يقول المولى – عزَّ من قائل -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، تَفيُّؤاً بظلال هذه الآية الكريمة؛ يمكن القول إنَّ من نعَم الله تعالى على إفريقيا تعدُّد قبائلها وتمايزاتها الإثنيَّة، حيث يصل تعداد الإثنيَّات في بعض دُوَلها إلى ثلاثمائة (نيجيريا مثلاً)، وهذا لا شك نعمةٌ على أمَّة الإسلام؛ حيث تتَّسع دوائر «التَّعارُف» وفُرص التَّبادُل في كلِّ رقعةٍ جديدة تخطوها قَدَمُ مسلم.
من هذا المنطلق؛ فإنَّ أيَّ محاولةٍ للبحث عن هويَّات الشُّعوب المسلمة بإفريقيا، ومعرفة مدى التَّأثير الإسلاميِّ فيها، لَمحاولةٌ مشجِّعة، وخطوة – نرجوها – مباركةٌ في مشروع «التَّعارُف» الإسلاميِّ المنصوص عليه في آية التَّعارُف الآنفة الذِّكر، وهي تفضي إلى التَّقارُب بين الشُّعوب الإسلاميَّة وتماسكها وتضامنها.
ما تتَّفق عليه مختلف التَّعريفات عن الهويَّة هو: الخصوصيَّة والتَّميُّز عن الآخر، خصوصيَّة فرديَّة أو جماعيَّة، ولعلَّ من أحسن تعريفات الهويَّة الإسلامية ما قدَّمه خليل العاني بقوله: «الإيمان بعقيدة هذه الأمَّة، والاعتزاز بالانتماء إليها، واحترام قيمها الحضاريَّة والثَّقافيَّة، وإبراز الشَّعائر الإسلاميَّة، والاعتزاز بالتَّمسُّك بها، والشُّعور بالتَّميُّز والاستقلاليَّة الفرديَّة والجماعيَّة، والقيام بحقِّ الرِّسالة، وواجب البلاغ والشَّهادة على النَّاس»(1)، إنَّ هذا التَّعريف هو ما يصبو هذا المقال إلى استجلاء بعض ملامحه في هويَّة المسلم الإفريقي، سواء كان فرداً أو جماعة.
هذا، وإذا كان الباحثون قد حدَّدوا مقوِّمات الهويَّة في خمسة، هي: الدِّين، والتَّاريخ، والوطن، واللُّغة، والثَّقافة، فإنَّ ذلك يعني – فيما يعني – أنَّ الهويَّة مزيجٌ من الخصائص الثَّابتة والمتغيِّرة التي تحدِّد هويَّة الفرد أو الجماعة.
الهويَّة الإسلاميَّة بإفريقيا:
نشأ لدى المسلمين في إفريقيا، وبغربِها (محور هذا المقال) – تحديداً –، وعيٌ مبكِّرٌ بهويَّتهم الإسلاميَّة، وبضرورة تميُّزها عن غيرها، وذلك منذ الفترات الجنينيَّة للإسلام بالبلاد الإفريقية، يظهر ذلك مثلاً فيما كتبه البكري (أبو عبيدة، ت 487هـ)، عن عاصمة غانة القديمة، وأنَّها مقسَّمة إلى مدينتَين: واحدة للملك تمثِّل المدينة الوثنيَّة، ولكن بها مسجدٌ للمسلمين إذا وفدوا إليه، وأخرى للمسلمين بها اثنا عشَرَ مسجداً، وأنَّ المسلمين غير ملزمين بالانحناء للملك عند إلقاء التَّحيَّة عليه، وإنَّما يكفيهم التَّصفيق، «فإذا دنا أهلُ دينه منه جَثوا على رُكَبهم، ونثروا التُّراب على رؤوسهم، فتلك تحيَّتهم له، أما المسلمون فإنَّما سلامُهم عليه تصفيقٌ باليدَين»(2).
ولا شكَّ أنَّ هذا الوضع الذي تمتَّع به المسلمون (وهم أقليَّة آنذاك) في الوسط الغاني القديم، لم يحدُث عشوائياً، وإنَّما نشأ عن وعيٍ عميق، وحرص أكيد من لدُن المسلمين بضرورة حماية هويَّتهم، ومن ثَمَّ التَّعبير عن هذا الوعي والمطالبة بالحفاظ عليه.
أورد البكريُّ خبراً آخر له دلالة على حرص المسلمين في الحفاظ على هويَّتهم، فقال عن البزركانيِّين (3) أهل كَوْكَو إنَّهم «لا يُملِّكون عليهم أحداً من غير المسلمين… وإذا وليَ منهم ملكٌ دُفِع إليه خاتمٌ وسيفٌ ومصحف، يزعمون أنَّ أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم»(4)، فها هنا – أوَّلاً – اختيارٌ صارمٌ للزَّعيم الذي يُعدُّ المسؤول الأوَّل عن حماية الهويَّات، و – ثانياً – زعمٌ بتعبير البكريِّ، بربط علامات السَّلطنة بالأصل الإسلاميِّ العتيق.
وقد أدى هذا الوعي بالهوية والحرص عليها إلى انتشار الثقافة الإسلامية، واحترام غير المسلمين لقيم الإسلام، ففي خبرٍ أورده البكريُّ عن ملكٍ سودانيٍّ وثنيٍّ ببلاد الفرويِّين(5) كانت بأرضه نبتةٌ محفزة للشهوة؛ فأرسل إليه جاره الملك المسلم يسأله أن يُهديه شيئاً منها، فاعتذر إليه الملك الوثنيُّ، وعلَّل ذلك بأنَّه يخشى على الملك المسلم الوقوع في المحظور عليه في دينه بسبب تأثير هذا الدَّواء المفرط(6)، وسواء كان هذا اعتذاراً لبقاً وتخلُّصاً من الملك الوثنيِّ، أو كان حرصاً منه على مراعاة القيم الإسلاميَّة، فإنَّه يكشف عن ثقافة إسلاميَّة كانت منتشرةً منذ تلك الفترة المبكِّرة من الوجود الإسلاميِّ ببلاد إفريقيا الغربيَّة.
مقوِّمات الهويَّة الإسلاميَّة ومظاهرها في المسلم الإفريقي:
وفي محاولة متواضعة منَّا لاستكشاف بعض مظاهر الإسلام ومقوماته في هويَّة مسلمي إفريقيا؛ فإنَّه يكفينا هنا الاقتصار على لقطاتٍ من التَّاريخ والثَّقافة لدى بعض القبائل في غرب إفريقيا، كالهوسا، والفولاني، والمادينغ، والولوف، لتعذُّر استقصاء ذلك في مقامنا هذا.
أوَّلا: ادِّعاء النَّسب الشَّريف، أو الانتساب إلى الصَّحابة وقبائل العرب:
يُعدُّ الانتسابُ إلى النَّسب النَّبويِّ الشَّريف أو إلى القبائل العربيَّة أجلى الصُّوَر الكاشفة عن الرَّغبة الجامحة لدى الأفارقة في ربط هويَّتهم بالإسلام ورموزه، فالسَّادة الشُّرفاء من «شَريفُو» و «حَيدَرة» يتمتَّعون بمكانة اجتماعيَّة فريدة في الوسط الإفريقي، تُضفي عليهم قدسيَّة، وتُسدي إليهم الزِّعامة الرُّوحيَّة في المجتمع، ويُلحقُ بالانتساب إلى العترة النَّبويَّة الانتساب إلى الصَّحابة الكرام، وإلى قبائل العرب قريبة العهد أو النَّسب إلى النَّبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا الميدان – خصوصاً – هو الذي خاض فيه جميع القبائل الإفريقية تقريباً(7)، ولعلَّ الزُّعماء والسَّلاطين أوَّل من فتحُوا هذا الباب، وخاضوا فيه، من ذلك:
أ – مملكة غانة الإسلامية: وتُعدُّ أقدم مملكة معروفة ببلاد السُّودان، يُقال إنَّ ملوكها ادَّعوا النَّسب العلويَّ، أشار إلى ذلك الإدريسي (ت 560هـ) في كلامه عن غانة، قال: «وهي أكبرُ بلاد السُّودان قُطراً، وأكثَرُها خَلقاً، وأوْسَعُها مَتْجَراً… وأهلُها مسلمون، ومَلِكُها – فيما يُوصَف – مِنْ ذريَّة صالح بن عبد الله بن الحسَن بن الحسَن بن علي بن أبي طالب»(8).
ب – مملكة كانم وبرنو: ادَّعى سلاطينُ كانم النَّسب العثماني، أي الانتساب إلى الخليفة عثمان بن عفَّان، منذ قيام هذه السَّلطنة، أورد ذلك المؤرِّخون العرب، فعن العُمري (ت 749هـ) قوله: «وأوَّلُ من نشر الإسلام فيها الهادي العُثمانيُّ، ادَّعى أنَّه من ولد عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وصارتْ بعده لليَزَنيِّين من بني ذي يَزن، العدلُ قائمٌ في بلادهم، ومذهبُهم مذهب الإمام مالك (رض)»(9).
