أمير سعيد (*)
«إن فهم الصـين لاحتياجاتنا أفضـل من الفهـم البطـيء والمتغطرس في بعض الأحيان للمستثمرين الأوروبيين, والمنظمات المانحة, والمنظمات غير الحكومية»، «ليست إفريقيا وحدها هي التي يجب أن تتعلم من الصين ولكن الغرب أيضاً»(1).
ما قد باح به الرئيس السنغالي يعتمل بالتأكيد في عقول غيره من الزعماء الأفارقة، ويكتسي أهمية لافتة عندما يصدر عن زعيم منتخب لدولة عانت نير الاحتلال الفرنسي لمدة تزيد على ثلاثة قرون، وارتبطت بحبل سري لم يزل موصولاً إلى اليوم بالعديد من ملفات متشابكة مع باريس.
وما يرمقه ويدركه الخبراء في عواصم المال التي يتطلع ساستها إلى علاقة أكثر تميزاً مع القارة التي لم تستنزف جميع خيراتها بعد، والراصدون للمعطيات المتوافرة عن تقارير تلك العواصم, والتي تفيد بأن 8% من احتياطات النفط العالمية موجودة في باطن تلك القارة، والتي يتوقع أن تتجاوز سقف الـ 15% من إجمالي الإنتاج العالمي خلال الأعوام القليلة القادمة، أي سُبُع الإنتاج العالمي من النفط؛ يفهمون جيداً أن هذه الأرقام المتوافرة لا تعبّر عن الحقيقة ذاتها التي تدفع الاستثمارات، وأحياناً القوات، إلى قلب القارة السمراء.
وإذ أعلنت نتائج الانتخابات الرئاسـية الأمريكية في واشـنطن؛ اتجهـت أنظار الخـبراء الاقتصاديين تلقاء هذه القارة التي انحدر منها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وتحدثت التقارير عن الرئيس الأسـود الذي يرتبـط بعلاقات جذرية مع بلد آبائه الكينـيين، وأجـداده السودانيين، حيث السودان قد غدا مرتكز الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا، وبلد النزاع الدولي المكتوم حول دارفور وامتداداتها حتى الغرب الإفريقي.
إفاقة أمريكية – ربما – بعد سكرة أدارت فيها ظهرها لهذه القارة العريقة؛ بعدما أدركت أن اللاعبين الدوليين قد جدّوا السير إليها غير عابئين بالتريّث الأمريكي، مستفيدين من التردد الأنجلوساكسوني في الامتداد الاستراتيجي في أدغال إفريقيا.
الصين لم تنتظر كثيراً لتقرأ نتائج حروب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق، وكانت الأكثر ارتياحاً للتراجع النسبي لاهتمام الفرنسيين بمستعمراتها السابقة التي سرقت الولايات المتحدة الأمريكية منها بعضها؛ إثر سياسة رعناء اختطتها فرنسا خلال العقدين الماضيين.
الدول التقليدية لم تفق بعد من هول صدمتها، فالهنود والكوريون والماليزيون أيضاً على الطريق.
الفقراء تضرروا بالفعل من الأزمة المالية التي عصفت بالعالم، لكن كثيراً من القبائل الإفريقية في عمق الأدغال لا يتعاملون بالبورصة ولا تعنيهم انتكاساتها، وحيث تبوأت الدول «الاستعمارية» التقليدية والولايات المتحدة مكان التاجر الموشك على الإفلاس العائد إلى دفاتره القديمة رغبة في ضخ ما يمكن في خزائنه اتقاءً للإفلاس المحتوم؛ فإن إفريقيا مكتوبة أحرفها بشكل بارز في هذه الدفاتر لم تبرحها.. لا سيما أن كثيراً من البلدان العربية والإسلامية الأخرى قد استنزفت بما لا يحتمل أحياناً لمزيد، وبما يخلف صراعات أخرى قد تنشب في منطقة «الشرق الأوسط» المتخمة أصلاً بأكثر معدّلات الحروب في العالم خلال القرن الماضي.
وعندما لملمت بعض الدول الغربية أوراقها من إفريقيا كانت الصين ترسل خبراءها لتستطلع أوجه التعاون الاستثماري مع الأفارقة، ونجحت إلى حد كبير فيما أخفق فيه الآخرون.
وحالما كانت الاستراتيجية الفرنسية بحاجة للترقيع، والأمريكية معطلة نوعاً ما في إفريقيا، كانت بكين تضع لمساتها الأخيرة على استراتيجيتها الطموحة في إفريقيا.
الاستراتيجية الصينية في إفريقيا:
تعتمد الاستراتيجية الصينية في إفريقيا على عدة محاور:
أولاً: الإفادة من العولمة الاقتصادية:
لم تكن العولمة هي الأداة التي تمسك الولايات المتحدة الأمريكية بها وحدها للسيطرة على العالم اقتصادياً؛ فلقد أجادت الصين ذاتها في الإفادة بها حين حاكمت الغرب إلى آليات السوق وديناميكية الاستثمار؛ فمن حيث لم يرد الغرب فقد مكّن «الاختراع الغربي» الصين من الثبات في وجه محاولات إبعادها عن الاستثمار الهائل في إفريقيا، لا سيما في المجال النفطي.
الأمر ذاته وجده الغرب حياله فيما يتعلق بالهند وكوريا الجنوبية وماليزيا, وغيرها من الدول التي استقوت بوجودها الصين على الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
ثانياً: الابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية التي تقوم بالتعامل معها:
تنأى الصين عن التورط في الصراعات الداخلية, أو إزعاج القادة الأفارقة بطموحات سياسية لها في القارة، وتسعى إلى تقديم صورة مغايرة عن تلك التي يعرفها الزعماء الأفارقة جيداً عن الاقتصاد الأوروبي, والذي يهدف إلى ترجيح كفة بعض الموالين له على أقرانهم في الدول الإفريقية، ودمج الاقتصاد مع سياسة توسعية تمتص الموارد الإفريقية تحت ذرائع دولية مختلفة؛ تتعلق أحياناً بالإرهاب, أو بالإغاثة, أو تأمين المصالح الغربية؛ ما يتيح للدول الغربية التدخل في شؤون الدول الإفريقية إلى حد اعتبارها ضيعات خاصة.
