إريتريا Eritrea اسم أطلقه الإيطاليون على مستعمرتهم الواقعة في الشاطئ الجنوبي الغربي للبحر الأحمر (1) ، وبالتحديد على الساحل الممتد من رأس قصار شمالاً، إلى رأس رحيتا جنوباً، في شمال شرقي إفريقيا، بمساحة كلية تقدّر بمائة وتسعة عشر ألف كيلو متراً مربعاً (2).
ويعيش في إريتريا ذات الأغلبية المسلمة خليط من العنصر السامي والحامي والنيلي، حيث لا تطغى سحنة معينة ولا عنصر خالص على الشعب بأكمله (3)، ويبلغ عدد السكان حسب إحصاء عام 2008م نحو 5.291.370 نسمة، وإذا أخذنا النازحين والمغتربين في مختلف دول العالم في الاعتبار؛ فإنّ عددهم يقارب ستة ملايين نسمة أو يزيدون قليلاً (4) .
نالت إريتريا استقلالها بعد حرب تحرّرية ضد إثيوبيا استمرت قرابة ثلاثين عاماً، حيث تمكّنت قوات الثورة الإريترية من دخول العاصمة أسمرا في عام 1991م، وبعد سنتين من فرض الأمر الواقع تمّ استفتاء الشعب الإريتري في عام 1993م، فكانت النتيجة لصالح الاستقلال، وأصبحت إريتريا منذ ذلك العام دولة مستقلة ذات سيادة، كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
قيام الدولة المستقلة:
من الطبيعي أن يستبشر كلّ شعب بالحرية والاستقلال، والشعب الإريتري لم يك بدعاً من الشعوب، بل عمّه الفرح بهذا النصر الذي ناضل من أجله لأكثر من ثلاثة عقود، ممنّياً نفسه أن يعيش في دولة مستقلة يتنفس فيها عبير الحرية، ويتقلب في حياة كريمة ملؤها العدل والسلام والرفاهية والاستقرار، واضعاً نصب عينيه المستقبل الزاهر للدولة الإريترية الحديثة، والتي ستحاول أن تحذو حذو الأمم المتقدمة في جميع الأصعدة والمجالات التي حُرمتها بسبب الحرب الضروس التي كانت تأكل الأخضر واليابس، حيث تسبّبت هذه الحرب في كبح عجلة التنمية والتطور.
الآن، وقد مضى أكثر من عقدان بعد أن حكم الإريتريون بلادهم بأنفسهم، هل تحقّق لهم ما تمنّوا؟ هل خطوا خطوات نحو تحقيق الأمل المعقود؟
إريتريا في ظل الفراغ الدستوري:
تُحكم الدول عادة في العصر الحديث بالدساتير والقوانين، حتى يعرف كلّ مواطن حقوقه وواجباته؛ فلا يتجاوز أحد حدوده، ولا يعتدي عليه غيره، أو يتسلط عليه متسلّط أعمته رتبته العسكرية أو سلطته السياسية.
وأبرز ما يُلاحظ على الحياة السياسية في إريتريا مشكلة الفراغ الدستوري، والتي بدأت منذ أن تسلّم تنظيم (الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا) زمام الحكم، حيث تعيش إريتريا منذ استقلالها بلا دستور ينظّم علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث تمّ تجميد الدستور – بغضّ النظر عن محتواه – بعد الانتهاء من مسودته قبل أن يرى النور في عام 1997م، لذا يعتمد النظام الإريتري الحاكم على إصدار مراسيم قانونية، بين فينة وأخرى، بحسب ما يحتاج إليه في إدارة الدولة.
وفي الآونة الأخيرة تمّ تقسيم البلاد إلى خمس مناطق عسكرية، بقيادة خمسة جنرالات دون مرجعية قانونية.
وتتسم إدارة البلاد بأسلوب أمني، حيث تتعدد أجهزة الأمن المسيطرة على الأوضاع، فهناك الأمن الرئاسي، والأمن الوقائي، والأمن الوطني، وأمن الشرطة، والأمن العسكري الذي يتعدّد بتعدد الوحدات العسكرية، وكلّ جهاز يعمل بشكل مستقل كأنه في دولة أخرى.
