الأحداث الأخيرة التي شهدتها مالي، والتي تمرُّد فيها الطوارق في شمال مالي وشرقها أحداث مُحَيِّرة لكلّ لبيب لأنّ تسلسل الأحداث، منذ اتفاقية 1996م إلى الآن، كانت تشير إلى مجريات الواقع الحالي؛ لأسباب كثيرة، فما أكثر ما حذَّر العقلاء في مالي من خطورة ما يُبيَّت لأقاليمها ولشعوبها، وبخاصة السنغاي المسالمون تديُّناً، وهم الذين يمثّلون أكبر نسبة سكَّانية في شمال مالي وشرقها كليهما، ثم الفلاتة، والطوارق، والعرب.
العامل الأوَّل: اتفاقية كوناري مع الطوارق:
عقدت حكومة عمر كوناري رئيس مالي السابق اتفاقية مع الطوارق والعرب عام 1996م بوساطة الجزائر وليبيا، وكان من بنودها خروج الجيش المالي من منطقة كِيدال وما حولها، وأن يكون السيطرة فيها للطوارق لا سيما إيفوغاس، وإيماغاد، وإدنان، حتى أمير المنطقة تمَّ الاتفاق معه على إدخال عدد كبير من شباب الطوارق والعرب في جميع إدارات الحكومة وأماكن النفوذ، وبخاصة الجيش، والشرطة، والجمارك، والدرك، والحرس الرئاسي، وإدارة الشركات ومشروعات التنمية، والجمعيات الحكومية والأهلية العاملة في شمال مالي وشرقها، وهو ما سهّل لهم الاطلاع على كلِّ أسرار الدولة.
وفي كلّ الاتفاقيات تعِد الحكومات – تحت ضغوط دولية مختلفة، ولأهداف ومصالح سياسية وشخصية، وتميِيعاً للقضايا – تعِد بأشياء لا يمكن أبداً تنفيذها على أرض الواقع .
العامل الثاني: تورط أمادو توماني مع المسلحين:
يتمثل العامل الثاني في تشجيع حركة التمرد في تواطؤ الرئيس المخلوع أمادو (أحمدو) توماني توري معهم، حيث نفَّذ ما سبق بحذافيره وزيادة؛ فقد قرَّبهم، ومكَّن لهم أكثر من ذي قبل، وفتح لهم أبواب الدولة على مصاريعها، من جميع النواحي السياسية والأمنيّة والإداريّة، وتغاضى عن خياناتهم.
كما أنه في السنتين الأخيرتين اتخذ سكرتير رئاسة الدولة، وحُرّاساً شخصيين، وممثلين دوليين، من الطوارق، وذلك نتيجة وسائل ضغط عليه كثيرة، منها:
ما ثبت في عام 2011م من أنّ له هو وبعض كبار قيادات الجيش والدولة يداً طولى في قضيَّة تهريب المخدَّرات في شمال مالي، وذلك بسبب الطائرة التي اكتُشف هبوطها قرب غاو، ثمَّ تم إحراقها بعد تفريغ حمولتها.
ومنها: ما يقال عن ضبط عملات أوروبية مع بعض أقرب أقربائه، وهذه العملات عبارة عن أوراق ماليَّة أوروبية كانت قد دُفِعتْ فداء للأوروبيين المختطفين في صحراء مالي؛ وقد قيل إن الأوروبيين أصدروا هذه الأوراق الماليّة مُعلَّمةً بأرقام وحروف خاصّة للدلالة على أنّ هذه الأوراق هي التي كانت تدفع لفداء المختطفين الغربيين من خاطفيهم، وذلك بوساطة إياد أغ أغالي – الوسيط الحكومي غير النزيه، وأحد قيادات التمرُّد في التسعينيات – الذي قدّم له الرئيس توري كلّ غالٍ ونفيس، وتسهيلات، فإذا هو قد أصبح قائد حركة التمرُّد (أنصار الدين)، ألا يعني ذلك توزيع أموال الفداء على: أعضاء قاعدة المغرب الإسلامي، وإياد، وتوري أو أحد أقربائه، بنسب معيَّنة؟ علماً بأنّ كلَّ مَن ضُبطت معه هذه الأوراق الماليّة في دول الاتحاد الأوروبي يتمّ التحقيق معه لمعرفة انتسابه إلى القاعدة من عدمه.
إنّ هاتين القضيَّتين كانتا من أكبر وسائل الضغط الغربية (فرنسا وأمريكا) ومجموعات الطوارق والعرب، على الرئيس توري الذي أصبح دمية في أيدي مجموعات الطوارق والعرب، ليس لكسب تنازلات – فحسب – بل لتَرْكِ شمال مالي وشرقها لهم يَسرحون ويَمرحون فيهما بلا حسيب ولا رقيب، بالإضافة إلى الفساد الناخر في كلّ أجهزة الدولة في فترة الرئيس توري، لا سيما الجيش، والتعليم، والصحة، وغيرها.