ولذلك فالساسة الصينيون دائماً ما يرددون قولهم بأن الصين لا تخلط السياسة بالاقتصاد فـ «السياسة هي السياسة, والأعمال هي الأعمال (Business is business) (..), وهي تعطي مثلاً على ذلك من خلال وجودها في السودان، كما صرّح نائب وزير الخارجية الصيني زهو ونزهونغ صيف العام 2004م حول قضية دعمها الحكومة السودانية ضد قوات المتمردين: «الأعمال هي ما يهمنا، ونحن نحاول فصل الأعمال عن السياسة، وأعتقد أن الوضع الداخلي السوداني هو شأن داخلي، ونحن لسنا في موقف يتيح لنا أن نفرض مواقفنا على الحكومة»(2)، والظاهر لدى الحكومات الإفريقية أن الصين هي دولة اقتصادية بحتة, وهي بذلك لا تتناول القضايا السياسية الحساسة في العالم، ومنها إفريقيا التي تخلو أجندتها من الحديث عن صراعاتها ومشكلاتها السياسية, سواء أكانت الخارجية أو الداخلية.
ثالثاً: تقديم المساعدات غير المشروطة:
تقدم الصين ذاتها للحكومات الإفريقية على أنها البلد النظيف من الأطماع «الاستعمارية» التي تشوه تاريخ نظرائها من البلدان الأوروبية صاحبة السوابق الصراعية والاضطهادية للشعوب الإفريقية، لا سيما في عصور استباحة الرق في الغرب والجنوب الإفريقي، والعديد من المذابح التي مهدت الطريق للسيطرة الأوروبية على معظم بلدان القارة السمراء.
وما يشي بحجم الترحيب الإفريقي بالصين, والمرارة من الحقبة «الاستعمارية» الأوروبية؛ الرد الحاد الذي كاله السفير الزامبي في بكين ليوباندو مواب على الانتقادات الغربية للصين بالقول: «هذا محض نفاق ورياء! لا أحد يقول شيئاً عن الحضور الهائل للصين في الولايات المتحدة، لكن عندما يأتون لإفريقيا يقف كل الغرب مدججاً بالأسلحة. خلال أيام العبودية الغربية لم يقف أحد لتعويضنا عن نهب قارة كاملة!»(3).
وفي منتدى التعاون الصيني الإفريقي الذي يضم 46 دولة إفريقية من أصل 53 دولة هي كل دول القارة، والذي أعلن عنه من بكين عام 2000م، تم إسقاط ديون تبلغ نحو 1.2 مليار دولار من ديون دول القارة دون شروط مسبقة على الصعيد السياسي خصوصاً.
ولم يحدث أن رهنت الصين علاقاتها بالدول الإفريقية بتحقيق قدر ما من الديمقراطية, أو اشترطت معايير خاصة لحقوق الإنسان تتم بموجبها الإفادة من المنح الصينية، ومع أن الدول الإفريقية والعالم – ربما – برمته؛ يدرك أن الغرب لا يضع مثل هذه الشروط بغية تحقيقها, وإنما لفرض شروط أخرى تحت الطاولة، إلا أن زعماء القارة بدؤوا يميلون نحو بكين؛ لإدراكهم أن مثل هذه الشروط ليست على الأجندة الصينية المهتمة أكثر بعالم الأعمال والاستثمار، «وتكشف الإحصاءات الصينية عن أن بكين قدمت مساعدات بقيمة 107 ملايين دولار فقط لإفريقيا عام 1998م, ووصلت هذه المساعدات بحلول عام 2004م إلى 2.7 مليار دولار، ما يعادل 26% من إجمالي المساعدات الدولية الصينية، رغم أن دولة كاليابان لم تقدم لإفريقيا سوى مساعدات قيمتها 11 مليون دولار؛ الأمر الذي يضع الصين في مصاف الدول المانحة الكبرى للقارة»(4).
رابعاً: ملء الفراغ الاقتصادي الناشئ عن ابتعاد الدول الغربية مؤقتاً عن بعض الدول الإفريقية:
لعل هذه سياسة صينية لا تقتصر على القارة الإفريقية وحدها؛ إذ تعمل بكين على ملء الفراغات الناشئة عن مقاطعة الدول الغربية – لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية – لبعض الدول الرافضة للسياسات الأمريكية، والتي اصطلحت الولايات المتحدة في ولايتي بوش الابن على تسميتها بـ «الدول المارقة»، علاوة على دول أخرى لم تحمل هذا الاسم لكنها تعاني عقوبات أو شبه حصار من الولايات المتحدة الأمريكية، مثل السودان وإيران وكوريا الشمالية ومينمار وفنزويلا وأوزبكستان وكمبوديا وغيرها.
وفي القارة تحديداً تبرز السودان كإحدى الدول التي أفادت الصين كثيراً من الفراغ الذي أحدثته الولايات المتحدة الأمريكية؛ عندما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع السودان في العام 1997م، حيث أسرعت الصين في ملء هذا الفراغ الذي خلفته واشنطن بسرعة (لا سيما والزعيم السوداني د. حسن الترابي الذي كان يمارس دوراً رسمياً في الدولة حينئذ قد اندفع هو الآخر إلى الصين) بما سيجري تفصيله لاحقاً.
إلى ذلك؛ فإن الصين لم تجد في العلاقات التشادية التايوانية (العدو الأقرب للصين) حجر عثرة في سبيل تشجيع تشاد على قطع علاقتها تدريجياً مع تايوان؛ فشرعت قبل تسكين هذه العلاقة في مد الجسور الاقتصادية مع أنجامينا؛ بما أسهم في إيجاد موطئ قدم لها في بلاد جنوب الصحراء.
