د حمدي عبد الرحمن (*)
لا يستطيع أي دارس للنظم السياسية الإفريقية أن يتغاضى عن الدور الذى تقوم به – ولا تزال – المؤسسة العسكرية في السياسة الإفريقية. وعليه فإن مراجعة الأدبيات تفصح عن أهمية استخدام مدخل العلاقات المدنية العسكرية في فهم ديناميات الحركة السياسية الإفريقية. على أن حركة المد والجزر التي شهدتها هذه العلاقات عبر العقود الخمسة الماضية منذ الاستقلال تؤكد على أهمية وضرورة بذل مزيد من الجهد في التحليل لفهم قضايا «عسكرة» السياسة في إفريقيا.
وعلى الرغم من تراجع وانسحاب المؤسسات الأمنية والعسكرية من الحياة السياسية، ولو نسبيًّا منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فإن ذلك لا ينفي استمرار تأثيرهم المحوري في صياغة ورسم ملامح النظم السياسية القائمة. وقد طالب روبين لوكام Lukham Robin بضرورة تبني منظور إفريقي متكامل في دراسة «عسكرة» السياسة يرتكز على رؤية تحليلية وإفريقية. كما ينبغي أن يجمع هذا المنظور بين مستوى التحليل الجزئي Micro للهياكل والمؤسسات العسكرية ومستوى التحليل الكلي Macro للدول الإفريقية والتكوينات الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك التغييرات العالمية.
والملاحظة الجديرة بالذكر في هذا السياق أن الاتجاه الحديث في دراسة «العسكرة» يربط بينها وبين إشكاليات وتحديات التحول الديمقراطي في إفريقيا، ولعل من أبرز القضايا ذات الصلة بالمؤسسة العسكرية في هذا السياق ما يلى:
أولاً: كيفية استعادة وتدعيم الهيمنة المدنية على المؤسسة العسكرية في أعقاب انهيار نظام الحكم العسكري، وماهية الإطار المؤسسي الملائم لذلك؟ ويرتبط بذلك طبيعة الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها المؤسسات السياسية المختلفة، ولاسيما التنفيذية والتشريعية منها.
ثانيًا: مستقبل علاقة العسكريين بالسلطة السياسية. فإذا كان من الأمر بدّ فما هي الدرجة والشكل الذي يمكن من خلالهما للعسكريين المشاركة أو التمثيل في العملية السياسية؟ وما هي الحقوق السياسية التي ينبغي أن يحتفظ بها العسكريون؟
ثالثًا: قضية المزايا والامتيازات الخاصة بالعسكريين. ويشمل ذلك مجالات متعددة تتراوح بين الاستقلال المهني، ومسائل المرتبات والمخصصات المالية، وبين السلطات السياسية والدستورية الممنوحة لهم.
رابعًا: إعادة تحديد دور ورسالة العسكريين؛ بما في ذلك وظائفهم بالقياس إلى مؤسسات الأمن الداخلي. ولا شك أن هذه العملية تشتمل على قضايا المبدأ العسكري ومستويات القوة وأنماط التسليح، والهياكل، والعلاقات المؤسسية الملائمة.
خامسًا: إثارة إشكالية الميزانية العسكرية. وتلك مسألة بالغة الخطورة في عملية الانتقال نحو الديمقراطية في إفريقيا؛ حيث إنها تقع موقع القلب في الإصلاح العسكري وتقرير مزايا المؤسسة العسكرية.
وأيًّا كان الأمر فإنه على الرغم من وجود قواسم مشتركة في طبيعة القضايا العسكرية المرتبطة بالإصلاح السياسي في الدول الإفريقية، فإنه لا يمكن تعميمها على الخبرة الإفريقية كافة. وربما يعزى ذلك لأكثر من سبب واحد؛ أولها تنوع أنماط وأشكال العلاقات المدنية العسكرية السائدة في إفريقيا، وهو ما يعني صعوبة التمييز ببساطة بين النظم «المدنية» والنظم «العسكرية».
وثانيها: يرتبط باختلاف السياق الوطني الذى يحدث فيه التحول في البلدان الإفريقية. ففي بعض الحالات كانت توجد حروب أهلية (أنجولا – موزمبيق)، وأحيانًا تسلطية سياسية (مدني أو عسكري)، أو ديكتاتورية عسكرية، وثالثًا اختلاف مسارات التحول الديمقراطي في إفريقيا.
وسوف تسعى هذه الورقة البحثية إلى بلورة القضايا السابقة المتعلقة بإشكالية العلاقات المدنية العسكرية في إطار مسارات التحول الديمقراطي للبلدان الإفريقية؛ من خلال رؤية مقارنة، مع التركيز على بعض الخبرات الناجحة، وكيفية الاستفادة منها على الصعيد الوطني المصري ودول الربيع العربي.
أولاً: إشكاليات العلاقة.. رؤية نقدية:
لعل أحد الإشكاليات الكبرى التي عالجتها أدبيات العلاقات المدنية العسكرية، وعلم الاجتماع العسكري، تتمثل في ضمانات تحقيق السيطرة المدنية على العسكريين. فالسيطرة المدنية تقوم على أساس مجموعة من الأفكار والمؤسسات والممارسات التي تقيد حركة العسكريين باتجاه أي تدخل محتمل في الشئون السياسية، مع توفير الأدوات اللازمة لتمكين النخبة المدنية والسياسية من ممارسة دور الهيمنة والرقابة على الشئون العسكرية. وطبقًا لأحد الدارسين فإن المعضلة الكبرى التي تواجه الأدبيات هي كيفية تحقيق المواءمة بين وجود مؤسسة عسكرية قوية بما يكفي لتحقيق مطالب المدنيين، وبين وجود ولاء عسكري يكفي لعدم تجاوز السلطة المخولة لهم من قبل المدنيين. أي أن التوازن هنا يكون بين اعتبارات المهنية والاحتراف، وبين إعلاء قيم الحيادية وعدم التحزب السياسي.
