كلما قرأت عن إفريقيا(1) وجدت الحديث عن هذه القارة العظيمة لا يقف عند حدٍّ ولا يضبطه ضابط؛ متفقاً بذلك مع عدد من المؤلفين الذين خاضوا غمار البحث فيها, فالحديث عنها متشعّب يضرب في شتى المناحي والأرجاء، ويربط بين الماضي والحاضر, ويبشّر بمستقبل باهرٍ لهذه القارة ما تمسّكت بالإسلام.
ومن خلال هذه القراءات والاستقراءات، والأمل المنشود الذي لمسته وشممت رائحته تعلو من كل سطر وصفحة عند معظم من ألّف عن إفريقيا منذ العقود الماضية؛ تنبع الغيرة عليها وعلى إعادة أمجاد المسلمين إليها، كما أن الدعوة والانتماء والإخاء الإسلامي وما يلزمه من ولاء؛ يجعلنا نهتم بأرض ضخمة كهذه الأرض بصفتنا حملة رسالة حقة وسامية – فالإسلام جاء إلى الناس كافة، ولكي يُنشر في أرجاء المعمورة برمتها – خصوصاً أن لنا قصب السبق في إفريقيا، وفي نشر ديننا بين أرجائها الفسيحة.
ولا بد عندما يعالج أحدنا خطأ، أو يناقش قضية من قضاياه المصيرية, أن يعود بالنظر إلى الوراء قليلاً لاكتشاف جذور هذا الخطأ، والبدء في اقتلاعها شيئاً فشيئاً، حتى يتمهد الطريق ليكون مذللاً للإصلاح والتغيير، ومن ذلك إعادة النظر في معارفنا ومعلوماتنا وفهمنا للواقع وتطوراته، لنكوّن منهجية ورؤية واضحة لمعرفة الغاية التي نريد بلوغها، ولو بإطلالة سريعة ولمحات عابرة، فحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق – كما يقال -، ولا أحيد عن الحقيقة بإذن الله إذا قلت إن ذلك داخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات : 55].
وعلى الرغم من كثرة المهتمين بإفريقيا من المسلمين فإن كثيراً منهم يحتاج إلى التعريف بها وبواقعها ودور الإسلام فيها، ولا سيما الأجيال الناشئة، ونحن لا نريد بهذه التنمية المعرفية أن نزداد ثقافة ومعلومات فقط؛ بقدر ما نريد أن يزداد كل مسلم معرفة بقضايا أمته وإخوانه أياً كانت درجة ثقافته واطلاعه ومعرفته.
وإذا تقرر ذلك طبقناه على قارة إفريقيا محور حديثنا، وأول مرتكز ينبغي لنا أن نتمحور حوله موقعها وأرضها.
تعدد الحديث عن تاريخ إفريقيا واكتشافها بين مختلف المراجع والمصادر التي كتبت عنها على مدى عقود، ومن بين المختصر والمستفيض يمكنني أن أنتقي أفضل ما قرأت عن ذلك على حد اطلاعي القاصر؛ مما أعتقد أنه يعطي نبـذة وإطلالة على اكتشاف إفريقيا، وهو ما كتبه الدكتور عبد الملك عودة، حيث يقول: «بدأ تاريخ إفريقيا الحديث منذ الكشوف الجغرافية(2)، وليس معنى هذا أن إفريقيا ليس لها تاريخ سابق على الكشوف الجغرافية، أو أن أوروبا لم تعرف إفريقيا ولم تتعامل معها تجارياً قبل هذا التاريخ؛ فلإفريقيا تاريخ طويل قبل بدء فترة الكشوف الجغرافية، ويتسم هذا التاريخ بقيام حضارات وظهور ممالك وإمارات عديدة…
ولقد تناول مؤلفون عديدون هذه النقطة بالذات وأوضحوها، ونشروا أجزاء كثيرة من حقائق هذا التاريخ وعالم هذه الحضارات، وكان هذا في معرض الدفاع ودحض كثير من الأكاذيب والخرافات التي روّجها الأوروبيون من أن إفريقيا ليس لها تاريخ قبل وصول الرجل الأبيض وبدء الاستعمار الحديث، وإفريقيا لم تمنح التطور الحضاري العالمي شيئاً من ذاتها أو من ابتكارها.
وكثير من المراجع الموثوق بها في تاريخ إفريقيا تبدأ من حضارة قدماء المصريين، وتروي تاريخ غرب إفريقيا وشرقها؛ خاصة بعد أن دخل الإسلام القارة واستوطنتها القبائل العربية»(3).
