أ. داود عبد الباقي محمد (*)
إنّ المنتجات المالية كثيرة ومتنوعة, قد تناول بعضها علماء الإسلام في مؤلفاتهم قديماً وحديثاً وجَلّوْا فيها أحكامها صحةً وفساداً, وعلّلوا لذلك بعلل مقنعة، سهّلت التمييز بين المنتجات الإسلامية وبين المنتجات التقليدية.
وفي هذا العصر ظهرت مراكز بحثية إسلامية تهتمّ بهذا النوع من الدراسة، وتسلّط الضوء عليها لأجل الاستفادة منها؛ لتكون بدائل للمنتجات المعروفة في البنوك التقليدية, ومن تلك المراكز (الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل)، وإذا كانت ممارسة عديد من صيغ التمويل التقليدي قد طالت مع قلّة نجاحها؛ فهناك بدائل إسلامية ثبت نجاحها عبر عديد من المصارف والمؤسسات المالية العالمية المتبنية لها، كالتي عُرضت في المؤتمر المبارك الذي عقدته (الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل).
ويذكر الباحث في هذه الوريقات عدداً من المنتجات المالية التقليدية، وكذلك الإسلامية التي يمكن الاستفادة منها في تمويل المشروعات الصغيرة، وبخاصة المشروعات الزراعية في دول إفريقيا, مع وجود تفاوت في نسبة النجاح عند تطبيق ذلك في تلك الدول.
أولاً: معنى صيغ التمويل الإسلامي:
عُرّفت صيغ التمويل الإسلامي بتعريفات؛ منها:
– أنها «تقديم تمويل عيني أو معنوي إلى المنشآت المختلفة، بالصيغ التي تتفق مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، ووفق معايير وضوابط شرعية وفنية؛ لتساهم بدور فعّال في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية» (1).
– أنها «عبارة عن علاقة بين المؤسسات المالية بمفهومها الشامل والمؤسسات أو الأفراد؛ لتوفير المال لمن ينتفع به، سواء للحاجات الشخصية أو بغرض الاستثمار، عن طريق توفير أدوات مالية متوافقة مع الشريعة، مثل عقود المرابحة أو المشاركة أو الإجارة أو الاستصناع أو السّلَم أو القرض» (2).
ومن هذين التعريفين يمكن استخلاص بعض خصائص التمويل الإسلامي:
– أنّ التمويل الإسلامي قد يكون بتقديم تمويل عينيّ، كتقديم جزء من المال للمضاربة, أو بتمويل معنويّ كضمان ما لم يجب، ونحوه.
– أنّ التمويل يكون إسلامياً إذا خلت صيغته من المخالفات الشرعية، واتسمت بضوابط ومعايير شرعية.
– أنّ الغرض من التمويل الإسلامي هو نفع الآخر في قضاء حاجته الشخصية، أو إقامة مشروعه الاستثماري.
– أنّ التمويل الإسلامي يقوم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي.
– أنّ التمويل الإسلامي يعزّز النمو والرخاء الاقتصادي وفق الشريعة الإسلامية.
ومما ينبغي التنبيه عليه أنّ المنتجات المالية يستطيع كلّ واحد إيجادها وتطبيقها؛ لأنها حلول لمشكلات مالية قائمة, لكن الأهم المطلوب من المسلم إيجاد تلك المنتجات بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية, كما أنه يمكن تغيير المنتجات التقليدية لتصبح منتجات إسلامية؛ إذا تمّ تعديلها بإزالة ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية عنها.
ثانياً: أهمية الزراعة في دول إفريقيا، وتوجيه صيغ التمويل الإسلامي لصالحها:
لا خلاف بين الخبراء الاقتصاديين أنّ الزراعة في الدول الإفريقية جديرة بالاهتمام؛ إذ إنها من أحسن الطرق لمساعدة الإفريقيين الفقراء؛ لمحاربة الفقر الذي كانوا عانَوا ويعانونه, وإنهائه – إن شاء الله تعالى -، مما يرشّح لإحداث تغيير اقتصادي سريع للإفريقيين إذا أعاروها اهتماماً بالغاً؛ وذلك لما تتمتع به دول إفريقيا من أراض خصبة صالحة للزراعة, لم تُستغل استغلالاً زراعياً كافياً سوى نسبة ضئيلة منها, ويدرك ذلك مَن سار في طرقها البرية, حتى إنه كثيراً ما يثور لدى منَ زار الدول الإفريقية سؤال مفاده: لماذا لم تُزرع هذه الأراضي الإفريقية الواسعة برغم خصوبتها؛ فيزول بذلك فقر الأفارقة؟! وهل الأفارقة كسالى أو أنهم غير قادرين على القيام بالعملية الزراعية؟!