أضف إلى ما سبق استغلال مجموعات الطوارق للشركات المحليّة والدولية التي تكوَّنت لتنمية شمال مالي وشرقها، حيث رُصِد لها الملايين بعد الاتفاقيّة الأخيرة، لكنَّهم – بسبب كون المديرين التنفيذيين منهم، وتغاضي الحكومة السابقة عنهم – يصرفونها في شؤونهم الخاصة، وفي شراء الأسلحة وتخزينها.
ثمَّ إنّ أغلب مَن يتعلَّل منهم بإهمال الحكومات لمنطقة الشمال ما أَنْ يأخذ نصيبه من الأموال التي تدفعها لهم الحكومات بعد المفاوضات؛ يتحوَّل إلى السكن في العاصمة بماكو في بيوت وسيارات فارهة، والبحث عن مناصب عليا في الدولة أو في سفاراتها في الخارج، متناسيا الهدَف السابق الذي أعلنه لحمل السلاح، مستغلِّين ما تأكَّد من ضعف حكومة الرئيس توري، وعدم رغبته في الدخول في حرب، بل استماتته في إبراز وجود سلام مهما كان هشّاً .
ومع ذلك كلّه؛ ما أنْ بدأتْ أحداث التمرُّد في شهر يناير 2012م حتى أخذ أغلب أفراد الطوارق في أجهزة الدولة الأمنية والإدارية ينسحبون، ويلتحقون بإخوانهم في الجبهات ضدَّ الدولة وشعبها.
ثلاث قضايا أخرى زادت من الضغط الغربي على الرئيس توري، وبخاصة فرنسا وأمريكا:
– موقفُه الرافضُ لتسليم تيساليت إلى فرنسا لإقامة قواعد فيها، ورفضه إيجارها لأمريكا لمدَّة أربعين سنة.
– موقفُه الرافضُ مِن طلب فرنسا توقيع اتفاقية تحديد نسبة المهاجرين الماليين إلى فرنسا، وتقييد حركتهم، مثل غيرها من الدول الإفريقية.
وفق ما تشير إليه التحركُّات والاجتماعات المختلفة؛ يبدو أن قضية المتمردين لن تقف عند سيطرتهم على مدن الشمال
– توقيعه على نظام الأسرة بالتعديلات التي جاهد المسلمون في مالي لإدخالها عليه؛ برغم الضغوط الغربية الكثيفة عليه كي لا يوقِّعها.
وهذه المواقف الثلاثة من الإيجابيات الكثيرة التي تُحمَد للرئيس أحمدو توماني توري، ولا تناقض بينها وبين ما سبق، وقد تمسك بمواقفه تلك تحت ضغوط شعبية واقتصادية وسياسيّة، فأغلب المهاجرين الماليين إلى فرنسا من أبناء الإقليم الأوَّل كاي، وما يرسلونه من أموال تسدُّ ثغرات اقتصادية في ميزانية الدولة، كما أنَّهم أزالوا عن كاهل الحكومة إقامة مشاريع تنموية في إقليمهم بسبب المشاريع الكبيرة التي يقيمونها فيه على حسابهم الخاص في جميع جوانب الحياة، خصوصاً في التعليم وبناء المدارس، مع تحمُّل بعض رواتب المدرسين، وفي الصحة ومراكزها، وكفالة بعض الأطباء، وفي تعبيد الطرق، وإقامة المساكن، وتنمية المشاريع الزراعية.. إلخ.
أمَّا رفضه لإقامة قواعد في تيساليت فهناك ضغوط من دول مجاورة كالجزائر وغيرها؛ لأنَّها ستكون تحت أعين وبصر فرنسا أو أمريكا، بالإضافة إلى رفض تامّ من أغلب الأحزاب السياسية لوجود قواعد لأيِّ قوّات على أرض مالي، نظراً لتجارب سيِّئة لمثل هذه القوّات في أحداث وقعت في دول مجاورة.
وأمَّا رفضُه لقانون الأسرة وفق ما يريد الغربيون؛ فالضغوط فيها أشدّ؛ لأنّ قيادات مسلمي مالي بمختلف طوائفهم أثبتوا قدرتهم الفائقة على حشد الشارع ضدَّ أيّ مشروع لا يوافقون عليه؛ وذلك من خلال الاستجابات السريعة والفعَّالة لدعوة المجلس الأعلى الإسلامي وبقية الجمعيات الإسلامية إلى الملتقيات الحاشدة في الملعبين الكبيرين في بماكو اللذين يمتلئان في كلِّ ملتقى عن آخرهما.
