تؤدي الحروب والكوارث إلى تردي الأوضاع ، وهو ما يُساهم في حدوث الكوارث الإنسانية في المناطق المنكوبة، فمع اندلاع أعمال العنف أو حدوث زلزال مدمّر أو فيضانات عارمة في منطقة ما؛ تتوقف الكثير من النشاطات الاقتصادية والمشروعات فيها، خصوصاً مع الدمار الذي يصيب البنية الأساسية من طرق وجسور ومحطات كهرباء وإمداد مياه.. إلخ، كما يتدنى مستوى الخدمات الاجتماعية، وخصوصاً في قطاعات الغذاء والصحة والتعليم.
وفي ظل هذه الأوضاع يضطر السكان إلى النزوح إلى مناطق بعيدة، وربما يضطرون إلى اللجوء إلى خارج الدولة، حيث يعيش هؤلاء النازحون واللاجئون في أوضاع مادّية ومعنوية سيئة للغاية.
ومع نقص قدرات الحكومات الوطنية على مواجهة مثل هذه الكوارث الإنسانية؛ تتدخل المنظمات الأجنبية العاملة في المجال الإنساني، والتي أسمّيها مجازاً «المنظمات الإنسانية», لتقديم أشكال مختلفة من المساعدة، تبدأ عادة بتقديم إمداد الإغاثة الإنسانية الطارئة، مروراً بتحسين نوعية حياة الناس عبر برامج التدريب المهني والتأهيل النفسي، وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، وتخفيف حدّة الفقر، وإعادة الإعمار، وصولاً إلى حماية حقوق الإنسان، ودعم التنمية المستدامة.
وقد استجابت الأمم المتحدة لهذا التطوّر بإعادة هيكلة إدارة الشؤون الإنسانية التابعة لها, لتصبح مكتباً لتنسيق الشؤون الإنسانية، وإنشاء «الصندوق المركزي للاستجابة لحالات الطوارئ» في مارس 2006م، كما يشارك العديد من وكالات الأمم المتحدة وبرامجها في تقديم مساعدات الإغاثة الإنسانية, ومن أهمها: مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
أولاً: افتراض خاطئ:
لا يمكننا إنكار الدور المهم الذي تقوم به بعض المنظمات الإنسانية الأجنبية في إنقاذ حياة البشر، وتخفيف حدّة الكوارث الإنسانية في المناطق التي تعمل فيها, لكن ذلك لا يتحقق في معظم الأحوال، كما أنه تبقى هناك مشكلة أساسية بالنسبة للدراسات التي تتناول عرض دور هذه المنظمات وتحليله، وهي أن الجانب الإيجابي للعمل الإنساني غالباً ما يطغى في كثير من التحليلات على كثير من الجوانب السلبية، وهو ما يجعل الكثيرين، وبخاصة غير المتخصصين، غير مدركين للأخطار التي ربما تمثلها تلك المنظمات على المجتمعات التي تعمل فيها.
يعود ذلك إلى أن كثيراً من المحللين ينطلقون في دراساتهم لدور المنظمات الإنسانية الأجنبية من افتراض خاطئ، وهو أن تلك المنظمات تتحرك انطلاقاً من رغبة إنسانية مجردة في تقديم العون للضحايا في المناطق التي تعمل فيها، وهو ما يجعلهم يتعاملون مع تلك المنظمات باعتبارها أطرافاً محايدة، تُساهم في مواجهة تداعيات المواقف الإنسانية التي يُفترض أن تعمل تلك المنظمات على مواجهتها.
والحقيقة أن كثيراً من المنظمات الأجنبية الإنسانية – شأنها شأن غيرها من الفاعلين الآخرين في المناطق المستهدفة – تتحرك انطلاقاً من إدراكها لمصالحها الحقيقية أو المتصوَّرة، ومن ثمّ فقد تتجه غالباً إلى التنسيق الذي ربما يصل إلى حدّ «الاعتماد المتبادل» مع الفاعلين الآخرين من أجل تحقيق مصالح قياداتها والعاملين بها، وربما مصالح الدول التي تنتمى إليها.