والحقيقة أنّ المشكلة فيما يظهر تكمن في عدم رغبة الإفريقيين في ممارسة الزراعة بشكلها التقليدي لصعوبتها, ولعدم وجود دعم حكومي جيد للمزارعين في أغلب الدول الإفريقية, ولذلك نجد معاناة المزارعين البدائيين من أعباء الزراعة التقليدية، وانعدام جودة التخزين والتسويق لمحاصيلهم الزراعية, مما أدّى في كثير من الأحوال إلى حدوث الكساد الزراعي, وهذا من أسباب عزوف الشباب عن الزراعة التقليدية.
وكذلك ما تعانيه دول إفريقيا من المشكلات السياسية التي ساعدت على انتشار الفقر، وعدم التمكّن من مكافحته؛ إذ توجد في بعض الدول الإفريقية ثورات شعبية، وفي بعضها الآخر انقلابات عسكرية, وانتشار عدم الثــقة في الخيارات السياسية، وكثرة الحروب والنزاعات السياسية فيما بينها (3).
وإضافة إلى ما سبق؛ تتأكد أهمية توجيه الصيغ التمويلية الإسلامية نحو الأغراض الزراعية في دول إفريقيا؛ لأسباب تتلخص في الآتي:
– أنّ الإمكانيات الزراعية الكبيرة المتوفرة في إفريقيا تمكّن من النهوض بالقارة اقتصادياً واجتماعياً, وقد ذكر الخبير في الشؤون الاقتصادية لدى منظمة الزراعة والتمويل الدولية جيفري ليفنغستون: أنّ «السبب الرئيسي لمحدودية الإنتاج الزراعي في إفريقيا متصلة بقلّة الإقبال على الاستثمار في مجال الزراعة؛ سواء على الصعيد الحكومي أو على صعيد المنظمات» (4)، وكذلك يقول الخبراء: «إنه إذا أرادت إفريقيا الاستفادة من الاهتمام الدولي الجديد بأراضيها الزراعية، والطلب المتزايد على الغذاء، فمن الضروري أن تنشئ صناعة زراعية حديثة, فحسب تقديرات البنك الدولي فإنّ إفريقيا تخسر من 1% إلى 2% من إجمالي ناتجها المحلي سنوياً؛ بسبب ضعف بنيتها التحتية» (5).
– أنّ القارة الإفريقية – حسب إحصائيات الأمم المتحدة – تصدّر منتجاتها من المواد الغذائية والزراعية بقيمة 50 مليار دولار سنوياً، إلا أنّ قرابة ثلثي الدول الإفريقية غير مستغلة، وتعتبر مستوردة للمنتجات الزراعية (6).
– أنّ الدراسات تؤكد أنّ القارة الإفريقية بإمكانها إنتاج ما يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وذلك في غضون سنوات قليلة فقط، إذا ما تمّ وضع الخطط والدراسات القائمة على الاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية (7).
ولهذا فإنّ الاهتمام بالمجال الزراعي، باستخدام الصيغ التمويلية الإسلامية في دول إفريقيا، لَخادمٌ وداعمٌ لمشروع مكافحة الفقر فيها.
ثالثاً: صيغ التمويل التقليدية في إفريقيا، والملاحظات الواردة عليها:
عُرفت في إفريقيا، كغيرها من بقية قارات العالم، أنواع مختلفة من صيغ التمويل بصورها التقليدية، وبعضها قائم على النظام الربوي, ومن ذلك على سبيل المثال:
1 – القروض الربوية:
القروض الربوية – لكثرة انتشارها – هي التي تتبادر إلى الذهن عند الحديث عن التمويل المصرفي في إفريقيا, وتُمارس على مستوى الأفراد والمؤسسات المالية العامّة والخاصّة, إذ يوجد بها التعامل بالسندات إصداراً وشراءً وتداولاً، وكلها قروض ربوية، وتُسمّى بالشهادات أو الصكوك الاستثمارية أو الادخارية, وتُسمّى الزيادة الربوية الملتزم بها بالفائدة.