خامساً: انتهاج أسلوب الشراكة التنموية:
تبدي الصين حرصاً لافتاً على الشراكة التنموية مع الدول الإفريقية؛ بخلاف الدول الأوروبية التي حرصت عبر قرون على جعل إفريقيا مستودعاً للمواد الخام، ولم تقدم ما يمكنه أن ينهض بالقارة، والمثير لحفيظة الأوروبيين في هذا الصدد أن العلاقة بين الصين وإفريقيا الآن هي الأفضل بشكل كبير في مجال التنمية للقارة، وتفعيل الشراكة النفعية من كلا الجانبين، يقول السفير الزامبي في بكين ليوباندو مواب: «تعرض الصين قروضاً بشروط ميسرة جداً (..) على الأقل تعرف الصين ما نحن بحاجة إليه، ولا يضعون الكثير من الشروط مقابل قروضهم، ويبنون البنية التحتية التي نحن حقاً بحاجة إليها؛ فعشرات الآلاف من العمال الصينيين يعملون الآن في زامبيا, حيث يبنون الطرق وملعباً رياضياً ومدرستين».
وما يشاهد في زامبيا يتكرر في غيرها, ففي الكونغو وحدها سيعمل في السنوات المقبلة 40 ألف عامل صيني في مجال الطرق والسكك الحديدية(5)، وما الكونغو إلا عينة لما هو موجود بالفعل في السودان وأنجولا ونيجيريا، حيث الأرقام أكبر كثيراً، والبنى التحتية تشهد تطوراً لافتاً بالتعاون مع الشريك الصيني، يقول رئيس قسم الأبحاث في معهد بروكسل للدراسات الصينية المعاصرة جونثان هولسلاغ: «مقدار ما تنفقه الصين على المساعدة التنموية لا يزال طي الكتمان، أحد التقديرات يرفع المبلغ في حدود 5.5 مليارات يورو، بالإضافة إلى عشرة مليارات يورو أنفقت كقروض للدول الإفريقية»(6).
وببراجماتية واضحة تعرض بكين قيامها بتمويل مشروعات البنية التحتية التي توقف البنك الدولي ومعظم الجهات المانحة الثنائية عن تمويلها منذ عقود مضت, «وتشير الدراسات إلى أن الشركات الصينية تنفذ مشروعات البنية التحتية بتكلفة تعادل 25% من تكلفة الشركات الغربية؛ وهو ما دفع البنك الدولي ومؤسسات أخرى لتمويل مشروعات بناء الطرق من جديد؛ رغم مخاوف مسؤولي البنك من تعرض هذه الأموال للاختلاس»(7).
سادساً: مساندة الدول التي تمنح الصين أولية في التعامل في المحافل الدولية:
تعتبر بكين اليوم هي الدولة الأولى في إفريقيا من حيث الأعداد الموفدة لقوات حفظ سلام عاملة تحت راية الأمم المتحدة؛ متفوقة في ذلك على أي عضو آخر دائم بمجلس الأمن، وهذا لا يعني بالطبع وجود قواعد عسكرية دائمة للصين في إفريقيا؛ مثلما هو الحال بالنسبة لفرنسا مثلاً التي تضع لها قواعد رئيسية في ست دول إفريقية، ولا يجسد ذلك بالضرورة أطماعاً عسكرية صينية في إفريقيا بما ينسف الصورة التي تريد الصين أن تبدو بها في الصين؛ بيد أن ذلك في المقابل يشي بما يمكن أن يمثل حماية صينية لمصالحها المتزايدة في إفريقيا، ورغبة في تأمين حلفائها الأفارقة في ميدان السياسة الدولية, لا سيما إن كانوا من «الدول المارقة» وفقاً للتعريف الأمريكي.
والفيتو الصيني على القرارات الدولية فيما يخص حلفاء الصين, كما في الملفين النوويين في كوريا الشمالية وإيران دولياً، ومشكلة دارفور السودانية إفريقياً، كان حاضراً في أروقة الأمم المتحدة وإن لم يتم استخدامه بشكل علني، وحيث يبدو الخناق محكوماً على دول مثل السودان؛ فإن الصين تبادر إلى صدارة المندفعين نحو إرسال قوات لحفظ السلام فيه، وإذ شاركت الصين بقوات تصل إلى ثلاثة آلاف جندي في قوات أممية؛ كانت الدول الأولى بالرعاية الصينية هي الأكثر استقبالاً لتلك القوات, لا سيما السودان الحليف الأكثر أهـمية للصين في الشرق الإفريقي، وقد شاركت بكين أيضاً بقوات أخرى في ليبيريا والكونغو الديمقراطية ضمن أكثر من عشر عمليات لحفظ السلام في إفريقيا.
سابعاً: تسكين الخلاف مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية ذات النفوذ التقليدي في إفريقيا:
نجحت الصين لحد الآن في تقليل آثار اقتناصها لبعض مفردات النفوذ الأمريكي في القارة الإفريقية، لا سيما في بلدان رئيسية مثل السودان ونيجيريا وجنوب إفريقيا، وبرغم التعدي الظاهر للصين في هذا المجال؛ فإن كلا البلدين قد تمكنا من احتواء خلافاتهما وتغليب المصالح والمنافع الاقتصادية المتبادلة.
وقد سبق أن بلورت الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ضمن منتدى آسيا والباسيفيك (إيبيك) الذي يضم إلى جوارهما اليابان وكوريا الجنوبية والهند واستراليا، شراكة استراتيجية لتأمين احتياجات بلدان المنتدى من مصادر الطاقة، فيما عُرف بمبادرة «الشراكة من أجل تنمية نظيفة»، ما شجع بكين على استمرار سياستها تجاه الولايات المتحدة على الوتيرة ذاتها المتبعة منذ ربع قرن, والقائمة على التعاون والتنافس معاً، فما «حققته الصين من نجاحات على مستوى تعاملاتها الدولية – على الأقل من وجهة نظر قياداتها – هو الذي جعلها أشد تمسكاً بمبادئ سياستها الخارجية التي اتبعتها منذ المؤتمر الثاني عشر للحزب في عام 1982م, وتماشياً مع هذه المبادئ؛ أعاد هوجينتاو تأكيد فكرة سلفه جيانج زيمين، والتي أعلن فيها أن الصين لا تنوي أن تمارس سياسات الهيمنة على غيرها من الدول حتى لو أتيحت لها الظروف لذلك»(8).