وتولي دراسات العلاقات المدنية العسكرية عمومًا أهمية كبرى للنظر في أمرين أساسيين؛ أولهما: درجة استقلال المؤسسة العسكرية عن السلطة المدنية، ومدى تأثير ذلك على مبدأ السيطرة المدنية على العسكريين. أما الأمر الثاني فهو ميل العسكريين للتدخل في الحياة السياسية (النمط الانقلابي).
ولعل الدراسة المحورية التي قدمها صمويل هنتنجتون بعنوان «الجندي والدولة» تعد مثالاً مهمًّا لسيادة النموذج الليبرالي الغربي على دراسات علم الاجتماع العسكري. يرى هنتنجتون أن العلاقات المدنية العسكرية تشكلها ثلاثة متغيرات أساسية هي: المحدد الوظيفي (تهديد خارجي: مستوى عالٍ أو منخفض)، والأيديولوجية (سواء كان المجتمع كله ليبراليًّا أو محافظًا) والبنية الدستورية (سواء كانت النخبة المدنية موحدة كما هو الحال في النظام البرلماني؛ حيث حكم الأغلبية أو كانت منقسمة كما هو الحال عندما تقتسم السلطتان التنفيذية والتشريعية المهام الرقابية).
وعلى أية حال فقد ظهرت دراسات نقدية عديدة لهذا المنظور الغربي في دراسة العلاقات المدنية العسكرية كما شهدتها الديمقراطية الغربية. فالتقاليد الغربية تولي اهتمامًا كبيرًا للبعد المؤسسي في هذه العلاقات، أي تظل القوات المسلحة بعيدة تمامًا عضويًّا وأيديولوجيًّا عن المؤسسات السياسية، وهو ما يعلي من أهمية الميكانزمات المؤسسية في تحقيق هذا الفصل بين المؤسسات العسكرية والمدنية.
بيد أن واقع الحال في البلدان النامية يؤكد على أهمية الأشكال غير الرسمية لتحقيق مبدأ السيطرة المدنية، مثل الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني والثقافة السائدة في تحديد المعايير الخاصة بالعلاقات المدنية العسكرية في الدولة (وهو ما يطلق عليه منظور الشراكة التعاونية في العلاقات المدنية العسكرية).
ومن المفيد في هذا السياق التمييز بين الرقابة الموضوعية والرقابة الذاتية على المؤسسة العسكرية[1]؛ فالأشكال الموضوعية للرقابة تشمل الأدوات الرسمية والدستورية والقانونية، وتمثل ميكانزمات الضبط والرقابة الخارجية على القوات المسلحة، كما هو معروف في الدول الديمقراطية الغربية. وتعتمد هذه الأدوات على عوامل موضوعية مثل الشرعية السياسية، ومستوى التنظيم السياسي والمدني الرسمي داخل المجتمع، ودور البرلمان ولجانه المختلفة في تحقيق مبدأ الرقابة على كافة مؤسسات الدولة؛ بما فيها المؤسسة العسكرية.
ومع ذلك فإنه من أجل ضمان استقرار العلاقات المدنية العسكرية يتم اتخاذ إجراءات ذاتية إضافية. وهذه الإجراءات ليست دستورية أو قانونية، وإنما هي نتاج تفاهمات وشراكات متبادلة بين النخب العسكرية والنخب المدنية والسياسية الحاكمة. ولا شك أن هذه الإجراءات قد لا تتوافق مع المبادئ الديمقراطية، وهي تشمل الانتماء الحزبي لقادة الجيش، أو سياسة الانتقاء العرقي لضمان الولاء في سلك الضباط، وإعادة صياغة رسالة المؤسسة العسكرية وأهدافها؛ لضمان عدم تدخلها في الحياة السياسية.
وثمة أدوات أخرى مثل رقابة تحركات العسكريين من خلال أجهزة استخبارات تابعة للسلطة التنفيذية، أو إنشاء قوات عسكرية أو ميليشيات شبه عسكرية لخلق حالة من التوازن مع القوات المسلحة.
ولا يخفى أن أحد عيوب أدوات الرقابة الموضوعية على العسكريين تتمثل في غياب الإرادة السياسية من جانب النخبة الحاكمة. إذ إنه كثيرًا ما يعتمد السياسيون على دعم وتأييد الجيش لتحقيق طموحات وغايات سياسية. وهو ما يفسر تردد القادة السياسيين في تطبيق إجراءات الرقابة الموضوعية على العسكريين. ولعل ذلك يفسر أيضًا تدخل القوات المسلحة في الدول الإفريقية التي شهدت استقرارًا للعلاقات المدنية العسكرية فترة طويلة من سنوات مرحلة ما بعد الاستقلال، ومن أمثلة ذلك زامبيا عام 1997م ونيجيريا خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات وليسوتو عام 1985م وغانا وكوت ديفوار.
إن فهم الواقع الإفريقي والعربي المتغير بعد عملية التحول من نظم التسلطية والاستبداد في إفريقيا بداية تسعينيات القرن الماضي، وبعد ثورات الربيع العربي التي بدأت عام 2011م؛ يستلزم إعادة مراجعة أدبيات علم الاجتماع العسكري وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية بما يفضي في نهاية المطاف إلى إيجاد منظور جديد يتوافق مع طبيعة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلدان الربيع العربي والإفريقي.
إننا بحاجة إلى منظور أكثر مرونة وشمولاً؛ بحيث يمكن إعادة فهم معادلة العلاقات المدنية العسكرية بعيدًا عن حدية ونمطية الإطار المعرفي الغربي السائد. إذ يمكن أن تشمل العلاقة الأبعاد والأطر غير المؤسسية وغير الرسمية، مثل مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك يتم إدخال مؤسسات الأمن والميليشيات شبه العسكرية والمخابرات ضمن دائرة المؤسسة العسكرية. ولعل هذا الإطار الجديد يسمح بالجمع بين أدوات الرقابة الموضوعية والذاتية لتحقيق مبدأ السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، ولكن في إطار من الشراكة والتعاون بين القيادات العسكرية وقيادات النخبة السياسية والمدنية.
