د. محمد عاشور مهدي (*)
تأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002م بوصفها أول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان.
وتقوم فلسفة المحكمة الجنائية الدولية على وضع حدٍّ لثقافة الإفلات من العقوبة على المستوى الدولي، والتي تكشف عن مفارقة فجّة؛ مؤداها أن يكون تقديم شخص ما إلى العدالة لقتله شخصاً واحداً أسهل من تقديم آخر لها لقتله مائة ألف شخص مثلاً.
وقد لاقت المحكمة انتقادات عدد من الدول, منها الصين والهند وأمريكا وروسيا، وهي من الدول التي امتنعت عن التوقيع على ميثاق المحكمة أو قامت بسحب توقيعها على الاتفاق(1).
وعلى الرغم من الآمال العراض التي صاحبت الدعوة إلى نشأة هذه المحكمة، ومن أهمها أن تكون مصدراً لتحقيق العدل والاستقرار في المجتمع الدولي, فإن الواقع جاء مناقضاً لتلك الآمال، حيث تتزايد التساؤلات حول سير العمل بالمحكمة، وطبيعة قراراتها، ومدى تأثُّرها بالعوامل السياسية لا القانونية(2)؛ في ظلِّ حقيقة أن جميع الحالات التي طُرحت على المحكمة هي حالات لدول إفريقية(3)؛ وهو ما أثار المخاوف أن تكون العدالة الجنائية الدولية مقصورة على الدول المستضعفة في النظام الدولي دون الأقوياء فيه.
كما ثار التساؤل حول العلاقة بين مقتضيات تحقيق العدالة بما تعنيه من ضرورة محاكمة مرتكبي الجرائم، وبين متطلبات تحقيق الأمن والاستقرار, والتي قد تتطلب العفو عنهم لاستعادة الأمن في البلاد من ناحية أخرى(4).
كما طُرحت مسألة فاعلية المحكمة الجنائية الدولية على بساط النقاش؛ في ضوء افتقارها إلى آليات لتنفيذ قراراتها، واعتمادها في ذلك على إرادة الدول الأطراف في النظام الأساسي.
ومع مرور عشر سنوات على قيام المحكمة الجنائية الدولية، وبالتزامن مع جهود مراجعة حصاد المحكمة خلال العقد المنصرم من حياتها, تأتي أهمية هذه الدراسة التي تسعى إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤلات؛ نجملها فيما يأتي:
– ما القضايا الإفريقية المطروحة على المحكمة الجنائية الدولية وسبل اتصال المحكمة بها؟
– ما مدى مشروعية تصدي المحكمة الجنائية الدولية للقضايا الإفريقية, والفصل فيها، وشرعيته؟
– ما انعكاسات تصدي المحكمة الجنائية الدولية للقضايا الإفريقية على مسارات تسويتها؟
– ما مستقبل المحكمة الجنائية الدولية في ضوء الخبرة الإفريقية؟
والإجابة ستكون من خلال المحورين التاليين:
أولاً: القضايا الإفريقية المطروحة على المحكمة الجنائية الدولية:
حتى مارس 2010م؛ تمثلت القضايا المطروحة على المحكمة الجنائية الدولية في خمس قضايا تتعلق كلها بدول إفريقية، هي بترتيب عرضها الزمني على المحكمة: الكونغو، أوغندا، السودان، إفريقيا الوسطى، كينيا.
ويهدف هذا المبحث إلى إلقاء الضوء بإيجاز شديد على أبعاد المشكلات التي ولّدت القضايا المطروحة على المحكمة الجنائية الدولية، بعبارة أخرى التعريف بالعوامل (الوقائع) المادّية التي أسفرت عن تلك القضايا، والكشف كذلك عن سبل اتصال المحكمة الجنائية الدولية بتلك القضايا, وهو الأمر الذي له – من وجهة نظر بعض الباحثين- أثر مباشر في مدى فاعلية دور المحكمة الجنائية الدولية.