وترى المعارضة أن هذا الأسلوب في حكم البلاد جعل إريتريا تحتل أدنى التصنيفات في التعليم، والاقتصاد، وأسوأ السجلات في حقوق الإنسان، فقد أخفق النظام في التعليم، وأوقف التعليم الأكاديمي الجامعي، واكتفى بالتعليم المهني والفني في مركز التدريب العسكري في (ساوا).
أما الاقتصاد؛ فحدّث عنه ولا حرج، فلم يسمع الإريتريون يوماً ما عن ميزانية دولتهم، والانهيار الاقتصادي يبدو جلياً في ضعف قيمة العملة المحلية أمام العملات العالمية، فالفرق يصل إلى أكثر من الضعف بين قيمة صرف العملة بالسعر الرسمي وبين سعر السوق الأسود، كما أنّ الركود الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وانقطاع إمداد الكهرباء والماء عن المنازل لأيام متتالية، حال يعيش فيه المواطن العادي في حياته اليومية ولا ينكره أحد.
رؤية المعارضة ومطالبها:
لن أدخل هنا في الحديث عن هويات معارضي النظام وتوجهاتهم ورؤية النظام لهم، لأنه موضوع آخر يحتاج إلى مقال مستقل، وسأكتفي بالإشارة إلى الحيثيات التي يحتجّون بها في ضرورة التغيير في الواقع السياسي الإريتري.
أول هذه الحيثيات التي تحتجّ بها المعارضة في أهمية التغيير في إريتريا هو انفراد (تنظيم الجبهة الشعبية) بالحكم، واستبعاده لجميع التنظيمات الإريترية التي كانت تعمل في الحراك التحرري الإريتري، إلا من اختار منها أن يأتي إليه بشخصه لا بتنظيمه، كما فعل (التنظيم الموحد) الذي حلّ نفسه وتوجه إلى الداخل الإريتري كأفراد، حيث تفضّل النظام على بعضهم ببعض المناصب الهامشية، ولم يستمر هؤلاء أيضاً إلا لسنوات قليلة، حيث فرّ الجميع خارج البلاد عندما وجدوا أنّ النظام لا يتحمّل العمل مع الآخر.
لذلك استمرت أغلب التنظيمات (5) التي رافقت النظام في حمل السلاح في حقبة التحرير على معارضتها بشتّى الأشكال، ومطالبتها بالتغيير، مستندة على ما سبق ذكره، ومتحجّجة بوجود ممارسات دكتاتورية ينتهجها النظام في حكم البلاد، وتتمثل في النقاط الآتية:
1 – سياسة التجنيد القسري للجنسين دون أن يكون لها أمد محدّد: مما أفرغ البلاد من طاقات الشباب المنتج، حيث فرّ كثير منهم إلى خارج البلاد، ويُستهلك مَن بقي منهم في أعمال السخرة لمصالح شركات النظام مقابل أجرة لا تفي بشيء من متطلبات المعيشة، وقد ضاق المسلمون ذرعاً بشكل خاص من تجنيد الإناث خوفاً على أعراضهم.
2 – انعدام الحرية الدينية: حيث وضع عدد من الدعاة والمصلحين ومعلمي المعاهد الدينية في السجون، وتمّ التضييق على المؤسسات التعليمية الإسلامية، مرة بالإغلاق، ومرة بفرض شروط تبعدها عن هدفها الأساسي.
3 – انعدام الحرية السياسية: حيث لا يُسمح بممارسة أي نشاط سياسي أو حزبي أو نقابي لغير الحزب الحاكم، والسجون مليئة بآلاف المواطنين الذين سوّلت لهم أنفسهم التحدّث في الشأن العام، أو بدا منهم ما يعكّر على النظام تطبيق سياساته.