ثم استطرد في الحديث عن أسباب الكشوف الجغرافية ودوافعها، وهل كانت إفريقيا أحد أهدافها الرئيسة, أو جاءت شيئاً عارضاً ما لبث أن احتل مركزه الحقيقي بتطور الأمور وسير العلاقات الدولية؟ وبيّن أنه لم تكن معرفة قارة إفريقيا خاصة هي هدف الكشوف الجغرافية، إنما بنجاح رحلات الكشوف الجغرافية أصبحت إفريقيا جزءاً من المعرفة العالمية، وبدأت تدخل في حلقة صراع القوى الكبرى على نطاق عالمي، فقال: «إن دوافع الكشوف الجغرافية وأهدافها تتركز في ثلاث نقاط رئيسة ارتبطت بها مجموعات من الأهداف الفرعية.
وهذه النقاط الثلاث الرئيسة هي:
1 – شن الحرب ضد المسلمين وهزيمتهم في إفريقيا وآسيا: وهذا تعبير عن الروح الصليبية العميقة ضد الإسلام، والتي تعبّر عنها الحروب الصليبية في العصور الوسطى، وحروب الاستعادة التي آمنت بها إسبانيا والبرتغال بعد طرد المسلمين من شبه جزيرة أيبيريا.
2 – نشر العقيدة المسيحية: وهذا مرتبط بشقين؛ الأول: الواجب الديني على معتنقي المسيحية أن يوسعوا من دائرة إخوانهم في الدين وأن يبشّروا به، وأن يزداد عددهم باستمرار. والشق الثاني: يأتي من أن فكرة الحرب ضد المسلمين قد تطورت لا إلى ملاقاتهم وجهاً لوجه، وإنما إلى تطويقهم، ويتم هذا بالوصول إلى الأراضي الواقعة خلف بلاد المسلمين ونشر المسيحية فيها، وضمّها تحت نفوذ البرتغال وإسبانيا، ومن ثمّ ينحصر المسلمون وسط المسيحيين؛ من الأمام (أوروبا) ومن الخلف (إفريقيا وآسيا)، وقد ساعد على نمو فكرة التطويق ما ذاع في أوروبا ذاك الوقت من وجود مملكة مسيحية كبيرة في إفريقيا، وحاول البرتغاليون الوصول إليها.
3 – تجارة التوابل: وهذا قد لا يثير في نفوسنا أي إحساس أو أثر، وأحياناً يثير الدهشة من اهتمام الناس وتقاتلهم حول تجارة الفلفل والبهار! ولهذا كانت تجارة التوابل مع الشرق إحدى العوامل المحرّكة للتاريخ؛ فقد أعطت أرباحاً ومكاسب ضخمة, وأثارت أحقاداً ومنافسات كبيرة أدت إلى نتائج خطيرة في تاريخ أوروبا والعالم أجمع»(4).
الكشوف الحديثة لإفريقيا(5):
لم ينظر العالم لإفريقيا كقارة إلا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى هذا الوقت كان المعروف من القارة لا يخرج عن سواحلها في الشمال والشرق والغرب، وهذه السواحل كانت أهميتها ترجع إلى البحار والمحيطات التي تطل عليها لا إلى القارة الواقعة خلفها.
وهكذا كانت سواحل القارة مطروقة بعض الشيء من الناحية البحرية، لكن اتصالها بداخل القارة كان قليلاً, ولهذا ترجع تسمية القارة بالمظلمة فترة من الزمن، لأن العالم لا يعرف عن داخلها شيئاً يُذكر، ولكن هذا لا يعني أن القارة لم تكن معروفة بكاملها، بل كانت هناك أجزاء قامت فيها حضارات زاهية في شمالها وشمالها الشرقي, فمثلاً كانت المناطق المطلة على البحرين المتوسط والأحمر من هذه القارة مطروقة، لكن المشكلة كانت في الجهل بوسط القارة وجنوبها؛ لدرجة أن الجغرافيين كانوا يرمزون لهذه الجهات في خرائطهم ببحيرة واسعة، أو بسلاسل جبلية، أو حيوانات مفترسة.
أما العوامل التي يرجع إليها تأخر اكتشاف القارة الإفريقية:
1 – قصر سواحل القارة بالنسبة لمساحتها:
فالقارة جنوب إقليم الصحراء الكبرى تصل حافة الهضبة الداخلية فيها قريباً من الساحل جداً، ومن المعروف أنه كلما ازداد طول الساحل كلما أعطى فرصة أوسع للتغلغل الداخلي.