العامل الثالث: موقف الجزائر وموريتانيا من الطوارق:
إنّ كلّ اتفاقيات التعاون التي كانت تتمُّ بين مالي والجزائر وموريتانيا، كانت مالي مخدوعة فيها؛ بسبب ضعف حكومتها، فالجزائر وموريتانيا تُقَيِّدان الاتفاقيات – فقط – بمحاربة القاعدة في المغرب الإسلامي، أمّا التعاون مع مالي في مقاومة حركات تمرد الطوارق والعرب في الشمال فلا؛ لأنّ الطبقة السياسية فيهما ترى أنّ الأرض لهم، وأنّ من حقهم أن يحصلوا على ما يطالبون به من استقلال أو حكم ذاتي مُوسَّع على أساس دولة داخل دولة، وقد أكَّد وزيرا خارجية البلدين هذا الأمر لوزير خارجية مالي سُمَيْلو بوبََيْ ميغا في اجتماعهم بنواكشوط في شهر فبراير الماضي.
بل إنّ الجزائر سَحَبتْ كلّ قواتها وأسلحتها التي كانت في شمال مالي، في إطار التعاون المشترك بين الدولتين، بمجرَّد هجوم الجيش المالي على الطوارق، وذلك بعد أحداث أغلوق الدامية التي ذبحوا فيها أفراد جيش مالي من جميع الطوائف ذبحاً، وبَقَروا بطون بعض أفراد الجيش المالي من الطوارق والعرب !
موقف آخر للجزائر، وهو أنَّه كلمّا قام تمرُّد في شمال مالي وطاردهم جيش مالي يدخلون إلى أراضي الجزائر ويُرحَّب بهم، ويعقدون لقاءاتهم بينهم يحضرُها وسائل الإعلام للحكومة الجزائرية ، ومع ذلك ترى الجزائر نفسها الوسيط النزيه بين مالي والمتمردين الطوارق، ولا نَجِد فرقاً بين وساطتها وبين وساطة أمريكا بين الفلسطينيين وإسرائيل!
وهناك مكسب اقتصادي مهم جدّاً تجنيه الجزائر من بقاء شمال مالي مفتوحة على مصراعيها للمتمردين ، وهو الاستمرار في تزويد الجزائر بالثروة الحيوانية (الإبل، والغنم، والبقر)، حيث لا جمارك، ولا اتفاقيات بين الحكومتين تنظّم حركة نقل البضائع، مع تشدُّد جزائري في نقل البضائع منها إلى مالي.
بالإضافة إلى تخوُّف جزائري متأصِّل من أن يترتب على استغلال مالي لمخزونها من البترول نقصٌ حادٌّ في مخزون الجزائر منه.
وللجزائر مكسب سياسي في بقاء التمرُّد، وهو استعمال القضية ورقة ضغط على مالي لتأييد مواقفها إقليمياً ودولياً، هذا المكسب قديم منذ عهد الرئيس الأسبق موسى تراوري، وموقف مالي المؤيد لبوليساريو (الصحراء الغربية) أكبر برهان على ذلك.
وتردد أن الجزائر غضِّت الطرف عن عبور الطوارق بأسلحة من ليبيا إمّا مباشرة، أو عن طريق غطاء حركة البوليساريو، وإلاّ فإنّ مالي لا حدود لها مع ليبيا، والنيجر سيطرت تماماً على القادمين من ليبيا عبر حدودها، فمن أين دخلت إلى مالي الأسلحةُ الثقيلة التي يُقال إنّ المتمردّين يملكونها !
العامل الرابع: ضعف جيش مالي وفساد معظم قياداته:
يكشف الانقلاب العسكري الذي وقع في 22 مارس بقيادة أمادو سانوغو، الذي أعلن أنّ أهمّ مسوِّغاته خذلان الرئيس توري للجيش بعدم تزويده بالمعدَّات اللازمة، والتهاون في قضية التمرُّد، عن واقع مخز للجيش المالي، يؤكده أن المشهد بعد الانقلاب صار أسوأ وأشدّ خذلاناً وتهاوناً؛ إذ تهاوتْ كبريات المدن تترى (تيساليت، كيدال، غاو، تنبكتو).
إنّ السقوط المخزي لهذه المدن – مهما قيل عن استراتيجيات – تكشف عن جوانب خطيرة في القضيّة، كان العارفون بالحقائق المُطَّلِعون عليها يحذّرون منها، نوجزها فيما يأتي:
1 – ضعف جيش مالي بسبب الفساد في معظم قياداته العليا، وهو الجيش الذي يقال: إنّه يملك ثمانين جنرالاً، وأربعمائة عقيد! مع عدم الإعداد الجيّد لهذا الجيش عَتاداً ورجالاً، والمحسوبية في اختيار الملتحقين به وبمدارسه التكوينيّة، وفي توزيع المنح العسكرية التي تأتي من الدول الصديقة؛ إذ إنّ أغلبها إمّا من أبناء قادة الجيش وأقربائهم أو ممَّن يتوسطّون لهم .
