مصطفى شفيق علام (*)
مع إعلان الكاميرونيين الناطقين بالإنجليزية، تنظيم تظاهرات احتجاجية واسعة مطلع أكتوبر 2017، والذي يوافق ذكرى استقلالهم عن بريطانيا، بسبب ما يصفونه بسوء المعاملة والإهمال الممنهج من قبل حكومة الرئيس بول بيا، التي يهيمن عليها الناطقون بالفرنسية. اتخذت السلطات الحكومية في البلاد إجراءات احترازية تقضي بحظر تجمع أكثر من أربعة أشخاص، وأمرت محطات الحافلات والمطاعم وكل المتاجر بالإغلاق، وقيدت حركة التنقل بين المنطقتين الناطقتين بالإنجليزية في البلاد لمدة ثلاثة أيام لمنع الاحتجاجات المزمعة.
الأمر الذي يثير تساؤلات حول إشكاليات إدارة التنوع في المجتمعات الإفريقية، ومن بينها المجتمع الكاميروني، المنقسم؛ عرقيًا ولغويًا ودينيًا، لاسيما في حال كان هذا الانقسام مؤطرًا جغرافيًا، بما يخلق نوعًا من الانقسامات المتوازية، والتي تختلط فيها محفزات انقسام الهوية بالمكان الجغرافي ، كما تثير تلك الإشكاليات تساؤلات أخرى مشروعة حول المدخل الأمني كاقتراب دائمًا ما يكون حاضرًا للتعاطي مع ذلك النوع من التحديات المجتمعية في الدول الإفريقية.
النسيج الكاميروني الهش.. معضلة الوحدة المفقودة
تعد الأبعاد الدينية والثقافية والعرقية من أهم المؤشرات التي تسهم في تدعيم التكامل القومي للدولة باعتبار أن درجة التجانس في تلك المؤشرات من شأنه أن يشكل نسيجًا متناغمًا لهوية الدولة، والقاعدة أنه كلما زادت نسبة التجانس الديني والثقافي والعرقي في الدولة كلما كان ذلك مؤشر قوة والعكس صحيح، فكلما قلت درجة التجانس الديني والثقافي والعرقي في الدولة عُد ذلك مؤشر ضعف في تلك الدولة وسببًا محتملاً لنشوب النزاعات المجتمعية داخل تلك الدولة، هذا مع اعتبار عامل طبيعة الدولة ونظام الحكم.
ووفقًا لمدخل إدارة التنوع، في الدول ذات الأطر الثقافية المختلفة والمتنوعة، عرقيًا ولغويًا ودينيًا، والذي يجعل من تلك الفسيفساء المجتمعية عامل تحدٍ في الوقت الذي تكون فيه ميزة نسبية، بحسب المدخل الإداري الذي تنتهجه الدولة إزاء مكوناتها المجتمعية، فهي عامل قوة إذا ما أحسنت إدارتها، بيد أنها عامل ضعف وثغرة في جسد قوة الدولة إذا ما أديرت بطريقة طائفية مقيتة، تميز بين مكونات المجتمع بسبب العرق أو اللغة أو الهوية الثقافية المتميزة.
بل إن بعض المداخل المنهاجية التي تعلي من قيمة الاعتبارات الأمنية في التعامل مع ظاهرة التنوع المجتمعي، تنظر إلى التنوع الثقافي، وخاصة فيما يتعلق بتقسيم المجتمع إلى أغلبية وأقلية، باعتباره مدخلاً من مداخل الإرهاب والعنف المجتمعي، فتضع الفاعلين المجتمعيين ممن يوصفون بذوي الهوية المتمايزة مع طيف واسع من الفاعلين العنيفين ما دون الدول، لعل أهمها، أمراء الحرب، وزعماء العشائر، الحركات المتمردة، التنظيمات الإرهابية، والمرتزقة، وعصابات الجريمة المنظمة، وشركات الأمن الخاصة، ويضم إليها البعض الحركات الإسلامية، باعتبارها ذات قابلية عقدية لتوظيف العنف في سياقات دينية.
وتعتبر حالة الكاميرون نموذجًا للتعدد المجتمعي، عرقيًا ولغويًا ودينيًا، وهي إشكالية إفريقية قديمة، بدأت منذ حقبة الاستعمار الأوروبي للقارة السمراء، ومن ثم ما بعد الاستعمار، حيث ورثت الدول الإفريقية الحديثة هذه الإشكالية من المستعمر الغربي الذي اعتمد تقسيم القارة بين القوى الأوروبية لاعتبارات تتعلق بالصراع الإمبريالي حول الثروة والنفوذ، بعيدًا عن مراعاة طبيعة السياقات المجتمعية وتأثيراتها المعيشية في إفريقيا. فقد كانت الكاميرون مستعمر إلمانية، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بهزيمة ألمانيا، حيث قسمت عصبة الأمم مستعمراتها في القارة، ومن بينها الكاميرون، بين كل من فرنسا وبريطانيا.