4 – انعدام الحرية الإعلامية: ومن أمثلة ذلك اعتقال الصحافيين الذين يدعون إلى الحرية الإعلامية، ومنع الصحف والأجهزة الإعلامية المستقلة من العمل في إريتريا، فإريتريا تصنّف، حسب تقرير أصدرته في بداية هذا العام منظمة «مراسلون بلا حدود» التي تتخذ من باريس مقراً لها، في المرتبة رقم 179، متذيلة دول العالم في حرية الصحافة للعام السادس على التوالي، وذكر التقرير أنّ 30 صحافياً ما زالوا رهن الاعتقال، وأنّ 11 منهم تمّ اعتقالهم منذ عام 2001م، وقد توفي سبعة منهم نتيجة سوء الأوضاع في السجون، وذكر التقرير أنّ الصحافة المستقلة تمّ حظرها منذ عشرة أعوام، لافتاً أنّ إريتريا ليس بها وسائل إعلام مستقلة.
5 – الحدّ من حرية التنقل: إذ أصبحت البلاد شبه مغلقة، لا يسمح فيها بخروج الناس إلى خارج البلاد إلا في أضيق الحدود، بحجة منع هروب الشباب والشابات من التجنيد الإلزامي (6).
6 – انهيار الوضع الاقتصادي: إذ لا وجود لأبسط المقومات الأساسية للحياة، بسبب السياسات الاقتصادية التي ينتهجها النظام الإريتري، ومنافسته للتجار في أنشطتهم، وهيمنة أجهزة الحزب الحاكم على محاور الاقتصاد، وقد زاد الطين بلّة العقوبات الدولية المفروضة من قِبل الأمم المتحدة على إريتريا لتدخلها السلبي في الصومال.
وتُصنف إريتريا ضمن الدول الأشد فقراً في العالم؛ إذ يبلغ متوسِّط دخل الفرد السنوي من إجمالي الناتج المحلي 700 دولار (7)، ولذلك فإنّ غالبية السكان في إريتريا يعتمدون على ما يحوّله ذووهم المغتربون في مختلف دول العالم، وبخاصة المغتربون في دول الخليج العربي والدول الغربية.
7 – تردي الوضع الإنساني: من القضايا التي طفت على السطح، في السنوات القليلة الماضية، ظاهرة جديدة أرعبت الإريتريين الذين يحاولون الهروب من إريتريا، وهذه الظاهرة جدّ خطيرة لم يمر على الشعب الإريتري مثلها من قبل؛ ألا وهي ظاهرة الاتجار بالبشر، حيث برزت عصابات تخطف اللاجئين الإريتريين وهم في طريقهم إلى السودان أو إلى مصر، كما تخطفهم أيضاً من قلب معسكرات اللاجئين الموجودة في شرق السودان التي تشرف عليها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وتحرسها الشرطة السودانية، تطالب هذه العصابات بعد خطف هؤلاء اللاجئين المغلوبين على أمرهم واحتجازهم بسداد مبالغ كبيرة مقابل إطلاق سراحهم، ومَن ليس معه مال يهيأ له الاتصال بذويه في إريتريا أو أوروبا أو منطقة الخليج العربي لدفع الفدية عنه، مع إمكانية تسليم المبلغ المطلوب في أي بقعة من بقاع العالم.
وهذه المعضلة أضحت تؤرّق المجتمع الدولي، وقد ناقش البرلمان السوداني (8) هذه القضية بكلّ أبعادها، بعد أن أصبحت القضية قضية قومية لا تعني الحكومات المحلية فقط، إلا أنّ الحكومة المركزية السودانية أيضاً لم تستطع أن تضع حدّاً لهذه المشكلة حتى الآن، وكذا المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والمنظمات الدولية العاملة في مجالات حماية اللاجئين.