2 – قلة الرؤوس والخلجان، وعلى العموم قلة تعاريج السواحل:
وترتبط هذه النقطة بالنقطة السابقة، ويترتب عليها قلة الموانئ الطبيعية، وهذه الموانئ في العادة هي المنافذ التي تطل منها القارة على العالم الخارجي، ويمد العالم الخارجي بصره منها للقارة.
ولعل هذه النقطة تتضح إذا قارنّا سواحل إفريقيا بالسواحل الشرقية لأمريكا الشمالية، فهذه السواحل الأخيرة غنية بالرؤوس والخلجان, وهو ما أدى لتوافر الموانئ الطبيعية التي تهيئ للسفن مكاناً صالحاً للرسو؛ ولذا فقد كان كشف أمريكا الشمالية إيذاناً بتعميرها واستيطانها ومعرفة خباياها.
3 – قلة الجزر القريبة من الساحل:
فالجزر وأشباه الجزر يمكن اتخاذها كمناطق تستقر فيها القوى المستكشفة، وتنفذ منها بعد ذلك للداخل.
والملاحظ أن كل قارات العالم القديم – باستثناء إفريقيا – تتميز بكثرة جزرها وأشباهها، أما إفريقيا فهي كتلة واحدة خالية من الأطراف تقريباً؛ باستثناء بعض الرؤوس الصغيرة التي تفصلها عن بعضها مسافات شاسعة في غرب القارة، وبعض الجزر الساحلية في الشرق مثل (زنجبار) و(بمبا)، ولا تكاد هذه المناطق الحساسة يكون لها دور حيوي في تاريخ القارة.
وهذه الظاهرة التي تنفرد بها القارة الإفريقية لعلها ترجع أساساً لصغر حجم الجزر الإفريقية نسبياً باستثناء جزيرة مدغشقر، وهذه الجزيرة رغم اتساعها فإن تيار موزمبيق كان له أثر كبير في عزلتها عن اليابس الإفريقي، فالدور الذي لعبته مدغشقر لا يقاس مثلاً بالدور الذي لعبته جزر زنجبار.
4 – قلة أهمية الأنهار الإفريقية بصفتها شرايين تؤدي إلى الداخل:
فهذه الأنهار ينتهي كل منها إلى البحر إما بدلتا كثيرة الفروع والمستنقعات والسدود أو بمساقط مائية، ولعله مما يستوقف النظر أن كشف منابع الأنهار الإفريقية لم يتم عن طريق بعثات سلكت مجاري هذه الأنهار، لكنها في أغلب الأحيان اتبعت الطرق البرية لتتفادى العقبات في مجاري الأنهار.
5 – عوامل مناخية:
فقارة إفريقيا يقع معظمها في المناطق المدارية والاستوائية، وهي مناطق غير مشوّقة للإنسان الأوروبي بالذات ليطرقها أو ليعيش فيها بسبب قسوة مناخها.
وهناك عوامل أخرى لعل من أهمها أن أنظار الأوروبيين ظلت لفترة غير قصيرة من الزمن متجهة نحو الشرق وتجارة الشرق، وقد أدى ذلك إلى أن يحيط الغموض بالقارة الإفريقية، وكان اهتمام القوى الأوروبية التي وضعت أقدامها على المناطق الساحلية أو الغربية من سواحل القارة أن تجد مراكز للدوران حول الساحل في اتجاه الشرق, فلم تكن نقاط الارتكاز في القارة إلا بمثابة محطات تزوّد السفن بالمؤن والمياه، وأصبحت أهمية نقاط الارتكاز هذه فيما بعد تتمثل في اتخاذها موانئ لنقل السلع الإفريقية, وخاصة السلعة التي انفردت بها القارة وهي (الرقيق).
إضافة إلى الأمراض الإفريقية، وفي مقدمتها الملاريا ومرض النوم، ولم تكن قد كشفت بعد وسائل حاسمة لعلاجها.
تضاريس إفريقية:
عندما نتحدث عن قارة إفريقيا فلا بد أن نبحث عن عناصر أو مفردات تجعل هذه القارة منفردة تختلف عن غيرها من القارات؛ بحيث إذا ذُكرت هذه العناصر أو المفردات يمكنك أن تقول إنها ولا شك قارة إفريقيا.