ولا شك في أنّ القروض الربوية بأنواعها – وإن غيّرت مسمياتها – حرام, وهي من أهمّ عوامل انتشار الفقر وأكبرها، وأسباب وقوع العديد من الدول في الأزمات الاقتصادية, ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة : 278 ، 279).
كما أنّ المشروع الاستثماري لا يكون سليماً إذا خلا من السلامة الشرعية، وإن استوفى بقية عناصر السلامة الفنية والتجارية والتنظيمية والإدارية والمالية والاقتصادية والاجتماعية.
ويُقصد بالسلامة الشرعية ألا تكون في المشروع مخالفات لأحكام الشريعة الإسلامية، بل يلتزم بالسلوك الإسلامي بشكل عام (8).
ولا خلاص للبشرية إلا باتباع دين الله عز وجل، بوصفه منهجاً وحيداً قادراً على تقديم الحلول الناجحة لمشكلات البشرية جمعاء.
2 – القروض المتبادلة:
القروض المتبادلة لها صور متعددة، تختلف من منطقة لأخرى, ومن الصور المنتشرة في غرب إفريقيا:
أ – قرض المنافع الزراعية:
وهو أن يطلب المزارع من زملائه وأصدقائه المزارعين مساعدته في عمل زراعي، كالقيام بالزراعة، أو تنظيف المزرعة، أو الحصاد في وقت معين، على أن يردّ بمثل المساعدة متى طلبوا منه ذلك، ودون مقابل مالي غير طعام يعدّه لهم المستفيد؛ ليتقوَّوا به على العمل.
وهذا النوع من التعاون كان معروفاً لدى المزارعين القدامى في مدن غرب إفريقيا، مثل نيجيريا، والنيجر، والكاميرون.
لكن يوجد في هذه الصورة بعض الإشكاليات، هي:
– كون المنفعة قرضاً:
إنّ القرض الزراعي بصورته المذكورة داخل في قرض المنافع الذي وقع فيه الخلاف بين أهل العلم، منهم من منعه؛ لأنّ المنافع ليست بأعيان, ولم يصح السّلَم فيها (9), ومنهم من أجازه (10)؛ لإمكان ردّ مثلها الصوري (11), قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يوماً، ويحصد معه الآخر يوماً، أو يُسكنه داراً ليُسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب ردّ المثل بتراضيهما» (12).
– بدل قرض المنفعة:
إنّ البدل في قرض المنفعة لا يكون مماثلاً, فهذا الذي حمل بعض الفقهاء على القول بالمنع؛ لأنّ القرض يقتضي ردّ المثل (13), ولا يتحقّق ذلك في قرض المنافع؛ إذ الردّ فيه إمّا أن يكون بأزيد وإمّا بأنقص.
لكن بما أنّ المطلوب في بدل القرض هو كونه مِثْلاً صورياً، وهو شامل للمماثلة الحسّية والحكمية (14), فهذه يمكن أن تتحقق, فالواجب على مقترض المنفعة تحقيق ذلك بقدر الإمكان, كما أنه ينبغي للمتعاملين بهذا القرض استحضار الهدف من القرض، وهو الإرفاق, فلا يطلب المقرض من مقترض المنفعة فوق ما أقرضه، بل يرضى بما يقارب المنفعة المقترَضة وإن كان أنقص؛ لصعوبة الردّ في ذلك بالمساوي كاملاً.