ج – مملكة مالي: ادَّعى ملوك إمبراطوريَّة مالي الإسلاميَّة الانتساب إلى الصَّحابيِّ بلال بن رباح، وأطلقوا عليه «بلالي بُوناما»، وزعموا أنَّه جدُّ ملوك كايْتا بمملكة مادينغ(10)، وذلك لأنهم كانوا يبحثون عن الشرعية وأحقيتهم في الحكم.
هكذا، على غرار الأُسَر الملكيَّة، تسابقت القبائلُ الإفريقية لإعلان انتمائها إلى الصَّحابة وإلى القبائل العربيَّة؛ من ذلك أنَّ قبائل الفولاني تزعم في رواياتٍ شفاهيَّة محليَّة انتماءها لفاتح إفريقيا (عقبة بن نافع)، وأنَّه قد توغَّل في إفريقيا حتى بلغ مُنحنى نهر النيجر ومصبَّ نهر السِّنغال (موطنَ قبائل الفولاني)(11).
ومن الفولاني مجموعاتٌ تدَّعي أيضاً انتماءها لحليمة السَّعدية مرضع النَّبي (صلى الله عليه وسلم)، ويُطلقون عليها اسم «فُولا-مَةُ» أي حليمة الفولانيَّة، وينسجون حول ذلك رواياتٍ متعلِّقة بمولد النَّبي (صلى الله عليه وسلم) ورضاعته(12).
ومثل قبائل الفولاني؛ فإنَّ اليُوربا في نيجيريا وفي بِنين الحاليَّة، تنتمي إلى بطل أسطوريٍّ هو كِسْرى، قيل إنَّه نزح من الشَّرق، وإنَّه هو مؤسِّس مملكة (Busa)(13)، وتنتمي قبائل سَرانْخوليهْ إلى سلمان الفارسي، والهوسا إلى بطل أسطوريٍّ يُدعى «بايَزيدَا» (Bayajida) بن عبد الله، من بغداد، يزعمون أنَّه كان ملكاً ببغداد، وأنَّه جاء إلى بلاد السُّودان فغزا قبائل زيْدُوَا (Zaiduwa) الوثنية، وشتَّتها إلى أربعين عشيرة صغيرة، منها بورنو التي زوَّجه ملكُها ابنته حتى يأمنَ على عرشه، ورُزقت منه بغلام سمَّاه بوركيمو (Burkimo)، وهو أوَّل ملك لبلاد الهوسا، ومنه انحدر الهوساويُّون(14).
وأسطورة كِسرى أيضاً واسعة الانتشار في بلاد الهوسا الشَّماليَّة في غواري (Gwari)، وفي دكاكاري (Dakakari)، وفي كونْتاغورا (Kontagora)؛ وفيها يزعمون أنَّ كسرى هو مؤسِّس ممالك الهوسا، وأنَّه وفد من مصر أو من الشَّرق (مكَّة)(15).
وفي ظلِّ هذا الحرص الزَّائد في إيجاد جذُورٍ عميقة للقبيلة في الشَّجرة الإسلاميَّة؛ يتضح أنَّ كثيراً من أوْجُه التَّحوير والزِّيادة والإضافة تعتري أصول الرِّوايات الإسلاميَّة الصَّحيحة في السِّيرة النَّبويَّة، وهو أمرٌ لا يصح، لأنها مرويَّات دينيَّة، ولكن إذا نظرنا إلى الجانب النفسي والاجتماعي؛ فإنَّ مسلمي إفريقيا يهدفون من وراء تلك الادِّعاءات إلى تأكيدَ رسوخ قَدَمهم في التَّاريخ الإسلاميِّ، وقربهم من الحضرة النَّبويَّة، وبلائهم الحسَن في خدمة الإسلام، وهذا الهدف يتوافَقُ والتَّعريف المختار في أوَّل هذا المقال عن الهويَّة الإسلاميَّة، وأنَّها «الإيمان بعقيدة الأمَّة، والاعتزازُ بالانتماء إليها».
إلى جانب هذا الهدف والسَّبب المحوري في نشوء هذه الظَّاهرة؛ فإنَّها تضطلع بوظائف اجتماعيَّة عديدة في المجتمع الإفريقي؛ حيث تعمل – من جهَّة – على إضفاء شرعيَّة روحيَّة على المكانة والحظوظ الاجتماعيَّة أو السِّياسيَّة، أو الدِّينيَّة التي اكتسبتها كلُّ قبيلة، أو ما تسعى إلى اكتسابه، ومطالبة الآخرين بالاعتراف به.
من أمثلة ذلك أنَّ قبائل (nyamakala)، وهم الرُّواة الشَّعبيُّون في مجتمعات غرب إفريقيا، وتراجمة الملوك، تَنتمي إلى الصَّحابيِّ سُراقة بن مالك، وتدَّعي أنَّه كان شاعر النَّبي (صلى الله عليه وسلم)، فهذه القبائل لا تُنازعُها قبيلةٌ أخرى في هذه الوظيفة ما دام أنَّها تستند إلى رُكنٍ ركينٍ، وإلى شرعيَّة تاريخيَّة مُستقاة من السِّيرة النَّبويَّة – في زعمهم -(16).
أما قبائل المادينغ التي تنتمي إلى البطل تِيرامغَانْ (Tiramagan) أحد قُوَّاد مؤسِّس مملكة مالي، فتزعم أنَّ جدَّ هذا البطل كان من صحابة النَّبي (عليه الصلاة والسلام)، وأنَّه أمدَّ النَّبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة بدر بتسعةَ عَشَر فارساً مغاوير من أبنائه، ولكنَّهم جميعاً استُشهدوا في هذه الغزوة الحامية، ما عدا واحداً، وإلى تلك القبيلة تُسند القيادة الحربيَّة في مجتمع المادينْغ، لا يُنازعها في ذلك منازع.
من جهَّة أخرى؛ فإنَّ هذه الظَّاهرة لها وظائف اجتماعيَّة، منها إحداثُها روابط بينيَّة قويَّة بين القبائل، تُحقِّق تماسُك المجتمع، وتحول دون منازعة القبائل بعضها بعضاً في وظائفَ معيَّنة، أو في مراكز اجتماعيَّة خاصَّة، احتكرتها قبيلةٌ لنفسها عبر الأجيال؛ علماً بأنَّنا في سياق مجتمعٍ معقَّدٍ يقوم على تقسيم الوظائف الاجتماعيَّة بين القبائل، وتتشكَّلُ هويَّات القبائل والعشائر عبر تلك الوظائف.
مثال آخر في تحقيق تلك الادِّعاءات للتَّماسُك الاجتماعيِّ؛ أنَّ عشيرتَيْ كمارا كونْدا، وسِيسيهْ كوندا في غامبيا، تزعُمان أنَّ أسلافهما عاشوا جيراناً في مكَّة المكرَّمة، ومنها نزحوا إلى مملكة مالي القديمة قبل أن يستقرُّوا بغامبيا، وفي أثناء رحلتهم تلك من مكَّة إلى مالي، وقَع حلف الولاء الموثَّق بين العشيرَتَين، ولا يزال هذا الاعتقاد يفعلُ فعلَه الإيجابيَّ في إحداث تناغُمٍ منقطع النَّظير بين العشيرتَين، وفي فضِّ جميع صنوف الخصومات والنِّزاعات التي قد تحدُث بين واحدةٍ من العشيرَتَين وبين عشيرةٍ أخرى؛ إذا توسَّطت حليفتُها لدَيها، ذلك لقداسة الجوار الأوَّل بمكة، ومن المستَبْعد أن يتنكَّر أحدٌ من أفراد العشيرة لهذا «التَّاريخ» المشترك بين القَبيلتَين(17).
