مصطفى شفيق علام (*)
جاءت اتهامات، وجَّهتها مؤخرًا، منظمات حقوقية؛ دولية ومحلية، للسلطات النيجيرية بتغذية الفساد في البلاد عبر بوابة “الصناديق الأمنية” الخاصة، لتُعِيد قضية الفساد إلى الواجهة مجددًا في كبرى البلدان الإفريقية، بما يمكن معه الربط بين إشكاليتي الفساد وتفشّي الإرهاب وغياب الأمن في هذا البلد الذي تنشط فيه واحدة من أكثر التنظيمات الإرهابية راديكالية في القارة السمراء؛ وهي منظمة بوكو حرام.
ففي 28 مايو 2018م، صدر تقرير مفصَّل بعنوان “المال المموّه: كيف تغذّي الصناديق المخصصة للأمن الفساد في نيجيريا؟(1) ؛ عن منظمة الشفافية الدولية، ومركز الدفاع عن المجتمع المدني التشريعي، وهي منظمة حقوقية محلية في نيجيريا، يتهم السلطات النيجيرية بتضمين ملايين الدولارات المخصَّصة لمكافحة الإرهاب في البلاد داخل مجموعة من الصناديق الأمنية السرية لصالح مسؤولين؛ سياسيين وأمنيين، كبار، بما يمثِّل حلقة من حلقات الفساد التاريخي في نيجيريا.
فساد ممنهج: مؤشرات ومعطيات التقرير
ووفقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية فإن نيجيريا تخصص نحو 1.2 مليار دولار أمريكي سنويًّا للأغراض الأمنية ومكافحة الإرهاب الذي يضرب البلاد، يتسرب منها نحو 670 مليون دولار، بما يُمَثِّل نحو 66% من تلك المخصصات، إلى صناديق أمنية سِرِّية “يلفها الغموض الكامل” وفقًا لتعبير المنظمة الحقوقية الدولية المرموقة.
ويصف التقرير الدولي الصناديق المخصَّصة للأمن بأنها تمثِّل آليات تمويل أمني مبهمة، وتفتقر لمعايير الشفافية، وتكرس للفساد؛ حيث تستخدم على نطاق واسع من قِبَل مسؤولين نيجيريين؛ الفيدراليين وحكام الولايات ومسؤولي المحليات لأغراض سياسية وانتخابية، بالمخالفة للأغراض الأمنية التي خُصِّصَت بالأساس من أجلها.
هذه الأموال طبقًا للتقرير لا تخضع للرقابة التشريعية أو التدقيق المالي المستقل بسبب طبيعتها الحساسة “ظاهريًّا”.
ويذكر التقرير عددًا من المؤشرات الدلالية المقارنة للتأكيد على فداحة الهدر في مخصصات الدولة الأمنية عبر بوابة الفساد الرسمي، أبرزها، أن حجم مخصصات الصناديق الأمنية يتجاوز 70% من الميزانية السنوية لقوة الشرطة النيجيرية، كما يتجاوز الميزانية السنوية للقوات البرية النيجيرية، ويزيد عن الميزانية السنوية للبحرية النيجيرية والقوات الجوية مجتمعة.
كما تزيد تلك المخصَّصات بمقدار 12 مرة عن المساعدات البريطانية الموعود بها لمكافحة الإرهاب خلال الفترة من 2016-2020م، وتبلغ أكثر من 9 أضعاف المساعدات الأمريكية لنيجيريا منذ العام 2012م وحتى الآن.
عمليًّا، يؤكد تقرير الشفافية الدولية ومركز الدفاع عن المجتمع المدني التشريعي، أن مخصصات الصناديق الأمنية يتم توجيهها إلى أربعة مصارف رئيسة؛ أولها رسمي يوجّه إلى الجيش والشرطة والجهات الأمنية، لكنها غالبًا ما يتم اختلاسها أو حجبها لصالح أوجه إنفاق غير مشروعة.