ولا مانع في مثل هذه الحال من سبق اشتراط ردّ الأنقص، على قول بعض أهل العلم؛ لأنّ مبنى القرض الإرفاق, فيقول مثلاً: «احصد معي مزرعتي يوم كذا، على أن أحصد معك مزرعتك يوم كذا, وأن يكون قضائي دون أدائك», فهذا لا بأس به إذا رضي المقرض بذلك، على قول بعض الفقهاء في جواز ردّ القرض بأنقص, قال النووي رحمه الله: «فإنْ شَرَطَ أن يردّ عليه دون ما أقرضه؛ ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز؛ لأنّ مقتضى القرض ردّ المثل، فإذا شَرَطَ النقصان عمّا أقرضه فقد شَرَطَ ما ينافي مقتضاه، فلم يجز كما لو شَرَطَ الزيادة. والثاني يجوز؛ لأنّ القرض جُعل رفقاً بالمستقرض, وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه؛ فلم يجز، وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه» (15).
وهذا يعني أنّ المقرض يجوز له أن يأخذ أقلّ مما أقرضه غيره إذا كان راضياً به, وكذلك إذا كان ذلك بشرط سابق, وهذا يمكن أن ينطبق على البدل في قرض المنافع الذي يصعب فيه الدقة في ردّ المساوي، والذي يخشى فيه المقترض من عدم القضاء بما يساوي المنفعة المقترَضة.
– الطعام الذي يقدّمه المستفيد للمقرضين:
إنّ ما يقدّمه المزارع المستفيد من الأطعمة والأشربة لزملائه الذين أقرضوه المنافع، في أثناء العمل وبعده في المزرعة، داخل في (هدية المديان) التي وقع الخلاف فيها بين أهل العلم, منهم من يعدّ ذلك منفعة زائدة لا يجوز قبولها؛ لحديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً قال: «إذا أَقرض أَحدكم قرضاً، فأهدى إليه، أَو حمله على الدابة، فلا يركبها، ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» (16)، إذ دلّ الحديث على أنه «لا يجوز لمقرض قبول هدية، ولا غيرها من المنافع، للنهي عن ذلك، لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأخذ هدية عليه، أو أي منفعة، فيكون رباً؛ لأنه يعود إليه ماله، مع أخذ الفضل الذي استفاده» (17).
وقد أجاز ذلك بعض الفقهاء؛ لما رواه ابن سيرين «أنّ عمر رضي الله عنه أسلف أبيّ بن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبيّ بن كعب من ثمرة أرضه؛ فردّها عليه ولم يقبله، فأتاه أبيّ فقال: لقد علم أهل المدينة أنّي من أطيبهم ثمرة، وأنه لا حاجة لنا، فبمَ منعت هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل» (18).
قال ابن رشد: «لا يحلّ لمن عليه دين، من بيع أو سلف، أن يهدي لمن له عليه الدين هدية، ولا أن يُطعمه طعاماً رجاء أن يؤخره بدينه، ولا يحلّ لمن له عليه الدين أن يقبل ذلك منه إذا علم ذلك من غرضه، وجائز لمن عليه الدين أن يفعل ذلك إذا لم يقصد ذلك، ولا أراده، وصحّت نيته فيه» (19).
ولذا حمل القائلون بجواز قبول الهدية ذلك النهي الوارد في حديث أنس – إن صح – على أنّ الهدية مشروطة في العقد (20).
ومن ثمّ؛ فإذا كان الطعام الذي يعدّه المزارع لمقرضي المنفعة الزراعية، ليس القصد منه تأخير الدين، بل ليتقوَّوا به على العمل, فلا يكون من المنفعة المحرمة.
ومما ينبغي ذكره هنا أنه كما يمكن اعتبار هذا التعامل (القرض الزراعي) من قبيل قرض المنافع، يمكن كذلك اعتباره مجرد تعاون قائم بين المزارع وزملائه؛ لأنّ التعاون يكون حسب الاستطاعة ولا يترتب عليه لزوم الردّ بالمثل؛ كما أنه لا يجرّ – فيما يظهر لي والله أعلم – إلى أي إشكال, إلا أنّ التجاوب بين المزارعين في حال اعتباره قرضاً يكون أكبر منه في حال اعتباره مجرد تعاون.
وعلى أية حال؛ فإنّ (قرض المنافع) يمكن تطبيقه في الدول الإفريقية دون الحاجة إلى كبير جهد, ويمكن الاستفادة منه في غير المجال الزراعي.