– جمهورية الكونغو الديمقراطية:
تعود جذور هذه الأزمة المتجددة في الكونغو إلى الصراع الإثني والعرقي التاريخي بين القبيلتين اللتين تقطنان الأرض الرواندية، قبيلة الهوتو التي تشكّل الأغلبية وقبيلة التوتسي ذات الأقلية، فقد تفجّر الصراع بينهما مرّات عديدة حاصداً آلاف الضحايا، إلا أن الصراع الأشرس بينهما كان في العام 1994م؛ حيث أدى إلى إبادة نحو مليون قتيل من الجانبين في رواندا، ومن ثمّ انتقال الصراع بشكل دراماتيكي إلى الكونغو بسبب الجوار والحدود المشتركة, وبسبب هوية الكونغوليين من أصل رواندي، سواء كانوا من التوتسي أو الهوتو الذين هربوا من الحروب العرقية بين القبيلتين في وقت سابق, حيث وجدوا كل ترحيب من جانب الحكومة الكونغولية(5).
بالمقابل شهد العام 1994م موجة نزوح جماعي للهوتو إلى «كيفو» الكونغولية بسبب المذابح الجماعية التي نفذتها جماعة التوتسي، هذه الهجرات الجماعية من كلا الطرفين نقلت الصراع إلى الكونغو.
في 23 يونيو 2004م؛ شرع المدعي العام في أول تحقيق تجريه المحكمة الجنائية الدولية بخصوص الجرائم التي ارتُكبت خلال النزاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ 1 يوليو 2002م، وهو تاريخ بدء سريان الولاية القضائية للمحكمة؛ بعدما أحالت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية الوضع إلى المحكمة(6).
وفي العاشر من فبراير 2006م؛ أصدرت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية أمراً بالقبض على «توماس لوبانغا دييلو» الذي زُعم أنه مؤسس «اتحاد الوطنيين الكونغوليين» وزعيمه(7). وفي يوليو 2007م؛ اتهمت المحكمة اثنين آخرين من زعماء التمرّد في الكونغو بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية(8).
– أوغندا:
تجسّد الحالة الأوغندية طبيعة العلاقة الجدلية بين اعتبارات العدالة والاستقرار والأمن, ففي ظلّ الصراع الدائر لعقود بين الحكومة الأوغندية وحركة «جيش الرب» المتمردة، وعجز كلٍّ من الطرفين عن حسم الصراع عسكرياً لصالحه، عمدت الحكومة الأوغندية مراراً إلى محاولة استمالة قادة الحركة والتفاوض معهم على أساس ترك السلاح والاستسلام نظير العفو عنهم (9).
وعلى الرغم من استسلام بعض جنود الحركة واستفادتهم من ذلك العفو حتى عام 2005م؛ فإن الواضح أن تلك المحاولة لم تُسفر عن إقناع قادة الحركة بالاستسلام وترك السلاح في ظل أزمة الثقة بين الطرفين؛ لذا سعت الحكومة الأوغندية إلى محاكمة قادة «جيش الرب» أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذي لاقى معارضة من بعض المنظمات وجماعات المصالح بل وبعض الأجنحة داخل الحكومة الأوغندية, حيث رأى هذا الفريق أن المضي قدماً في المحاكمة سيقوّض عملية المصالحة؛ بالنظر إلى أن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية سينحّي جانباً العفو الذي يُعد حافزاً لقادة التمرّد على مواصلة مفاوضات المصالحة(10), وهذا ما يفسّر رفض العديد من زعماء قبائل «الاتشولي» شمال أوغندا لتدخُّل المحكمة الجنائية الدولية وتقديم قادة حركة «جيش الرب» المتمردة للمحاكمة، وذلك خوفاً من تدمير آفاق مفاوضات إنهاء الصراع بين الحكومة والحركة.
في 27 يوليو 2004م؛ بدأت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في الجرائم التي وقعت في أوغندا منذ الأول من يوليو 2002م، وجاء التحقيق بعد أن أحالت حكومة البلاد الوضع إلى المحكمة
وفي 14 أكتوبر 2005م؛ أصدرت المحكمة أول أوامر قبض في تاريخها، وذلك ضد خمسة من كبار قادة «جيش الرب للمقاومة»، في مقدمتهم «جوزيف كوني» زعيم الحركة، حيث اتُهموا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب(11)، وقد أدّى ذلك الإجراء إلى توقف مفاوضات السلام بين الفرقاء في أزمة شمال أوغندا، وهو ما عزّز الاعتقاد بأن المحكمة الجنائية الدولية تقوّض جهود التسوية السلمية في أوغندا(12).
– السودان:
في 31 مارس 2005م؛ اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1593، والذي ينصّ على إحالة الوضع في دارفور منذ 1 يوليو 2002م إلى المدعي العام في المحكمة, وجاء ذلك في أعقاب حملة شنّتها منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات غير الحكومية.
