادلة بين الحكومة والمعارضة؛ فالصخب والنقاشات التي صاحبت هذه الانتخابات تؤكد على وجود وعي جديد بدأ يترسخ في المجتمع السنغالي والإفريقي عامة؛ هذا الوعي الجديد يحاول تجاوز النقاشات التقليدية التي تنحصر في الخطابات السياسية المجردة، ويحاول الوصول إلى إعادة الأنظمة التي استسلمت لها النخب الإفريقية منذ الوهلة الأولى إلى طاولة النقاش.
وينظر لفيفٌ عظيم من الشعب السنغالي إلى الزعيم “عثمان سونكو” المرشح الذي حصل على الترتيب الثالث من المرشحين الخمسة بعد النتائج الرسمية؛ على أنه قام بتحدي هذا النظام من خلال التواصل المباشر مع الشرائح المختلفة للمجتمع. وهو في هذه الانتخابات وإن كان قد خسر السلطة فلقد حقَّق قاعدة شعبية؛ إن نجح في الحفاظ عليها ستكون الاستحقاقات الانتخابية القادمة في صالحه. وسوف يكون ذلك فرصة لنجاح أول تحدٍّ للأنظمة القائمة في أعقاب الاستعمار الإفريقي والفرنسي على وجه الخصوص.
الاستشراف المستقبلي
حصل التحالف الحاكم على ولاية ثانية، وخسرت المعارضة رهانها الشعبي، ومن المؤكد أن الطرفين استخلصا دروسًا عديدة من هذه الانتخابات. ففي عام 2012م بعد فوز الرئيس الحالي بالانتخابات الرئاسية كان شغله الشاغل الدخول في عملية انتقام تجاه أعضاء الحكومة السابقة، وقد كلف ذلك الحكومة الجديدة آنذاك الكثير من الوقت والجهد دون أيّ فائدة تُذْكَر تعود على الشعب. كما أن المعارضة في عهد الرئيس ماكي صال أظهرت ضعفًا حقيقيًّا في مواجهة الحكومة، وكانت هي التي تتراجع في كل الملفات المتنازع عليها بين الطرفين.
فيا تُرَى هل سنرى في المرحلة المقبلة علاقة مختلفة بين المعارضة والحكومة؟ وهل سيقوم كلا الطرفين بمراجعة حساباته مع الآخر؟
وعلى جانب آخر؛ فإن من المعلوم أن التأثير الديني مِن قِبَل الطرق والطوائف الصوفية كان يحضر دومًا في كل الانتخابات السنغالية، ولذلك فحضوره في هذه الانتخابات المنصرمة لم يكن جديدًا. ولكن العامل الآخر الذي بدأ يخيف المتابعين لهذه الانتخابات هو الطابع العرقي الذي بدأ يتسرَّب ويخترق المجتمع السنغالي؛ نتيجة التوظيف السيئ الذي بدأت النخبة السياسية تمارسه الآن. وعليه إذا لم يتم التغلب على هذا المعطى الجديد في الساحة السياسية قد تكون له تداعيات سيئة في مستقبل الدولة السنغالية.
ولعل أهم ما كشفته هذه الانتخابات هو إعادة مسألة النظام -الذي كان الأغلب يظن أن السنغال تجاوزتها- إلى أروقة النقاشات، لكن عند إمعان النظر في النقاشات الجادة التي أُثيرت خاصة مِن قِبَل اللاعبين السياسيين الجدد في الساحة؛ نجد أن هذه المسألة لم يتم هضمها حتى اللحظة.
وسينال هذا المحور في المستقبل السياسي في السنغال اهتمامًا بالغًا للنُّخَب الحالية، خاصة عند أولئك الذين يرون أن النظام القائم حاليًا، والمكون من المؤسسات الموروثة من الاستعمار هو محكّ كبير يجب معالجته كشرط أساسي للوصول إلى بناء الدولة السنغالية وفق التقاليد الوطنية الإفريقية الأصيلة، ومن منطلق الحضارة الإسلامية التي يدين بها شعبها، بالإضافة إلى يمكن الاستفادة منه من تجارب الآخرين.