ثانياً: دلالة أسماء الأعلام على الهويَّة الإسلامية:
هذا، ويُلحَق بالانتساب الجماعيِّ للقبائل الإفريقية إلى الصَّحابة والعرب، ظاهرة تبنِّي مسلمي إفريقيا الطَّوعي للأسماء «الإسلاميَّة»، ونبذ أسمائهم القبَليَّة، ففي هذا السِّياق – مثلاً – نجد أنَّ أوَّل الخائضين فيه هم الملوك أيضاً؛ حيث انتحل بعض أوائل الملوك أسماء خلفاء وملوك في العصور الأولى للإسلام، فسلاطين صونغايْ (غاوْ) مثلاً تسمَّوا بأسماء الخلفاء الرَّاشدين، ولم تُعرف أسماء بعضهم الحقيقيَّة، من ذلك ما وُجد منقوشاً على أحد الشَّواهد الرُّخاميَّة المكتشفة في غَاو عاصمة صونغاي: «هذا قَبْرُ الملك النَّاصر لدين الله، المتوكِّل على الله، أبي بكر بن أبي قُحافة، رحمَهُ الله ونوَّر ضريحَهُ، وقدَّس روحَهُ، وجعل الجنَّة بَدله ومأواه»، (توفي ليلة الجمعة 19 رجب 503هـ / 1110م)، ووُجِدَ على شاهدٍ آخر: «هذا قبرُ الملك الأجلِّ، الرَّفيع المحلِّ، النَّاصر لدين الله، المتوكِّل على الله، القائم بأمر الله، المجاهد في سبيل الله، ماما بن كما بن اع؟ المسمَّى بعمر بن الخطَّاب، رحمةُ الله عليه»، (توفي يوم الأحد 17 محرم 514هـ / 1121م)(18).
ونتوقف قليلاً عند هذا الجانب من دلالة الأسماء على التَّميُّز في الهويَّة؛ لبيان علاقتها بالأثر الإسلاميِّ في هويَّة المسلم الإفريقي:
إنَّ أسماء الأعلام – في الوسط الإفريقي – ذات دلالات مُتشابكة مع مختلف مناشط الحياة، وذات رسائل تواصليَّة متعدِّدة الأبعاد، كاشفة عن الهويَّات الإثنيَّة، والانتماءات العَقَديَّة، ففي قبائل (موصِي Mosi) مثلاً، يشير الباحث الأنثروبولوجي هويس ((Maurice Houis إلى نظامٍ دقيقٍ للتسمية، يتلخَّص في فئتين، هما:
أ – الاسم القبليُّ أو العشائري (Sondre: pl. Sondra): وهو الاسم الذي يحمله كلُّ من ينتمي إلى العشيرة ذكراً أو أنثى، تمييزاً للعشيرة عن غيرها من العشائر الأخرى.
ب – الاسم الشَّخصي يوري (Yure: pl. Yuya): وهو الاسم الشخصي الذي يميِّز الفرد داخل القبيلة، ويتحدَّد هذا الاسم الشخصيُّ بظروف مولد صاحب الاسم وملابساته، فإنْ أتى الحاملَ المخاضُ وهي في الحقل سُمي الوليد (kobo)، وإنْ أتاها وهي في السوق سُمي (daga)، وهذا الصنف من الأسماء ذو رسائل تواصليَّة متشعبة دينية واجتماعيَّة، فالمولود عشيَّة عيدٍ لدى الفولانيِّين يُطلَق عليه (Djoulde) أي: عيد، وإذا ولد بعد إجهاض سابق سمِّي (Wuri) أي (الناجي).
هذا، ومن أهمِّ الوظائف التي يضطلع بها الاسم في الوسط الإفريقي ما يأتي:
– الاسم وتعبيره عن المعتقدات القبَليَّة: وتقوم المعتقدات والميثولوجيا القبَليَّة بأثرٍ فعَّالٍ في وضع هذا الصِّنف من الأسماء، حيث يُختار اسم معيَّن للوليد رغبة في حفظه من العين أو الموت، أو طلباً لاسترضاء أرواح الأسلاف، تماماً كما لدى كثيرٍ من الثقافات التَّقليديَّة التي تقيم علاقة بين اسم الشَّخص وبين دفع مضرَّة أو جلب منفعة، ومن ذلك لدى قبائل البامبارا إطلاق اسم «نْياما»، أي: زهيد فيه، أو أيّ اسمٍ غريبٍ آخر على الوليد الذي لم يعشْ قبله ولدان لأمِّه، ولدى قبائل الولوف – كما توضِّحه أبحاث عامر صامبْ – يُعطى الوليدُ اسماً غريباً يُعتقد أنه يحميه من صروف الدَّهر، مثل: (Lêmudê)، أي: سوف يموت، و (Amul Yakar) أي: لا أمَل، و (Kène Begul) غير مرغوب(19).
– الاسم والتَّعبير عن ظرف اجتماعيٍّ: في معظم مجتمعات إفريقيا يكون اختيار أسامي المواليد من حقِّ شيخ العشيرة وحدَه، لكن هذا الاختيار يكون – فيما يزعمون – بعد «مشاورة» أرواح الأسلاف، يحمل الوليد بعده اسماً يكون له علاقة مباشرة بالظُّروف الرَّاهنة في القبيلة، فإذا وُلِد الطفل في ظروف خلافاتٍ وشقاق داخل القبيلة مثلاً، يكون اسمه رسالةً رادعة من «أرواح الأسلاف» للقبيلة، مثل الاسم dayelle أي لا خِلاف! لدى قبائل كاسِينا في بوركينافاسو.
– الاسم وتحديده للمرحلة العمريَّة، ومركز حامله الاجتماعي: من الأمثلة على ذلك ما نجده لدى قبائل بَسارِي شرقي السنغال من توظيف فعّال للاسم في كل مراحل حياة الإنسان، يتجدَّد طبقاً لتجدُّد مراحل الحياة، ونشاط الفرد ومركزه في القبيلة، فحين يولد الطفل يحمل تلقائيّاً الاسم العشائري من طرف أمِّه، ومن ثمَّ يُضاف إليه اسمٌ يُختار له حسب جنسه وتسلسله بين أشقائه، حتى إذا دبَّ أطلقت عليه أمُّه أو أترابه لقباً يُنادى به، وإذا ما أتت فترة الختان والتأهيل (Initiation) انسلخ عن الاسم «الصبياني» وحمل الاسم «الرِّجالي» اسم الرُّشد، وإذا ما انخرط بعد ذلك في سلك الجمعيَّات السِّريَّة، وشارك في الرَّقصات المقنَّعة (Danse des masques)، أُعطي كذلك اسمه «القناعي»، وتحرم مناداته خلال تلك العروض الرَّقصيَّة باسمه الرِّجالي.
– الاسم وتحديده للرُّتبة الأسَريَّة أو الاجتماعيَّة: يكون ذلك حين يُحدَّد اسم الفرد حسب رتبته وجنسه في الأسرة، فيسمِّي الفولاني مثلاً الابن البِكر حمادِي، والثاني سَامْبا، والثالث دِيمبا. أما البامبارا فيُطلقون (Nyele) على البنت الأولى، و(Nya) على الثَّانية، وعلى الثَّالثة (Nyeleba)، كما يُطلقون (Nci) على الولد البكر، و (Nsan) على الثَّاني، و (Ngolo) على الثَّالث وهكذا(20). ويُطلق قبائل بَساري على الأنثى الأولى (Tyra)، وعلى الذكر الأوَّل (Tyara)، والثَّاني (Kala)(21).
انطلاقاً من هذا النظام الدقيق؛ نجد الاسم – لدى قبائل بسارِي ومثيلاتها – في علاقةٍ متواصلة بالثقافة والمجتمع، وأنَّه رسالة مباشرة عن حامله، يعيِّن هويَّته بأبعادها الاجتماعيَّة، فمن اسم الشَّخص قد نحدِّد جنسه، ورُتْبَتَه، وربَّما عدد إخوانه، والفئة العمريَّة التي ينتمي إليها، وربَّما ظروف ولادته، وموضعها، ويوم ولادته نهاراً أم ليلاً؛ مما يؤكِّد أنَّ الاسم يحمل رسائل تواصليّة متعدِّدة، وأنَّه في علاقة وظيفيَّة حميمة بالأنثروبولوجيَّة الإفريقية، وأنَّ تسمية الأفراد ليست قضيَّة خصوصيَّة للوالدَين، كما أنَّه يوظَّف للحفاظ على انسجام المجموعة، وتفادي المشكلات المهدِّدة لبقائها(22).
هذا، وقد ارتَأيْنا الإسهابَ في هذا المقام؛ للتَّدليل على أنَّ أيَّ مساسٍ بهذا النِّظام يؤذن بتقويض الكثير من الأسُس الاجتماعيَّة، والمعتقدات القبَليَّة، وإلى طمس هويَّة صاحب الاسم في المنظور القبَلي، وهذا – بالتَّأكيد – ما جرى لنظام التَّسميَّة لدى القبائل التي اعتنقت الإسلام في غرب إفريقيا، حيث حلَّ العالِم (karamogo) محلَّ شيخ القبيلة في تحديد أسماء المواليد، وحلَّت المناسبات الإسلاميَّة محلَّ المناسبات التَّقليديَّة التي كانت تؤثِّر في تحديد اسم الوليد، كما أُلغِيت بعض تلك المناسبات لمنافاتها للتعاليم الإسلاميَّة… وهكذا أصبح المسلم الإفريقي يُعرف – أوَّلاً – باسمه المكوَّن من أسماء الله الحسنى، أو من أسماء الأنبياء والرُّسل والصالحين ذكوراً وإناثاً، أو أسماء الصَّحابة والتَّابعين، أو من الرُّموز الإسلاميَّة(23).