وتشير أصابع الاتهام إلى وجود علاقة للنظام في إريتريا بهذا العمل الدنيء، بالتعاون مع بعض القبائل المشتركة بين إريتريا والسودان والمعروفة بامتهان أعمال التهريب، ويورد أصحاب هذا الرأي عدداً من الشواهد التي تجعلهم يتبنّون هذا الاعتقاد، ومن هذه الشواهد:
أولاً: أنّ حجم العمل الذي تقوم به هذه العصابات ليس عملاً فردياً، أو جماعياً محدوداً، بل يظهر أن هناك عملاً استخباراتياً كبيراً لا يتوفر إلا لدول تمتلك السفارات والممثليات في مختلف دول العالم، بدليل أنّ الفدية تتسلمها العصابة في أي مكان في العالم يمكن للرهينة أن يسدّد فيها، فكيف لأفراد أن يحققوا هذا الانتشار إن لم تكن هناك دولة أو تنظيم عالمي يرعى هذا العمل القبيح!
ثانياً: أنّ هناك مصلحة مالية يحققها النظام في إريتريا في ظلّ الحصار الاقتصادي المفروض عليه من الدول الغربية والإفريقية جراء موقفه في الصومال المؤيّد لحركة الشباب، فهذا العمل يوفّر له مبالغ لا بأس بها بالعملات الحرّة.
ثالثًا: أنّ هذا العمل يحدّ من هروب الشباب من داخل إريتريا إلى السودان خاصّة، والدول المجاورة الأخرى عامّة، وذلك بزرع الخوف في قلب كلّ مَن يفكر في الهروب من إريتريا، سواء من العسكريين المجندين تجنيداً إلزامياً أو من غيرهم من عامّة الشعب.
محاولات التغيير والإصلاح:
بسبب كلّ ما سبق ارتفعت وتيرة المعارضة والبحث عن مخرج للتغيير الشامل في إريتريا، وتمثّل ذلك في عدد من الأشكال والطرق، ومنها:
1 – التنظيمات المعارضة:
جميع الحركات التي كانت تناضل من أجل الاستقلال تحوّلت الآن إلى تنظيمات معارضة لنظام (الجبهة الشعبية) بعد أن رأت انسداد الطرق أمامها للمشاركة في بناء إريتريا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً.. إلخ، وتعمل هذه التنظيمات متشرذمة، وتتركز في خارج إريتريا.
حاولت هذه التنظيمات تجميع نفسها في أكثر من إطار، فكان تكوين (التحالف الديمقراطي الإريتري) عام 2005م، والذي جمع تحته 13 تنظيماً سياسياً، ثم جاء تأسيس (المجلس الوطني الإريتري للتغيير الديمقراطي) في عام 2011م، وجمع كلّ تنظيمات (التحالف الديمقراطي)، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني، وتشارك الحركة الإسلامية الإريترية أيضاً بجميع أطيافها في هذه التجمّعات السياسية بشكل فاعل.
2 – الانشقاقات والخروج من النظام:
تحولت محاولات الخروج من السلطة الحاكمة ظاهرة شائعة، ابتداءً من المواطن العادي، وانتهاءً بالمستويات العليا من مسؤولي النظام، وقد انضم بعضهم إلى ساحة التنظيمات المعارضة، وما زال الهروب مستمراً، حيث بلغ معدّل الهاربين إلى السودان يومياً قرابة مائة لاجئ، فالشباب يفرّون من التجنيد الإلزامي، والفرق الرياضية الوطنية لا تعود إلى الديار في أول فرصة تسنح لها للمنافسة الرياضية خارج البلاد، وكذا الوزراء، والسفراء، والقناصل، والجنود، والضباط، والطيارون.. كلّ هؤلاء لهم نصيب من الفرار، والقائمة تطول، وكانت آخر حالة هروب لضابطة في سلاح الجو الإريتري النقيب طيار (رهوا قبركرستوس) التي جاءت إلى السعودية لاسترداد طائرة الرئاسة التي فرّ بها من قبل زميلاها، حسبما ذكرت (جازان نيوز) في 21 أبريل 2013م، حيث رفضت الضابطة العودة إلى إريتريا، وطلبت اللجوء إلى دولة ثالثة يعيش فيها والدها.