ب – جمعيات الموظفين:
ويُقصد بها اتفاق مجموعة أشخاص على دفع مبلغ محدّد موحّد القدر في أوقات معينة، على أن يُعطَى المدفوع لشخص واحد, ثم ينتقل الدور إلى شخص آخر، حتى يعمّ ذلك جميع الأعضاء.
وهذه الجمعيات موجودة في إفريقيا كما في بقية القارات, وللعلماء خلاف في حكم هذا النوع من القرض, وإن كان الراجح جوازه؛ لأنّ المنفعة لم ينفرد بها المقرض بل هي عامّة للمقرض وللمقترض, ولذا قال ابن القيم رحمه الله: «والمنفعة التي تجرّ إلى الربا في القرض هي التي تخصّ المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، واستعماله، وقبول هديته، فإنه لا مصلحة له في ذلك, بخلاف هذه المسائل، فإنّ المنفعة مشتركة بينهما, وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة» (21).
وقد صدر قرار (22) من هيئة كبار العلماء، في حكم جمعيات الموظفين وغيرهم, بعدم وجود ما يمنع هذا النوع من التعامل؛ «لأنّ المنفعة التي تحصل للمقرض لا تنقص المقترض شيئاً من ماله، وإنما يحصل المقترض على منفعة مساوية لها؛ ولأنّ فيه مصلحة لهم جميعاً من غير ضرر على واحد منهم أو زيادة نفع لآخر، والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد، بل ورد بمشروعيتها» (23).
ج – القرض التعاوني (التمويل التعاوني):
«ويكون عن طريق إنشاء جمعيات الادخار والائتمان التي تقوم على قبول الودائع والمدخرات من أعضائها، ثم تقديم التمويل للأعضاء في ترتيبات معينة، إمّا في صورة مستمرة، أو من خلال ما يُعرف بجمعيات تناوب الادخارات الائتمانية» (24).
وصورته المعروفة في بعض دول غرب إفريقيا هي: أن يودع شخص مبلغاً مالياً في صندوق تعاوني لمدة ستة أشهر، على أن يكون له الحقّ بعد ذلك في استقراض ثلاثة أضعاف المبلغ المودع لإنشاء مشروع معيّن موافق عليه من قِبَل إدارة الصندوق التعاوني, ويتم تسديد المبلغ المقترض أقساطاً لمدة عشرة أشهر على الأكثر مع فائدة ربوية محدّدة.
وفي هذا القرض من المخالفات الشرعية ما لا يخفى, فلذا قد حاول بعض المسلمين المهتمين بمثل هذه الصناديق التعاونية تصحيح هذه الصورة، بتصحيح ما احتوته من المخالفات الشرعية، مع إبقاء بقية الأنظمة، كالإقراض مقابل الإيداع، والذي يعدّ في حدّ ذاته ربحاً اقتصادياً قد يتضرر به المقترض لو كان هذا التعامل في المصارف والبنوك, لكن لمّا كان ذلك واقعاً داخل الجمعية التعاونية الواحدة التي تعمّ المنفعة فيها أعضاءها المقرضين والمقترضين كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، وأنّ المقترضين هم أنفسهم المقرضون، ومدخراتهم وودائعهم هي التي يتم إقراضها فيما بينهم, لمّا كان الأمر هكذا؛ كان هذا الشرط فيما يظهر، وأرجو من مشايخي الأفاضل تصحيحي غير ضارّ؛ لأنّ المبلغ المودع هو الذي سيقترضه الآخرون، وما أودعه الآخرون هو الذي سيقترضه المودع.. وهكذا, وليس هناك جهة مستقلة بالانتفاع، بل الانتفاع عامٌّ لجميع أعضاء الصندوق.
ومما دفع الأفارقة المسلمين الذين لهم العضوية في هذه الجمعيات إلى تبنّي هذه الصيغة بعد إبعاد الفائدة الربوية عنها ما يأتي:
1 – عدولهم عن التعامل الربوي في البنوك التقليدية بعد هداية الله تعالى لهم.
2 – اعتبار ذلك صيغة تمويل إسلامي، يمكن الاستفادة منها في غياب البنوك الإسلامية لديهم.
3 – حاجتهم إلى إنشاء منشآت تجارية صغيرة، وعدم امتلاك ما يكفي لذلك.