ملامح عامة لشخصية القارة وبنيتها وتركيبها الجيولوجي:
– إفريقيا هي أكثر القارات تحديداً، على عكس أوروبا مثلاً التي يُختلف في تحديدها؛ هل تنتهي عند الأورال أو قبل ذلك، أو بعده؟ أو الأمريكتين؛ أين تنتهي كل منهما؟ أما إفريقيا فهي القارة المتكاملة المتماسكة، شبه جزيرة ضخمة، تتصل بجارتها آسيا بمسافة لا يزيد طولها على 240 كم2 ما بين العقبة والبحر المتوسط، ومن السهل تحديدها عن القارات الأخرى لتماسكها وقلة تعاريجها وجزرها.
– ولإفريقيا شخصيتها المتميزة الواضحة، وخصوصاً في ظروفها الطبيعية, فالقارة قاومت في معظمها الغمر البحري ملايين السنين، ومن ثمّ كانت صخورها الغالبة هي الصخور الصلبة والبنية القديمة، وتفريعاً من هذا كانت الانكسارات والأخاديد تحفر وجه القارة، وإن تنوعت نشأتها، وتباينت أسبابها، على حين اصطفت الالتواءات على أطرافها في المغرب وجنوب إفريقيا، وبعيداً عن القلب، فقلبها جامد.
– تتميز القارة الإفريقية بأن معظمها يتكون من كتلة أو درع صلب قديم, يمتد من جنوب سلاسل الأطلس إلى سلاسل الكاب جنوباً، ويمكن أن يُقارن من حيث التركيب والنشأة بغيره من الكتل القديمة، والواقع أنه لا يمكن فهم بنية إفريقية إلا على ضوء أنها جزء من القارة (جندوانا) القديمة.
– تتألف الكتلة الإفريقية من هضبة واسعة (جندوانيا), تمتد من ساحل غانا في الغرب إلى الصومال في الشرق، ومن الأطراف الجنوبية لإقليم أطلس إلى الأطراف الشمالية لسلاسل الكاب في الجنوب.
– المرتفعات في إفريقيا: لا تُعد جبال أطلس جزءاً من الهضبة الإفريقية؛ لأنها جبال التوائية تكونت حديثاً عند الأطراف الشمالية للكتلة الإفريقية، وتشبهها في ذلك سلاسل الكاب، وزفارتبرج، ولانج برج؛ لأنها هي الأخرى جبال التوائية تكونت عند الأطراف الجنوبية للكتلة الإفريقية، وإن كانت تختلف عن جبال أطلس في أنها أقدم منها في التكوين.
أما المرتفعات الأخرى التي تصادفها في القارة الإفريقية، وبصفة خاصة القمم المنفردة التي تنتشر في كثير من جهات هضبة البحيرات, مثل كلمنجارو وكينيا والجون، ثم مناطق الهضاب العالية التي تعلو سطح الهضبة الإفريقية وبصفة خاصة هضبة إثيوبيا, فقد تكونت جميعاً بفعل الثورات البركانية التي تعرّضت لها الكتلة الإفريقية، ويمكن القول بصفة عامة إن أغلب المرتفعات التي تعلو فوق مستوى الهضبة الإفريقية قد تكوّنت بفعل عوامل التعرية التي ظلت تنحت التكوينات التي تحيط بتلك المرتفعات حتى أزالتها، وبقيت المرتفعات قائمة لصلابتها، فهي بناءً على ذلك تُعد جبالاً مختلفة(6).
الموقـع:
تقع إفريقيا في وسط الكرة الأرضية، ويمر بها خط الاستواء، ليشطرها إلى شطرين متساويين تقريباً، وتحيط البحار والمحيطات بإفريقيا من جميع الجوانب.
– ففي الغرب: يقع المحيط الأطلسي.
– وفي الشرق: المحيط الهندي, وبحر العرب, والبحر الأحمر, وقناة السويس.
– وفي الشمال: تترامى أمواج البحر الأبيض فاصلاً إفريقيا عن أوروبا.
– أما في الجنوب: فيلتقي المحيطان الهندي والأطلسي على صخور رأس الرجاء الصالح.
وقبل افتتاح قناة السويس عام 1869م شكّلت شبه جزيرة سيناء والبحر الأحمر الطريق الرئيسة لاتصال إفريقيا بشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وسائر آسيا، أما البحر الأبيض المتوسط فكان المعبر الرئيس بين إفريقيا وأوروبا، خصوصاً عند مضيق جبل طارق، وبسبب هذا الموقع الاستراتيجي تُعد القارة الإفريقية جزءاً أساسياً من العالم القديم، ومهداً عريقاً لعدة حضارات غابرة، كما أغرى موقع إفريقيا خلال العصر الحديث معظم القوى الاستعمارية للتكالب عليها.