ثانيًا: الجيش والسياسة في الخبرة الإفريقية:
لقد مرت الجيوش الإفريقية بتطورات فارقة منذ الاستقلال؛ إذ إنها في المراحل الأولى من بناء الدولة الحديثة كانت أشبه بقوات شرطية صغيرة العدد، معنية أساسًا بحفظ الأمن الداخلي، ولكنها شيئًا فشيئًا أضحت أكثر عددًا وعتادًا، وذلك في مواجهة التحديات الخارجية المتزايدة. ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه الجيوش لم تكن خلال العهد الاستعماري جيوشًا للشعب تدافع عن مصالحه، وتكون طوع أمره، وإنما كانت جيوشًا استعمارية أسستها القوى الاستعمارية للدفاع عن مصالحها، كما حدث في قيام الأفارقة بالقتال على جبهات المعارك خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وخلال السنوات الأولى بعد الاستقلال كانت الرؤية السائدة لدى الحكام الأفارقة هي أن تحول الجيوش الإفريقية ولاءها للنظام السياسي الجديد، أي أن المسألة كانت تعني في جوهرها مجرد تغيير الولاء السياسي للعسكر. يتضح ذلك من حديث كوامي نكروما عام 1961م حينما خاطب الأكاديمية العسكرية في أكرا بقوله: «ينبغي عليكم منح الثقة للحكومة، وتأييدها دون نقاش أو نقد، فهي تفعل الأصلح للدولة. إنه ليس من واجب الجندي أن يوجّه النقد، أو يحاول التدخل بأي شكل في الأمور السياسية للدولة. إن عليه أن يترك هذه المهمة للسياسيين، فهم الأقدر عليها. وعليه فإن الحكومة تتوقع منكم في جميع الأحوال أن تكونوا طوع أمرها، وتخدموا شعب غانا بكل إخلاص».
وقد عمد كثير من الزعماء الأفارقة بعد الاستقلال إلى التوظيف السياسي للجيوش الوطنية، بمعنى استخدامها لتحقيق غايات سياسية مثل قمع المعارضة السياسية، وحشد التأييد السياسي للنظام الحاكم. أفضى ذلك إلى حدوث موجة من الانقلابات العسكرية منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. ففي خلال الفترة من 1966م وحتى 1976م شهدت إفريقيا أكثر من مئة انقلاب عسكري ومحاولة انقلابية. وبحلول عام 1978م كان ما يزيد عن نصف دول القارة يُحْكَم بواسطة العسكريين. بل إن كثيرًا من هذه الدول قد خضع للحكم العسكري منذ استقلالها أكثر من فترة خضوعها للحكم المدني.
ولا شك أن هذه العسكرة المبكرة للسياسة الإفريقية تؤكد على حقيقة تاريخية وسياسية مفادها أنه عندما يكون الحكم المدني تنقصه الفاعلية، ولا ينهض على مؤسسات قوية، فإن جهازه الإداري يصبح غير قادر على السيطرة على المؤسسة العسكرية. يعني ذلك أن ضعف أو انهيار السلطة المدنية يمثل المقدمة الضرورية لظهور النمط الانقلابي في العلاقات المدنية العسكرية.
1- أنماط العلاقات العسكرية المدنية:
من الملاحظ أن العلاقات المدنية العسكرية اتخذت مسارات عدة متمايزة على المستويين الإقليمي والوطني في إفريقيا. فبينما كانت الانقلابات العسكرية أقل انتشارًا في منطقة إفريقيا الجنوبية، نجد أنها كانت حدثًا شائعًا في غرب ووسط وشرق إفريقيا. وفي حين شهدت بعض البلدان الإفريقية تكرار الظاهرة الانقلابية، فإن البعض الآخر قد نأى بنفسه عن هذه العدوى الانقلابية تمامًا. ولعل تفسير ذلك يرجع، ولو جزئيًّا، إلى نمط مرحلة التحرر الوطني من ربقة الاستعمار.
وعلى العموم، كانت الأنظمة التي جاءت إلى السلطة من خلال الكفاح المسلح قادرة على تأسيس، أو إعادة تنظيم قواتها المسلحة الوطنية، وبالتالي كانت أكثر نجاحًا في فرض السيطرة من تلك التي لم تفعل ذلك.
ثانيًا، قامت بعض الدول التي حصلت على استقلالها بشكل تفاوضي، مثل تنزانيا وكينيا والسنغال، وبعد التحدي الأولي من قواتها المسلحة، بإعادة تنظيم وإضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات المدنية العسكرية، وهو الأمر الذي حافظ على صيغة الحكم المدني بها، أما البعض الآخر، مثل غانا وأوغندا، فإنه لم يتمكن من القيام بذلك. وبالمثل، نجحت بعض الأنظمة العسكرية في تجنب الوقوع في شرك العملية الانقلابية مرة أخرى، في حين وقع البعض الآخر منها في إسار حلقة مفرغة من الانقلابات والانقلابات المضادة.
