مصطفى شفيق علام
شهدت الأيام القليلة الماضية عدة اتفاقيات دولية تمكنت إثيوبيا بموجبها من الحصول على حصص معتبرة بعددٍ من الموانئ الحيوية بشرق إفريقيا، في إطار استراتيجية إثيوبية، تبدو طَمُوحَة ومدروسة بعنايةٍ، للخروج من لعنة الدولة الحبيسة التي أصابتها منذ تسعينيات القرن الماضي باستقلال إريتريا الواقعة على ساحل البحر الأحمر عن أديس أبابا؛ الأمر الذي حرم الأخيرة من سواحلها البحرية، وحوَّلها إلى دولة داخلية ترتهن تجارتها الخارجية بعلاقاتها غير المستقرة مع دول الجوار.
الصومال وجيبوتي ثم السودان: تنويع الموانئ الاستراتيجية
في 3 مايو 2018م، كشفت إثيوبيا عن توصُّلها إلى اتفاق مع السودان، يسمح لها بالاستحواذ على حصة في ميناء بورسودان؛ أكبر منفذ بحري للسودان على البحر الأحمر؛ حيث أشار مسؤولون إثيوبيون أن هذا الاتفاق تم التوصل إليه في الخرطوم أثناء اجتماع بين رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد؛ أبي أحمد، والرئيس السوداني عمر البشير؛ حيث اتفق الجانبان أن يقوما بتطوير الميناء الحيوي، على أن تكون لإثيوبيا حصة فيه، من غير أن يذكرا أي تفاصيل عن حجم الصفقة.
وكانت إثيوبيا قد أعلنت مطلع مايو 2018م، أنها ستستحوذ على حصة في ميناء جيبوتي، منفذها الرئيس للتجارة الدولية، بموجب اتفاق تم التوصل إليه بين البلدين، مستفيدة في ذلك من سعي جيبوتي لجذب المستثمرين إلى مينائها الاستراتيجي عقب إنهائها عقد امتياز موانئ دبي العالمية، في وقت سابق من العام الجاري.
ويتضمن الاتفاق بين إثيوبيا وجيبوتي تطويرًا مشتركًا للميناء، في مقابل، استحواذ جيبوتي على حصص في شركات إثيوبية كبرى مملوكة للدولة، من بينها شركة الكهرباء الإثيوبية، وشركة إثيوتليكوم للاتصالات.
وكانت موانئ دبي العالمية قد وقَّعت في مارس 2018م، اتفاقًا مع حكومة أرض الصومال وحكومة إثيوبيا، بموجبه تصبح إثيوبيا شريكًا استراتيجيًّا في ميناء بربرة بأرض الصومال، بنسبة 19%، إضافة إلى استثمارها في البنى التحتية اللازمة لتطوير ممر بربرة بصفتها بوابة تجارية إلى إثيوبيا.
الممرات الاستراتيجية: طموحات الريادة في شرق إفريقيا
تأتي تحركات إثيوبيا لتأمين ممرات لوجيستية إضافية لتعظيم تجارتها الخارجية، في الوقت الذي تشهد فيه أديس أبابا نموًّا اقتصاديًّا هو الأعلى في إفريقيا، وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، بمعدلات تجاوزت الـ8% سنويًّا، خلال العامين 2016، 2017م، في دولة هي الأكبر إفريقيًّا من حيث عدد السكان بعد نيجيريا.
وتسعى إثيوبيا كذلك لأن لتصبح مركزًا اقتصاديًّا بمنطقة شرق القارة الإفريقية بفضل التوسُّع في الطرق الدولية والسكك الحديدية التي تصلها مع دول الجوار، ففي فبراير 2018م، افتتحت إثيوبيا أول خط دولي للسكك الحديدية في إفريقيا يعمل بالكهرباء فقط، يربط بين أديس أبابا وميناء جيبوتي، بطول 750 كيلو مترًا، بتكلفة بلغت 3.4 مليار دولار أمريكي، تم إنجازه بمساعدة وتمويل صيني.
وتأمل إثيوبيا أن تنجز شبكة عملاقة من السكك الحديدية، بطول 5000 كيلو متر، تربطها بكل من كينيا والسودان وجنوب السودان، بحلول العام 2020م، ضمن استراتيجية أديس أبابا الطموحة لتحويل البلاد إلى دولة متوسطة الدخل بحلول العام 2025م.