المساحـة:
تبلغ مساحة قارة إفريقيا 30 مليون كم2، وتشكّل خُمس مساحة الكرة الأرضية، وتأتي في المرتبة الثالثة بين القارات من حيث المساحة بعد آسيا وأمريكا.
ثروات إفريقيا:
تتمتّع القارة بثروات طبيعية وموارد ضخمة لم تُستثمر بشكل مثالي في الأعم الأغلب، ولم يُبْدِ الإفريقيون – حتى وقت قريب – اهتماماً كبيراً بما تحويه بلادهم من ثورة معدنية.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه ظهر في إفريقيا فنّانون على درجة عالية من المهارة في صهر المعادن وصبّها، كالحديد والنحاس والقصدير والذهب، غير أن هؤلاء كان من عادتهم ممارسة فنّهم في عزلة، وإخفاء مصادر خاماتهم إلا عن نفر قليل جداً من العارفين ببواطن الأمور، كما كانت مواردهم المعدنية محدودة، وطرق صناعتها مجهدة؛ إلى درجة أنه كان من شبه المتعذر – حتى إن أرادوا ذلك – أن ينشروا منتجاتهم في محيط واسع.
أما اهتمام الغرباء بالثروة المعدنية لإفريقيا المدارية فيرجع إلى زمن بعيد؛ غير أن إدراكهم لضخامة هذه الثروة لم يواز اهتمامهم بها إلا في الجيل المنصرم فقط، والاهتمام بالذهب في رأي الكثيرين قديم قدم الفراعنة على الأقل، وإذا كنا لا نستطيع أن نجزم بأن الاهتمام بالذهب يعود إلى عصور التاريخ القديمة؛ فمن المؤكد أنه يرجع إلى العصور الوسطى, فهو اهتمام دُوّن بوضوح على أقدم الخرائط الموجودة لإفريقيا، والتي يرجع تاريخها إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، في الإشارات إلى نهر الذهب أو خليج الذهب، وفي صور الرحالة العرب الذين حملتهم أسفارهم عبر الصحراء ابتداء من القرن الثاني عشر.
وكان الذهب هو الدافع الرئيس لملاحي الدول المسيحية في مياه غرب إفريقيا منذ القرن الخامس عشر، ومع أن قلة صغيرة جداً من هؤلاء الذين ذهبوا إلى إفريقيا المدارية في هذه الفترة – بالبر والبحر – أصابت ثراء من الذهب؛ فإن ما حصلوا عليه كان كافياً لإذكاء الاعتقاد بأن تلال إفريقيا ما زالت تحتوي على كميات من الذهب تفوق ما استخرجه الإفريقيون أو غيرهم منها، ولا يحتاج الحصول عليه إلا إلى تعيين موقعه والحفر من أجله.
بدأ البحث عن الذهب والحفر لاستخراجه بصورة جدية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن البحث كان يتمّ عشوائياً، فكان الباحثون يتبعون هواجسهم، وفقدوا أكثر مما ربحوا، وكان من المحظوظين منهم أولئك الذين استمعوا إلى الإفريقيين وعرفوا من أين يحصلون على معادنهم، ولما زادت معرفتنا بالتركيب الجيولوجي للأقليم سار البحث عن المعادن على طرق علمية، وكانت نتائجه أكثر توفيقاً(7).
«وتكتسب القارّة الإفريقية أهمّيتها من كونها تشكّل خزّان العالم الاستراتيجي من الموارد الطبيعية والمواد الأوليّة والأحجار النفيسة التي يشتدّ الطلب عليها؛ في ظل التنافس الشديد بين كبرى الدول المستهلكة لهذه الموارد؛ إثر ازدياد الطلب العالمي وتقلّص نسبة الاحتياطيات العالمية ومعدّلات الإنتاج في أماكن ومناطق أخرى من العالم.
ومن الموارد التي تتمتّع بها:
1 – النفط والغاز:
وتضمّ القارة حوالي 10% من احتياطي النفط العالمي المثبت، ويتركّز معظمه (بنسبة 60%) في ثلاث دول رئيسة منتجة؛ هي نيجيريا والجزائر وليبيا، في حين تبلغ احتياطيات الغاز المثبتة في القارة حوالي 8% من نسبة الاحتياطيات العالمية, ويتوزّع أكثر من 75% من هذه النسبة في ثلاث دول أيضاً؛ هي نيجيريا والجزائر ومصر.