ويطرح صامويل ديكالو من خلال دراسة لنحو 12 دولة إفريقية لم تشهد تدخلاً مباشرًا للعسكر في الحياة السياسية ثلاثة أنماط أو نماذج مهمة للعلاقات المدنية العسكرية في إفريقيا. وإذا أضفنا لها النمط الانقلابي لأصبح لدينا أربعة أنماط أساسية، وذلك على النحو التالي:
النمط الأول: البريتوري[2] (الانقلابي):
تتمثل السمات العامة لهذا النمط في الآتي: تمارس المؤسسة العسكرية دورًا سياسيًّا مباشرًا. فالسيطرة على زمام الحكم تصبح مطمعًا للعسكريين؛ إذ إنه عادة ما يتجه الضباط في هذه الدول إلى النظام السياسي كميدان لتوسيع وتعظيم تأثيرهم. كما يشيع في هذا النمط عدم احترام مبدأ السيطرة المدنية على العسكريين، ومن ثَم فإن النخب الحاكمة في هذه الدول ترقب نشاط العسكريين في المجتمع بعين الحذر والخشية؛ حيث إن هذه النخب تفتقر إلى القوة التي تحول بين العسكريين وبين إزاحتهم من السلطة. فالحكومات هشّة وضعيفة، وتصبح في وضعٍ تكون فيه عاجزة عن السيطرة على تكويناتها العسكرية. ولا شك أن هذا الأمر يسهل كثيرًا من قيام العسكريين بممارسة دور مباشر في الحياة السياسية. ومن جهة ثالثة يظهر هذا النمط الانقلابي بصفة عامة في الدول ذات المؤسسات السياسية الضعيفة، والتي يغيب عنها احترام وسيادة القانون.
جدول رقم (1)
النمط الثاني: الضامن الخارجي:
إذ يعتمد استقرار نمط العلاقات المدنية العسكرية في هذه الحالة على وجود طرف خارجي مستعد لتقديم العون الخارجي في حالة وجود ما يهدد الاستقرار والأمن الداخلي. وقد طرحت فرنسا دومًا نفسها من خلال وجودها العسكري في العديد من مستعمراتها الإفريقية السابقة على أنها عامل استقرار لحماية الأمن الداخلي والخارجي لهذه الدول.
يعني ذلك أن فرنسا لن تسمح بتغيير أنظمة الحكم المدنية بما يضر بمصالحها في دول مثل السنغال وتوجو والكاميرون وجيبوتي. ولا شك أن الوجود الأمريكي والغربي اليوم في القارة الإفريقية بحجة محاربة الإرهاب، وإقامة علاقات وثيقة مع قادة الجيوش الإفريقية يمثل متغيرًا مهمًّا في تحديد حركة العسكر إزاء السلطة المدنية الحاكمة.
وتشير التقارير الأمريكية أن القيادة الإفريقية (أفريقوم) تمتلك العديد من القواعد والمنافذ داخل إفريقيا، كما أنها تقوم بعمليات استخباراتية، وترسل قوات خاصة إلى العديد من البلدان الإفريقية. وتخطط وزارة الدفاع الأمريكية لإرسال نحو ثلاثة آلاف جندي للقيام بمهام تدريبية ولوجستية في إفريقيا خلال عام 2013م.
جدول رقم (2)
المصدر:
Sun Degang & Yahia Zoubir , Sentry Box in the Backyard: Analysis of French Military Bases in Africa. Journal of Middle Eastern and Islamic Studies (in Asia), Vol. 5, No.3, 2011, p84.
النمط الثالث: المقايضة:
يعتمد هذا النمط على شراء الولاء السياسي للعسكريين؛ من خلال المقايضة بإعطائهم مزايا مادية معينة، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي. ولا شك أن هذا الأسلوب يخالف مضمون نمط القائد/الأتباع الذي يستخدمه النظام السياسي مع النخبة المدنية، سواء في الشرائح التقليدية أو الحديثة. لقد أضحت مسألة إرضاء العسكريين وسد احتياجاتهم الشخصية والجماعية من خلال المنصب تمثل تحديًا كبيرًا أمام القيادة السياسية المدنية.
وتشمل هذه الإغراءات، بالإضافة إلى المرتبات المجزية، الإعفاءات الجمركية على السيارات والسلع الترفيهية، والسفر للخارج من أجل حضور دورات تدريبية، والتعيين في وظائف الملحق العسكري خارج البلاد، وما إلى ذلك.
النمط الرابع: الشرعية السياسية:
يعتمد هذا النمط على انتهاج النظام الحاكم سياسات تحقق له الشرعية السياسية، بما يضمن السيطرة على المؤسسة العسكرية، ويمنعها من التدخل في الحياة السياسية. وفي هذا النمط من العلاقات المدنية العسكرية المستقرة يسود اعتقاد عامّ بأنه من الصواب استمرار النخبة المدنية الحاكمة في إدارة شئون البلاد.
ولعل من بين أبرز العوامل التي تدعم شرعية النخبة المدنية في هذا النمط غياب الانقسامات العرقية الحادة، ووجود قيادة مدنية لديها مقومات الزعامة وفقًا لأسس تقليدية أو حديثة (يمكن الإشارة إلى حالتي بوتسوانا وسوازيلاند). كما أن بعض الزعامات في هذه الدول استطاعت أن تبني جسور التواصل والالتقاء الاجتماعي بين الجماعات المتنافسة، وهو ما جنّب دولها حدوث صراعات محتملة (تنزانيا مثال واضح).
2- استراتيجيات السيطرة المدنية على العسكريين:
يمكن الحديث عن استراتيجيات سبعة أساسية تبنتها الدول الإفريقية التي شهدت نمطًا مستقرًّا للعلاقات المدنية العسكرية، ولم تشهد خلال مرحلة ما بعد الاستقلال تدخلاً مباشرًا للعسكر في الحياة السياسية.
وهذه الاستراتيجيات هي على النحو التالي:
1- سياسات التجنيد ولاسيما في سلك الضباط:
حيث عادة ما يتم اللجوء إلى انتهاج سياسات تفضيلية معينة لاختبار كادر الضباط الجديد من بين جماعات إثنية أو دينية أو إقليمية معينة تكون مؤيدة لنظام الحكم القائم. وعلى الرغم من أن هذه السياسة تفضي إلى إنشاء «جيوش قبلية» الطابع، كما كان العهد في النظام الاستعماري؛ فإن استبعاد العناصر المناوئة والمعارضة للنظام السياسي تسهم كثيرًا في تحقيق الاستقرار السياسي، وتجنب النمط الانقلابي.