ثالثاً: دلالة أسماء المدن والمواقع الجغرافيَّة:
ولم تقتصر هذه الظَّاهرة على الأسماء الشَّخصيَّة فحسب، وإنَّما امتدَّت إلى أسماء المدن والمواقع الجغرافيَّة، رغبةً من المسلمين الأفارقة في ربط تلك المواقع بسميَّاتها في مهبط الوحي أو في جزيرة العرب وبلادهم، لدينا مثلاً سلسلةٌ من اسم «مدينة» في معظم بلاد إفريقيا، أشهرُها «مدينة» التي حلَّت محلَّ (Timbi) القديمة في غينيا على يد الشيخ العالِم «ألْفَا يِيرو» (Alfa Yero)(24)، ولدينا مدينة «كِيرِوان» (Kerewane) في السنغال وغينيا، مراداً به القيروان، ومن أحياء عاصمة مالي الحديثة باماكو حيُّ (Bagadaji)، يراد به بغداد، وحيُّ «حمدَ الله» في باماكو، وحيُّ «دار السَّلام» في مدينة بواكي بكوت ديفوار، وحيُّ «مَاصِيرَا» (في غينيا)، و «طائِفَا» (في السنغال)، وحي «سَروجَا» مراداً به بلدة سَروج، بلدة أبي زيد السروجي بطل مقامات الحريري، وغيرها من المواقع.
رابعاً: تبنِّي التَّقويم السَّنويِّ الهجريِّ:
كذلك، ظهر التَّأثير الإسلاميُّ في كثيرٍ من مظاهر الهويَّة الإفريقية، ممَّا لا مجال لتفصيله في هذا المقام، من ذلك تبنِّي التَّقويم السَّنويِّ الهجريِّ، وربط جميع مناشط الحياة بالتَّقويم القَمَريِّ، ونبذ ما كان سائداً من الأعياد الوثنيَّة المرتبطة بالتَّقويم الشَّمسيِّ، واقتراض معظم القبائل لأسامي الشهور والأيَّام العربيَّة، وربط مفردات التَّوقيت بالشَّعائر الإسلاميَّة، مثل: Suba (الصبح)، waliha-tele (وقت صلاة الضُّحى)، Sali-fana (الصلاة، الظهر)، La`ansara (العصر) بلغة المادينغ… وقل مثل ذلك في الأزياء، والفنون والآداب.
خامساً: تأثُّر المجموعات المسلمة بالإسلام في قيمها الأخلاقية والثقافية:
من الإمكان أن نجزم هنا بلا تردُّد، بالقول باستحالة وجود مظهرٍ من مظاهر هويَّة الأفراد أو المجموعات المسلمة في إفريقيا (في الدِّين، والتَّاريخ، واللُّغة، والثَّقافة) غير متأثِّرٍ بالإسلام، ولعلَّ استقصاء الأثر الإسلاميِّ في مظهَرَين ثقافيَّين لدى الفولبي من جانب (مفهوم البولاكو)، ولدى الهوسا من جانبٍ آخر (مفهوم الرَّجل الصَّالح)، يوضِّح مدى تأثُّر المجموعات المسلمة العميق بالإسلام في ثقافتها، ورؤيتها للعالَم، ومدى تشكُّل هويَّتها الإسلاميَّة بناءً على تلك الرُّؤية الخاصَّة.
(1) الفولاني ومفهوم البولاكو (Pulaaku):
مفهوم البولاكو لدى قبائل الفولْبي / الفولاني(25)، مفهومٌ اجتماعيٌّ معقَّد، أثار اهتمام علماء السُّلالات، والعلماء الاجتماعيِّين، و (بُولاكو): مصدرٌ من اسم الفولاني (بُولا + كو)، وهو مثل المصدر الصِّناعي: (إنسان + يَّة)، عرَّفه Kirk-Greene باختصار بأنَّه: «طريقة حياة الفولانيِّين» (the Fulani way)، وترى VerEecke أنَّه مفهومٌ محمَّلٌ بمعانٍ متشابكة، ولكنَّه في مجمله يعني «رؤية العالم» لدى الفولانيِّين، وظيفته تشكيل قالب للقيَم الاجتماعيَّة المثاليَّة(26)، وذهب الباحث Ogawa إلى أنَّ هذا المفهوم ليس – ببساطة – نظاماً قيميّاً في حدِّ ذاته، وإنَّما هو نظامٌ من الرُّموز التي تشكَّلت في علاقة مغايرة مع «الآخر» غير الفولاني، وبتعبير VerEecke أنَّ البولاكو هو «الحدود المميِّزة بين الفولبي وغير الفولبي»، فمفهوم البولاكو إذن: هو مجموعةٌ من القيَم الإنسانيَّة النَّبيلة التي يؤمن بها الفولاني، ويتَّخذونها أسلوباً في الحياة يميِّزهم – في اعتقادهم – عمَّن دونهم.
ونظراً لتعدُّد مواطن الفولانيِّين على امتداد إفريقيا جنوب الصَّحراء الكبرى، وتبايُن نظرات الباحثين حول هذا المفهوم، فقد لجأ الباحث Stenning إلى تحديد أربعة مقوِّمات أساسيَّة لمفهوم البولاكو(27):
أولاها: لغة الفُلفُلدي أي لغة الفولاني.
وثانيتها: التَّواضع والتَّوسُّط (seemteende).
وثالثتها: الصَّبر والتَّحمُّل (munyal).
ورابعتها الأخيرة: الحكمة والتَّعقُّل (hakkiilo).
فهذه القيم، وإن كانت عالميَّة إنسانيَّة، فإنَّ الفولاني يعدُّونها من خصوصيَّاتهم، ومن المحدِّدات الجوهريَّة لهويَّتهم، تؤثِّر في طريقة تفكيرهم وتصرُّفهم ورؤيتهم الكليَّة للعالَم.
أمَّا عن علاقة البولاكو بالإسلام؛ فتظهر – أوَّلَ ما تظهر – في كون القِيَم المذكورة من صميم القيم الإسلاميَّة، ومن مستلزمات الشَّخصيَّة المسلمة الحق، وتظهر – ثانياً – في مفهوم «جُولْدي» (juulde) الذي يعني حرفيّاً: الصَّلاة، ويُشار به لدى الفولبي إلى التَّديُّن، وهو مقوِّمٌ ضروريٌّ لمفهوم الإنسان المثاليِّ بين الفولبي.
وأمَّا عن أثر الإسلام ودوره في تهذيب مفهوم البولاكو، خصوصاً في نبذ المحدِّدات الحسِّيَّة الظَّاهرة التي يزعم الفولاني أنَّها مقوِّماتٌ لهويَّتهم (مثل الأزياء، والمظاهر الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة البحتة)، فقد أوضحه الباحث أوغاوَا بقوله إنَّه: «كلَّما توغَّلت الفولاني في الإسلام فإنَّهم يزدادون بُعداً عن التَّثبُّث برؤية البولاكو، وأنَّهم يحدِّدون هويَّتهم بوصفهم جزءاً من الأمَّة الإسلاميَّة الكبرى»(28)، وإلى مثل هذا توصَّلت الباحثة (VerEcke) في دراستها عن فولاني منطقة أدَماوَا بالكاميرون، فصرَّحت أنَّ الإسلام قد غدا باطِّرادٍ أهمَّ مرجعيَّة أخلاقيَّة ومحدِّداً إثنيّاً (ethnic marker) لدى أولئك؛ أكثر من فكر البولاكو.
وليست هذه الحالة خاصَّةً بالفولاني ذوي الانتماء الإسلاميِّ العريق فحسب، وإنَّما هي موجودةٌ بين فولانيِّين ذوي انتماءٍ إسلاميٍّ أقلَّ نسبيّاً، وتلك حال فولاني (mbororo) الرَّعويَّة كما يؤكِّدها الباحث بورْنْهام بقوله: إنَّ الفولاني في تلك المنطقة تَعُدُّ (diina) (أي الإسلام)، مكوِّناً ضروريّاً لمفهوم البولاكو(29). وذهب الباحث فرانْز إلى أبعدَ من ذلك بقوله: «إذا استمرَّت الثَّقافة الإسلاميَّة العربيَّة القويَّة في الانتشار؛ فإنَّ الخصائص المميِّزة، والفكر المسمَّى الآن ببولاكو، في طريقها إلى الاندثار والاختفاء؛ لتتشكَّل من جديدٍ في ظلِّ هويَّةٍ إسلاميَّة عالميَّة أكثر توسُّعاً»(30)، عليه؛ فإنَّ العلاقة حميميَّةٌ عضويَّة بين الإسلام وبين مفهوم «رؤية العالَم» عند الفولانيِّ؛ حيث لا وجه للبحث عن هويَّة فولانيَّة خارج الدَّائرة الإسلاميَّة.