3 – التغيير من الداخل:
تكررت محاولات التغيير من داخل أبناء الحزب بين حين وآخر، معبّرة بذلك عن استيائها لما آل إليه الوضع في إريتريا، فقد حاول كثير من أبناء الحزب الحاكم وقياداته تغيير سلوك النظام، وعبّروا عن رفضهم للسياسة المتبعة في إدارة الدولة، فكانت الشرارة الأولى لهذا الاستياء الحركة التي قام بها جرحى حرب التحرير، حيث تظاهروا ضد ممارسات النظام في عام 1996م، وتمّ قمعهم بوحشية مفرطة، ثم جاء بيان الأكاديميين الـ 13 (منفستو برلين)، و (مجموعة الـ 15 الإصلاحية) التي شارك فيها عدد كبير من مؤسسي (الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا) وقياداتها من الوزراء وكبار المسؤولين في 2001م، إلا أنه قد تمّ اعتقال 11 مسؤولاً منهم، واختفوا عن الأنظار، ولا يُعلم مصيرهم حتى هذه اللحظة، وبالتزامن مع هذه الخطوة تمّ إغلاق الصحف المستقلة الناشئة حديثاً، واعتُقل محرروها وغيرهم من الصحافيين.
حركة الحادي والعشرين من يناير 2013م:
هي حركة قامت بها مجموعة من منسوبي وزارة الدفاع، يقودها القائد العسكري (سعيد علي حجاي) المشهور بـ (ودي علي)، بغية السيطرة على الحكم وتغيير النظام في الوقت الذي كانت الحكومة تعقد فيه اجتماعاتها في (أسمرا)، وكان من المقرر أن تشارك وحدات عسكرية أخرى في السيطرة على مواقع رئيسة، إلا أنها لم تقم بذلك لأسباب ما زالت مجهولة، بينما تمكّنت مجموعة (سعيد علي) من السيطرة على (قلعة فورتو)، حيث مقر وزارة الإعلام والفضائية الإريترية الوحيدة الرسمية، وأعلن من خلال التلفاز مطالب الثائرين قبل أن يتم قطع البث سريعاً، الأمر الذي عتّم على الحدث وما كان يجري في البلاد في حينه.
وتُعَدّ هذه الحركة أقوى حركة داخلية احتجاجية واجهها النظام الحاكم في تاريخه؛ إذ شاركت الدبابات ومختلف الأسلحة في العملية، وتفاعل معها الإريتريون في المهجر، حيث تحركت مظاهرات مؤيدة لهذه الحركة أمام سفارات إريتريا في أغلب العواصم الأوروبية، بل تمّ اقتحام بعضها، وفي غيرها من الدول كأستراليا ومصر وإثيوبيا.. إلخ.
وقد كان وقع العملية على النظام الحاكم مفاجئاً وغير مسبوق، وحاول أن يعتّم على الحدث، وتجاهله إعلامياً في البدء، حيث لم يصرح بأي رأي حول ما تمّ في ذلك اليوم بالرغم من أنّ توقف بثّ القناة الإريترية كان مثيراً للشكوك، وقد جاء التصريح الوحيد في البداية من مندوب النظام في الأمم المتحدة الذي نسب ما حدث إلى مجموعة إرهابية إسلامية، ثم اختفى، وبعد أسبوعين من الحدث بعد أن استقر الوضع ذكر التصريح الرسمي أنّ «العملية كانت عملاً طفولياً، قامت به مجموعة من الشباب الذين تمّ التغرير بهم من بعض قياداتهم، ولا داعي لأن يقلق الشعب الإريتري مما حدث»، هكذا أنهى إسياس تصريحه حول الموضوع.
مطالب الثائرين:
تتمحور مطالب الثائرين في إعادة الهيبة للدولة، وتفعيل العمل بالقوانين، ويمكن تلخيص مطالبهم في النقاط الآتية:
1 – تفعيل العمل بالدستور المجمّد في 1997م.
2 – إطلاق سراح سجناء الرأي.
3 – القضاء على الفساد بملاحقة الفاسدين قضائياً.
4 – وضع حدٍّ زمني للخدمة العسكرية الإلزامية.
5 – تحسين معيشة أفراد الجيش وأسرهم، وذلك على خلفية وعود سبقت بتحسين مرتبات الجيش مطلع عام 2013م، لكي تصل إلى ثلاثة أضعاف ما هي عليه.