وفي مقدمة هؤلاء الفاعلين تأتي دوائر المصالح الاستعمارية، وأمراء الحرب، وشركات الأمن الخاص، والمهرِّبون، والمشتغلون في غسيل الأموال.. إلخ، وفي أحيان أخرى فإن هذه المنظمات لا تتورع عن الصدام المباشر مع منافسيها إذا ما تهددت مصالحها.
ثانياً: سلبيات الدور الإنساني للمنظمات الأجنبية:
يركّز هذا المقال على الجانب الآخر لعمل المنظمات الإنسانية في القارة الإفريقية، والذي يتخفى غالباً وراء ستار الدوافع النبيلة، وذلك من خلال إبراز الجوانب السلبية لعمل المنظمات الإنسانية وتحليلها، والتي من أهمها: التركيز على تحقيق الأرباح المالية، والانتقائية في تقديم مساعدات الإغاثة، وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، وتدمير القيم الدينية والاجتماعية، وتعقيد جهود تسوية الصراعات والحروب الأهلية.
1 – التربّح من الكوارث الإنسانية الطارئة:
تستهدف مساعدات الإغاثة الإنسانية الطارئة في المقام الأول إنقاذ حياة البشر وتخفيف حدّة المعاناة الإنسانية، وتجنّب الأزمات الإنسانية المحتملة في المستقبل، وعادة ما يبدأ تقديم هذه المساعدات خلال الأيام الأولى لحدوث الأزمة، وتشمل توفير الطعام والماء أولاً، ثم تدبير أماكن الإيواء والخدمات الصحية، وغير ذلك من المواد الضرورية الأخرى, وقد استفادت بعض الدول الإفريقية من هذا النوع من المساعدات، وبخاصة الصومال وليبيريا، في ظل حالة انهيار الدولة فيهما خلال سنوات الحرب الأهلية.
بيد أنه على الجانب الآخر؛ ارتبط تقديم هذه المساعدات في كثير من الأحيان بالتركيز على تحقيق الأرباح المادّية على حساب حقوق الضحايا، خصوصاً مع المغالاة في تقدير رواتب موظفي تلك المنظمات ومكافآتهم، أو عندما يلجأ بعض موظفيها إلى تحقيق الأرباح المالية من خلال الدخول في صفقات مباشرة، تتخللها العمولات والرشوة، مع مورّدي مواد الإغاثة الإنسانية من أطعمة وأغذية ومعدات.. إلخ.
ففي رواندا؛ اتخذت الأمم المتحدة قراراً بإنهاء عمل بعثتها الإنسانية إلى هذه الدولة تجنباً لدفع نفقات إضافية للبعثة، وهو ما مهّد لحدوث أكبر عملية إبادة جماعية في تاريخ القارة الإفريقية، حيث قضى أكثر من 500 ألف مواطن من جماعة التوتسي حتفهم على أيدي متطرفي جماعة الهوتو، وذلك خلال شهري أبريل ومايو عام 1994م.
وبعد وقوع الكارثة الإنسانية قررت الأمم المتحدة التدخُّل لمساعدة اللاجئين الروانديين، في عملية لم تخل من كثير من الشبهات، حيث أقر كوفي أنان (الأمين العام السابق للمنظمة) بتجاوز تكاليف المساعدات الإنسانية لرواندا ولمنطقة البحيرات العظمى عقب الإبادة الجماعية 4,5 مليارات دولار، في حين قدّر الحدّ الأقصى لتكلفة تعزيز بعثة الأمم المتحدة في رواندا بـ 5000 جندي إضافي بما يقارب 500 مليون دولار فقط، وبخلاف ذلك لم تفعل الأمم المتحدة للشعب الرواندي أكثر من إقامة بعض النّصب التذكارية تخليداً لذكرى ضحايا الإبادة، وتشكيل محكمة دولية للتحقيق في عمليات الإبادة، وهي المحكمة التي لم تخلص إلى شيء ملموس منذ تشكيلها عام 1994م، حتى صدور قرار مجلس الأمن الدولي بإنهاء عملها في مطلع عام 2010م، بعد أن أنفقت سدى ملايين الدولارات التي كان الشعب الرواندي أحق بها!