لذلك كله لجأ هؤلاء إلى هذه الصيغة، واكتفوا من ناحية الوثوق بكفالة الأشخاص؛ لصعوبة توفير الضمان والرهن على المقترض المسكين, فصار بعض الأعضاء هم كفلاء لبعضهم، مع ضوابط موضوعة لذلك, وإن كان لا تزال هناك ملاحظات على إدارات تلك الصناديق.
وقد استخدم بعض الأفارقة هذا التمويل التعاوني في حلّ مشكلة التمويل, ونجحوا في ذلك بفضل الله عز وجل.
فمثل هذا المنتج لو دُرست صيغته جيداً من عدة حيثيات، وطبّقت في دول إفريقيا، ربما ساعد كثيراً في محاربة الفقر، واضمحلال مشكلات شحّ التمويل للمشروعات الصغيرة.
رابعاً: صيغ التمويل الإسلامي المعاصرة الصالحة للمشروعات الزراعية في إفريقيا:
إنّ الصيغ الصالحة للمشروعات الزراعية خاصة هي الصيغ التقليدية المذكورة فيما سبق، بعد أن يتم إجراء التعديلات عليها، بإبعاد ما يخالف الشريعة الإسلامية عنها.
ومن الصيغ الصالحة في ذلك:
المضاربة في الزراعة:
المضاربة لغة: هي «مفاعلة من الضرب، وهو السير في الأرض»( (25)), كأنه عقد على الضرب في الأرض، والسعي فيها، وقطعها بالسير.
ويقال: ضاربه في المال مضاربة، أي قارضه مقارضة.
والمضاربة على لغة أهل العراق، أما المقارضة أو القراض؛ فهي لغة أهل الحجاز: بمعنى القطع, يقال: قرض الفأر الثوب: أي قطعه، فكأن صاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلّمها إلى العامل، واقتطع له قطعة من الربح.
وقيل: اشتقاق القراض من المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران، إذا وازن كلّ واحد منهما الآخر بشعره, وسُمّي بذلك لوجود توازن بين العاقدين، إذ وجد من العامل العمل، ومن الآخر المال، فتوازنَا (26).
ويرى بعض الفقهاء أنّ المضاربة قد لا تكون المفاعلة من الطرفين, قال الرافعي: «ولم يُشتق للمالك منه اسم فاعل؛ لأنّ العامل يختص بالضرب في الأرض، فعلى هذا تكون المضاربة من المفاعلة التي تكون من واحد، مثل عاقبت اللص» (27).
المضاربة اصطلاحاً: للمضاربة تعريفات عدّة ذكرها الفقهاء في كتبهم, فمن تلك التعريفات: أنها «عقد على الشركة؛ بمالٍ من أحد الجانبين، وعملٍ من الآخر» (28).
ومما ورد عن أهل العلم في المضاربة في الزراعة ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله، إذ قال ابنه أبو الفضل صالح: «سألت أبي عن رجل دفع إلى رجل ألف درهم، فقال: اتجر فيها بما شئت. فزرع بها زرعاً، فسلم، فربح؟ قال: المضاربة جائزة، والربح بينهما على ما اصطلحا عليه» (29).
صيغة المنتج (المضاربة في الزراعة):
أن يدفع المصرف الإسلامي أو غيره المال إلى المضارب (الخبير بالزراعة)، يستثمره في الأوجه الزراعية المختلفة، على أنّ الربح بينهما حسب الاتفاق.
مشروعية المضاربة في الزراعة:
ثبتت مشروعية المضاربة في الزراعة بعموم أدلة مشروعية المضاربة، وهي:
1 – الإجماع: فقد نقل ابن قدامة ذلك عن ابن المنذر، إذ قال في المغني (30): «وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة»، وقال ابن تيمية رحمه الله: «والمضاربة جوّزها الفقهاء كلهم اتباعاً لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم، مع أنه لا يُحفظ فيها بعينها سنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم» (31).
ومما ورد عن الصحابة في ذلك أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان العباس بن عبد المطلب «إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه: لا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجازه» (32).