(2) مفهوم «الإنسان الصَّالح» في مجتمع الهوسا:
يُعدُّ مفهوم (mutumin kirki) أي: الإنسان الصَّالح، تجليةً للأثر الإسلاميِّ في الرُّؤية الاجتماعيَّة لدى الهوسا، وفي نظرتها إلى الإنسان المثاليِّ المجسِّد لهويَّة الهوسا، وتلك حقيقةٌ أكَّدها الباحث الاجتماعيُّ البروفيسور جريني (Kirk-Greene) – رائد الأبحاث في هذا المجال – بقوله:
the good man in Hausa society today is almost by definition, the good man in Islam
«إنَّ الإنسان الصَّالح في المجتمع الهوساويِّ اليوم يماثلُ تقريباً – من حيث التَّعريف – الإنسانَ الصَّالح في الإسلام»(31).
أمَّا مواصفات هذا الإنسان الصَّالح، فقد حدَّدها جريني انطلاقاً من مجموعةٍ كبيرةٍ من النُّصوص الشَّعبيَّة الأدبيَّة والتَّاريخيَّة والدِّراسات الاجتماعيَّة؛ فوضع مجموعة من القيَم الأخلاقيَّة بوصفها صفاتٍ للرَّجل الصَّالح، وهي:
– الصِّدق والأمانة (gaskiya, amana): وتمثِّل هذه القيمة البنية التَّحتيَّة لكلِّ تصرُّف اجتماعيٍّ بين الهوسا، كما أنَّ نقيضها «خيانة الأمانة» (cin amana) لَمنْ أكبر الانتهاكات الأخلاقيَّة في المجتمع الهوساويِّ.
-الكرَم والسَّخاء (karamci): أرجع جريني اعتداد الهوسا الشَّديد بقيمة الكرَم والسَّخاء إلى طبيعة النَّشاط الاجتماعيِّ لدى الهوسا؛ القائم على الزِّراعة والتِّجارة، فالمخاطرة في هذين النَّشاطَين عالية بفعل الكساد المباغت، أو الحصاد الرَّديء، وفترات الجفاف المفاجئة، وغير ذلك من الظُّروف الطَّارئة التي قد تقلب حياة الإنسان رأساً على عقبٍ بين ليلةٍ وضحاها؛ فلا بدَّ – في مثل هذا الظَّرف – من مواساةٍ حقيقيَّة بين أفراد المجتمع. أشار جريني هنا إلى أنَّ هذه القيمة قد ذهبتْ بالهوسا كلَّ مذهبٍ، حتى إنَّ مفهوم السَّخاء والإنسان الكريم (mai-haira) ليستْ له حدودٌ ضابطةٌ واضحة لديهم، وهو إلى الإفراط أقربُ منه إلى التَّوسُّط.
– الصَّبر والأناة (hakuri): بيَّن جريني أنَّ كثيراً من عادات الهوسا ولغتها تكشف عن مكانة هذه القيمة الأخلاقيَّة بين الهوسا، فعبارة التَّحيَّة والمجاملة اليوميَّة المعتادة تقول: (ina hakuri?) أي: كيف صَبرُك (مع الحياة)؟ كيف حالك؟ ويقولون في الاعتذار إلى السَّائل المتسوِّل: (Allah ya ba hakuri) أي: ألْهَمَك الله الصَّبر، أو: الله يعْطيك!
– التَّعقُّل أو الفطنة والذَّكاء (hankali): الإنسان العاقل – كما يُعرِّفه جريني حسب الرُّؤية الهوساويَّة – هو الذي يقوم بالتَّصرُّف أو بالقول المناسب في الظَّرف المناسب، ونقيضه الإنسان الجاهل.
– الحياء أو الشُّعور بالعار (kunya): إنَّ ما يُميِّز هذه القيمة لدى الهوسا هو صبغتُها الجمعيَّة، فالعار في نظر الهوسا لا يلحقُ بالمسؤول الأوَّل عنه، وإنَّما يتغلغل ويستشري في شبكةٍ معقَّدةٍ تعقُّد النَّسيج الاجتماعيِّ الهوساويِّ نفسه، وكما هو يمتدُّ في شكلٍ أفقيٍّ، فإنَّه يمتدُّ هكذا في شكلٍ عموديٍّ في الزَّمان، فيتجاوز فاعلَه إلى عقِبه؛ لذلك فإنَّ هذه القيمة تُجبر الفرد / الجماعة على الالتزام بالحدود الخُلقيَّة المتعارف عليها بين الهوسا، وإن كان ذلك يتعارض مع قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء : 15].
– المعاملة وحسن الخُلُق (mutunci): وهي من محدِّدات الإنسان الصَّالح التي تتأكَّد أكثرَ في علاقة الأعلى بالأدنى، ويُعبِّر الهوسا عن جرح المشاعر، وانتهاك كرامة الفرد بــ «أكل كرامته»، وهو تعبيرٌ يوازي أكل لحمه حسِّيّاً.
– العدل والحكمة (adalci, hikima): بيَّن جريني أنَّ قيمة العدل هي التي تختزل بقيَّة القيَم في حُكم الهوسا على الإنسان بالصَّلاح، والعدل هنا يعني أنْ يُوطِّن الإنسانُ نفسه لفعل ما يُمليه «الواجب» عليه مهما كانت الظُّروف والموانع.
تلك جملة القيم الأخلاقيَّة التي يراها الهوسا لازمةً للإنسان الصَّالح مهما كان مركزُه الاجتماعيُّ، رئيساً أو مرؤوساً، غنيّاً أو فقيراً، ومن الجليِّ في هذا المقام مطابقة تلك القيَم الأخلاقيَّة لما جاء به الإسلامُ، ولئنْ أكَّد جريني أنَّ هذه القِيَم بين الهوسا سابقةٌ على الحضور الإسلاميِّ، فإنَّه قد أكَّد في مواضع عدَّة أنَّ الإسلام مُعزِّز قويٌّ لتلك القيَم، وقد ظهر ذلك أوَّلاً في الاقتراض اللُّغويِّ المقتضب من اللُّغة العربيَّة (لغة الإسلام) للتَّعبير عن القيَم المذكورة، وهو اقتراضٌ ليس جزافاً، وإنَّما هو اقتراضٌ واعٍ تحملُ فيه المفردة ثِقَلَها الدِّيني معه.
كذلك، يظهر الأثرُ الإسلاميُّ بجلاءٍ في التَّحوُّل الدِّلاليِّ الذي طرأ على عددٍ من تلك القِيَم؛ من دلالتها التَّقليديَّة الضَّيِّقة المحدودة، إلى دلالتها الإسلاميَّة الموسَّعة العميقة، فالعدل (adalci) مثالاً، أصبح يعني: مخافة الله؛ لذلك فإنَّ من أهمِّ مواصفات الزَّعيم الأمثل بين الهوسا: العبادة والإيمان.
والخلاصة في هذا الجانب: أنَّ ما يزعُمُه كلٌّ من الفولاني والهوسا بوصفه مقوِّماً ضروريّاً من مقوِّمات هويَّتهم، ما هو – في الحقيقة – إلاَّ مقوِّمات ضروريَّة لهويَّة المسلم تحت أيِّ سماءٍ؛ لذلك فإنَّ كلتا الجماعَتَين قد اقترضتْ – بوعيٍ أو بغير وعي – معظم المفردات العربيَّة ذات الثِّقل الإسلاميِّ للإشارة إلى ما تزعُمانه خصوصيَّات لهما.
سادساً: نشوء هويَّة إسلاميَّة شبه إثنيَّة:
وإذا كان الإسلام قد أثَّر تأثيراً واضحاً في جملةٍ من القبائل، فأعادت هَيْكلة هويَّاتها وقَولَبتها، فإنَّه قد كان السَّبب المباشر في ظهور عددٍ من المجموعات «شبه الإثنيَّة» التي تكوَّنت في رَحِمٍ إسلاميٍّ صِرْف، من ذلك الجاخانْخي (Jakhanke) والطُّرودْبي (Torodbe) اللَّتان ظهرتا بفعل حركة التَّعليم الإسلاميِّ والدَّعوة بإفريقيا.