وفي السياق نفسه؛ تتعامل كثير من تلك المنظمات مع تدفقات اللاجئين والنازحين بوصفها مناسَبة مهمة للتحرّك صوب المناطق المستهدفة، إذ يُعد استمرار وجود أعداد غفيرة من هؤلاء الضحايا كمصدر لارتزاق العاملين في تلك المنظمات.
ولا ينطبق ذلك على المنظمات الإنسانية غير الحكومية فحسب، وإنما يشمل أيضاً المنظمات الحكومية،
ففي منطقة البحيرات العظمى؛ أشارت التقارير إلى حالات عديدة تمّ خلالها التخلي عن اللاجئين، وتحريضهم على عدم العودة إلى أوطانهم، أو إعادتهم عن طريق الإكراه؛ من أجل الضغط على الجهات المانحة لتقديم المزيد من التمويل لتلك المنظمات.
وعلى سبيل المثال؛ أكد تقرير – صادر في يوليو 2001م عن اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية والدفاع والأمن في تنزانيا – دور مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إعاقة جهود العودة الطوعية للاجئين الكونغوليين في تنزانيا؛ نظراً لأن ذلك سيجعل موظفي المفوضية بلا عمل، وأكدّ التقرير نفسه أن «الرغـد» الذي يعيش فيه موظفو المفوضية لا يتناسب مطلقاً مع حجم «المعاناة» التي يعيش فيها اللاجئون في المناطق المضيفة، وهو ما اضطر السلطات التنزانية إلى اتخاذ قرار بعدم فتح معسكرات جديدة للاجئين، والمطالبة بالعودة الكاملة للاجئين الموجودين فيها بحلول عام 2000م، ومع عدم قدرة حكومة الكونغو الديموقراطية على استقبال آلاف اللاجئين العائدين؛ فقد انتقلت حياة هؤلاء الضحايا من سيء إلى أسوأ.
2 – انتقائية العمل الإنساني:
يتّسم عمل المنظمات الأجنبية العاملة في المجال الإنساني في كثير من الأحيان بالانتقائية وازدواجية المعايير، فتجدهم يهرعون لإنقاذ المنكوبين في دولة ما؛ في حين يتقاعسون عن القيام بأقل القليل تجاه دول أخرى أكثر احتياجاً إلى تدخُّل تلك المنظمات.
وتمثّل الكارثة الإنسانية في النيجر مثالاً صارخاً على ذلك، ففي هذه الدولة يكابد أكثر من 3,6 ملايين مواطن قسوة الجوع الناجم عن موجات الجفاف والتصحّر التي تعرضت لها البلاد، والتي تفاقمت إثر غزو الجراد لمحاصيلها في عام 2004م.
وبالرغم من التغطية الإعلامية الغربية الواسعة لهذه الكارثة الإنسانية، وصدور كثير من نداءات الاستغاثة التي تؤكد الحاجة إلى معونات إنسانية عاجلة، قُدّرت بنحو 16,2 مليون دولار فقط؛ فإن المنظمات الإنسانية الأجنبية تأخرت جداً في الاستماع لأصوات الضحايا، حتى ما قدّمته من مساعدات فإنه كان أقل كثيراً من الاحتياجات المطلوبة لسدّ الفجوة الغذائية في النيجر، والتي تعرضت لسنوات طويلة إلى عمليات نهب منهجي لثرواتها المعدنية، حيث إنها تنتج وحدها زهاء 46% من إجمالي إنتاج اليورانيوم في إفريقيا.