2 – المعقول: «أنّ بالناس حاجة إلى المضاربة؛ فإن الدراهم والدنانير لا تنمّى إلا بالتقلب والتجارة، وليس كل مَن يملكها يحسن التجارة، ولا كل مَن يحسن التجارة له رأس مال، فاحتيج إليها من الجانبين، فشرعها الله تعالى لدفع الحاجتين» (33).
3 – القياس: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة لثبوتها بالنص، فيجعل أصلاً يقاس عليه وإن خالف فيهما من خالف، وقياس كل منهما على الآخر صحيح، فإنّ من يثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يقبل منه حكم الآخر لتساويهما» (34).
ومن أحكام المضاربة عموماً:
1 – أنها إيداع أولاً: لأنّ المضارب قبض المال بإذن مالكه، لا على وجه المبادلة والوثيقة.
2 – توكيل عند عمله: لأنّ المضارب يتصرف فيه لربّ المال بأمره، حتى يرجع بما لحقه من العهدة عليه.
3 – شركة إن ربح: لأنه يحصل بالمال والعمل، فيشتركان فيه.
4 – غصب إن خالف: لتعديه على مال غيره، فيكون ضامناً.
5 – إجارة فاسدة إن فسدت: فإنّ الواجب للمضارب فيها أجر المثل، كالإجارة الفاسدة، وهو بدل عمله لأنه لا يستحق المسمّى؛ لعدم الصحة، ولم يرض بالعمل مجاناً؛ فيجب أجر المثل (35).
خطوات التمويل بالمضاربة:
هناك ست خطوات للتمويل بالمضاربة، وتختلف صيغتها بين المؤسسات المالية، ومما وقفت عليه من هذه الصيغ ما ذكره مركز الاقتصاد الإسلامي (36)، وهي على سبيل الإجمال: طلب التمويل، البحث والدراسة، اتخاذ قرار التمويل، تنفيذ قرار التمويل، متابعة العمليات، التصفية وتوزيع الأرباح.
الخاتمة:
يمكن إيجاز نتائج هذه الورقة فيما يأتي:
– أنّ التمويل يكون إسلامياً إذا خلت صيغته من المخالفات الشرعية، واتسمت بضوابط ومعايير شرعية.
– أنّ الغرض من التمويل الإسلامي هو نفع الآخر في قضاء حاجته الشخصية، أو إقامة مشروعه الاستثماري.
– أنّ التمويل الإسلامي يقوم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي.
– أنّ التمويل الإسلامي يعزّز النمو والرخاء الاقتصادي، وفق الشريعة الإسلامية.
– يمكن تغيير المنتجات التقليدية لتصبح منتجات إسلامية، إذا تمّ تعديلها بإزالة ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية عنها.
– أنّ الزراعة في الدول الإفريقية جديرة بالاهتمام، إذ إنها من أحسن الطرق لمساعدة الأفارقة الفقراء لمحاربة الفقر.
– أنّ الإمكانيات الزراعية الكبيرة المتوفرة في إفريقيا تمكّن من النهوض بالقارة اقتصادياً واجتماعياً.
– من الصيغ التمويلية الإسلامية الصالحة للمشروعات الزراعية القروض المتبادلة بصورها الإسلامية: (قرض المنافع الزراعية, جمعيات الموظفين, القرض التعاوني (التمويل التعاوني), المضاربة في الزراعة).
التوصيات:
إنشاء مركز بحث إسلامي، مهمّته البحث عن المنتجات والأدوات المالية الشائعة في إفريقيا، وكيفية صياغتها إسلامياً والاستفادة منها.
الإحالات والهوامش:
(*) جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ بقسم الفقه.
(1) المؤتمر السنوي الثاني عشر للأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية، 31 مايو 2005م، عمان / الأردن، ص (14 – 29).
(2) مقالة بعنوان: صناعة التمويل الإسلامي ودورها في التنمية, للدكتور صلاح بن فهد الشلهوب, أستاذ مساعد بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن, ص 3.
(faculty.kfupm.edu.sa/…/Islamic%20finance%20and%20its%20role%20in%20the%20development).
(3) انظر: التمويل المصرفي الإسلامي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة, هيا جميل بشارات, ط 1 – 1428ه / 2008م, دار النفائس – الأردن, ص 40, ضمانات الاستثمار في الفقه الإسلامي وتطبيقاتها المعاصرة, للدكتور عمر مصطفى جبر إسماعيل, ط 1 – 1430ه / 2009م, دار النفائس – الأردن, ص (101 – 102).