الطُّرودبي (Torodbe) ونشوء هويَّة إسلاميَّة شبه إثنيَّة:
يُعدُّ الطرودبي نموذجاً بامتيازٍ في بيان الأثر الإسلاميِّ في تشكيل الهويَّات بإفريقيا؛ إذ قد تكوَّنت هذه الشَّريحة تكويناً إسلاميّاً صرفاً من بقايا العبيد المحرَّرين والآبقين؛ ممَّن كانوا يعيشون تحت وطأة الظُّلم والاستغلال من لَدُن طبقة المحاربين ببلاد السُّودان، وفي ظلِّ هذا الوضع من القهر كان الإسلامُ وحدَهُ هو العنصر الجامع بين الطُّرودبي، حيث وجدوا فيه متنفَّساً وملاذاً آمناً للخلاص من هذا الوضع.
ولا أدلَّ على ما سبق من دلالة التَّسمية؛ إذ الفعل (torade) بلغة الفولْبِي يعني: سأل. و (طُرُودو، مفرد: طرودبي): يدلُّ على التَّضرُّع والمسألة أو التَّسوُّل، وفي ذلك إشارةٌ إلى مجموعات طورودبي التي تكوَّنت جراء الحركة العلمية والدعوية الإسلاميَّة التي قامت في بلاد السودان الغربي، وكان الطلبة يتجمَّعون في المحاضر العلمية والدَّارات الصُّوفية حول المشايخ لتلقِّي العلم، والقيام بالمهام الدَّعوية والأعمال الحرفيَّة التي كانت تنتظم حياة أولئك، وكانوا يتميَّزون بحياة التقشُّف.
ومن طرق التَّربية لديهم أن الطَّلبة كانوا يتجوَّلون في القرى ويتسوَّلون، ويُطلق عَلَيْهِمْ «طُورودُو» بالفلفُلديَّة لغة الفولاني، أو «طُرونْكاوَا» بالهوسا: أي متسوِّلون، صار هذا الوصف لقباً لهم، وعُرفوا في الأدبيَّات الإسلاميَّة في غرب إفريقيا بــ «الطُّروديَّة»، أو «طورودْبي»، وهذا الوصف في الواقع ليس اسماً لقبيلة معيَّنة، وإن كان الغالب إطلاقه على الفولاني، وعلى عشائر علميَّة دَعويَّة معيَّنة؛ منها: عشائر باري المنتسبة للشيخ أحمدو، وعشائر تالْ المنتسبة للشيخ عمر تالْ، وعشائر سِي المنتسبة للشيخ مالك سي(32).
من الخصائص المميَّزة للطُّرودْبي:
– لا أصلَ قبَليّاً يجمعهُم: وإنَّما هم خليطٌ من شتات القبائل التي خضعت للعبوديَّة من الكُونْتا، والفولْبي والجاخانْخي، والماندينغ، والهوسا، والسَّراخوليهْ، والولوفْ، والسِّيريرْ، وليبُو في منطقة ما حول نهر السِّنغال، أو ما يُعرف الآن بسنيغامبيا.
– التَّحدُّث بالفُلفُلدي (لغة الفولاني): ومعرفة القراءة والكتابة بالعربيَّة للحاذقين منهم، فكانت الفُلفُلديَّة اللُّغة المشتركة بينهم، والعربيَّة لغة الخاصَّة في المكاتبات، أو غيرها.
– الانقطاع لطلب العلم والدَّعوة والتِّجارة في مجموعاتٍ متنقِّلة: ونبذ الحِرَف والأعمال التي كانت تعدُّ منحطَّة في مجتمع فوتا-تور كالصَّيد البحريِّ (somono)، والطِّب الشَّعبيِّ (sulbalbe)، والحدادة (bailo)، وغيرها من الحِرَف اليدويَّة.
وعلى حدِّ تعبير جونْ رالْف؛ فإنَّ «مهنة الإسلام» (craft of Islam)، أي العلمُ والدَّعوة، هي التي ضمنت للطُّرودْبي التَّماسُك والتَّضامُن، ومن ثمَّ التَّحوُّل من حالة دونيَّة إلى حالة قوَّة وتميُّز اجتماعيٍّ؛ فوصف العلم – آنذاك في القرن السَّابع عَشَر الميلاديِّ – أقصرَ وسيلةٍ للتَّرقِّي إلى قمَّة السُّلَّم الاجتماعيِّ في بلاد السُّودان، بل إنَّ الطُّرودْبي وصلتْ إلى سُدَّة الحُكم بتأسيس خلافة إسلاميَّة عُرفَتْ باسم «دولة الأئمَّة» (almamy)؛ حيث كان زعماؤها مشايخ علماء أئمَّة.
بهذا الصَّدد؛ يقول المؤرِّخ جونْ رالفْ: «لقد دخل الطُّروديُّون في تواريخ بلاد السُّودان الإسلاميَّة، دخولاً صاخباً بثورة الإمام مالك سي (Malick Sy)، تلك التي تُوِّجت بتأسيس جماعة سيسيبِيهْ (sissibe) في بُونْدو (حوالي 1690م)»(33)، وعُدَّتْ أوَّلَ نموذجٍ إسلاميٍّ ناجحٍ للحُكم والإدارة ببلاد السُّودان الغربيِّ(34).
ويمكن تحديد الإنجازات الأوَّليَّة للطورودْبي قبل تأسيسهم للخلافة الإسلاميَّة بفوتا تورو، بعدَّة إنجازاتٍ، هي:
– كسر الفوارق القَبَليَّة في مجتمع فوتا-توُرو: بتحويل الانتماء من حيْز الدَّم والنَّسب إلى حَيْزٍ إسلاميٍّ صِرف؛ حيثُ الولاءُ للعقيدة الإسلاميَّة، وللشُّعور بالرَّغبة في الانعتاق من العبوديَّة لا غير، ومن دلائل ذلك أنَّ الجماعة الأولى التي هاجرتْ مع المؤسِّس الإمام مالك سي إلى بوندو كانت تحت إمرة ثلاثة قُوَّاد، هم: تامْبي كانْتيه (حدَّاد)، وسيفي لايَا (قَوَّال griot)، وكيري كافُو (عبدٌ مملوك)(35).
-الارتفاع بقبائل (Futube) وقبائل (Guirobe): وهي من الفولْبي البدائيِّين، من حالة البدائيَّة والعيش في الكهوف والغابات إلى قبائل زراعيَّة مستقرَّة بعد إسلامها.
-إيقاظُ روح التَّحرُّر والتَّضامُن من أجل تحقيق الحريَّة للجميع: فحين ظهر أمرُ الإمام مالك سي، وهاجر إلى بُونْدو، توافَدتْ عليه أعدادٌ كبيرةٌ من القبائل والأفراد دون قَيد أو شرطٍ اللَّهُمَّ إلاَّ الإسلام، وقد كان بعضُ الأسياد – فيما بعدُ – يلتحقون به فيشترون العبيد ويُحرِّرونهم، وكانت روح التَّضامُن عاليَةً بين الطَّلبة الطُّروديِّين وبين مشايخهم، وبين أفراد الجماعة ككلٍّ؛ فنشطت المصاهراتُ بينهم دون اعتدادٍ بالقيود القَبَليَّة والتَّمايُزات الاجتماعيَّة السَّابقة، وهكذا «غدتْ مدينة بُونْدو ملاذاً آمناً لكلِّ من كان راغباً من أهالي منطقة مالي والسَّنغال في الانخراط في هويَّة ذات بُعدٍ دينيٍّ»(36).
وبعد؛ فإنَّ علاقة الطُّرودبي الحقيقيَّة بما نحن بصدده من مناقشة للأثر الإسلاميِّ في تشكيل هويَّات الأفراد والجماعات تكمنُ في تميُّز الطُّروديِّين تميُّزاً جعلهم أشبه بإثنيَّة من الإثنيَّات الحقيقيَّة ببلاد غرب إفريقيا، وغدا من المألوف أن ينتسب بعض النَّاس إلى الطُّرودْبي باعتباره إثنيَّة لهم، والحقيقة أنَّها ليست كذلك، وإنَّما هي – بتعبير بعض الباحثين – إثنيَّة «شبه فولْبي».
ملاحظات ختاميَّة:
لعلَّ قراءة ما تمَّ عرضُه في الفقرات السَّابقة من لقطاتٍ مُبتسرة؛ تُفضي بنا إلى رؤية واضحة عن أثر الإسلام الدِّيناميِّ في تشكيل هويَّات الشُّعوب المسلمة بإفريقيا، وتطويرها باستمرار كلَّما أوغَلَ أولئك في الدِّين الإسلاميِّ، وقد أفضى هذا التَّوغُّل ببعض القبائل – مثل المادينغ والفولْبي والهوسا – إلى التَّماهي في الإسلام، وتشابُك الخيوط المكوِّنة لهويَّتها في النَّسيج الإسلاميِّ لدرجة صعوبة الفصل بين ما هو إسلاميٌّ وبين ما هو غير إسلاميٍّ من مقوِّمات هويَّات تلك القبائل.