وهكذا قُدّر لشعب النيجر أن يعاني تخاذل المنظمات الأجنبية، ومن يقف وراءها من الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تخجل من التقاعس عن تقديم الحدّ الأدنى من المساعدات، بل لم تتورع عن إحكام حصار الجوع والمرض والفقر على شعب النيجر الأعزل كنوع من العقاب لحكومة النيجر، وذلك لرفضها الخضوع للضغوط الأمريكية للموافقة على مشروع قانون يمنح الحصانة للمواطنين الأمريكيين من الخضوع للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
3 – تدمير العقائد الدينية والقيم الاجتماعية:
غالباً ما تستثمر المنظمات الأجنبية العاملة في المجال الإنساني ظروف المعاناة التي تكابدها الشعوب المنكوبة في النفاذ إلى تلك المجتمعات من أجل تدمير عقائدها الدينية، وطمس هويتها وقيمها الاجتماعية، إذ تستغل بعض هذه المنظمات الأزمات الإنسانية، خصوصاً في مخيمات اللاجئين والنازحين، في القيام بكثير من النشاطات التنصيرية تحت شعار «الخبز مع الصليب»، كما أن العاملين في تلك المنظمات يعمدون إلى نقل أسلوب حياتهم في الغرب إلى الدول الإفريقية، حيث يمارسون كثيراً من التصرفات والسلوكيات التي تمثل تهديداً للقيم الإفريقية، خصوصاً في المجتمعات المسلمة.
ففي النيجر؛ استغلت المنظمات الإنسانية ظروف المجاعة في تنصير مواطني هذه الدولة التي يدين أكثر من 98% من شعبها بالإسلام، عن طريق دعم الأقلية المسيحية في البلاد، وتوطين عناصر من المنصّرين الكونغوليين في بعض مدن النيجر، وبخاصة العاصمة نيامي، ومساعدتهم في الحصول على جنسية النيجر، ليشكلوا بؤراً تنصيرية عديدة في هذه الدولة، خصوصاً مع إسناد بعض المناصب إليهم في مجال الإغاثة الإنسانية.
وفي الصومال؛ شاركت بعض هذه النوعية من المنظمات في تنصير المسلمين، وفي فرض الثقافة الغربية على مسلمي الصومال، وتدمير القيم الاجتماعية للسكان، وذلك باحتساء الخمور، وممارسة الجنس خارج نطاق الزواج، والاحتفال بالأعياد الوطنية الأجنبية والمناسبات الدينية والاجتماعية الغربية, مثل أعياد الميلاد وعيد الحب، وجعل يومي السبت والأحد هما الإجازة الأسبوعية لتلك المنظمات خلافاً لما هو معمول به في الصومال، ومحاولة إنشاء منظمات نسائية وشبابية ذات قيم مغايرة للقيم الإسلامية.
ولعل ذلك هو ما دفع حركة الشباب المجاهدين في الصومال إلى مواجهة تلك المنظمات، ومطالبتها بالتوقف عن نشاطاتها الهدّامة، وضرورة تسريح موظفيها من النساء، وتعويض أماكن عملهنّ برجال، باستثناء العاملات في المستشفيات ومراكز الصحة، وقد دفع ذلك أغلب المنظمات إلى اتخاذ القرار السهل، وهو الخروج من الصومال، تاركة الشعب الصومالي غارقاً في كارثة إنسانية شديدة التعقد.
4 – انتهاك حقوق الإنسان الأساسية:
يتورط كثير من موظفي المنظمات الأجنبية العاملة في المجال الإنساني في ممارسات تنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان الأساسية، ومن ذلك ضلوع بعض المنظمات الفرنسية في تجربة العقاقير وألبان الأطفال والوجبات الغذائية الجديدة على سكان النيجر، وكذا تورط منظمة «أرش دو زويه» الفرنسية في اختطاف الأطفال من تشاد ودارفور، تحت ستار تقديم المساعدات الإنسانية، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزى إلى الضغط على الحكومة التشادية من أجل الإفراج عن موظفي هذه المنظمة، وذلك في محاولة بائسة منه إلى إنقاذ ماء وجه القطاع الإنساني غير الحكومي في فرنسا، والحفاظ على المصالح الفرنسية في إفريقيا.
لكن الأسوأ من ذلك هو «مبادلة الجنس بالمساعدات»، بما يتنافى مع الشرائع السماوية وأبسط مبادئ حقوق الإنسان، حيث يُجبر موظفو بعض المنظمات النساء والفتيات القاصرات في المناطق المنكوبة على ممارسة الجنس مقابل تقديم المساعدات الإنسانية إليهنّ، حدث ذلك في ليبيريا من جانب العاملين في المناطق الإنسانية، بما في ذلك موظفو برنامج الغذاء العالمي وغيره من المنظمات التابعة للأمم المتحدة، والتي لم تفعل أكثر من أنها وعدت بالتحقيق في الأمر!