ولعل هذه الاستراتيجية تتضح بجلاء في التجربة الكينية؛ حيث حاول الرئيس جومو كينياتا بعد الاستقلال تجنيد مزيد من الكيكويو في سلك الضباط، ولاسيما المواقع القيادية العليا. وعليه فإن أي تحرك جماعي من قبل الجيش يفترض تعاونًا كاملاً بين الضباط الكيكويو وغير الكيكويو، وهو أمر مستبعد في ظل التركيبة الحالية للجيش الكيني. كما أن وجود قوات الخدمة العامة، وهي قوات شبه عسكرية مدربة تدريبًا عاليًا تمثل عنصر ردع في مواجهة أية محاولات لزعزعة أمن واستقرار النظام الحاكم.
2- إنشاء قوات وفرق خاصة لمراقبة أي تحركات معادية من قِبَل الجيش أو الشرطة أو القوات الجوية:
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك قوات الحرس الجمهوري، وقوات الخدمة العامة، والقوات شبه العسكرية وأجهزة الاستخبارات العامة، وما إلى ذلك من الوحدات والقوات التي تستهدف حماية النظام القائم والدفاع عنه.
وقد اتضح دور مثل هذه القوات على سبيل المثال في محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها كينيا عام 1982م حينما تصدت قوات الخدمة العامة للانقلابيين في القوات الجوية الكينية. وقد استطاع عمر بونجو في الجابون تأسيس قوات النخبة الرئاسية من بين صفوف قبائل الباتيك Bateke وتسليحها بأحدث المعدات، وذلك من أجل تحقيق التوازن مع القوات العسكرية النظامية.
3- تعيين أفراد من الأسرة الحاكمة في المواقع القيادية بالجيش، مثل رئاسة الأركان والمخابرات العامة والحرس الرئاسي:
وإذا أخذنا بعين الاعتبار وجود تقارير يومية من أجهزة الاستخبارات السياسية، فإن رئيس الدولة يكون على إحاطة تامة بكل ما يحدث داخل المؤسسة العسكرية. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى خبرة بوتسوانا؛ حيث أصبح إيان خاما قائدًا للجيش قبل توليه مهام الرئاسة في عام 2009م، وهو ابن أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال السير سيرتس خاما. وقد شمل هذا التقليد دولاً أخرى مثل أوغندة التي حرص رئيسها يوري موسيفيني أن يلحق ابنه كينروباجا Kainerubaga بالجيش ليتولى مناصب قيادية في فترة زمنية محدودة. وهو ما دفع إلى الاعتقاد بأن أوغندة تسعى إلى توريث الحكم في حالة غياب الرئيس موسيفيني.
4- تعيين بعض العسكريين الأجانب في مواقع قيادية مهمة:
مثل الاستخبارات العسكرية وقوات الحرس الرئاسي، وغيرها من الأجهزة الرقابية التي تعمل على مراقبة تحركات الجيش. وقد ظهر هذا الأسلوب واضحًا في الدول الناطقة بالفرنسية؛ حيث تشير خبرة دول مثل النيجر وإفريقيا الوسطى أنها اعتمدت في فترات معينة من الحكم المدني بها على وجود عسكريين فرنسيين يعملون في المؤسسات العسكرية والرقابية بها.
ولعل الجابون في ظل حكم الرئيس الراحل عمر بونجو تطرح مثالاً واضحًا على هذه الإستراتيجية؛ حيث شهدت البلاد وجود مجموعة يعتد بها من المرتزقة الأجانب يتقاضون رواتب عالية، ويعملون تحت إمرة الرئيس شخصيًّا؛ بهدف مراقبة والسيطرة على القوات العسكرية النظامية.
5- الحصول على الدعم الخارجي في حالة وجود أي اضطرابات داخلية تهدد أمن النظام الحاكم:
فقد عمدت بعض الدول الفرنكوفونية في إفريقيا إلى الاستعانة بالقوات الفرنسية للدفاع عنها، وذلك من خلال توقيع عدد من اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا. ولعل من أبرز الأمثلة على تلك الدول التي تعتمد على الدعم الفرنسي: السنغال والجابون والكاميرون.
6- محاولة إضفاء الطابع الشرعي على النظام الحاكم:
من خلال تبني سياسات تعددية، مثل إجراء انتخابات قائمة على التعدد الحزبي، أو الاعتماد على بعض مصادر التأييد التقليدية، أو اللجوء إلى استخدام خطاب ذي نزعة وطنية معادية للاستعمار الغربي. وعليه فإن نظرة الجماهير إلى مشروعية النظام الحاكم تعني في ذات الوقت قبول المؤسسة العسكرية بشرعية الحكم المدني.
7- تقديم العديد من الإغراءات والمنافع لأفراد المؤسسة العسكرية:
مثل منحهم رواتب مرتفعة نسبيًّا، وتوفير العديد من الخدمات والمزايا المالية لهم ولعائلاتهم، وهو ما يعني بالتبعية عملية شراء الولاء السياسي، وبصفة خاصة من جانب كبار الضباط. وعادة ما يقوم كبار الضباط في الجيش والشرطة بأنشطة اقتصادية متعددة، كما أن بعضهم يتقاضى أكثر من أجر واحد، وهو ما تغضّ عنه الحكومات الطرف.
ثالثًا: إعادة صياغة العلاقات ومرحلة الانتقال الديمقراطي:
لا شك أن تطبيق النمط الغربي في العلاقات المدنية العسكرية، والذي يقوم على مبدأ السيطرة الكاملة للنخبة المدنية، والتبعية المطلقة للمؤسسة العسكرية قد لا يتفق وطبيعة الثقافة السائدة في إفريقيا بعد سنوات طويلة من الحكم الاستبدادي والتدخل العسكري[3].
إذ ربما يولد ذلك المنحى استياء ومقاومة من كبار الضباط الذين يرون ذلك تدخلاً سياسيًّا يقوّض كرامتهم العسكرية والمهنية. وعليه فإن بناء نمط من العلاقة المستقرة بين النخبة المدنية والمؤسسة العسكرية يتطلب بذل الوقت والجهد لبناء الثقة المتبادلة.