هذا – على الأقلِّ – في نظرة تلك القبائل المسلمة إلى أنفسها بوصفها مسلمة جملةً وتفصيلاً، وفي نظرة الآخرين إليها بهذا المنظار أيضاً، ومعلومٌ أنَّ نظرة «الآخر» هي الوجه الآخر للعملة في تحديد الهويَّة، ويتجلَّى هذا الرأي – مثلاً – في مناقشات الباحثين لمفهوم إثنيَّة الهوسا.. وموطن الخلاف: تُرى أتُعدُّ الهوسا إثنيَّة عرقيَّة أو لا؟ وفي ذلك ذهب الباحث بادينْ إلى ردِّ القول بوجود إثنيَّة للهوسا بالمعنى العلمي لهذا المصلطح، وحُجَّتُه أنَّ ما كان يُعرف بهذا المفهوم قد أصبح غير واقعيٍّ؛ إذ قد غدا «الهوسا» منذ عهدٍ بعيدٍ انتماءً أكثر منه عرقاً ونسباً، «فبالرَّغبة يمكن للفرد أن يتحدَّث لغة الهوسا، وأن يُسلم، ثم يدَّعي أنَّه هوسا»، وبمثل هذا الرَّأي صرَّح المؤرِّخ هيسكتْ مؤكِّداً أنَّ الأعراق المختلفة التي تتألَّف منها الهوسا، لا يجمعها إلا «اللُّغة والانتماء إلى الإسلام»(37).
هذا، وممَّا يُستطرف الإشارة إليه هنا أنَّ أسماء قبائلَ، مثل: المادينغ / جُولا، والفولبي، والهوسا، والولوف.. القبائل المتوغِّلة في الإسلام، قد أصبحت مرادفاً للإسلام، فإذا أسلم بعض الأفراد – مثلاً – من قبائل غْبينْ (gbin) أو سينوفو (Senoufo) شماليَّ ساحل العاج؛ قيل عنه إنَّه «أصبح جولا» (a kera jula ye)(38)، وفي نيجيريا يُقال للمسلمين الجُدد من اليُوربا والإيبو (ya zama bahaushe) أي: أصبح هوساويّاً.
ومعلوم أنَّ تلك الظَّاهرة عامَّةٌ على امتداد رقعة الإسلام في إفريقيا وفي آسيا، ففي الصِّين، حتى في أواسط القرن الماضي (1950م) كان يُطلق على الإسلام (hui-jiao) أي دين قوميَّة هُوِي (Hui)، ويُطلَق على كلِّ مَن يُسلم (Huijiao tu) أي إنسان من الهوي بصرف النَّظر عن أصله(39)، كذلك كان يُقال في الملايويَّة الدَّارجة لمن أسلم (masuk melayu) أي: دخل الملايويَّة(40).
ومهما يكن من تحفُّظٍ على هذه الظَّاهرة؛ فإنَّ ما يثير انتباهنا فيها دلالتُها على قوَّة الأثر الإسلامي في هويَّة الذين يُختزَل الإسلام فيهم، ويترادف اسمُهم باسم الإسلام.
هنا – خصوصاً – تدحضُ مزاعمُ بعض الباحثين الذين ذهبوا إلى أنَّ الهويَّة الإسلاميَّة بإفريقيا تتحدَّدُ بمقابل ثلاثة أبعادٍ متوازية هي: إفريقيا غير المسلمة، والعالم العربيُّ، والحضارة الغربيَّة(41)، بمعنى أنَّ هويَّة المسلم الإفريقي تتجلَّى باختلافها عمَّا ذُكر من التَّقسيمات الثَّلاثة السَّابقة، وتلك معادلة مغلوطةٌ فاسدةٌ؛ لوجود محدِّد «العالم العربيِّ» فيها، فعلى أقلِّ تقدير، لا يمكنُ الخوضُ في البحث عن هويَّة إسلاميَّة بإفريقيا في معزلٍ عن العالَم العربيِّ. وبتعبير آخر: لا يمكنُ تحديدُ هويَّة المسلم الإفريقي إلاَّ بإضافتها إلى العالَم العربيِّ؛ للعلاقة العضويَّة المعروفة بين هذه المتغيِّرات.
وحرصاً على أن يكون لما تقدَّم ذكرُه حظٌّ من الواقعيَّة؛ فلا بدَّ من التَّأكيد على ضرورة توظيف هذه العلاقة العضويَّة بين الإسلام وهويَّات مسلمي إفريقيا؛ في سبيل توطيد الرَّوابط البينيَّة بينهم وبين العرب من جانبٍ، وبينهم وبين الشُّعوب المسلمة، توظيفاً يُستَثمَر ويُستغلُّ في دعم القضايا المشتركة، وتعبئة القوى، وانتزاع الحقوق التي لم تعُد تُمنح إلاَّ في ظلِّ التَّكتُّلات والتَّلاحُمات الكبرى.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ القوى المناوئة للإسلام قد سبقت إلى محاولة فَصْم عُرى الإخاء والتَّضامُن، وتقارُب الهويَّات بين الشُّعوب المسلمة؛ فعمدت إلى سياسة التَّجزيء والتَّقسيم، فظهرت من لدُنهم مسمَّيات من مثل: «إفريقيا العَرَبيَّة»، أو «إفريقيا شمال الصَّحراء»، وغيرها(42).
ومن مصطلحاتهم الرَّائجة مصطلح (l’Islame noire)، أي «الإسلام الأسوَد»، ظهر على أيدي العلماء الفرنسيِّين المستعمرين من علماء الأعراق والسلالات (Ethnologistes) أمثال: كلوزيل (Klozel)، وبونتي (W. Ponty)، وألفونس غويي (A. Gouilly)، وقد أطلقوا هذا المصطلح بمقابل (l’Islame Maghrébine / Arabe)، أي «الإسلام المغربي / العربيِّ»، ومضمونه أنَّ الإسلام في إفريقيا يختلف (أو ينبغي أن يختلف) عمَّا هو عليه في بلاد العرب.
وقد توَّج أولئك تلك الدَّعوات بالتَّحذير من التَّقارُب الإفريقي- العربي، وأفاض المبعوث الفرنسي إلى بلاد السُّودان الغربيِّ آنذاك ويليام بونتي في التَّحذير ممَّا أسماه «التَّأثير المغربي» (influence maghrebine) في إفريقيا الغربيَّة (الفرنسيَّة).
وقد أكَّد الحاكمُ الفرنسيُّ لويس. ف (L. Faidherbe) في بلاد السُّودان الغربي على هذه الرَّغبة الاستعماريَّة في إحداث القطيعة بين بلاد المغرب وبين شعوب إفريقيا المسلمة في خطاب له أمام دفعة من طلبة المستعمرات الفرنسيَّة (عام 1860م)، قال: «يا شعبَ السِّنغال، إنَّ معظمكم قد ورث ديانة العرب عن آبائكم، ونحن لا نعارض ذلك، وإنْ كنَّا نأسفُ له من أجل مصلحتكم أنتم، وعلى الرُّغم من ذلك، فإنَّكم لستُم ملزمين بتاتاً باتِّباع العرَب في عاداتهم وتقاليدهم وفي قِيَمهم، وفي جهالاتهم، فلا تذهبوا عند المُورْ (!) بحثاً عن مُثُلكم ونماذجكم الفكريَّة، بل تجدونها عندنا، نحن المحبِّين للسَّلام والنِّظام»(43)!!
بناءً على هذه الرُّؤية الإمبرياليَّة؛ فإنَّ فرنسا، وسائر المستعمرين، قد خاضُوا صراعاتٍ وحروباً طاحنة في إفريقيا وغيرها من أجل فرض تلك «المُثُل والنَّماذج» – التي ذكرها الحاكمُ فيديرب – على الشُّعوب المسلمة.
ولعلَّ أمضى سلاحٍ بأيدينا اليوم هو العمل الدَّؤوب في تعزيز علاقة الشُّعوب المسلمة بدينها، وردم الخنادق التي أحدثتها مشروعات التَّضليل لتشويه الصُّوَر بينهم وبين إخوانهم تحت كلِّ سماء؛ تحقيقاً لروح آية التَّعارف المذكورة في صدر هذا المقال.
الاحالات والهوامش:
(1) العاني، خليل نوري مسيهر: الهوية الإسلامية في زمن العولمة الثقافية، (العراق: مركز البحوث والدراسات الإسلامية، سلسلة الدراسات الإسلامية المعاصرة، رقم 58، 1430هـ / 2009م)، ص 45.
(2) البكري: المسالك والممالك، ص 1457.