الانفتاح الاستثماري: تنويع الشراكات الاقتصادية
النشاط الإثيوبي في فتح الممرات الاستراتيجية من خلال التوسُّع في الاستحواذ على حصص كبيرة في الموانئ المهمة بشرق إفريقيا، من جهة، وتدشين شبكة ممتدة من السكك الحديدية مع دول الجوار، بما يكسر حاجز عزلتها البحرية، من جهة أخرى، يأتي في سياق استراتيجية إثيوبية واعية لكسب وُدّ شركاء اقتصاديين كبار؛ إقليميين ودوليين، بعيدًا عن سياقات الأدلجة والمحاور السياسية المتعارضة التي تعاني منها فعاليات دولية رئيسة بمنطقة الشرق الأوسط.
إقليميًّا؛ نجحت إثيوبيا في نَسْج خيوط سياستها الخارجية مع تركيا من منظور استراتيجية “الدبلوماسية الاقتصادية” التي تُعَدُّ المحرك الأبرز لحركة السياسة الإثيوبية مع دول الشرق الأوسط؛ حيث تُعَدُّ الاستثمارات التركية في إثيوبيا الأكبر في دول جنوب الصحراء، بنحو 2.5 مليار دولار، وفقًا لتقديرات العام 2015م، ما جعل أديس أبابا رابع أكبر شركاء أنقرة في إفريقيا.
كما نجحت أديس أبابا في الوقت ذاته أن تجعل المملكة العربية السعودية أكثر الدول الخليجية انفتاحًا على إثيوبيا لدعم جهودها التنموية؛ حيث تُعَدُّ المملكة ثاني أكبر مستثمر في السوق الإثيوبية، بإجمالي استثمارات بلغت نحو 3 مليارات دولار أمريكي، وفقًا لتقديرات العام 2015م، غالبيتها في قطاعات الزراعة والإنتاج الحيواني، بإجمالي ٢٩٤ مشروعًا زراعيًّا، تبلغ قيمتها الاستثمارية نحو 5.2 مليار دولار، وفقًا لتقديرات العام 2017م.
آسيويًّا، جمعت إثيوبيا بين العملاقين اللدودين؛ الصين والهند؛ إذ عززت من الشراكات الاقتصادية والاستثمارية مع كلا البلدين، من غير أن تتأثر بالتنافس الكبير بينهما؛ أو تدخل في دائرة الانحياز إلى أيّ منهما على حساب الأخرى، سياسيًّا.
ومن ثَمَّ أضحت الصين أكبر شريك استثماري لإثيوبيا؛ حيث تعمل في أديس أبابا أكثر من 500 شركة صينية، تفوق إجمالي استثماراتها 1,5 مليار دولار أمريكي، كما استفادت إثيوبيا من التكنولوجيا الصينية، في بناء أسرع شبكة اتصالات من الجيل الرابع فى العاصمة أديس أبابا، بالإضافة إلى تدشين البنية اللازمة لخدمات اتصالات الجيل الثالث على نطاق الدولة الإثيوبية.
أما الهند فقد بلغ عدد مشاريعها الاستثمارية في إثيوبيا 365 مشروعًا، برأسمال قدره 2.17 مليار دولار أمريكي، خلال الفترة ما بين عام 1992 و2012م، شملت قطاعات التجارة، والصناعة، والتعليم، والفنادق، والسياحة، كما تستثمر الشركات الهندية في 180 مشروعًا في إثيوبيا، بشراكة تصل إلى 8.8 مليار دولار؛ حيث خلقت هذه المشروعات الاستثمارية، نحو 33 ألف فرصة عمل دائمة، و237 ألف فرصة عمل غير دائمة للمواطنين الإثيوبيين.
وعلى صعيد العلاقات الاستثمارية الإثيوبية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنَّ نحو 470 من الشركات الأمريكية تستثمر في إثيوبيا، برأسمال يصل إلى 1.5 مليار دولار أمريكي، تنشط في قطاعات الزراعة، والفنادق، والسياحة، والصحة، والبناء، والتصنيع، والطاقة، والمنسوجات، ويعمل بها نحو 100 ألف مواطن إثيوبي؛ حيث تتسم الاستثمارات الأمريكية عن مختلف الاستثمارات الأجنبية في إثيوبيا، بتركيزها على المجالات التقنية، ما يتيح نقل وتوطين المعرفة والتكنولوجيا في البلاد.