وبعد استقلال غالبية دول القارة الإفريقية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، اتحدت المناطق الكاميرونية التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، وعددها 8 مقاطعات، مع تلك التي كانت خاضعة للاستعمار البريطاني، وعددها مقاطعتان، لتنشأ جمهورية الكاميرون كدولة واحدة، مع تأكيد الدستور الكاميروني على التنوع اللغوي، بإعلان اللغتين؛ الفرنسية والإنجليزية، لغتين رسميتين للبلاد، مع تقديره كذلك للغات واللهجات المحلية الأخرى المستخدمة بين القبائل والعرقيات المختلفة وعددها 24 مجموعة لغوية مختلفة.
وبخلاف الانقسام اللغوي، ينقسم نسيج المجتمع الكاميروني، دينيًا، إلى 38.4% من المسيحيين البروتستانت، 26.3% من المسيحيين الكاثوليك، و4.5% من مذاهب مسيحية أخرى، ونحو 21% من المسلمين، إلى جانب 5.6% من الوثنيين، ونحو 3.2% من الملحدين، مع بعض الديانات الأخرى بنسب قليلة، هذا إلى جانب انقسام الكاميرونيين عرقيًا، إلى الكاميرونيين سكان المرتفعات 31%، والباتنو الاستوائيين 19%، والبانتو الجنوب غربيين 8%، والكيردي 11%، والفولاني 10%، والنيجيريين الشرقيين 7%، والعرقيات الإفريقية الأخرى 13%، وعرقيات غير إفريقية 1%.
وبالنظر إلى خريطة الكاميرون، تتعمق الفجوة الوحدوية التي تتعمق في النسيج الكاميرون المجتمعي الهش، حيث تتموضع المقاطعات الكاميرونية الناطقة بالإنجليزية على الحدود مع نيجيريا، وتعتبر امتداداً لغويًا لها، ما دفع السلطات الكاميرونية إلى اتخاذ قرار بإغلاق الحدود مع نيجيريا قبل أسبوع من موعد الفعاليات الاحتجاجية المزمعة، حيث ترتبط الأقاليم الناطقة بالإنجليزية بعلاقات قوية مع شرق نيجيريا، ومن ثم تخشى السلطات من أن يؤدى بقاء الحدود مفتوحة خلال الاحتجاجات إلى توفير قاعدة خلفية للمتظاهرين ، ما يصعب من مهمة قوات الأمن في الحفاظ على النظام.
المدخل الأمني وتعميق الفجوة المجتمعية
ووفقًا لتقديرات فرنسية، فإن دوافع الصراع بين الغرب الناطق بالإنجليزية والشرق الناطق بالفرنسية في الكاميرون، هو الاستقلال الهش الذي تحصلت عليه البلاد عام 1960، وهو سبب تاريخي حتم على الكاميرونيين نشوب صراعات متكررة في الثقافة واللغة إلى اليوم، حيث عجزت دولة ما بعد الاستقلال، وعلى مدى ما يقرب من سبعة عقود، عن بناء هوية وطنية جامعة للكاميرونيين، تلملم شتاتهم وتعزز من وحدتهم وشعورهم المشترك بالوحدة في إطار التنوع.
وقد اعتمد الرئيس الكاميروني، بول بيا، طوال سنوات حكمه الـ35، حيث تولى السلطة في نوفمبر 1982، المدخل الأمني في التعاطي مع معضلة الشعور بالتهميش والإقصاء التي تعاني منها المناطق الكاميرونية الناطقة بالإنجليزية، ومن ثم فشل في اختبار إدارة التنوع في بلاده، وحول هذا التنوع من نعمة إلى نقمة، ومن ميزة إلى إشكالية أمنية تكاد تعصف بالبلاد ووحدتها الجغرافية، الأمر الذي جعل الكاميرون محل انتقادات متكررة من منظمة العفو الدولية، التي رصدت تقاريرها للعام 2016/2017، انتهاكات بالجملة مورست بحق الناشطين الكاميرونيين الناطقين بالإنجليزية.
ففي نهاية أكتوبر 2016، أضرب محامون وطلاب ومدرسون من المناطق الكاميرونية الناطقة باللغة الإنجليزية احتجاجًا على ما رأوه سياسات تهميشية تمارس بحقهم، واندلعت الاحتجاجات في عدة مدن في جنوب غربي وشمال غربي البلاد، من بينها بامندا وكومبا وبوي، حيث ألقت قوات الأمن القبض على المحتجين بشكل تعسفي، مستخدمة القوة المفرطة في تفريقهم، وفقًا لتقديرات منظمة العفو الدولية، وصولاً إلى استخدام الرصاص الحي في إحدى التظاهرات، خلال شهر ديسمبر 2016، ما أدى إلى وفاة ما بين شخصين إلى أربعة أشخاص.
