لم يكن تنامي الاهتمام الدولي الراهن بمنطقة الساحل الإفريقي، والمرتبط بتصاعد نشاطات الكيانات الموسوم صلتها بالإسلام، إلا مظهراً آخراً يعكس بحال طبيعة الاعتبارات والمحدّدات المؤثّرة في اهتمام المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرهما من القوى الكبرى.
هذه الاعتبارات والمحدّدات مرتبطة في الأساس بمصالح تلك القوى الاستراتيجية والاقتصادية الحيوية، وذلك دون اعتبار بدرجة أو أخرى لمصالح التنمية ومتطلباتها في الدول الإفريقية موضوع الاهتمام.
ومن ثمّ رأينا فالاهتمام الدولي بإفريقيا ينتقل من مرحلة التنافس الأمريكي السوفييتي على مناطق النفوذ إبّان الحرب الباردة، إلى مرحلة جديدة تحت شعار «مكافحة الإرهاب» وفقاً للفهم الغربي له، حيث أضحى أحد أبعاد مضمونه الواسع الفضفاض تقزيم نشاطات التنظيمات المنتمية لما بات يعُرف بالإسلام الراديكالي في نطاق جغرافي واسع من منطقة ساحل الصحراء الكبرى، وذلك لاعتبارات سياسية تارة، واقتصادية تارة، وإعلامية تارة أخرى، دون الإسهام الواجب لتلك القوى الكبرى في معالجة القضايا الهيكلية والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية المؤثّرة في مساعدة تلك البلدان على تلبية متطلبات شعوبها في التنمية، والتي تُعد المسبّبات الرئيسة لحالة عدم الاستقرار المشهودة في العديد من البلدان الإفريقية.
وما ملف الأزمة في مالي وتداعياتها الراهنة، والتي كان يراها بعض المراقبين قبل الانقلاب الأخير مثالاً يُحتذى به للديمقراطية الإفريقية، إلا تجسيداً مكثّفاً لتداخل مختلف مفردات المشهد الإفريقي وتعقّدها داخلياً وخارجياً، معبّرة عن سيناريو متكرر لواقع الدولة في إفريقيا.
فعلى الرغم مما شهدته مالي من استقرار سياسي بدرجة أو أخرى في الفترة السابقة على انقلاب 22 مارس 2002م، فإنها لا تمثّل استثناءً على أصل طبيعة مفردات المشهد الإفريقي المضطربة والهشّة داخلياً وخارجياً، فقد استقلت مالي مثل العديد من الدول الإفريقية في عام 1960م، وتحديداً في 22 سبتمبر 1960م، عن الاستعمار الغربي، لترزح تحت عبء الديكتاتورية عدة عقود، وحتى دخولها كغيرها من الدول الإفريقية في ذلك الوقت مرحلة التحوّل الشكلي لما بات يُعرف في الأدبيات الغربية «الموجة الثالثة للديمقراطية» التي طالت إفريقيا مع مطلع التسعينيات منتخبة ألفا كوناري رئيساً مدنياً عام 1992م في أعقاب انقلاب عسكري عام 1991م لولايتين، أعقبه انتخاب أمادو توري قائد انقلاب 1991م عام 2002م لولايتين، شهدت الأخيرة منهما انقلاب مارس 2012م الذي قاده مجموعة من صغار العسكريين، يقودهم النقيب أمادو سونجو الذي تلقّى تدريبات عسكرية سابقة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو الانقلاب الذي جاء – ضمن أسباب أخرى – على خلفية موقف صغار العسكريين من إخفاق العمليات العسكرية التي يقودها الجيش المالي ضد انتفاضة الطوارق، وتذمّرهم – أي العسكريين – بشأن طريقة تعامل الرئيس «توري» مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد في شمالي البلاد، ليتصاعد اهتمام المجتمع الدولي بالأزمة في مالي عقب إعلان الطوارق استقلال شمالي مالي، والذي أحدث زَخْماً محليّاً وإقليمياً ودولياً، مثل التدخل العسكري الدولي المباشر – إحدى صوره – مؤخراً، وهو الزَّخْم الذي قد ينال من تطوّر مسارات الأزمة ومآلاتها وتداعياتها على منطقة الساحل الإفريقي بالكامل، ويدفع بالعديد من القوى الدولية المعنية بمنطقة الساحل والصحراء بمراجعة مواقفها، وترتيب أولوياتها في هذا الشأن(1).