وثانيها غير رسمي يوجه لصالح تعبئة واستدامة فاعلين أمنيين كالميليشيات وأطقم الحراسات ونحوها، وثالثها يوجّه لجهات سياسية، ويتم من خلالها تمويل شبكة المحسوبيات الحكومية وخزائن الحزب الحاكم، وتغطية الحملات الانتخابية، وشراء الأصوات، وتوظيف البلطجية، ورابعها يوجّه لصالح شخصيات نافذة من كبار السياسيين والقادة الأمنيين.
تأثير التقرير على الواقع النيجيري
تعتقد كاثرين ديكسون، من منظمة الشفافية الدولية، أنه يمكن إيجاد علاقة ارتباطية بين الفساد المستشري في نيجيريا وظاهرة تنامي الإرهاب وغياب الأمن؛ حيث تؤكد ديسكون على أن “الفساد في قطاع الدفاع والأمن الأساسي يعود بالفائدة على الذين يزرعون بذور عدم الاستقرار والرعب في نيجيريا”.
وفي هذا السياق فإن تقريرًا بهذا الحجم يؤكّد على عدة حقائق مهمة تتعلق بالواقع الأمني في نيجيريا بشكل رئيس، لعل أهمها؛ أن مشكلة نيجيريا الأمنية ليست مشكلة تمويلية؛ إذ تتوفر الأموال اللازمة لإدارة حرب ناجحة واحترافية على التنظيمات الإرهابية وجماعات العنف المسلح بشكل فعَّال، لكنها لا تذهب إلى مصرفها الطبيعي، ويتم توظيفها لصالح إطالة أمد العنف والإرهاب الذي أصبح بمثابة المصباح السحري الذي يُدِرُّ المساعدات الدولية؛ المالية والعينية، على البلاد.
كما يُبرِز التقرير أن الفساد الحاصل في الصناديق الأمنية المخصَّصة لمكافحة الإرهاب من شأنه أن يصيب المانحين الدوليين بالإحجام عن تقديم المزيد من المساعدات في سياق الاستراتيجية الغربية لمحاربة الإرهاب في معاقله الرئيسة وحواضنه البيئية، بالنظر إلى حالة عدم الثقة التي تولِّدها مثل هذه التقارير بين الدولة النيجيرية والجهات والدول المانحة والمساعدة.
وربما هذا ما يفسِّر احتلال نيجيريا للمرتبة الثالثة على قائمة أكثر الدول تأثرًا بالإرهاب، بعد العراق وأفغانستان، وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي GTI الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، في عام 2017م، بالتوازي مع تصنيف نيجيريا كواحدة من الدول عالية الفساد، باحتلالها المرتبة 148 عالميًّا من إجمالي 180 دولة شملها مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2017م؛ حيث حصلت على 27 نقطة فقط من إجمالي 100 نقطة للمؤشر.
وهذه الإشكالية تفسِّر أيضًا إدراج نيجيريا تحت تصنيف “دول التحذير على صعيد الأمن والاستقرار الداخلي”، وفقًا لمؤشر الدول الهشة FSI، الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي، لعام 2017م؛ حيث احتلت المرتبة الرابعة عشر من إجمالي 178 دولة على مستوى العالم، بإجمالي 99.9 درجة من 120 درجة على مقياس المؤشر، وهي مرتبة متدنية جدًّا؛ حيث تُعَدُّ الدول التي تقترب من الترتيب 178 هي الأكثر استقرارًا.
ففي الوقت الذي تتراجع فيه نيجيريا على غالبية المؤشرات التنموية والأمنية الدولية المعتمدة، بما لا يليق بمكانتها كأكبر مُنْتِج للنفط في القارة الإفريقية، فإنَّ الفساد في نيجيريا يتسم بالازدهار على مرّ العصور، وربما لا يتأثر بكون الحكومة عسكرية أم مدنية.