(4) صفحة اقتصاد وأعمال – السبت / 3 آذار / مارس 2012م:
http://arabic.cnn.com/2012/business/2/2/Africa.agriculture
(5) الزراعة أمل إفريقيا في الخروج من دائرة الفقر، بقلم: شريفة عبدالرحيم, صحيفة الأهرام الاقتصادي, 14 نوفمبر 2011م، الرابط: http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=702951&eid=941.
(6) صفحة اقتصاد وأعمال – السبت / 3 آذار / مارس 2012م:
http://arabic.cnn.com/2012/business/2/2/Africa.agriculture
(7) المرجع السابق نفسه.
(8) انظر: الاستثمار والتمويل بالمشاركة في البنوك الإسلامية, للدكتور سيد الهراوي, ط 1 – 1996م, مكتبة عين شمس – مصر, ص (67 – 68).
(9) انظر: روضة الطالبين وعمدة المفتين، (4 / 33), الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، (5 / 125).
(10) انظر: رد المحتار, (5 / 161), شرح مختصر خليل، للخرشي، (5 / 203), روضة الطالبين وعمدة المفتين، (4 / 33), مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (3 / 32), الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، (5 / 125), مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، (3 / 240).
(11) هذا التعليل لبعض الشافعية, وقيّدوا ذلك بما إذا كانت المنفعة في غير العقارات, انظر: الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، (3 / 67).
(12) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، (5 / 394).
(13) انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (7 / 395), التاج والإكليل لمختصر خليل، (6 / 529), المجموع شرح المهذب، (13 / 174), مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، (3 / 240).
(14) حاشية الجمل على شرح المنهج، (3 / 257).
(15) المهذب في فقه الإمام الشافعي، للشيرازي، (2 / 84).
(16) أخرجه ابن ماجه في سننه, (2 / 813), رقم الحديث، (2432)، قال الشيخ الألباني: «ضعيف»، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، (3 / 303).
(17) حاشية الروض المربع، (5 / 47).
(18) هذا الأثر لم أعثر عليه في كتب الآثار, وذكره بعض الفقهاء في كتبهم، انظر: عون المعبود وحاشية ابن القيم، (9 / 296), المغني، لابن قدامة، (4 / 241).
(19) البيان والتحصيل، (2 / 433) .
(20) انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (3 / 34).
(21) عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته, (9 / 297).
(22) قرار رقم 164، وتاريخ 26/2/1410هـ.
(23) مجلة البحوث الإسلامية, تأليف: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد, (27 / 349 – 350).
(24) بحث بعنوان: التمويـل التعاوني.. الأسس الواقع المقترحات, إعــداد الدكتور محمد عبد الحليم عمر, ص 5.
(25)انظر: القاموس المحيط، ص 652, والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير، (2 / 498), وتاج العروس، (19 / 19).
(26) انظر: المغني، لابن قدامة، (5 / 19).
(27) المجموع شرح المهذب، (14 / 358).
(28) البناية شرح الهداية، (10 / 88).
(29) مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه أبي الفضل صالح، ص ٣٨، م ١١٣.
(30) انظر: المغني، لابن قدامة، (5 / 19), المجموع شرح المهذب، (14 / 359).
(31) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، (4 / 61).
(32) المعجم الأوسط، (1 / 231), وقال: «لا يروى هذا الحديث عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به: محمد بن عقبة»، رقم 760، وجاء في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (4 / 161): «وفيه أبو الجارود الأعمى، وهو متروك كذاب».
(33) المغني، لابن قدامة، (5 / 20).
(34) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، (4 / 61).
(35) انظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام، (2 / 310), فتح القدير، للكمال ابن الهمام، (8 / 445), وفيه: «وحكمها: الإيداع والوكالة والشركة بحسب الأوقات», ولم ير دخول الغصب في أحكام المضاربة.
(36) انظر: التمويل بالمضاربة, إدارة البحوث بمركز الاقتصاد الإسلامي, 1408ه / 1988م, مطبعة الرسالة, ص ( 23 – 26).