وإذ تنأى الصين عن مصادمة الولايات المتحدة بشكل سافر في إفريقيا، والحال أيضاً بالنسبة للأخيرة؛ فإنهما يحافظان على حدود للخلافات الاقتصادية بينهما، على الرغم من أن الصين في كثير من الأحيان تهز هيبة الولايات المتحدة بإصرارها على مساندة دول كالسودان ضد الحصار الأمريكي عليها، لكنها على كل حال تُبقي تلك المساندة مغلفة بدبلوماسية متوازنة تعترف فيها للولايات المتحدة بقدر من النفوذ في تلك البلدان.
ثامناً: نشر الثقافة الصينية ونمط الاستثمار الصيني في إفريقيا:
تبسط الصين أرضية تاريخية للتعاون مع إفريقيا، ترتكن إلى أنها وإفريقيا تحملان تراثاً مفعماً بالقهر «الاستعماري» الذي مورس ضدهما، وكلاهما لا يريد تكرار تلك الفترة؛ فالصين قد عانت الاحتلال البريطاني (مثل بعض بلدان إفريقيا) ثم الياباني، وإفريقيا قد عانت منذ قرون الاحتلال البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي والبرتغالي والإسباني.
وتحاول الصين استثمار علاقاتها غير «الاستعمارية» – بحسب سـياستها المعلنة على الأقـل – في التسويق لنمط إدارة صينية في إفريقيا، أسلوب استثمار صيني يجعل إفريقيا دوماً بحاجة إلى خبراتها في هذا الخصوص، ويُعد صندوق تنمية الموارد البشرية الإفريقية الذي أنشأته، ويخرّج سنوياً نحو 4000 مهني إفريقي؛ إحدى ركائز هذه السياسة؛ إضافة إلى الاتفاقات المبرمة مع عشرات الجامعات الإفريقية لتبادل الخبرات.
كما أن بكين تحاول من خلال حركة السفر النشطة ما بين الصين وإفريقيا أن تستثمرها في الترويج للغتها الصينية الصعبة إلى حد كبير، والتي هي مع ذلك قد أضحت حلماً لكثير من الأفارقة لا سيما في القرن الإفريقي لتحقيق قدر من الثراء، وقد أقبل كثيرون بالفعل في السودان وأنجولا وزامبيا وكينيا على تعلم تلك اللغة، وبموازاة ذلك أطلق راديو الصين الدولي في العام 2006م محطة بكينيا تبث باللغات المحلية، وقد توجه العديد من الأفارقة للسفر إلى الصين لا سيما خلال المعارض التجارية, فيما بلغت أعداد الصينيين ببلدان الجنوب الإفريقي مئات الآلاف؛ ما أسهم في نشر الثقافات الصينية بين الأفارقة, لا سيما في جنوب إفريقيا وزامبيا.
نتائج السياسة الصينية في إفريقيا:
برغم أنه يصعب تحديد هذه النتائج بصفة نهائية لاعتبار أن الحراك الصيني لم يزل في بدايته، وأن الخبراء يتوقعون نمواً هائلاً للعلاقة الصينية / الإفريقية؛ فإنه من الممكن تحديد ملامح تلك السياسة في كونها قد تمكنت من تحقيق جملة من المكتسبات الاقتصادية, والحضور الدولي كقوة دولية قادرة على التأثير على بعد عشرات كيلو مترات، والتعامل الندّي مع قارة كاملة على أرضية التفوق العددي الصيني عليها بما يزيد عن الثلث (يبلغ عدد سكان قارة إفريقيا نحو 850 مليون نسمة، فيما يجاوز عدد سكان الصين 1300 مليون نسمة).
ومن بين أهم مكتسبات الصين من توسيع علاقاتها الإفريقية:
1 – رفع سقف استثماراتها الإفريقية لمستويات قياسية في فترات زمنية محدودة: فعلى الصعيد النفطي تدرك بكين أنها تعتمد – كغيرها – على نفط الشرق الأوسط الذي تحفه الصراعات، وتقع معظم أوراق اللعبة فيه في يد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أوصلت حجم تعاملاتها النفطية مع إفريقيا إلى استيراد ثلث احتياجاتها منها، لا سيما من نيجيريا وأنجولا والسودان.
وقد أضحت أنجولا أكبر مصدر للنفط للصين، حيث تشحن إليها 522 ألف برميل يومياً، وقد أقرضت الصين أنجولا بقرض قيمته 4 مليارات دولار، يستحق السداد من النفط المصدر إلى الصين، وقد تخطت أنجولا السعودية في تصدير النفط إلى الصين، كما أن الصين حصلت على حصة تبلغ 45% في حقل نفطي رئيسي في نيجيريا (المنتج الأول للنفط في إفريقيا).
وقد تمكنت مؤسسة النفط الصينية من شراء 40 % من أسهم شركة النيل الأعظم النفطية في السودان، والتي تضخ 300 ألف برميل يومياً، وقامت شركة أخرى بمد خط أنابيب إلى البحر الأحمر لتسهيل نقله إلى الصين، وقد حصلت بكين على حق التنقيب في أربعة مواقع أخرى من بينها كينيا، وتشارك شركات النفط الصينية بـ 20 دولة إفريقية، وعلى امتداد السنوات الخمس الماضية أنفقت هذه الشركات 15 مليار دولار على شراء حقول النفط والشركات المحلية.
2 – اقتناص فرص الاستثمار في بعض البلدان ذات النفوذ الأنجلوساكسوني: كالسودان الذي نقبت شركات أمريكية عن النفط فيها، ثم استخرجته الصين مستغلة العقوبات التي وقعتها الولايات المتحدة على السودان إبان حكم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
وإذ تضع الولايات المتحدة السودان مرتكزاً لاستراتيجيتها القادمة في إفريقيا؛ فإن الصين قد أوجدت لها نفوذاً هائلاً هناك يغل من يد الولايات المتحدة حتى فرنسا هناك، لا سيما مع رغبة الولايات المتحدة في التدخل المباشر في دارفور, والاستثمار في بلدان خارج السيطرتين الفرنسية والأمريكية نوعاً ما كأنجولا، والامتداد في البلدان الاستراتيجية للولايات المتحدة لجنوب إفريقيا ونيجيريا، أو الفرنسية كإثيوبيا وبعض بلدان خليج غينيا كالجابون وغيرها.