ووفقًا لمنظمة النزاهة المالية العالمية، فقد شهدت نيجيريا تحويلات مالية مشبوهة إلى الخارج تقدر بنحو 178 مليار دولار خلال الفترة من 2004 إلى 2013م، ما يعني أن خيرات هذا البلد الغني بالنفط والموارد الطبيعية يتم نهبها بطريقة مؤسسية ممنهجة لصالح الكبار في حين يعيش ملايين النيجيريين تحت وطأة الفقر والمجاعة.
ومن ثَمَّ فإن العلاقة الارتباطية بين الفساد وغياب الأمن في نيجيريا مرشَّحة لمزيد من التجذُّر، فالفساد؛ وخاصة المؤسسي منه، يُغَذِّي الإرهاب وغياب الأمن بشكل كبير، كما ينسج علاقات وثيقة بين النافذين الفاسدين في الدول وشبكات الجريمة المنظمة، والتنظيمات الإرهابية المحلية والعابرة للحدود.
وهذا ما تعانيه نيجيريا، التي يتقاطع فيها الفساد مع الخلافات العِرْقِيَّة والصراعات الدينية والإرهاب، في ظل تفاوت حادّ في الدخول والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، ما يزيد من حدّة التحديات الأمنية والتهديدات الإرهابية التي تجد في النسيج الاجتماعي الهشّ والمهترئ، بفعل سياقات الفساد، بيئة خصبة للنشاط والتغوُّل في البلاد.
فطِبْقًا لتقديرات المرصد الدولي للفساد، الذي يتخذ من كيب تاون بجنوب إفريقيا مقرًّا له، لعام 2017م، فإن غالبية بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، ومن بينها نيجيريا، قد فشلت في تعزيز جهود مكافحة الفساد وبناء مؤسسة قوية ذات طابع وطني لمكافحة الفاسدين.
وأخيرًا، فإنه على الرغم من أيّ وعود أو جهود حكومية للقضاء على الفساد، وإعادة الأمن في نيجيريا، فإنَّ تقرير الشفافية الدولية، سالف البيان، كشَف أن معضلة الفساد ستبقى، إلى حين، هي التحدّي الأكبر الذي يُعَرْقِل أيّ استراتيجيات لاستدامة التنمية، وتوطين الأمن والاستقرار في الدولة الإفريقية الأكبر.
إنَّ توطين الأمن والاستقرار، واستدامة التنمية في نيجيريا، تتطلب بناء سياقات المجتمع النيجيري المستقر، ودعامته الأولى مناخ حقيقي للحكم الرشيد، الذي يكفل الحريات العامة، ويضمن الحقوق والواجبات المتساوية للمواطنين؛ دون إقصاء أو تهميش أو تمييز، ودعامته الثانية بناء مجتمع الرفاه الاجتماعي الذي تؤسِّسه دولة القانون والحريات، ما يجعل احتمالات الصراعات الداخلية في حدّها الأدنى.
وبدون هاتين الدعامتين، اللتين تمثلان خلاصة تجارب تاريخية لدول خرجت من إشكالية العنف الداخلي والفساد والإرهاب، بنجاح، ستبقى نيجيريا، إلى أجل غير مسمى، تدور في حلقة مفرّغة مآلها؛ ترسيخ الفساد، واستدامة الإرهاب، وتوطين الفقر.
فالفقر وغياب التنمية ربيب الفساد والإرهاب، والأخيران يغتذي كلٌّ منهما على الآخر، فإما يبقيان معًا أو يندحران معًا، والذي يدفع ثمن كل ذلك هو المواطن النيجيري الذي يطمح قطعًا إلى غد أفضل ومستقبل أكثر أمنًا وسلامة.
الإحالات والهوامش:
(*) كاتب وباحث مصري
(1)Matthew T. Page, CAMOUFLAGED CASH How Security Votes’ Fuel Corruption in Nigeria, Transparency International, Civil Society Legislative Advocacy Centre, May 2018.