ومن مميزات النفط والغاز الإفريقي سهولة استخراجه نسبياً، وسهولة تسويقه أيضاً بسبب موقع القارة الاستراتيجي بين قارات العالم من جهة, وبسبب تركّز كميات كبيرة من النفط على السواحل أو في المياه الإقليمية لدولها.
وعلى الرغم من أنّ نسبة الاحتياطيات المثبتة في القارة متواضعة نسبياً مقارنة بنظيرتها في الشرق الأوسط؛ فإن عدداً من الجهات الدولية تشير إلى أنّ هناك العديد من المناطق غير المكتشفة إلى الآن، والتي يمكن أن تحوي كميات كبيرة من النفط والغاز بشكل يجعل من القارة الملجأ الأخير غير المستنفـد بعد نفطياً، خاصّة أن قدرات الإنتاج في العديد من دول القارة لم تصل إلى طاقتها القصوى.
2 – الموارد الطبيعية والأوّلية:
تعتبر إفريقيا في هذا السياق «منجماً ضخماً»، ينتج قرابة 80% من بلاتين العالم، وأكثر من 40% من ألماس العالم، و 20% من ذهبها, وكذلك الأمر من الكوبالت.
3 – المياه:
تشير التقديرات إلى أنّ القارّة تمتلك حوالي 4 آلاف كم3 من مصادر المياه العذبة المتجدّدة في السنة، أي ما يوازي حوالي 10% من مصادر المياه العذبة المتجددة في العالم، وهي نسبة معتبرة قياساً بالمعاناة التي تعيشها الدول الأخرى في كثير من مناطق العالم»(8).
خاتمة:
إن القارة ليست حديثة عهد، بل هي تُشاطر التاريخ في قدمه، وتحوي آثاراً تدل على عراقة حضارتها الممتدة, وعلى مدنيات متباينة، لكنها غُبِنت كثيراً، وخصوصاً فيما يتعلق بتاريخها الإسلامي، ودخوله إليها وانتشاره فيها، وأُنكر عليها كثير من حقوقها.
الهوامش :
(1) اسم إفريقيا: هو اسم القارة الحالي، وكانت تُسمى قديماً «ليبيا»، وكانت مقسمة إلى مناطق رئيسة، ثم أُطلق عليها خلال العصور الوسطى «إثيوبيا»؛ أي قارة السود، وهي مشتقة من اليونانية، ثم استعملت في التعبير عنها كلمة «إفريقيا»، وكانت تشير لدى القدماء إلى منطقة في تونس تُدعى «رأس فري» نسبة إلى قبيلة من البربر، وقد اشتقت الكلمة من تعبير قديم عن المغارة أو الكهف أيضاً، حيث كان أهل المنطقة يسكنون ما يشبه الكهوف، ثم استخدم العرب هذا المصطلح «إفريقيا»، وتخصصت ليبيا وإثيوبيا للتعبير عن المنطقتين الجغرافيتين المعروفتين بهذين الاسمين، بينما استخدمت كلمة «إفريقيا» للتعبير عن القارة جملة. (المسلمون في غرب إفريقيا، محمد فاضل باري، سعيد إبراهيم كريدية، دار الكتب العلمية، 2007م).
(2) هناك كلام نفيس عن حقيقة الكشوف الجغرافية، ذكره د. جمال عبد الهادي مسعود, في كتاب (إفريقيا التي يراد لها أن تموت جوعاً)، ص 41.
(3) الحكم والسياسة في إفريقيا، د. عبد الملك عودة، 1959م، بتصرف.
(4) المرجع السابق، بتصرف.
(5) تاريخ كشف إفريقيا واستعمارها، د. شوقي الجمل، 1980م, بتصرف يسير.
(6) إفريقيا.. شخصية القارة.. شخصية الأقاليم. د/ محمد عبد الغني سعودي, 2008م.
(7) إفريقيا المدارية (الأرض وطرق المعيشة) 1964م، تأليف/ جورج كيمبل. ترجمة: مصطفى كمال منير. د. داود حلمي السيد. فؤاد إسكندر.
(8) التنافس الدولي على قارة إفريقيا، الجزيرة نت، 10/8/1430 هـ – الموافق2/8/2009، علي حسن باكير.