وعليه؛ تسعى الدراسة في هذا المقام إلى تتبع مسارات الأزمة الراهنة في مالي، والذي مثّل التدخّل الدولي فيها أحد تلك المسارات المعتبرة والمؤثّرة، ومن ثمّ التداعيات التي قد تختلف وفقاً لشكل تعاطي المجتمع الدولي والإقليمي مع الأزمة وطبيعته، وذلك من عدة محاور:
1 – الوقوف على مؤشرّات دولة مالي الأساسية وأرقامها، في محاولة لرسم خريطة المصالح الدولية والإقليمية بها، لاستجلاء حقيقة أسباب الاهتمام الدولي، والمسبّبات الدافعة لتدخّله في مالي، وما إن كانت أسباباً أمنية، أو اقتصادية، أو سياسية.
2 – تتّبع مصالح الأطراف والقوى الكبرى والإقليمية في مالي، للوقوف على مساحات تداخل المصالح التي قد تؤثّر في احتمالات التأثير والتأثّر لتلك القوى، وطبيعة استجابتها للأزمة في مالي.
3 – محاولة رسم مآلات وسيناريوهات تلك الأزمة وتداعياتها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
أولاً: دولة مالي.. أرقام تكشف واقع الأزمة:
تسعى الدراسة في هذا المقام إلى تقديم دولة مالي بالأرقام للوقوف على الأهمية النسبية لها إقليمياً، ودولياً، وبيان أي من مؤشرات الدولة يؤثّر في تعقيدات الوضع المحلي والإقليمي والدولي، وردود أفعاله، فجمهورية مالي – أو «السودان الفرنسي» كما كانت تُسمّى في السابق – تقبع كدولة حبيسة في عمق منطقة الصحراء الكبرى بالغرب الإفريقي، في نطاق جغرافي يبلغ ما يربو على مليون وربع المليون كيلومتر مربع، منها ما يدور حول 20.000 كم2 من مياه الأنهار (نهر النيجر)، يمتد من جنوب الجزائر وشرقي موريتانيا والسنغال، إلى شمالي بوركينافاسو وكوت ديفوار وغينيا، وغربي النيجر، بإجمالي خطوط حدود تبلغ 7.243 كم، حيث تشترك مع الجزائر في 1.376 كم، وبوركينافاسو 1.000 كم، وغينيا 85 كم، وكوت ديفوار 532 كم، وموريتانيا 2.237 كم، والنيجر 821 كم، والسنغال 419 كم.
أما عن مواردها الطبيعية؛ فهي الذهب والفوسفات والملح واليورانيوم، والجرانيت، وتبلغ نسبة الأراضي الصالحة للزراعة 3,76%, والأرض المستخدمة في المحاصيل الدائمة لا تتجاوز 0,03%، وهي دولة عديمة الموارد البترولية.
أما تركيبتها الديموغرافية؛ فيبلغ عدد سكانها وفقاً لإحصاءات يوليو 2012م حوالي 15.494.466 نسمة، بإجمالي 47,8% من السكان تحت سن 15 عاماً، و 49,2% بين 15 – 64 عاماً، و 3% فوق 64 عاماً، بمعدل نمو سنوي للسكان 3,02%.
وتتكون أعراقها – وفقاً للإحصاءات الغربية – من جماعات: الماند Mande بنسبة 50%، وتضم البمبارا والمالين والسنونيك Bambara, Malinke, Soninke، وجماعات البوول Peul بنسبة 17%، والفولتاك Voltaic بنسبة 12%، والسونغاي Songhai بنسة 6%، والطوارق والموور Tuareg and Moor بنسبة 10%، وجماعات أخرى بنسبة 5%.
وتبلغ نسبة المسلمين 90%، والمسيحيين 1%، بالإضافة إلى 9% معتقدات محلية.
ولغتها الرسمية الفرنسية(2).
أما عن مقوّماتها المادية بوصفها دولة؛ فتتسم الخدمات الطبية فيها بالتدني بمعدل 0,57 سرير لكل 1000 مواطن، ومعدّلات عدوى للأمراض مرتفعة للغاية، وقُدّر عدد مرضى الإيدز 76,000 نسمة عام 2009م.