ومن المعروف أن المؤسسة العسكرية في الديمقراطيات المستقرة ليست محايدة تمامًا، وإنما هي تمارس ضغطًا سياسيًّا بشكل غير مباشر، من أجل تعظيم مصالحها المؤسسية، والمساهمة في صياغة السياسات الدفاعية والأمنية؛ استنادًا إلى خبرات أعضائها المهنية. تعطي خبرة جنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد الابارتهيد[4] ابتداء من عام 1994م نموذجًا واضحًا ومهمًّا لنمط العلاقات المدنية العسكرية القائم على الشراكة والثقة. ويتسم هذا النمط بالخصائص الآتية:
1- أن هذه الشراكة ليست متساوية الأركان؛ فقوات الدفاع الوطني في جنوب إفريقيا تخضع للرقابة والمساءلة من قبل السلطة المدنية المنتخبة. ولا يخفى أن تأسيس نظام ديمقراطي وتعزيزه يصبح أمرًا مستحيلاً إذا كان العسكر لا يقبلون بهذا المبدأ أو لا يحترمونه.
وقد حدد دستور جنوب إفريقيا الجديد بشكل واضح التسلسل الهرمي للسلطة في المسائل العسكرية. فرئيس أركان قوات الدفاع الوطني يمارس دورًا تنفيذيًّا في قيادة هذه القوات. وتمارس هذه القيادة تحت إشراف وتوجيهات وزير الدفاع وقت السلم، وبتوجيه من رئيس الدولة في حالة الدفاع عن الوطن. وعلى أية حال فإن وزير الدفاع يخضع لمساءلة البرلمان ومجلس الوزراء في كل ما يتعلق بقوات الدفاع الوطني.
ويقوم البرلمان بالموافقة على التشريعات والميزانية العسكرية، وعلى قرار رئيس الدولة بنشر قوات الدفاع الوطني خارج الحدود أو داخلها. وتمتلك لجنة الدفاع في البرلمان سلطات الرقابة، والإشراف، والتحقيق، وإصدار التوصيات في كافة المسائل العسكرية والأمنية.
2- يتم تعريف الشراكة في القانون؛ حيث يتم تحديد صلاحيات ومهام الجيش وفقًا للدستور وقانون الدفاع. ويتعين على قوات الدفاع الوطني أثناء قيامها بعملياتها، أو الاستعداد لتلك العمليات الالتزام بهذه المعايير. وفي حالة الحرب تلتزم بقواعد القانون الدولي الإنساني.
ومن اللافت للانتباه حقًّا أن دستور جنوب إفريقيا يعلي من شأن القانون، ويجعله مقدمًا على مبدأ الطاعة العسكرية؛ إذ يتعين على أفراد الجيش عدم إطاعة «أية أوامر مخالفة للقانون بشكل واضح».
3- تنطوي هذه الشراكة على معايير معينة بالنسبة للقوات المسلحة، ومن ذلك على سبيل المثال: احترام القوات المسلحة للحكم المدني، وسيادة القانون، والعملية السياسية الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمبدأ الدستوري الخاص بعدم التمييز استنادًا إلى العرق أو النوع أو التوجه الجنسي.
إضافة إلى ذلك فإن قوات الدفاع الوطني تتمتع بالحيادية السياسية في مواجهة السياسات الحزبية، وهو ما يعني أنها لا تسعى إلى تحقيق أو تعطيل مصالح أي طرف، سواء كان في الحكومة أو المعارضة. وقد تم تأهيل جميع أفراد قوات الدفاع الوطني من خلال برنامج للثقافة المدنية يشمل التوعية بالمبادئ الدستورية، واحترام حقوق الإنسان، واحترام التنوع الثقافي والمبادئ الديمقراطية للعلاقات المدنية العسكرية.
4- وتقوم الشراكة على التزامات محددة من قبل الحكومة تجاه القوات المسلحة. ومن ذلك عدم إساءة الحكومة للقوة العسكرية، سواء لأغراض حزبية أو قمعية. كما أنها لا تتدخل في هرمية القيادة العسكرية، أو تطبيق قانون التأديب العسكري، أو المسائل التنفيذية التي تدخل في اختصاص القادة العسكريين. وتلتزم الحكومة كذلك بالعمل على زيادة الميزانية العسكرية لتمكين القوات المسلحة من أداء مهامها بشكل فعّال، ولضمان تحقيق رواتب مجزية للعسكريين.
5- تتحقق الشراكة من خلال هيكل وبنية وزارة الدفاع؛ بحيث تضم موظفين مدنيين يهتمون بالجوانب السياسية لمسائل الأمن والدفاع، كما أنهم يشاركون في صياغة السياسات الدفاعية. وعادة ما يتمتع كل من رئيس الأركان (عسكري) وسكرتير وزير الدفاع (مدني) بمكانة متساوية في التعامل مع وزير الدفاع. فالمسئول المدني يقترح السياسات، والثاني العسكري يقترح المسائل التنفيذية والعملياتية. وهو ما يجعل هذا النمط متوازنًا.
تعزيز مبدأ الرقابة البرلمانية:
فيما يخص مجال الرقابة البرلمانية على أمور الدفاع والمؤسسة العسكرية يوجد في جنوب إفريقيا نوعان من اللجان البرلمانية؛ أولهما اللجنة الدائمة المشتركة بشأن الدفاع، والثانية هي لجنة ملف الدفاع. وتتولى اللجنة الأولى المسائل العامة للرقابة، كما أنها تملك إمكانية التحقيق وتقديم المقترحات بشأن الميزانية وسياسات الأمن والتسليح وأية مهام أخرى خاصة بالرقابة البرلمانية على القوات المسلحة، كما يحددها قانون الدفاع الوطني.