3 – توفير أسواق جديدة للسلاح الصيني: (بعقد صفقات لتصدير الأسلحة للعديد من دول القارة، وفي مقدمتها إريتريا وإثيوبيا ومالي وأنجولا وموزمبيق، بلغت قيمتها نحو عشرة بلايين دولار خلال السنوات الخمس الماضية)، والمنتجات الصينية عموماً, والتي نجحت في إغراق السوق الإفريقي بها.
وقد أثار ذلك شكوى دول ناشئة في المجال الصناعي كإثيوبيا، فقد بينت دراسة شملت 96 شركة إثيوبية صغيرة أن «28% منها تضطر لإشهار إفلاسها بسبب المنافسة الصينية»(9)؛ نظراً لمناسبتها السعرية للبلدان الفقيرة، وتوفير بديل للدول «الاستعمارية» التي أفشلت بعض مخططاتها في الاستفراد بتلك الدول، والإفادة من أخطاء المنافسين الجسيمة في تعزيز الوجود الصيني في إفريقيا، كأخطاء الولايات المتحدة في نيجيريا (تعد نيجيريا أكبر دولة نفطية في إفريقيا فقيرة؛ لا يجاوز دخل الفرد فيها دولاراً واحداً رغم تدفق عشرة مليارات دولار على الأقل في خزينتها كل عام خلال ربع قرن؛ بسبب الفساد والتدخل الأمريكي)، والبنك الدولي في أنجولا (وفي مطلع عام 2005م اعتقد الصندوق أنه على مشارف إبرام اتفاق تاريخي مع أنجولا، لكن في اللحظات الأخيرة أوقفت الحكومة الأنجولية المحادثات، وأعلنت أنها ستتلقى بدلاً من ذلك قروضاً من الصين لإعادة بناء البنية التحتية؛ بعد أن عرضت الصين عليها قروضاً وائتمانات بقيمة 5 مليارات دولار دون أي من الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي)(10)، وفرنسا في وسط إفريقيا.
الاستراتيجية الفرنسية في إفريقيا:
لم تزل دول الاتحاد الأوروبي ذات التاريخ «الاستعماري» القديم في إفريقيا هي اللاعب الأول في إفريقيا، ولم تزل فرنسا هي أهم لاعب أوروبي هناك، وهي بذلك تعتمد على إفريقيا كإحدى مرتكزات نفوذهـا في العالم بما تملكه فيها من علاقـات ونفوذ اقتصادي وعسـكري وسياسي؛ مكَّنها من إطاحة حكام وتنصيب آخرين، لا سيما في بلدان جنوب الصحراء الغربية، وفي الغرب الإفريقي، وأيضاً في منطقة القرن الإفريقي.
تعتمد فرنسا دولياً على كونها قوة دولية نووية تملك نفوذاً هائلاً في إفريقيا؛ ما مكنها من الاحتفاظ بمقعد دائم في مجلس الأمن ليصبح أحد أركان قوتها الثلاثة. ونفوذها الإفريقي هذا مكنها من تشكيل الفرنكفونية, وهو تجمّع الدول الناطقة بالفرنسية, والذي يشمل دولاً إفريقية عدة، لكن هذا النفـوذ قد تعرض بقـوة إلى الاهتزاز في أعقاب انتهـاء الحرب الباردة؛ إذ اتجه الاهتمـام الفرنسي, والأمريكي أيضاً, إلى أوروبا الشرقية التي شكّلت منطقة رخوة لا بد من مـد النفوذ الفرنسي إليها؛ ما استتبع انصرافاً فرنسياً عن إفريقيا، سارعت الصين في وقت لاحق إلى ملئه، وإذ فرغت فرنسا من مشكلة أوروبا الشرقية حتى استوعبتها الأورومتوسطية والتعاون مع بلدان الشمال الإفريقي؛ ما أدى إلى انخفاض حجم التجارة مع إفريقيا إلى نحو 5% في التسعينيات قبل أن تحاول فرنسا استدراك الغزو الأمريكي والصيني لمناطقها.
على الصعيد الصيني؛ تجنبت الصين مناطق النفوذ الفرنسي نسبياً؛ قياساً لانسيابها في بلدان تُحسب على الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن الولايات المتحدة نجحت في تغيير الكفة لصالحها في إثيوبيا, وإريتريا، ورواندا، وأوغندا.
ويلاحظ أن فرنسا بخسارتها لهيمنة الهوتو في منطقة البحيرات العظمى؛ قد تراجعت لحساب قبائل التوتسي التي تحظى بدعم الولايات المتحدة، وينتمي إليها رئيس أوغندا ورواندا وغيرهما.
وقد أسفر سقوط نظام الرئيس الراحل موبوتو سيسي سيكو، المدعوم من فرنسا لحساب الرئيس الراحل لوران كابيلا في الكونغو الديمقراطية، عن تحول سلبي في اتجاه هيمنة فرنسا القديمة.
وتتلخص الاستراتيجية الفرنسية في عدة محاور رئيسية؛ هي:
أولاً: العمل على استرجاع ممتلكاتها الرئيسية في إفريقيا:
ويلاحظ أن إرسال فرنسا لقواتها تعزيزاً لنظام إدريس ديبي ضد حركة التمرد في العام 2008م؛ قد أسفرت عن الإبقاء على النفوذ الفرنسي أو استرجاعه، لكن هذا النفوذ لا يتصادم فقط مع الأمريكيين والصينيين المتمركزين على مقربة من منابع النفط واليورانيوم في دارفور؛ «إذ طبقاً لاتفاقيات عسكريّة مع اندجامينا وبانغي (جمهورية إفريقيا الوسطى)؛ تحافظ فرنسا على وجود عسكري يشتد انتقاده من المعارضات المحليّة. فالتشاد وإفريقيا الوسطى ضحيّة صراعات داخلية، وهي أيضاً تتأثّر بنتائج أزمة الدارفور. وستكون فرنسا هي الرافد الأساسي لقوّات السلام الدولية التي ستنتشر في المنطقة»(11)، فالانتقادات من داخل الاتحاد الأوروبي أضحت أكثر ظهوراً مع رغبة لدى الاتحاد الأوروبي في لعب دور أكبر في هذه المنطقة الغنية بالنفط واليورانيوم والماس.