5 – تعقيد تسوية الصراعات الإفريقية:
هناك بعض الحالات التي تُساهم فيها المنظمات الإنسانية الأجنبية في التوسط من أجل تسوية الصراعات الإفريقية، ومثال ذلك الدور الذي قامت به إحدى المنظمات الإيطالية عام 1994م في تسوية الصراع بين جبهتي «فريليمو» و «رينامو» في موزمبيق.
بيد أن هذه الاستثناءات يجب ألا تدفعنا إلى افتراض خاطئ، وهو أن كل المنظمات الإنسانية الأجنبية لديها الرغبة نفسها في المشاركة في مفاوضات التسوية السلمية للصراعات، خصوصاً إذا كان لديها مصالح خاصة تسعى إلى تأمينها وتعظيمها عبر استغلال ظروف الفوضى المصاحبة لاستمرار الصراع، والتي تمثل مناخاً مواتياً لازدهار تلك المصالح, لأن الانطلاق من هذا الافتراض يجعل الباحثين يتعاملون مع تلك المنظمات بوصفها مجرد هيئات للإغاثة ضد الكوارث الإنسانية، أو بوصفها من الأطراف المساعدة على التسوية السلمية للصراعات، ومن ثمّ عدم التعامل معها بوصفها عقبة أمام جهود صنع السلم وبنائه.
ينطبق ذلك على كثير من المنظمات الإنسانية الأجنبية العاملة في إفريقيا، ففي كلٍّ من الكونغو الديموقراطية وجنوب السودان وإقليم دارفور على سبيل المثال، أدت تلك المنظمات أدواراً سلبية، وانخرطت في تنفيذ مخططات سياسية والقيام بنشاطات استخباراتية لخدمة بعض الدول الغربية، وهو ما ساهم في تعقيد عمليات التسوية السلمية للصراعات، وإطالة أمدها.
ففي الكونغو الديموقراطية؛ كانت المنظمات الإنسانية تقدّم المساعدات للمتمردين ضد الحكومة الشرعية، وهو ما ساهم في توفير مصدر للدعم استند إليه المتمردون في مواصلة القتال ضد الحكومة والسكان المدنيين، حدث ذلك أكثر من مرة، سواء في أثناء الصراع ضد نظام موبوتو 1996م – 1997م، أو خلال الصراع ضد نظام لوران كابيلا منذ عام 1998م.
لكن تبقى حالة دارفور هي الحالة الأكثر بروزاً، خصوصاً في ظل تبعية كثير من المنظمات الإنسانية الأجنبية في الإقليم للمنظمات الصهيونية العالمية, مثل «اللجنة اليهودية الأمريكية»، و «منظمة الخدمات الأمريكية اليهودية العالمية»، وغيرهما.
وبالفعل؛ ساهمت التقارير المغلوطة لتلك المنظمات عن أوضاع حقوق الإنسان في دارفور في تدويل هذا الصراع، وزيادة تعقيداته، بالزعم بأنه يمثّل صراعاً بين العرب والأفارقة، وهو ما عرقل جهود تسويته، خصوصاً مع إصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير في مارس 2009م، في سابقة هي الأولى لرئيس دولة إفريقي في السلطة، وهو ما أعاد الأمور في دارفور إلى «المربع صفر»، بعد أن كانت مفاوضات التسوية السلمية قد قطعت شوطاً لا بأس به، عقب توقيع اتفاق سلام دارفور في مايو 2006م، ومفاوضات الدوحة في فبراير 2009م.
6 – نهب ثروات الشعوب الإفريقية:
يتورط بعض العاملين في المنظمات الإنسانية الأجنبية في نهب ثروات الشعوب في الدول التي يعملون بها، وفي مقدمتها: الماس، والذهب، والكولتان، والنحاس، والكوبالت، والخشب، والثروة الحيوانية، والموارد المالية، وقد دفع ذلك بعض الباحثين إلى تصنيف تلك المنظمات ضمن فئة «أمراء الفقر» التي تضم هؤلاء المنتفعين من الكوارث والصراعات, الذين يسعون إلى تكريس الفقر، والذي تزدهر مصالحهم في ظلّه، عن طريق الاستفادة من الدعم المالي الذي يقدّمه المانحون الدوليون لجهود الإغاثة(1).