وتكاد اللجنة الثانية الخاصة بملف الدفاع تمارس نفس الاختصاصات والصلاحيات المخولة للجنة الدائمة، ولكنها مع ذلك تشارك في عملية التشريع التي يقوم بها البرلمان ككل. وقد جرت العادة على تمثيل كافة الأحزاب المشاركة في البرلمان في عضوية هذه اللجنة. ومن الملاحظ أيضًا أن عمل هاتين اللجنتين متكامل؛ بحيث يؤدي في النهاية إلى تحقيق الغرض العام، وهو السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية.
ولعل من أبرز الأنشطة البرلمانية في مجال مراقبة القوات المسلحة في جنوب إفريقيا المشاركة في حوار مجتمعي عام في أعقاب التحول من نظام التفرقة العنصرية بهدف إعادة تعريف عقيدة المؤسسة العسكرية، وتحديد أهدافها، والتخلص من روح التدخل السياسي لديها؛ بحيث تصبح مؤسسة مهنية تعلي من قيم الديمقراطية والسيطرة المدنية. وقد أنتج هذا الحوار إصدار الكتاب الأبيض لوزارة الدفاع في مايو 1996م.
وتشمل الرقابة البرلمانية، من جهة ثانية، قضايا التشريع المتعلقة بالدفاع، وكذلك بعض الأمور المتعلقة بإعادة هيكلة قوات الدفاع الوطني، وعمليات نشرها داخل حدود الدولة أو خارجها. على أن قضية الميزانية العسكرية تظل إحدى التحديات الكبرى التي تواجه الرقابة البرلمانية؛ إذ لا تزال اللجان البرلمانية تتعامل مع ميزانية الجيش بحسبانها أمرًا واقعًا، وهو ما يعني أن البرلمان لا يمارس دورًا حقيقيًّا في توجيه وإدارة الميزانية العسكرية.
وتطرح تجربة بوتسوانا نمطًا آخر في العلاقات المدنية العسكرية المستقرة؛ حيث لا تشهد البلاد وجود منصب وزير الدفاع، ويتولى رئيس الدولة بنفسه مسئولية قيادة المؤسسة العسكرية؛ فهو بحكم الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس أركانها. ويتولى الرئيس كما هو محدد بالدستور سلطة تحديد الاستخدام العملياتي للقوات المسلحة، وتعيين أفرادها، وترقيتهم، وإحالتهم للتقاعد. ولرئيس الدولة حق تفويض بعض صلاحياته لأي عضو في القوات المسلحة.
وتبرز طبيعة العلاقات المدنية العسكرية السائدة في بوتسوانا -على الرغم من وجود شكوك متبادلة بين النخب العسكرية والمدنية- أهمية الشراكة والتوفيق بين الطرفين لخلق وتعزيز البيئة المواتية لتطوير الديمقراطية في البلاد. إن المؤسسة العسكرية ترى نفسها الأقدر على حماية المصلحة الوطنية، وأنها الأكثر تدريبًا وخبرة بحكم طبيعتها المهنية، أما النخبة السياسية فهي لا تفهم كثيرًا في الأمور الفنية الخاصة بالمؤسسة العسكرية كما أنها تتحرك وفق دوافع حزبية وانتخابية ضيقة.
وقد جرت العادة حتى في ظل عدم وجود وزير مختص بالقوات المسلحة على القبول بمبدأ التوفيق لإحداث نوع من المواءمات السياسية بما يحقق مصالح أطراف المعادلة في العلاقات المدنية العسكرية في بوتسوانا.
وتشير تجربة تنزانيا التي شهدت تمردًا عسكريًّا وحيدًا عام 1964م إلى التخلص من الجيش الموروث عن فترة الاستعمار، وتأسيس جيش جديد بعقيدة جديدة تحترم مبدأ السيطرة المدنية على العسكر. وبالفعل قام جوليوس نيريري بدعوة شبيبة حزب الاتحاد الوطني الإفريقي لتنجانيفا (التانو) بالانضمام للجيش الجديد في جمهورية تنجانيقا. وعندما تم تحقيق الوحدة مع زنزبار وتأسيس جمهورية تنزانيا أضحى الجيش التنزاني مؤدلجًا وفقًا لنمط اشتراكية الأوجاما الذي انتهجه نيريري، وهو ما ضمن إلى حد كبير ولاء العسكر للنخبة المدنية الحاكمة في إطار فلسفة الحزب الواحد الحاكم.
وعندما خضعت تنزانيا لتأثيرات التحولات الديمقراطية التي عصفت بدول القارة الإفريقية في نهاية أعوام الثمانينيات، كان عليها أن تتخلص من نظام الحزب الواحد الحاكم وتأخذ بمنهج التعددية الحزبية، وهو ما أسهم بقدر ما في إعادة صياغة نمط العلاقات المدنية العسكرية مرة أخرى. ومن ذلك:
1- تم الفصل بين الحزب والحكومة، وذلك في أعقاب وضع دستور جديد عام 1992م والسماح بتعدد الأحزاب. وعليه فقد أصبح الحزب الثوري الحاكم مجرد أحد الأحزاب المتواجدة في المشهد السياسي، وتسعى للحصول على الدعم الحكومي شأنه شأن باقي الأحزاب الأخرى.
2- تم الفصل نهائيًّا بين الجيش والحزب، وعليه فقد تم إغلاق جميع فروع ومؤسسات الحزب داخل الجيش، وهو ما عكس توجهًا جديدًا نحو مرحلة من التحول الديمقراطي التي تؤكد على حيادية، وعدم تحزب المؤسسة العسكرية.
3- تم تحريم الاشتغال بالسياسة على جميع أفراد المؤسسة العسكرية وموظفي الخدمة المدنية؛ إذ تم تخييرهم بين العمل في مجال الخدمة المدنية العامة، أو الاشتغال بمجال النشاط السياسي.
4- إعادة هيكلة وتنظيم القوات المسلحة؛ من أجل تدريبها بشكل احترافي، وبما يؤهلها للمشاركة في عمليات حفظ السلام.