وقد لاقت حملة الإبادة التي نفذتها القوات الفرنسية ضد السكان المحليين في إفريقيا الوسطى في العام 2007م انتقادات من حلفائها الأوروبيين؛ برغم أنه في النهاية قد سلّموا للفرنسيين بـ «إرسال قوات فرنسية ترتدي ملابس قوة التدخل السريع الأوروبية (يوروفور)(12)، لتنتشر في مناطق شـرق التشاد وشـمال شـرق جمهـورية إفريقيا الوسـطى، أي قُـبالة إقـليم دارفور السوداني»(13)، وذلك بعدما نفذت السلطات الفرنسية جرائم حرب عندما وقفت فرنسا إلى جانب ديكـتاتور إفريقيا الوسطى, وسـاهمت في ارتكاب مذابـح إلى جانب السلطات الحكومية ضد المدنيين(14)، وهي التي ألمح إليها تقرير هيومان رايتس ووتش للعام 2007م.
من هنا يبدو أن فرنسا قد أخطأت حـيث أرادت أن تسترجع بعض ممتلكاتها السـابقة؛ إذ أوقفتها هذه الأحداث عند حد الوضع السابق لها كقوة «استعمارية»، ولم تتمكن هي ذاتها من تبييض وجهها بالرغم من مساعي بعض ساستها، في ظل مرحلة تنافسية لن تكون فيها فرنسا وحدها، حتى في مستعمراتها السابقة، وقد اضطرت فرنسا إلى مناقضة نفسها بعدما أعلنت عن مشروع إفريقيا في العام 1997م, والقاضي بتأييد إقامة أنظمة سياسية جديدة في الدول الإفريقية وفق مبادئ الديمقراطية التي حاربتها هي في وسط إفريقيا.
ثانياً: الشراكة الاقتصادية:
على الرغم من أن وزراء مالية الدول الأعضاء في منطقة الفرنك الإفريقي التابعة لفرنسا، وتضم 16 دولة إفريقية جنوب الصحراء وغرب إفريقيا، قد أكدوا في اجتماعهم في الأسبوع الثاني من أكتوبر 2008م أن منطقتهم «لم تطلها حتى الآن انعكاسات الأزمة المالية الأمريكية الحالية»(15)، إلا أن ذلك لم يعن أن فرنسا نفسها في وارد ضخ المزيد من المساعدات من أجل جذب الاستثمار إليها، وهذا الاستثمار نفسه قد تراجع مع ظهور دول نفطية كبيرة في إفريقيا؛ جعلت من «إفريقيا الفرنسية» جزءاًً هامشياً على الصعيد الاقتصادي في القارة، يقول صاحب كتاب (إفريقيا بدون فرنسا) عن «إفريقيا الفرنسية»: «إنها لا تمثل إلا 13% من سكان القارة, وثقلها الاقتصادي لا يكاد يُذكر, فدول منطقة الفرنك الإفريقي لا تزن أكثر من نيجيريا من حيث الناتج المحلي الخام»(16).
هذه الشراكة تأثرت سلباً مع تراجع معدلات النمو في فرنسا ذاتها، والتي أدت إلى انكفاء داخلي لم يجعل من باريس قادرة على منافسة التدفقات المالية القادمة من الصين والولايات المتحدة الأمريكية في القارة الإفريقية، والتي تقع معظم حقول النفط الرئيسية في بلدان غير فرنكفونية.
أما الفرنكفونية ذاتها، (معبر فرنسا إلى ثروات إفريقيا)؛ فقد تأثرت كثيراً بالتراجع الاقتصادي في الداخل الفرنسي؛ إذ يتحدث كامبردج بوك ريفيوز عما يسميه «طلاق النخب»؛ ملاحظاً أن فرنسا التي تكوّنت فيها كل نخب إفريقيا الفرنكفونية لم تعد اليوم وجهة النخب الإفريقية، كما كان لتأسيس الجامعات الإفريقية دور رئيسي في تكوين النخب محلياً، لكن الطلاق بين النخب يرجع في رأيه إلى سياسة التأشيرات المتشددة التي تمارسها فرنسا حيال الطلبة الأفارقة؛ مما جعل النخب الإفريقية تتوجه اليوم إلى كندا والولايات المتحدة, وهنا يتساءل عن مصير الفرنكفونية خاصة مع الشعور المتنامي في أوساط النخب الفرنكفونية بأن المعنيين الأوائل (أي الفرنسيين) بتطوير اللغة الفرنسية لا يعيرونها أهمية(17).
ثالثاً: تقليص القوات العسكرية لحساب الشراكة الاقتصادية:
عقدت فرنسا عدة اتفاقات للتدخل السريع في إفريقيا بغية التقليل من حجم قواتها في إفريقيا؛ إذ قامت «باطراد بتخفيض عدد الأفراد العسكريين من 60000 في الماضي، إلى نحو 10000 في أوائل عام 2007م»(18)، لكن فرنسا ظلت مع ذلك متورطة في العديد من الصراعات الداخلية التي جعلتها تفقد المزيد من نفوذها في إفريقيا، كما في «اثنين من الحوادث الهامة في رواندا؛ حين قدّمت فرنسا الدعم السياسي والعسكري لجوفينال هابياريمانا حتى النهاية في أبريل 1994م، وعدم قيامها بما يلزم لوقف المجازر التي راح ضحيتها 800 ألف ضحية، وفي نوفمبر 2004م حين شاهد الناس على شاشات التلفزة الجنود الفرنسيين وهم يطلقون النار على المتظاهرين في أبيدجان بساحل العاج، وتورطها في الصراع؛ قد أدى إلى الإضرار بوضع فرنسا في إفريقيا»(19).