ومعدّلات التنمية البشرية فيها متواضعة للغاية، فنسبة الأمية 68,9% – نسبة من هم فوق سنّ الخامسة عشرة ولا يستطيعون القراءة والكتابة.
وتُعد مالي من ضمن خمسة وعشرين بلداً هي الأكثر فقراً في العالم، وتعتمد على استخراج الذهب وبعض الصادرات الزراعية، والمساعدات الاقتصادية الأجنبية، ويتركز النشاط الاقتصادي عامة في الجنوب المالي.
وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 17,88 مليار دولار في عام 2011م، ومتوسط نصيب الفرد منه 1.100$ سنوياً، وإنفاق عسكري بنسبة 1,9% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2006م، بمعدّلات بطالة بلغت 30% في عام 2004م، ومعدّلات فقر وصلت 36,1%(3).
يتضح من المؤشرات الرئيسة السابقة أن دولة مالي ليس بها من الملفات الاقتصادية أو المرتبطة بمقدّرات الدولة، وبخاصة ملف مصادر الطاقة (النفط والغاز)، ما يستلفت اهتماماً دولياً معتبراً لها كالعديد من دول إفريقيا، وبخاصة دولة الجوار الجزائر، ليصبح ما يُسمّى «ملف مكافحة الإرهاب في منطقة ساحل الصحراء الإفريقي» أحد الملفات المرشّحة لتكون في بؤرة الاهتمام الدولي، والذي قد يكون ملف الاهتمام الوحيد بهذا البلد الإفريقي.
ثانياً: الاهتمام الدولي بأزمة مالي.. اهتمام مفاجئ ومتباين ومبتور:
وفقاً لمقوّمات دولة مالي المتواضعة؛ لم تسترع الدولة اهتماماً معتبراً من قبل المجتمع الدولي، كغيرها من البقاع الساخنة والغنية بمواردها الطبيعية في إفريقيا، على الرغم من عدم حداثة اللغط المثار حول تنامي تنظيمات باتت تُحسب بدرجة أو بأخرى على الإسلام الراديكالي في إفريقيا، في كلٍّ من الصومال ونيجيريا والجزائر والمغرب.
وأشهر ردود الأفعال الدولية لتنامي هذه التنظيمات تمثّل في تشكيل قيادة عسكرية أمريكية موحّدة للنطاق الجغرافي الإفريقية، تُعرف اختصاراً باسم «أفريكوم» – عام 2007م(4)، ومستقلة بذلك عن القيادة الأمريكية الأوروبية التي نشأت في كنفها سابقاً، ولديها حالياً شراكة عسكرية مع ما يزيد عن 35 دولة من إجمالي 54 دولة إفريقية(5).
وقد تزامن إنشاء أفريكوم مع الإعلان في وسائل الإعلام بتاريخ 25 يناير 2007م عن إنشاء تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي نُسبت زعامته إلى «عبد المالك درودكال (أبو مصعب عبد الودود)»، وهو الشخص الذي نُسب له أيضاً زعامته للجماعة السلفية للدعوة والقتال (الاسم السابق لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي منذ 2004م)، والذي نشأ في الأساس بالجزائر(6).
وتداولت وسائل الإعلام ما نُسب للتنظيم بوصفه «إعلان التنظيم»، في خطاب ما بدا أنه المتحدّث باسمه «أبو عبيدة يوسف»، والموجّه إلى «شعوب وقادة دول الساحل والدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء»، والذي يعلن إعادة انتشار مقاتلي التنظيم وتمركزهم بشكل دائم في منطقة الساحل كجبهة جديدة في مواجهة الدول الكبرى، رداً على «الحرب الصليبية» التي تشنّها الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة عبر قاعدتها الدائمة «أفريكوم» من ناحية، والتدخّل العسكري الفرنسي في المنطقة.
لينهض ملف الاهتمام الغربي المتأثر بتنامي التنظيمات تحت شعار «مكافحة الإرهاب في إفريقيا»، ومنحه أولوية سابقة على غيره من الملفات ذات الزَّخْم الإعلامي المعنية بإفريقيا، كالترويج للديمقراطية والتنمية، والمساعدة الإنسانية، ومكافحة الفقر.