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُحيل فيها مجلس الأمن الدولي أحد الأوضاع إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما أنها المرة الأولى التي تُمنح فيها المحكمة الولاية القضائية على جرائم ارتُكبت في دولة لم تصدِّق على «نظام روما الأساسي».
وفي 6 يونيو 2005م؛ بدأت المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في الجرائم التي وقعت في دارفور. وفي 1 مايو 2007م؛ أصدرت المحكمة أمرين بالقبض على وزير الداخلية السابق أحمد محمد هارون وزعيم ميليشيا «الجنجويد» الشهير علي محمد علي عبد الرحمن (ويُعرف أيضاً باسم علي كشيب)، وقد اتُّهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. ثم صدرت مذكّرة من مدّعي المحكمة الجنائية الدولية «لويس مورينو أوكامبو» ثمّ قرار من المحكمة في 4 مارس 2009م بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير(13).
– جمهورية إفريقيا الوسطى:
شهدت جمهورية إفريقيا الوسطى منذ استقلالها في 13 أغسطس عام 1960م العديد من الصراعات, وقد تجددت الحرب الأهلية من جديد عام 2003م(14).
ومنذ نشوب النزاع وقوات الأمن بجمهورية إفريقيا الوسطى مسؤولة عن معظم الانتهاكات الأكثر خطورة في النزاع، وفي المقابل ارتكبت قوات التمرد أيضاً انتهاكات خطيرة، لكن على نطاق أصغر كثيراً من القوات الحكومية(15).
في 22 مايو 2007م؛ بدأ المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية, وبناء على طلب من حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى، تحقيقاً في بعض الجرائم التي وقعت في جمهورية إفريقيا الوسطي منذ عام 2002م، وذلك بعد أن أعربت المحكمة العليا في جمهورية إفريقيا الوسطى صراحة عن عدم قدرة النظام القضائي في البلاد على القيام بأعباء تلك المهمة(16).
وقد تمّ إلقاء القبض على الرئيس السابق «بيير بمبا» من جانب الحكومة البلجيكية، وتمّ تقديمه للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وعلى حين رحّبت حكومة إفريقيا الوسطى بتقديم «بيير بمبا» للمحاكمة؛ فإنها سرعان ما اتجهت إلى الأمم المتحدة مطالبة مجلس الأمن بالتدخُّل لوقف مساعي المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لفتح ملف انتهاكات القوات الحكومية للحكومة القائمة في مواجهة المدنيين بشمال البلاد.
– كينيا:
في نوفمبر 2009م؛ طلب «لويس مورينو أوكامبو» – المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية – من قضاة المحكمة إذناً للتحقيق في أعمال العنف في كينيا على خلفية وجود ما يُشير إلى وقوع جرائم ضد الإنسانية في أعقاب الانتخابات الرئاسية التي جرت أواخر عام 2007م، والتي أسفرت عن مقتل ألف وخمسمائة شخص وتشريد ما يقارب 250 ألفاً آخرين(17)، وذلك قبل التوصُّل لاتفاق لتقاسم السلطة بين «كيباكي» و «أودينغا»، يتولى بمقتضاه الأول منصب الرئيس، على أن يتولى الثاني رئاسة الحكومة.
وتُعد تلك هي المرة الأولى التي يمارس فيها المدعي العام اختصاصه بمقتضى المادة الخامسة عشرة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بطلب فتح التحقيق في قضية دون إحالتها من الدولة المعنية أو مجلس الأمن.
وقد أجاز قضاة المحكمة التمهيدية الأولى في 31 مارس 2010م طلب المدعي العام بفتح تحقيق في الانتهاكات سالفة الذكر، وذلك بأغلبية الأصوات, حيث عارض أحد قضاة المحكمة الحكم تأسيساً على الافتقار إلى مسوّغات معقولة لوجود خطة منظمة أو متعمّدة ومستمرة وراء تلك الجرائم للقول بوجود جريمة ضد الإنسانية(18).
وعلاوة على الحالات السالفة البيان؛ فإن من بين الحالات الخاضعة للبحث والتحري بالمحكمة الجنائية الدولية حالة غينيا, حيث طلب المدعى العام من قضاة المحكمة التمهيدية الإذن بفتح تحقيق في الانتهاكات التي ارتُكبت من جانب القوات النظامية الحكومية في مواجهة المعارضين في سبتمبر عام 2009م، وراح ضحيتها أكثر من مائة وخمسين شخصاً(19).