وعند عقد مقارنة مع الصين التي تجني صفقات مهمة في إفريقيا دون إراقة دماء, وفرنسا المتورطة دوماً في الصراعات العسكرية الإفريقية؛ يتبين كم تخسر فرنـسا وكم تربح الصين، ففرنسا «قد تدخّلت عسكرياً في إفريقيا 19 مرة في الفترة ما بين 1962م و 1995م، وتواجدت في تشاد بـ 1200 جندي (..) لدعم حكومة ديبي، وتحتفظ بـ 300 جندي في إفريقيا الوسطى (..)، وتنشر 3000 جندي في ساحل العاج»(20).
وأخيراً؛ تبدو الصين عازمة على العبور إلى إفريقيا من بوابة الاقتصاد والشراكة، وفرنسا لم تزل متورطة في صراعاتها العسـكرية، وإن بـدت في عهـد ساركوزي في وارد التعويل على إفريقيا هي الأخرى، لا سـيما بعد أن أخفقت الأورومتوسطية إلى حد كبير في بلوغ أهدافها، وخروجها من العراق دون تعويض يُذكر في الصعـيد النفطي، وشعور ساستها بالمرارة إزاء التمدد الأمريكي على حسابها، وهذا الأخير يشعر أيضاً أنه قد تلقى صفعات قوية من الصين في السودان الذي نقبت الولايات المتحدة عن النفط فيه؛ فعـملت الصين على اسـتخراجه! وضغطت عبر الصندوق الدولي على أنجولا؛ فـفكت الصين وغيرها من الأقطـاب الصاعدة رهانها، وشاطرت الأمريكيين الكعكة النيجيرية، وزاحمتها تجارياً في جنوب إفريقيا.
وفي كل ذلك؛ تتقاطع الاستراتيجيات أحياناً أو تتنافس، وربما تتصارع، لكنها كثيراً ما تدور في معطيات الدراسات حول الأسباب المتعلقة بالاقتصاد والعسكرية والسياسة، وتغيب كثيراً جوانب أخرى لا تقل – بل تزيد – في أهميتها عن كل هذه الأركان؛ إذ يبدو الدين حاضراً في كثير من الصراعات؛ وإن حرص «الاستعمار» القديم والجديد على تغييبه لكتم المشاعر دون حد النهب والاستعباد، لكن التقرير الاستراتيجي الإفريقي للعام 2006م/2007م رصد جانباً خفياً من المشهد، حيث خلص فيه الباحثون إلى رصد «الزيادة السريعة والمطردة للمسلمين بها», ويؤكدون أن «الإسلام يمثل قوة زاحفة من شمال القارة إلى جنوبها بصورة لا يعرفها أي دين آخر في العصر الحالي, كما لا يعرفها الإسلام نفسه حالياً في أي قارة أخرى».
ومن أكثر الأشياء خطورة في دلالتها استشهاد الباحثين في التقرير بدراسات غربية؛ تثبت «أنه من بين كل عشرة أفراد يعتنقون ديناً سماوياً عالمياً؛ يعتنق تسعة منهم الإسلام, ويعتنق واحد فقط المسيحية, وهذا أوضح في إفريقيا»(21)، وهذا معطى لا يمكن لأي باحث مسلم أن يهمله عند الحديث عن تنافس الاستراتيجيات في إفريقيا.
إن الأمر لا يتعلق فقط بثروات، بل بديموجرافية خطيرة في حسّ الغرب، ربما دعت مراكز النفوذ القوية في الولايات المتحدة إلى جلب رئيس أسود إفريقي ليكون عنوان العقد القادم، والذي ستكون فيه إفريقيا القارة المرشحة للاستثمار والتدجين وإحـراز الأوراق، السهلة أحياناً، وهذا يفسر اتجاهات الرأي العام في دوائر صنع القرار الغربي تحديداً، وهي إن لم تصارع الصين عسكرياً في إفريقيا بالرغم من مطامعها الضخمة؛ فإنها تقف حيال كل نهضة إسلامية أو عربية في إفريقيا، ولا أدل من استماتتها المزمنة في إيقاف مساعي إعادة الصومال ليكون دولة إسلامية كبرى في المنطقة الاستراتيجية المهمة (القرن الإفريقي)؛ إذا ما استرد عافيته, واستعاد مناطقه السليبة في كل من إثيوبيا وكينيا؛ ليصبح الدولة الأكثر أهمية في القرن الإفريقي, وعلى مشارف بحر العرب, وأهم الطرق البحرية، واستغل ثرواته الحيوانية والبحرية؛ على الوجه الذي يؤهله ليكون صاحب دور وكلمة في هذه المنطقة المهملة إسلامياً والمعتبرة عالمياً.
وإذ توضع الاستراتيجية الأمريكية على طاولة البحث فيما يخص القرن الإفريقي؛ يهول الباحثين مشرط الجراح الدقيق الذي استبعد السودان والصومال من الدول الرئيسية لهذه المنطقة الممتدة حتى البحيرات العظمى.
ولا حاجة للتذكير بأهمية السودان الاستراتيجية الكبرى في عموم إفريقيا، لكنه كدولة عربية وإفريقية وإسلامية مرشحة لكي تكون الأساس في الامتداد التوعوي الإسلامي، وها هي مصابة بالشلل جراء تنوع الضغوط الغربية عليها.
وحيث يتحدث الخبراء عن نفط دارفور واليورانيوم الخـام بها (وتشـاد أيضاً), وهو الوقود المرشح للصمود بعد نضوب النفط بعد عقود، يضربون الذكر صـفحاً – أو هكـذا تبعد عنهم مصادر المعرفة – عن الثروة الحقيقية المخبوءة في دارفور.. إنه إقليم دارفور أو (أهل القرآن) الذي يحوي عدداً هائلاً من حفظة كتاب الله الذين يحتاج إليهم 9 من كل 10، كما تقدم, يدخلون الإسلام من المتحولين من «دين» إلى «آخر» في العالم, وفي إفريقيا على وجه الخصوص.