كل هذه الشراكات الاقتصادية والاستثمارية الواعدة لإثيوبيا، مع قوى دولية كبرى، عززت من توجهات أديس أبابا لتوفير البنية اللوجيستية اللازمة لتعميق تلك الشراكات والاستفادة منها بالشكل الأمثل؛ من خلال التوسُّع في مجالي الاستحواذ على الموانئ، وبناء شبكة السكك الحديدية؛ الداخلية، والخارجية مع دول الجوار، بما يؤسِّس لانطلاقة إثيوبية نحو الريادة الاقتصادية في منطقة شرق القارة الإفريقية.
الحكومة الإثيوبية الجديدة: احتواء دول الجوار
ولتحقيق استراتيجيتها التنموية الكلية، سعت حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد؛ أبي أحمد، بالعمل مبكرًا على احتواء مشاكلها التقليدية مع دول الجوار، من خلال بوابة الشراكات الاقتصادية، والتكامل الاقتصادي الإقليمي، وتعزيز حضور أديس أبابا في قوات حفظ السلام الأممية، في العديد من الدول الإفريقية، وخاصة في جنوب السودان، والصومال، ومنطقتي أبيي ودارفور بالسودان.
فقد بدا “أحمد” عقب توليه السلطة أكثر انفتاحًا على خيار العلاقة السلمية مع إرتيريا، على الرغم الخلافات التاريخية بين البلدين، التي ليس أقلها خلافات ترسيم الحدود، وتعزيز الشراكة الاقتصادية مع جارتيه؛ جيبوتي والصومال، من خلال “استراتيجية الموانئ” اللوجستية سالفة البيان، كما أكد رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد حرص بلاده على تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع السودان في كافة المجالات بما فيه مصلحة البلدين والشعبين الجارين.
وهو بهذا الأمر يسعى إلى كسب وُدّ السودان كشريك مهم في معضلة الخلافات المصرية الإثيوبية المتعلقة بسدّ النهضة، الذي تدير أديس أبابا ملفه بدبلوماسية واعية وناجحة، بشكل كبير، وحتى على هذا الصعيد لم يشأ أبو أحمد أن يستهل ولايته بتصعيد الموقف مع مصر بهذا الخصوص، مكتفيًا بتأكيده على أن سدّ النهضة هو “الموحّد للشعوب الإثيوبية”، باعتباره أحد آليات الاندماج الوطني بين القوميات والعرقيات الإثيوبية المختلفة.
ويأتي الخطاب الرسمي للحكومة الجديدة في أديس أبابا استمرارًا للخطاب الإثيوبي لاستقطاب الجوار الإقليمي في إطار اقتصادي تكاملي يعود بالنفع على الجميع؛ من خلال تأكيدها على أن سد النهضة كأكبر سد مستقبلي في القارة الإفريقية سيكون إطارًا شاملاً لعملية التكامل الإقليمي القوي في شرقي القارة الإفريقية، انطلاقًا من كونه سيصبح أكبر مُنْتِج للطاقة الكهرومائية في دول شرق إفريقيا، بما يُعزِّز من تطلعات التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة الشاملة ويُمَهِّد لاستدامة الازدهار والسلام والأمن في المنطقة.
وإلى جانب الاعتبارات التجارية واللوجستية والخدماتية التي توفِّرها شبكة الموانئ والسكك الحديدية الإثيوبية الجديدة، فإن التحركات الجديدة لأديس أبابا تسعى إلى الاستفادة من التكامل الإقليمي مع دول الجوار عبر بوابة الشراكة التجارية والاقتصادية لتعظيم حضور منطقة شرق إفريقيا كوجهة سياحية واعدة، بالنظر إلى تنوعها الجغرافي والثقافي والديني والتاريخي.
التحركات الإثيوبية السابقة للريادة الإقليمية، تأتي في إطار الاهتمام الدولي المتزايد بالحضور الفاعل في منطقة شرق إفريقيا؛ من خلال الشراكات الاقتصادية من جهة، والحضور العسكري التنافسي المتمثل في استراتيجية القواعد العسكرية، بشرقي القارة، بين دول أوروبية وآسيوية كبرى، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من جهة أخرى، كلُّ ذلك يعزِّز من دور إثيوبيا كرقم صعب في أيّ ترتيبات دولية مُزْمَعَة على مستوى هذا الإقليم الحيوي الاستراتيجي من القارة السمراء.