كما أن العقيد القذافي ورموز نظامه في ليبيا معرضين بدورهم للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ لدورهم في الحرب الأهلية الدائرة بالبلاد، وما ارتكبوه من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية خلال تلك الحرب الدائرة منذ شهر فبراير من عام 2011م.
ثانياً: شرعية تصدي المحكمة الجنائية للقضايا الإفريقية – الشروط والآثار -:
تشير الخبرة الإفريقية إلى أن هناك علاقة بين شرعية طريقة تصدي المحكمة لتلك القضايا (يُقصد بالشرعية رضاء الأطراف عن تدخُّل المحكمة لحسم النزاع) من ناحية، ودرجة تعاون الأطراف المعنية مع المحكمة من ناحية أخرى، وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين اتصال المحكمة الجنائية الدولية بالقضايا الخاصة بكل من الكونغو الديمقراطية، وأوغندا، وإفريقيا الوسطى من ناحية، واتصالها بالقضية الخاصة بإقليم دارفور في السودان، حيث لم تُثر القضايا الثلاث الأولى مشكلة فيما يتصل بمشروعية اتصال المحكمة الجنائية بها وشرعيتها؛ حيث اتسقت جميعها مع شروط الإحالة المنصوص عليها في المادة 13/أ من النظام الأساسي للمحكمة؛ باعتبار أن اتصال المحكمة الجنائية الدولية بتلك القضايا – سالفة البيان – جاء بناءً على دعوة من النُّظُم الحاكمة في الدول المعنية بهذه القضايا؛ والتي أبدت تعاوناً وثيقاً مع المحكمة الجنائية فيما يتصل بالسعي الجاد للقبض على المتهمين المطلوبين للعدالة الجنائية الدولية.
وعلى العكس من القضايا الثلاث؛ جاءت إحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية على غير رغبة من النظام الحاكم في السودان، وهو الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً حول مدى مشروعية قرار الإحالة وشرعيته؛ بسبب الخلاف حول التكييف القانوني لطبيعة العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن، في ظل حقيقة أن المحكمة مستقلة عن أجهزة الأمم المتحدة.
ويمكن القول بأن طريقة الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية أدّت دوراً جوهرياً في درجة تعاون الأطراف المعنية مع المحكمة الجنائية على نحو ما تكشف مقارنة حالات الكونغو وأوغندا وإفريقيا الوسطى من ناحية، وحالة السودان من ناحية أخرى, وهو ما يعني من الناحية الواقعية, وفي ضوء خبرة القضايا الإفريقية المطروحة على المحكمة الجنائية, أن الإحالة عن طريق مجلس الأمن غير مرغوبة، لما تُسفر عنه من تعقيدات ومخاطر، بعكس الإحالة الذاتية من الدولة المعنية التي تتزايد معها – نسبياً – فرص التعاون ونجاح دور المحكمة(20), وفق ما تكشف مقارنة حالة السودان في مقابل الحالات الثلاثة الأخرى، وهو ما يتصور كذلك في حالة كينيا، وتؤكده حالة إفريقيا الوسطى التي قبلت التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في الشق الذي أحالته الحكومة إليها, وحينما حاول المدعي العام بسط ولايته على الانتهاكات المشابهة في أجزاء أخرى من البلاد سارعت الحكومة لوقف تلك المساعي.
وفي ظل تمسُّك السودان بموقفه من عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية؛ فإن قرار الإحالة سيكون فارغ الغاية, بل أكثر من ذلك؛ أصبح متعارضاً والمقاصد التي أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية من أجلها، في ظل ما وضعه أمامها من عقبات، فضلاً عن تعارضه وغايات مجلس الأمن في تحقيق السلم والأمن الدوليين، حيث سيؤدي لمزيد من التعنّت والتصعيد الداخلي والإقليمي والدولي، على نحو ما تشهد خبرة المحكمة الجنائية الدولية بشأن الأوضاع في شمال أوغندا من قيام تعارض بين مقتضيات الاستقرار والأمن والمصالحة من ناحية، ومتطلبات العدالة والقصاص من ناحية أخرى(21)، وكذا انعكاسات قرار المحكمة على المفاوضات بين الحكومة السودانية والمتمردين الذين استغلوا صدور قرار الإحالة ومن بعده قرار الاتهام كأداة للضغط على الحكومة السودانية وابتزازها(22)، وهو ما يُعيد من جديد الجدل حول معايير العدالة الدولية، وطبيعة العلاقة بين مقتضيات العدالة من ناحية ومتطلبات السلام والأمن والاستقرار من ناحية أخرى، ولمن تكون الغلبة عند التعارض(23).