وفي كلٍّ من الكونغو الديموقراطية وليبيريا وسيراليون أمثلة واضحة على ذلك، تشهد عليها تقارير الأمم المتحدة الخاصة بالاستغلال غير المشروع لثروات تلك الدول خلال سنوات الحرب الأهلية، إذ غالباً ما ترد في تلك التقارير أسماء بعض قيادات المنظمات الإنسانية الأجنبية ضمن العناصر الضالعة في نهب ثروات الدول المذكورة.
ثالثاً: كلمة أخيرة:
في نهاية هذا المقال تبقى كلمة أخيرة، وهي أن المقال استهدف إلقاء الضوء على الوجه الآخر، بل بالأحرى «الوجه القبيح» للدوافع النبيلة التي تتخفى وراءها المنظمات الإنسانية الأجنبية في إفريقيا، عبر تناول بعض سلبيات العمل الإنساني لتلك المنظمات، ولعل كثرة تلك السلبيات يؤكد صحة الافتراض الذي انطلقت منه هذه الدراسة, وهو أن مصالح تلك المنظمات، وليست الدوافع النبيلة، هي المحدّد الأساسي لسلوكها في إفريقيا.
ومن ثمّ فإن الواجب يحتّم على مواطني الدول الإفريقية الحذر من المخططات التي ترمي إليها الحكومات الغربية، والتي يتمّ تنفيذها عبر أدوات متنوعة، تأتي في مقدمتها المنظمات الغربية العاملة في المجال الإنساني.
كما يجب على أدوات الإعلام في الدول العربية والإسلامية التركيز على ما يحيق بمسلمي العالم، وبخاصة في القارة الإفريقية، من كوارث إنسانية وطبيعية تستوجب مدّ يد العون لهم، وكذا ينبغي لها دعم التنظيمات الإسلامية العاملة في المجال الإنساني؛ وذلك لسدّ الفراغ في مناطق الكوارث، وهو الفراغ الذي تنفذ منه المنظمات الأجنبية العاملة في المجال الإنساني بما تُحدثه من سلبيات، وبما تجلبه معها من قيم دخيلة على المجتمعات الإفريقية.
فالمنظمات الإنسانية الأجنبية في دارفور؛ لم تكن لتمارس مثل هذا التأثير السلبي في الإقليم إلا في ظلّ الدعم الكبير الذي تتلقاه من الحكومات الغربية، والذي فاق في مجمله حجم عمليات الإغاثة التي قامت بها الدول العربية كافة في دارفور، وهو ما يعكس مدى التشابك في المصالح بين السياسات الغربية والمنظمات الإنسانية.
من هنا؛ يجب على الدول العربية والإسلامية أن تتحمل مسؤولياتها إزاء المستضعفين والمنكوبين بالصراعات والحروب والكوارث الإنسانية في العالم الإسلامي في قارة إفريقيا وغيرها، وتأتي أهمية هذا الأمر في ظل التضييق الشديد على عمل المنظمات الإغاثية الإسلامية العاملة من داخل الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية والحكومات العميلة، حيث غالباً ما توصد أبواب تلك المنظمات، وتعلّق نشاطاتها، بعد أن توصم بدعم الإرهاب بلا سند حقيقي.
الإحالات والهوامش:
(*) مدرس العلوم السياسية – معهد البحوث والدراسات الإفريقية – جامعة القاهرة.
(1) ظهر مصطلح «أمراء الفقر» عام 1989م، بعد صدور كتاب يحمل العنوان نفسه للباحث Graham Hancock. ويرجع ظهور أمراء الفقر إلى حقيقة أن الدول المانحة ليس لديها مصالح جوهرية في استئصال الأسباب الجذرية للفقر والتخلف، بل إن العكس هو الصحيح، فمصالح تلك الدول تقتضي الإبقاء على حالة التبعية الهيكلية، بما يؤدي إلى ظهور الدول الضعيفة التي يفضلها الإمبرياليون.