لماذا أخفقت المحاولة:
تمكّن النظام الإريتري من السيطرة على الوضع بعد اثنتي عشرة ساعة تقريباً، بطرقه وأساليبه الخاصة، بعد أن بادر أولاً إلى قطع إرسال القناة، ونجح في عدم وصول صوت المعارضين له إلى العالم الداخلي والخارجي، حتى تضاربت الأنباء في بداية العملية، وظهرت إشاعات بوقوع اغتيالات على مستوى وزير الدفاع وقائد الأركان، وما زالت الرؤية غير واضحة حول كيفية انسحاب القوى المحيطة بوزارة الإعلام، وما الإجراءات التي تمّت لإنهاء الحصار، إلا أنّ النظام بعد ذلك قام باعتقالات واسعة في صفوف الجيش والقيادات، والملاحظ أنّ جلّ المسؤولين المعتقلين من أبناء المسلمين، كوزير التعدين (أحمد حاج علي)، ومسؤول الإقليم الجنوبي (مصطفى نور حسين)، وأمين الحزب (عبدالله جابر)، وغيرهم، وممن طاله الاعتقال أيضاً (الأمين شيخ صالح) عضو اللجنة المركزية والمكتب التنفيذي للحزب الحاكم في البلاد، ومدير إقليم القاش بركة سابقاً، وذلك في الثاني عشر من أبريل 2013م.
ويعود السبب في إخفاق هذه المحاولة الجريئة، كما يحللها المتابعون، إلى ما يأتي:
– خيانة بعض القيادات العسكرية التي كان من المفترض أن تشارك في العملية، وتتسلم بعض المواقع المهمة، فلم تتحرك في الوقت المتفق عليه.
– وجود عناصر مدسوسة في وسط المجموعة الثائرة، حيث ثبطت الثائرين من الاستمرار في الحصار، وكشفت خطتهم.
– وهناك مَن يرى أنها كانت مجرد تمثيلية لتصفية الخصوم الذين يمثّلون خطراً – من المسلمين على وجه الخصوص – على النظام الإريتري الحاكم، ومع عدم استبعاد هذا الرأي نهائياً؛ نقول إنها لو كانت مجرد تمثيلية فكيف خاطر النظام ببثّ جزء من مطالب الثوار في الفضائية الإريترية، والتي يمكن أن يؤيدها الناس جميعاً، فهذه مخاطرة لا أظن أن يقوم بها النظام الإريتري.
تداعيات هذه الحركة:
أحدثت هذه الحركة صدى كبيراً بإمكان حدوث تغييرٍ ما في إريتريا، وهذا الشعور ليس خاصاً بالقوى المعارضة الإريترية فقط، فقد بدأت منظمات دولية تتنبه إلى الوضع في إريتريا، وتحلّل الأحداث، وتتوقع سيناريوهات التغيير المستقبلية، حيث أصدرت مجموعة الأزمات الدولية (9) تقريرها بشأن إريتريا في 28 مارس 2013م (10)، وذكرت عدداً من السيناريوهات للتغيير المتوقّع، ويمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
1 – أن يطيح القادة العسكريون والحزبيون بنظام إسياس، مع المحافظة على الوضع، وإعادة تشكيل الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة من جديد.
2 – السيناريو الأول نفسه، مع فتح باب المصالحة مع إثيوبيا لتتحول إريتريا إلى باحثة عن السلام.
3 – أن تنهار الدولة بعد غياب إسياس بسبب من الأسباب، وتترشح لحرب أهلية شاملة بسبب الصراع بين القيادات بحثاً عن السيطرة على البلاد ومواردها.
4 – أن تحاول دول خارجية، وبخاصة دول الجوار، التدخل للوساطة أو الهيمنة، بحجة الدفاع عن مصالحها وحماية نفسها من حرب أهلية قد تمتد إليها.
5 – الانتقال السلمي للديمقراطية والتعددية الحزبية، إلا أنّ هذا الخيار يبدو بعيد المنال، وإن لم يكن مستحيلاً.