فللوهلة الأولى يبدو أن ثمة تعارضاً بين مقتضيات العدالة وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد, فالطغاة من الحكام يرفضون التنازل عن السلطة إلا بضمانات عدم مساءلتهم عن أفعالهم، والمتمردون يرفضون الاستسلام والامتناع عن أعمال العنف والتمرد ما لم يحصلوا على عفو عمّا اقترفوه من أعمال، وهذا ما يجعل – من وجهة نظر بعض الباحثين – فرصة محاكمة قاتل فرد واحد أيسر كثيراً من إمكانية محاكمة قاتل مائة ألف شخص.
ولعل ممّا يزيد الأمر تعقيداً؛ تعدد وجهات النظر بشأن مشروعية تصدي المحكمة الجنائية الدولية للقضايا الإفريقية بصفة خاصة، والقضايا الجنائية الدولية بصفة عامة, والناجم عن تباين مواقف حكومات الدول من مدى اشتراط تحقيق العدالة استخدام الملاحقة القضائية بالمعنى الحرفي ضد الجناة، وهل تسمو اعتبارات العدالة على ما عداها من الاعتبارات الأخرى؟ ويرتبط بذلك مدى التزام المحكمة الجنائية الدولية بمراعاة اختلاف وجهات نظر الدول, وتنوع إجاباتها بشأن تلك التساؤلات، خصوصاً في ظل صمت النظام الأساسي عن بلورة إجابة محددة في هذا الشأن.
وتجسّد الحالة الأوغندية طبيعة تلك الجدلية بين اعتبارات العدالة والاستقرار والأمن, ففي ظل عجز كلٍّ من الطرفين عن حسم الصراع عسكرياً لصالحه؛ عمدت الحكومة الأوغندية مراراً إلى محاولة استمالة قادة التمرد على أساس ترك السلاح والاستسلام نظير العفو عنهم، ومنحهم الحصانة ضد الملاحقة القضائية؛ الأمر الذي لاقي تأييداً محلياً من المتضررين من الصراع رغبة في التمتع بقدر من الأمن والاستقرار الذي غاب لعقود عن الإقليم، وهو أمر يجد له نظيراً وتكراراً بدرجة أو بأخرى في الحالات الأخرى التي تتصدى لها المحكمة الجنائية على الساحة الإفريقية، والتي تتعارض فيها العدالة القضائية بالمعني الضيّق مع مقتضيات الأمن والاستقرار في البلاد.
وفي المقابل يرفض آخرون ذلك المنطق، فالمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية «لويس أوكامبو» رأى أن طلب المجرمين، أو الطغاة من الحكام والمسؤولين المطلوبين للعدالة، العفو عنهم كشرط مسبق للتوقف عن ارتكاب الجرائم يمثل ابتزازاً. ويرى هؤلاء أن سيف العدالة هو القادر على إجبار المتمردين والطغاة من الحكام على الجلوس إلى مائدة المفاوضات، وردع غيرهم عن أن يحذوا حذوهم في الممارسات الوحشية، وأن أيّ تهاون في تطبيق العدالة سيقود إلى مزيد من الممارسات والانتهاكات غير الإنسانية.
ويقتضي فضّ الاشتباك بين وجهتي النظر سالفتي البيان التمييز بين مفهومين مركزيين للعدالة، يعبّر كل فريق عن واحد منهما؛ فوجهة النظر الأولى تعبّر عما يمكن تسميته مفهوم «العدالة التصالحية»، والتي تركّز على احتياجات الضحايا وجذور المشكلات والصراع وإعادة إدماج المقاتلين في المجتمع، وتعبّر وجهة النظر الثانية عن «العدالة الجزائية», والتي تُعنى بالأساس بمعاقبة جميع من يتورطون في ارتكاب الجرائم, ووجهة النظر الأخيرة هي المهيمنة في أروقة المحكمة الجنائية الدولية, وهذا ما ساعد على خلو ميثاق المحكمة الجنائية الدولية من أيّ بنود صريحة تتعلق باللجوء إلى أيّ شكل من أشكال التسوية والعدالة غير الجزائية الدولية أو الوطنية(24).