وقد لاحظ المراقبون انتشار ما تقدَّم منذ ما يزيد عن عشر سنوات تقريباً، الأمر – إلى الآن – هيِّن لكنّ الأدهى أن يكون كثير من هؤلاء من الفاشلين في حياتهم الذين أصبحوا عبئاً على أُسرهم، فيكون الجيش والأجهزة الأمنية مأوى لهم!
2- إسناد قيادة الفرق المقاتلة في الشمال إلى بعض الطوارق برغم خيانات متكررة منهم للجيش وللشعب وللرئيس توري نفسه، وبخاصة العقيد الطارقي الحاج غَمو – وهو متمرد سابق، وأغلب فرقته من جماعته -، وقد كثر شكّ أفراد الجيش الذين تحت قيادته – بكيدال وما حولها – في مدى إخلاصه، ورفعوا أمره عدّة مرّات إلى الرئيس توري الذي كان يدافع عنه في كلّ مرّة، حتى إنّه خرج على الملأ في التلفاز الوطني ليفتخر بقيادته لبعض أجنحة الجيش في الميدان.
الأحداث المؤسفة والفظيعة ضدّ شعب سنغاي في الشمال والشرق لا سيما في مدينة غاو ما هي إلاّ محاولة إبادة
وممّا ذكره بعض أفراد الجيش دليلاً على خيانته:
– أنّه كلمّا اشتدَّتْ المعركة بين جيش مالي ومتمردّي الطوارق المسلحين كان الحاج غَمُو هو الذي يفتح لهم مخرجاً للهروب من ناحيته، وهذا الذي فعله غَمو هو نفس ما يفعله أفراد المتمردين في الجيش وأجهزة الدولة الأخرى.
– أنّ الجيش كثيرا مَّا يتحرَّك – بناء على خبر مؤكَّد – نحو تَمَركُزات المتمردين الطوارق لقتالهم، لكن يبلغهم الخبر فينسحبوا من المكان قبل وصول الجيش.
– رفض غَمو لخطط يجدها تُمكِّن الجيش من تحقيق انتصارات على المتمردّين، فالقوم قومه! وها هو يعلن – بعد سيطرة المتمردين على غاو وتنبكتو – يُعلن على الملأ وبكلّ دم بارد عن انضمامه إلى المتمردين بكلّ قوّاته – وهم من جماعته -، وبالعتاد الذي وفَّره له الرئيس توري لقتال المتمردين، وقد زعم أنّ عددهم يبلغ خمسمائة رجل، وما هو كذلك.
أمّا ما أذيع يوم الخميس 5/4/2012م عن انسحاب غَمو من كيدال مع قواته إلى النيجر- بعد الإعلان في الأسبوع الماضي عن انضمامه إلى المتمردين – فليس حبّاً في مالي، وإنّما هو نجاة بجلده من تصفية حسابات قديمة بينه وبين إياد أغ أغالي زعيم أنصار الدين؛ إنَّ وراء الأكمَة ما وراءها.
3 – عَدمُ مُراقَبةِ الحكومات السابقة لأفراد الطوارق والعرب، سواء كانوا من الجيش أو من الأجهزة الإدارية الأخرى، فهم المزوِّد الرئيس للمتمردّين بالأخبار والأسرار والأموال.
العامل الخامس: التدخلات الخارجية من بعض الدول:
بعد سقوط تيساليت تواترت الأنباء المحليّة الداخلية والإقليمية عن دعم قوي، ماليّ وعسكريّ، من دولة قطر لجماعة أنصار الدين بالأسلحة المتطوِّرة، تحت مسمَّى مساعدات إنسانية، من غير المرور عن طريق الحكومة، وقد تحدَّث مواطنون إلى أهاليهم في غاو، وتنبكتو، وكيدال، وبماكو، عن مشاهدة طائرات قطريّة تنزل في مطار تيساليت الذي سيطر عليه المتمردون الطوارق، وتأكَّد الأمر أكثر بظهور أفراد من جماعة التوحيد في قناة الجزيرة القطرية، يتحدَّثون من مدينة غاو في 4/4/ 2012م بالعربية الفصحى، أنّ هدفهم تطهير المجتمع من الأخلاق الفاسدة، وقد ذكر أحدهم أنّهم جزائريون، وموريتانيون، وتشاديون، ونيجيريون، وفلاتة.
*باحث، بماكو، مالي.