(3) البزركانيُّون: هم سكان (كَوْكَو) عاصمة مملكة مالي القديمة، ذكرهم البكري في “المسالك والممالك”، وذكر أنَّ تسميتهم بالبزركان جاءت من قبَل العرب.. قال: “والعرب تسمي أهلها (أي أهل كَوكو) البزركانيِّين”، ومن حيث دلالة الاسم يذهب بعض الباحثين إلى أنها كلمة فارسية (بزرقان) معناها (تاجر) وهو تفسير غير مستبعد؛ لأن العرب التجار من شرقي بلاد العرب في العراق وفارق كانوا قد توغلوا إلى منطقة السودان الغربي منذ فترة مبكرة، وموقع كوكو الآن هو منحى نهر النيجر في الجنوب الشرقي لجمهورية مالي الحالية.
(4) البكري: المسالك والممالك، ص 1478.
(5) الفرويون: كانوا قريباً من كوكو على إمتداد مجرى نهر النيجر نحو المحيط الأطلسي، وحسب وصف البكري فإنَّهم كانوا يقطنون منطقة الجنوب الغربي من مالي الحالية؛ لأنَّه قد ذكر أنهم كانوا يقطنون قريباً من منجم الذهب بامْبوكْ، وهي واقعة على مشارف المحيط الأطلسي غربًا.
(6) البكري: المسالك والممالك، ص 1454.
(7) William Y. Adams, Ethnohistory and Islamic Tradition in Africa, vo.16. No 4, (1969), p 277 – 288.
(8) نزهة المشتاق، الإقليم الأول، الجزء الثاني، وقد علَّق ابن خلدون على هذه المعلومة قائلاً: «ولم نقفْ على نَسَب صالح هذا من خبَرٍ يُعوَّل عليه»، وفي موضعٍ آخر قال: «ولم يقعْ لنا في تحقيق هذا الخبَر أكثرُ منْ هذا، وصالح من بني حسن مجهولٌ، وأهلُ غانة مُنكرون أن يكون عليهم مُلكٌ لأحدٍ غير صُوصو»، تاريخ ابن خلدون، ضبط الأستاذ خليل شحادة، ومراجعة سهيل زكار، (لبنان: دار الفكر، 2009م)، (5 / 495).
(9) العمري، شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: حمزة أحمد عباس، (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1423هـ / 2002م)، (4 / 97).
(10) John W. Johnson, The Epic of Son Jara, (Indiana University Press, 1992), p 103.
(11) J. D. Fage, The Cambridge History of Africa from 1600 – 1790, (Cambridge University Press, 1975), p 106.
(12) Roberts, Jeremy, African Mythology A to Z (Infobase Publishing, 2nd Ed. 2010), p 69.
(13) Conrad, David, Status and identity in West Africa: Nyamakalaw of Mande, (Indiana Univ. Press, Indiana, 1995), p 95.
)[14] (W. K. R., Hallam, The Bayajida Legend in Hausa folklore”, The journal of African History, Vol. 7, No 1, (1966), p 47 – 60.
(15) Phillips Stevens, “The Kisra Legend and the distortion of Historical Tradition”, Journal of African History, Vol, 16, No 2, (1975), pp 185 – 200.
)[16]( See: Thomas A. Hale, Griots and Griottes: Masters of Word and Music, (Indiana University, Press, 1998), p 66.
)[17) Ibid.
(18) Using J. Sauvaget, “Les Epitaphes royales de Gao”, BIFAN, 13 (1951), p 418 – 440.
(19) Amar Samb, “Reflexions sur les Croyances Wolof a travers les expressions linguistiques”, Notes Africaines, No 143, Dakar, 1974.
(20) Louis-Jean Calvet, La Tradition Orale, (Paris : Presses Universitaires, 1977), p 82.
(21) ولدى قبائل دُغون (Dogon) في مالي يُطلق (Yene و Yetime) على الأنثى الأولى والثَّانية على التَّوالي، أما الذَّكر الأوَّل والثَّاني فيُطلق عليهما (Baji و Atime)، كما أنَّ لدى كلِّ قبيلة أسماء جاهزة للتَّوائم حسب اتِّحاد جنسهما أو اختلافه، ويُحدَّد اسم الوليد الذي يتبع التَّوأم، فيُطلق مثلاً لدى المالنكي على المولود الأنثى التي تتبع توأمَين اسم «سايو» (Sayon)، كذلك قبائل الأشانْتي؛ إذ ترد لديها الأنظمة نفسها في تسمية المولود على حسب اليوم الذي وُلِد فيه، أو الظَّرف الذي تزامن ومولِدَه، أو على حسب ترتيبه في الأسرة، أو غير ذلك، انظر:
Asante, Molefi Kete, The Afrocentric Idea, (Philadelphia: Temple UP, 1987), p 75.
(22) Maurice. Houis, Anthropologie Linguistique de l’Afrique Noire, (Paris : PUF, 1971), p 57.
(23) The Muslim World, “The Place of Islamic Law in Sierra Leone”, Vol. LXXXIV, No. 3 – 4, 1994, p 311.
(24) تذكر المصادر التاريخيَّة أن هذا العالِم، لدى عودته من الحج، حمل معه تراباً من المدينة المنورة، ونثره في أرجاء هذه المدينة، ثم أطلق عليها هذا الاسم، انظر:
Gouilly, Alphonse. L`Islam en Afrique Occidentale Française, p 209.
(25) الفولبي (مفرده: بولا / فولا)، وهي التسمية التي تطلقها الفولاني على نفسها، و (فلفلدي) على لغتها، ويطلق عليهم الهوسا (فولاني)، وقبائل الكانوري تسمّيهم (فلاتة).
)[26] (Oppong, Yaa, P.A. Moving Through and passing on: Fulani mobility, survival, and identity in Ghana, (Transaction Publishers, 2002), p 36.
(27) حدَّد الباحث دوبير مقومات البولاكو مثلاً، فأضاف إلى القيم المذكورة أعلاه: (cuusal) أي الشجاعة، وهذا بين الفولاني الرُّعاة الرُّحل. وزادت الباحثة VerEecke بالإضافة إلى القيم المذكورة قيمة (ndimaaku) أي الحرية، و (endam) الكرم، و (caahu) الطيبة، و (ngaynaaku) أي رعي البقر.
(28) Ogawa, 1993, p 119.
(29) Victor Azarya, Pastoralists under pressure? Fulbe societies confronting change in West Africa, (BRILL, 1999), p 9.
(30) Moving through and passing on, p 37.
(31) Emmanuel Chukwudi Eze, African Philosophy: an Anthology, (Wiley-Blackwell, 1998), p 127.
(32) Willis, John Ralph, Studies in West African Islamic History, (Routledge, 1979), p 21.
(33) Ibid, p 26.
(34) يذهب بعض الباحثين إلى اعتبار إمبراطوريَّة صونغاي أوَّل حكم إسلاميٍّ نموذجي في بلاد السُّودان، لكنَّ الفرق بين صونغاي وبين خلافة الإماميَّة يكمن في العُمق، ونضج الخبرة، وكان الحكم الإسلاميِّ في صونغاي جزئيّاً مؤقَّتاً، تحدَّد بفترة حكم الأساكي في العهد الأخير من عمر الإمبراطوريَّة.
(35) Tambe Kante, Sevi Laya, and Keri Kafo.
(36) Willis, John Ralph, Op. Cit, p 26.
(37) Douglas Anthony. “Islam does not belong to them: Ethnic and Religious Identity among Male Igbo.
Converts in Hausaland”, Journal of International Institute, vol. 70, No.3 (2000), p 425.
(38) Conrad, David, Status and Identity in West Africa: Nyamakalaw of Mande, (Indiana University Press, 1995), p 156.
(39) Dru C, Gladney, Muslim Chinese: ethnic Nationalism in the People’s Republic, (Harvard University Asia Center, 1996), p 97.
(40) Bayly, Allan Christopher, Forgotten Wars: Fredom and Revolution in Southeast Asia, (Harvard University Press, 2007), p 366.
(41) Encyclopedia Universalis: Islam Histoire le Monde Musulman Contemporain. www.universalis.fr/ accessed on 31/07/2011.
(42) كان الباحثون الألمان أول المعترضين على تلك الإطلاقات، ومن أوائلهم الباحث يان هاينز Jan Janheinz الذي أكَّد أنَّ الصحراء الكبرى التي تُعدُّ محكاًّ لتقسيم القارة إلى جزأين منفصلَين جغرافيّاً وثقافيّاً، لم تكن فاصلاً بمعناه العلمي، فتضاريس الصحراء – مثلاً – لم تكن عائقاً أمام قوافل السفر والترحال عبرها؛ لهذا توالت الهجرات، وقوافل التجارة، والتَّبادلات الثقافيَّة بين حواضر الشمال والجنوب وممالكهما على امتداد القرون السَّابقة للتَّغلغل الاستعماري في القارة.
(43) Jean de la Gueriviere, “Les multiples visages de l’Islam noir”, Geopolitique Africaine, No 5, (2002).