والحق؛ أن الإصرار على التطبيق الصارم لمقتضيات العدالة الجنائية بالمفهوم الضيق- من وجهة نظرنا – عامل معوّق لمتطلبات السلام والأمن في إفريقيا, فلا شك أن تركيز المدعي العام للمحكمة الجنائية على ضرورة إنزال مفهوم «العدالة الجزائية»، وتطبيقه واقعياً بصرامة عند التصدي للقضايا الشائكة على الساحة الإفريقية بوصفه السبيل الأنجع؛ أمر تحيط به شكوك كثيرة على نحو ما تكشف عنه الحالة الأوغندية وكذا الحالة السودانية، وهذا يتطلب البحث عن سبل بديلة لتفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية كأداة لتحقيق العدالة وحفظ الأمن والاستقرار في القارة الإفريقية، وذلك عبر التوفيق بين مبادئ «العدالة التصالحية» و «العدالة الجزائية»، وسيبقى دور المحكمة الجنائية وفاعليته رهن الوصول إلى تلك الصيغة التوفيقية بين اعتبارات العدالة ومقتضيات الأمن والاستقرار في الدول الإفريقية، بما يحقق أخف الضررين بالمفهوم الشرعي, وأقصى الممكن بالمفهوم الدبلوماسي، وهو ما يستحق دراسة مستقلة.
الاحالات والهوامش:
(*) أستاذ العلوم السياسية المشارك ـ جامعة القاهرة.
(1) انظر: Laura Barnett, The International Criminal Court: History and Role”., Canada: Library of Parliament(PRB02-11E), 4 November 2008, p1, pp 12-16 at: http://www2.parl.gc.ca/Content/LOP/ResearchPublications/prb0211-e.pdf
(2) انظر: Shadrack Gutto,” Created and limited by Politics: A view of the ICC FROM Africa”., African Security Review, vol.12 no. 4., 2003 at: http://www.ukinternationalpolicing.com/ms_document_result.cfm?id=83
(3) ويفسر بعض الباحثين ذلك بعدم وجود مصالح مباشرة للقوى الكبرى بإفريقيا، للمزيد حول علاقة المحكمة الجنائية بإفريقيا وموقف الأخيرة منها انظر: – Laura Barnett,, Op.cit., pp.24 – 26
– Nicholas Waddell and Phil Clark (eds.,) Courting Conflict?: Justice, Peace and the ICC in Africa, London: Royal African Society, 2008.
– وانظر: حمدي عبد الرحمن: المحكمة الجنائية للأفارقة فقط!! على الرابط الآتي:
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1236508774955&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout .
(4) انظر: Louise Parrott ,The Role of the International Criminal Court in Uganda: Ensuring that the Pursuit of Justice Does Not Come at the Price of Peace , Australian Journal of Peace Studies, Vol. 1, No. 1, 2006 .
– Anna Dickson e.tal., “the International Criminal Court: Current Cases and Contemporary Debates”., 20 April 2009 pp 9-15. at: http://www.parliament.uk/commons/lib/research/briefings/snia-05042.pdf
– Ted Nielsen, “The International Criminal Court and the ‘Peace versus Justice’ Dichotomy”, in Australian Journal of Peace Studies,34 – 42 at: http://www.poa.org.au/AJPS3-Nielsen.pdf
(5) انظر: جذور ذلك الصراع وتطوراته في معهد البحوث والدراسات الإفريقية، التقرير الاستراتيجي الإفريقي الأول 2001م – 2002م، القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية 2002م، ص 38 – 42، وص 180 – 189، وانظر أيضاً: صبحي قنصوه: (العنف الإثني في رواندا: ديناميات الصراع بين الهوتو والتوتسي)، سلسلة دراسات مصرية إفريقية، القاهرة: برنامج الدراسات المصرية الإفريقية. جامعة القاهرة، عدد 2 سبتمبر 2001م، ص 12
(6) انظر: The American Non-Governmental Organizations Coalition for the International Criminal Court, the current investigation by the icc of the situation in the democratic republic of the Congo, at: http://www.amicc.org/docs/Democratic%20Republic%20of%20Congo.pdf
(7) انظر: راجع مذكرة القبض على توماس لوبنغا في :
Situation in the Democratic Republic of the Congo In the Case of the Prosecutor V. Thomas lubanga Dyilo Under Seal :warrant of Arrest, no: ICC-01/04-01/06 date 10 February 2006 at:
http://www.icc-cpi.int/iccdocs/doc/doc191959.PDF
(8) راجع موقع المحكمة الجنائية الدولية على الرابط الآتي:
http://www.icc-cpi.int/Menus/ICC/Situations+and+Cases/Situations/Situation+ICC+0104
(9) انظر: Eric Blumenson, “the challenge of a global standard of justice: Peace, pluralism, and Punishment at the international criminal court”, Columbia Journal of Transnational Law, (New York: University of Columbia, Vol. 44, No.3, 2006. P. 807.