وتُوظّف الحكومة الكاميرونية فزاعة الحرب على الإرهاب لممارسة الانتهاكات الحقوقية ضد المعارضين، لاسيما مع كون الكاميرون، التي تجاور كلاً من نيجيريا، غربًا، وتشاد وإفريقيا الوسطى، شرقًا، بؤرة نشاط تقليدية لجماعة بوكو حرام الإرهابية التي تنشط في مناطق واسعة من وسط وغرب القارة الإفريقية، ففي غضون العام 2016، شنت بوكو حرام نحو 150 هجومًا في الكاميرون، من بينها 22 هجومًا انتحاريًا، قُتل خلالها ما لا يقل عن 260 مدنيًا، كانت هذه الهجمات جزءًا من هجوم ممنهج على السكان المدنيين عبر حوض بحيرة تشاد.
إدارة التنوع: نحو اقتراب مؤسسي فاعل
ولأن الفشل في إدارة التنوع يعني السقوط في براثن عدم الاستقرار السياسي ومن ثم زيادة معدلات المخاطر السياسية للدول والحكومات، فإن الكاميرون مراتب ضعيفة إلى متوسطة، وفقًا لتقديرات مؤشر country watch للعام 2017، الأمر الذي أدخلها في زمرة الدول الفاشلة، وفقًا لتقديرات مؤشر الدول الهشة الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي المرموقة، باحتلالها المرتبة الـ26 على قائمة أكثر الدول هشاشة في العالم، واندراجها تحت تصنيف “دول التحذير المرتفع”.
ولأن الحكومات التي تتعاطى مع إشكالياتها السياسية بالقبضة الأمنية فحسب، فإنه لا بد أن يتوازى فيها الانقسام السياسي والسقوط في فخ الهشاشة وغياب الحكم الرشيد مع التردي في مستنقع الفساد وغياب النزاهة والشفافية، ومن ثم تصنف الكاميرون على قائمة الدول عالية الفساد، وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، حيث جاءت في المرتبة 145 عالمياً من إجمالي 176 دولة شملها مؤشر مدركات الفساد، بحصولها على 26 نقطة فقط من إجمالي 100 نقطة للمؤشر.
وعليه، فإن معركة الهوية الثقافية، الدائرة بين الأنجلوفون والفرانكوفون، على الأراضي الكاميرونية، لن تحسمها السياسات الأمنية التي تمارسها حكومة الرئيس بيا، بقدر ما تحلحلها بل وتقضي عليها بناء هوية وطنية جامعة تقوم على استدامة التنمية للجميع دونما تفريق مع إطار حكم مؤسسي رشيد يتم فيه تداول السلطة لا تأبيدها، وتوزيع الثروة لا احتكارها، وهذا يتطلب الاضطلاع بمحددات رئيسة ثلاثة، لابد أن تشتمل عليها أية استراتيجية علاجية/وقائية للقضاء على الصراعات الداخلية في الكاميرون وأشباهها داخل القارة الإفريقية، تتمثل في عناوين: الإرادة والإدارة، المؤسسات الفعالة، توطين الاستقرار.
فالإرادة والإدارة، تعني أول ما تعني تدشين استراتيجية وحدوية لبناء الهوية الوطنية الجامعة، القائمة اتساقًا مع إرادة سياسية حقيقية لإدارة التنوع، ومبنية على أسس جديدة لتوزيع الثروة وتقاسم السلطة بشكل عادل شفاف، بما يتعاطى إيجابيًا مع محددات الهوية والسياسة والاقتصاد والمحفزة للصراعات الداخلية في مجتمعات القارة الإفريقية.
في حين أن المؤسسات الفعالة لإدارة التنوع، تقتضي وجود مؤسسات محترفة للإنذار المبكر بشأن أي محفزات صراعية مجتمعية محتملة، قبل اندلاعها، للاضطلاع باستراتيجيات تعتمد آليات الاحتواء الاستباقي لتلك المحفزات ومجابهة سيناريوهات تفاقمها حال أخفقت أجهزة الإنذار المبكر في تقديراتها إزاء الحزمة الصراعات المتصاعدة.
وأخيرًا؛ توطين الاستقرار، الذي يتأتي ببناء سياقات المجتمع الإفريقي المستقر، ودعامته الأولى توفير مناخ حقيقي لحكم رشيد يكفل الحريات العامة والحقوق والواجبات المتساوية للمواطنين دون إقصاء أو تهميش أو تمييز، ودعامته الثانية بناء مجتمع الرفاه الاجتماعي الذي تؤسسه دولة القانون والحريات والنزاهة والشفافية، ما يجعل احتمالات الصراعات الداخلية في حدها الأدنى، كما يحفز استراتيجيات الاحتواء سالفة البيان حال حدوث أي اختلالات هيكلية صراعية في المجتمعات الإفريقية.
(*) كاتب ومحلل سياسي – باحث في العلاقات الدولية.