وعلى كلٍّ؛ فإنّ الرغبة في التغيير ما تزال تراود الشعب الإريتري.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث وأكاديمي إريتري.
(1) انظر: جغرافية إريتريا، عثمان صالح سبي، ط دار الكنوز الأدبية، بيروت 1983م، ص 13 وما بعدها.
وعثمان صالح سبي: أحد القيادات السياسية الإريترية المؤسسة لجبهة التحرير الإريترية، ومن الإريتريين القلائل الذين نالوا قسطاً من التعليم في عصره، ولد عام 1931م في قرية حرقيقو، أسهم في تعريف القضية الإريترية على مستوى العالم العربي والإسلامي، اهتم بالجانب العلمي والثقافي، حيث قام بتأسيس جهاز التعليم في عام 1976م لرعاية اللاجئين الإريتريين في الجانب التعليمي، وألّف كتاب: تاريخ إريتريا، وجغرافية إريتريا، وعلاقة السودان بإثيوبيا عبر التاريخ، والصراع في حوض البحر الأحمر عبر التاريخ، وجذور الخلافات الإريترية وطرق معالجتها، حرص على أن ترتبط القضية الإريترية بالأمة العربية هوية وثقافة، استمر في قيادة تنظيمه (قوات التحرير الشعبية) بعد أن اختلف مع (جبهة التحرير الإريترية) و (الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا)، حتى توفي عام 1987م في القاهرة إثر عملية جراحية في الجيوب الأنفية، تجد ترجمته بالتفصيل في ويكيبيديا (الموسوعة الحرة الإلكترونية).
(2) انظر: إريتريا الحديثة، د. سيد رجب حراز، معهد البحوث والدراسات العربية – 1974م، تاريخ إريتريا، عثمان صالح سبي، ط دار الكنوز الأدبية، بيروت 1977م، ص 232، جغرافية إريتريا، للمؤلف نفسه، ص 15 وما بعدها.
(3) انظر: الإسلام والحبشة عبر التاريخ، فتحي غيث، ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، ص (24 ، 30)، وتاريخ إريتريا، عثمان صالح سبي، ص 15.
(4) انظر:
Department of Economic and Social Affairs Population Division (2009).”World Population Prospects, Table A.1″ (.PDF). 2008 revision.United Nations.Retrieved on 2009-03-12. P 7.
(5) مثل (جبهة التحرير الإريترية) بقيادة عبد الله إدريس، و (جبهة التحرير الإريترية) المجلس الثوري، و (الحركة الديمقراطية لتحرير إريتريا)، و (حركة الجهاد الإسلامي الإريتري)، وغيرها.
(6) للاطلاع على مزيد من الأوضاع السياسية المتردية انظر: تقرير منظمة العفو الدولية بشأن إريتريا لعام 2013م في الرابط الآتي: http://www.amnesty.org/ar/region/eritrea/report-2013#section-6-3
(7) انظر: http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Dwal-Modn1/Eritria/Sec05.doc_cvt.htm
(8) المقصد هنا أن الأمر وصل إلى الحكومة المركزية ولم يتوقف على الولايات، لأن حكومات الولايات لم تستطع أن توقف هذا الأمر وهي مهتمة به.
(9) مجموعة الأزمات الدولية (إنترناشونال كرايزس جروب): هي منظمة دولية غير ربحية وغير حكومية، تتمثل مهمتها في منع حدوث النزاعات الدموية حول العالم، من خلال تحليلات ميدانية، ومن خلال إسداء المشورة على أعلى المستويات، وتعد (مجموعة الأزمات الدولية) اليوم المصدر العالمي الأول، المستقل والحيادي، للتحليلات والمشورات التي تقدمها للحكومات، والهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، انظر: http://ar.wikipedia.org/wiki/
(10) للمزيد عن التقرير انظر: http://www.crisisgroup.org/en/regions/africa/horn-of-africa/ethiopia-eritrea/200-eritrea-scenarios-for-future-transition.aspx