وعليه يمكن أن نخلص إلى القول بأنه في محاولة لترويض المؤسسة العسكرية -خاصة بعد تمرد 1964م- قام النظام الحاكم في تنزانيا بإضفاء الشرعية السياسية على نفسه من خلال إحداث نوع من التداخل بين مؤسسات الجيش والحكومة، والحزب والبيروقراطية. وعلى الرغم من التحولات السياسية التي شهدتها تنزانيا منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، فإن عمليات إعادة هيكلة نمط العلاقات المدنية العسكرية السائد لم تغير طبيعة مبدأ السيادة المدنية على العسكريين.
أما مالاوي فقد شهدت جهودًا دءوبة من أجل التخلص من عملية عسكرة المجتمع، وذلك بحل وتسريح منظمة شباب الرواد الملاويين Malawi Young Pioneers، وهي ميليشيا حزبية نشأت عام 1963م، وتم تدريبها على أيدي الإسرائيليين، وفقًا لنظام الكيبوتز (المستوطنات الجماعية)، كما رفض الجيش المالاوي التدخل المباشر في الحياة السياسية أثناء الفترة الانتقالية والتحول لنظام التعدد الحزبي في عام 1994م.
وقد اعتمدت الحكومة المالاوية على عدد من الميكانزمات لتحقيق مبدأ السيطرة المدنية على العسكريين، ومن ذلك: التأكيد على هيمنة الضوابط الدستورية والتشريعية، وخلق توافق حزبي بشأن سياسات الدفاع والحكم الصالح. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى عدد من الأمثلة المهمة، وذلك على النحو التالي:
1- ينص الدستور على أن الجيش يعمل تحت إمرة وإشراف السلطات المدنية. كما أنه يحدد مهمة هذا الجيش في دعم السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية للبلاد، بالإضافة إلى دعم وحماية النظام الدستوري. ويلتزم الجيش دستوريًّا بوضع موارده وخبراته التقنية تحت تصرف السلطات المدنية، كما يتعين عليه أداء الوجبات المنوطة به خارج البلاد إذا اقتضت الضرورة ذلك. وطبقًا للدستور فإن الأمور التنفيذية الخاصة بالمؤسسة العسكرية يتولاها رئيس الجمهورية؛ باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومجلس الدفاع الذي يضم وزير الدفاع والقيادة العسكرية العليا.
2- ينص الدستور على وجود لجنة الأمن والدفاع في الجمعية الوطنية؛ لضمان رقابة الأحزاب على الجيش، وتعزيز دور البرلمان التشريعي والرقابي على المؤسسة العسكرية. ويُعد البرلمان السلطة الوحيدة التي توافق على استخدام القوة العسكرية لفترة طويلة، ومع ذلك فإن رئيس الجمهورية يملك حق نشر قوات عسكرية دون مواقفة البرلمان، ولرئيس الدولة كذلك حق تعيين وفصل كبار الضباط؛ بما في ذلك القائد العام للجيش.
3- وتجدر الإشارة إلى أن الجيش في مالاوي اكتسب سمعة دولية معتبرة؛ نظرًا لمشاركته في عمليات حفظ السلام، وجهود الإغاثة الإنسانية الدولية، وربما يعزى ذلك إلى قيم المهنية والاحتراف العالية التي أظهرها خلال فترة الانتقال نحو الديمقراطية والتعدد الحزبي في مالاوي منذ عام 1994م.
الهوامش والإحالات:
(*) أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وزايد
(1) ينطوي مفهوم الرقابة الموضوعية عند هنتنجتون على: 1) مستوى عال من الاحتراف العسكري، والاعتراف من قبل ضباط الجيش بحدود اختصاصهم المهني؛ 2) تبعية فعالة من الجيش للنخبة السياسية المدنية الحاكمة والمسئولة عن اتخاذ القرارات الأساسية في السياسة الخارجية والشئون العسكرية؛ 3) الاعتراف والقبول من قبل القيادة المدنية بالكفاءة المهنية والاستقلالية للجيش، و4) ونتيجة لذلك، تقل فرص التدخل العسكري في السياسة والتدخل السياسي في الجيش إلى أدنى حد ممكن. انظر في ذلك:
Samuel P. Huntington, Reforming Civil-Military Relations, Journal of Democracy 6.4 (1995) 9-17.
(2) ترجع التسمية هنا إلى خبرة روما القديمة حينما كان الحرس البريتوري Praetorian Guard يتولى حماية مجلس الشيوخ في روما، ولكنه بعد ضعف الدولة أصبح يتدخل في الأمور السياسية حتى إنه أصبح يفرض إرادته على عملية اختيار الإمبراطور نفسه.
(3) إن عسكرة السياسة في الخبرة الأفريقية كانت نتاجا لمشكلات حادة وعميقة عانت منها الدولة ما بعد الاستعمارية، ومن ذلك : سوء الإدارة الاقتصادية، وضعف أو فشل مشروع الدولة الوطنية، والنزاعات العرقية والطبقية، وضعف المؤسسات السياسية، والافتقار إلى المساءلة السياسية وشيوع الفساد، وانتهاك حقوق الإنسان، وهلم جرا. وكانت هذا العوامل وغيرها هي المبرر الأساس لتدخل العسكريين عن طريق النمط الانقلابي. علاوة على ذلك، فإن هذه «الأسباب» متداخلة ومتشابكة، وهو ما يعني أنها تفهم في إطار سياقاتها الوطنية والتاريخية. انظر في ذلك:
Hutchful, Eboe. «Demilitarising the Political Process in Africa: Some Basic Issues.« Op. cit, pp 3-16 and J Frazer, Conceptualizing Civil-Military Relations During Democratic Transition, Africa Today, 42(1-2),( 1995),pp 39-48.
(4) نظام الابارتهيد هو نظام يعمل على التمييز العنصري بين المواطنين بسبب اللون أو الجنس أو الدين.