وحين تميل الولايات المتحدة إلى التوتسي وتسمح بجرائم تنال من المسلمين في قبائل الهوتو؛ فهي تشرعن لسيطرة توتسيوية على مناطق البحيرات العظمى.
والأهم من كل هذا؛ أنه حين عملت الدول الغربية بكل جَـلد على فصل الشمال الإفريقي عن الدول المتاخمة له، ومنع العرب المسلمين من القيام بدورهم المنوط بهم في ترشيد مسلمي إفريقيا, أو التواصل مع الوسط والغرب الإفريقي ذي الغالبية العالية إسلامياً؛ لم تتبلور أية محاولة جادة للعودة إلى الريادة في إفريقيا، تلك التي كان يتمتع بها العرب في عهود ما قبل «الاستعمار»، وحيث لم تكن هناك رغبة في معاودة استراتيجية بنّاءة كهذه؛ فإن على الباحثين تطويع الإرادة الشعبية العربية والإسلامية باتجاه النظر إلى إفريقيا كقـارة لم تزل تحمـل الأمـل على الصعيد الدعوي، وكذلك على مستوى الشراكة الاقتصادية التنموية.
إن الأموال العربية التي تبخرت في أزمات البورصات المتعاقبة؛ إذا ما أتيح لمثلها أن تتجه إلى اقتصاد راشد في إفريقيا التي تتمتع بثروات مخبوءة لا حصر لها؛ لأمكن أن يخرج العرب من تبعيتهم، ولو كان على الاقتصاديين أن يقولوا قولتهم؛ فإن الاستراتيجية العربية في غياب الجهد والفعالية الرسـمية في كثير من البلدان العربيـة، هو حـق قد منحـته الشعوب العربية وأثرياؤها، ولا خـيار إذن بين الاسـتنزاف المتوالي للأموال العربيـة، أو الاتجاه شـعبياً إلى الاستثمارات الجادة الواعدة في قلب إفريقيا المسلمة، حيث المعوقات كثيرة لكنها ليست حائلاً دون العمل على تجاوزها، فليست هي في النهاية قدراً مكتوباً على المستثمرين الراغبين في الثراء السريع والجاد، بل ثمة ما يمكن القفز منه، والإفادة من التنافس الدولي الحار في إفريقيا في إفادة المسلمين، ورفع مستوياتهم المعيشية في داخل إفريقيا وخارجها.
الإحالات والهوامش:
(*) كاتب وباحث مصري.
(1) الرئيس السنغالي عبد الله واد, مقال بفاينانشيال تايمز 24/1/2008م.
(2) الدكتور أحمد علو (عميد متقاعد): التنين يحرّك ذيله فماذا يفعل النسر؟ ، مجلة الجيش (اللبناني) – العدد 261 – 1/3/2007م.
(3) بيترنل خروبن: التقدم الصيني في إفريقيا يثير ريبة الغرب, إذاعة هولندا – 25/1/2008م.
(4) جوسوا كورلانتزك: الوجود الصيني في إفريقيا.. منافع وأضرار, موجز لدراسة نشرت على موقع معهد كارنيجي للسلام الدولي, تحت عنوان: مغامرة بكين الإفريقية، ضمن سلسلة Policy Outlook، نوفمبر 2006م, ترجمة مروى صبري, موقع إسلام أون لاين – 27/01/2007م.
(5) بيترنل خروبن: التقدم الصيني في إفريقيا يثير ريبة الغرب، إذاعة هولندا – 25/1/2008م.
(6) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.
(7) جوسوا كورلانتزك, مصدر سابق، ويلاحظ أن كورلانتزك المدرس الزائر بمعهد كارنيجي / البرنامج الصيني، لم يتمكن من إخفاء ميله إلى الجانب الغربي في دراسته؛ حيث عزا إحجام البنك الدولي آنفاً عن تمويل تلك المشروعات التنموية في مجالات الطرق وغيرها، مما تحتاج إليه إفريقيا، إلى الخشية من الاختلاسات، مع أن البنك يمول مشروعات أخرى – غير تنموية – لا تخلو من الفساد في تلك البلدان الإفريقية.
(8) د. حنان قنديل (خبيرة في الشؤون الصينية، أستاذ العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة): التغير والاستمرار في السياسات الصينية.. قراءة في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني, السياسة الدولية – الأهرام – يناير 2008م.
(9) جوسوا كورلانتزك، مصدر سابق.
(10) جوسوا كورلانتزك، مصدر سابق.
(11) فنسان مونيه: إفريقيا الوسطى.. استراتيجية فرنسية ورهانات إقليمية, ليموند دبلوماتيك – فبراير 2008م.
(12) تشكلت قوّة «يوروفور» في تسعينيات القرن الماضي من قوات فرنسية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية؛ للتدخل في المنطقة المتوسطية.
(13) رشيد خشانة: الشرطي الأوروبي يُوسّـع منطقة العمليات من المتوسط إلى إفريقيا, سويس إنفو – 20/2/2008م.
(14) يوهان هاري: فرنسا داخل الحرب السرية, الإندبندنت 5/10/2007م، وهو تقرير يجسد بجلاء المشاركة الفرنسية في حرب إفريقيا الوسطى.
(15) المنظور الإفريقي 14/10/2008م.
(16) كامبردج بوك ريفيوز: إفريقيا بدون فرنسا, استعراض الجزيرة.
(17) المصدر السابق.
(18) اندرياس ميلر: ابحث في فرنسا عن إفريقيا السياسة الجديدة – فصلية إنترشيونال بوليتيك جلوبال إديشين (عن ديرشبيجل الألمانية – النسخة الإنجليزية 4/11/2008م).
(19) المصدر السابق.
(20) اندرو هـانسن: العسـكرية الفرنسية في إفريقيـا, موقـع مجـلس العلاقات الخارجية الأمريـكي – 8/2/2008م، والخريطة المرفقة من المصدر نفسه.
(21) التقرير الاستراتيجي الإفريقي 2006/2007م – الجزء الرابع.