(10) انظر: Ibid., p 809
(11) انظر: William W. Burke-White and Scott Kaplan , Shaping the Contours of Domestic Justice: The International Criminal Court and an Admissibility Challenge in the Uganda Situation, University of Penn Law School, Public Law Research Paper No. 08-13, April 13, 2008,
(12) انظر: Killer,” The false…”., op.cit., p.16,
(13) انظر: راجع قرارات المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام للمحكمة وبياناتهم بشأن السودان على الرابط الآتي:
http://www.icc-cpi.int/Menus/ICC/Search?qt=sudan&la=en&x=25&y=11
(14) محمد عاشور مهدي: دليل الدول الإفريقية. القاهرة: مشروع دعم التكامل الإفريقي. جامعة القاهرة، 2007م, ص ص 221- 232.
(15) راجع تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمة حقوق الإنسان بشأن إفريقيا الوسطى. وبخاصة التقرير الآتي:
Human Rights Watch, Central African Republic, State of Anarchy :Rebellion and Abuses Against Civilians, September 2007 , pp 38-78.
(16) انظر: Human Rights Watch, Op.cit., P 106.
(17) حول الصراع وخلفياته وآثاره على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان بصفة خاصة انظر باختصار:
United Nations High Commissioner For Human Rights Report from OHCHR Fact-finding Mission to Kenya, 6-28 February 2008 At:
http://blog.ushahidi.com/wp-content/uploads/2008/03/final-ohchr-kenya-report-19-march2008.pdf
(18) انظر: ICC: Judges Approve Kenyan Investigation: Witness Protection Key Challenge in Investigation at:
http://www.hrw.org/en/news/2010/03/31/icc-judges-approve-kenyan-investigation
(19) انظر: Guinea massacre toll put at 157, At: http://news.bbc.co.uk/2/hi/africa/8280603.stm
ICC prosecutor concludes Guinea junta likely committed crimes against humanity
At: http://jurist.law.pitt.edu/paperchase/2010/02/icc-prosecutor-concludes-guinea-junta.php
(20) حول تلك الاعتراضات انظر:
Peace Gifty Sakyibea Ofei, “the International Criminal Court and the principle of complementarity : A comparison of the situation in Democratic Republic of the Congo and the situation in Darfur”., Submitted in partial fulfillment of the requirements for the degree LLM (Human Rights and Democratisation in Africa) of the University of Pretoria, November 2008, pp 14 – 39
(21) حول التعارض بين رغبات السكان المحليين في السلام ومطالب محكمة العدل الدولية بالعدالة انظر:
“Addressing New Security Threats Through Justice: The International Criminal Court’s Intervention in Northern Uganda”., Revolution or Evolution? Emerging Threats to Security in the 21st Century First Annual Graduate Symposium Dalhousie University, Halifax, N.S. Canada , University of Dalhous : Center for Foreign Policy Studies. pp 6-9 at: http://centreforforeignpolicystudies.dal.ca/pdf/gradsymp06/Suarez.pdf
(22) انظر: Alex de Waal, Op.cit., p 33
(23) انظر: Nick Grono and Adam O’brien, “justice in conflict? The ICC and peace process”., in Nicholas Waddell and Phil Clark (eds.,) Op.cit., pp 13-19.
(24) لمزيد حول العدالة الجزائية والعدالة التصالحية وسبل التوفيق بينهما فيما يتصل بالمحكمة الجنائية الدولية انظر:
Louise Parrott ,The Role of the International Criminal Court in Uganda: Ensuring that the Pursuit of Justice Does Not Come at the Price of Peace , Australian Journal of Peace Studies,