وقد تبلور الاهتمام بملف تنامي التنظيمات، والتي باتت تُحسب غربياً على «الإسلام الراديكالي»، في بدايته تجاه أزمتين، هما: أزمة جماعة «شباب مجاهدي الصومالي»، و أزمة جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا، دون اعتبار لظرفية كلّ أزمة، متجاوزاً بذلك – الاهتمام الدولي بهما – مسبّباتهما، إلى الاهتمام بتداعياتهما المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما دفع القوى الدولية (فرنسا – والإقليمية – دول المغرب العربي والساحل الإفريقي) إلى المشاركة في البرنامج الأمريكي «تي أس سي تي آي» (مبادرة مكافحة الإرهاب العابر للصحراء)، والتي تستهدف التصدي لتنامي مخاطر التهديد الإرهابي والجريمة المنظّمة في منطقة الساحل والصحراء، وذلك عبر إجراء مناورات عسكرية متعدّدة الجنسيات، تُعرف باسم «فينتلوك» بشكل دوري منذ عام 2005م(7).
وهو الملف الذي سرعان ما أُضيفت له أزمة مالي بعد انقلاب مارس 2012م، لتتصدر نشاطات الجماعات الموسومة بالإسلامية في شمال مالي هذا الملف، بيد أن الاهتمام الدولي بملف أزمة مالي، وإن وُصف بالمفاجئ أو اللحظي، اهتمام متباين، لاختلاف مواقف القوى الدولية والإقليمية تجاه التعامل مع الأزمة من ناحية، ومبتور لتجاوزه مسبباتها إلى تداعياتها ونتائجها من ناحية أخرى.
بدا المجتمع الدولي تجاه تفاقم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مالي متفقاً على هدف وحيد، يستهدف جانباً واحداً من جوانب الأزمة في مالي، ويدور حول ضرورة النيل من سطوة الجماعات التي باتت محسوبة على الإسلام في شمال مالي، ومحاولة القضاء عليها، بيد أن أعضاء المجتمع الدولي والإقليمي باتوا مختلفين حول كيفية تحقيق هذا الهدف بدرجة أو بأخرى.
ويمكن التمييز في مواقف المجتمع الدولي والإقليمي من التعامل مع الأزمة بين ثلاث مجموعات كُبرى، تضم الدول الكبرى والمنتظمات الإقليمية والدولية المعنية، أول تلك المجموعات: الداعمة للتدخل العسكري، وثانيها: المناهضة أو المُرجئه له، وثالثها: غير الحاسمة لدعم التدخّل من عدمه.
موقف مجموعة الدول الكبرى والمنتظمات الإقليمية والدولية المعنية (الداعمة للتدخل العسكري):
الموقف الفرنسي:
الموقف الفرنسي من المواقف الأساسية في شأن الأزمة بشمال مالي، وذلك لعدد من الاعتبارات:
1 – الروابط التقليدية والمستمرة بين فرنسا ومالي.
2 – السعي الفرنسي الدؤوب لتفادي نشر قوات أجنبية (أمريكية) في المنطقة، عبر احتمالات تشييد «أفريكوم» قاعدة عسكرية دائمة في منطقة الساحل، بما قد ينال من المصالح الفرنسية بها.
3 – ترجيح عدد من المراقبين لغياب واضح للدور الفرنسي في دعم انقلاب 22 مارس 2012م، الذي قاده النقيب أمادو سونجو الذي تلقّى تدريبات عسكرية سابقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهى به حكم الرئيس أمادو توماني توري، مع تزايد حدّة التوترات قبل الانتخابات الرئاسية التي كانت ستجرى في أبريل 2012م، حيث إن الأسباب الرئيسة الدافعة للانقلاب داخلية في الأساس.
انطلقت فرنسا، في نظرتها لتصاعد نفوذ الجماعات المسلّحة في منطقة الساحل قبل انقلاب مالي 2012م، من ضرورة تمايز الدور الفرنسي (المعتبر والتقليدي للاعتبارات سالفة الذكر) عن غيره من الأدوار في تلك المنطقة، وبخاصة الدور الأمريكي المستند أصلاً إلى عصا «مكافحة الإرهاب» في تعاطيه مع العديد من قضايا سياسته الخارجية الراهنة.
وعليه؛ تبنّت فرنسا استراتيجية التعاون الأمني «الليّن»، المعتمدة في الأساس على أولوية تقديم الدعم اللوجيستي، وتوفير معدّات الاتصالات، وتدريب الوحدات المحلية، وهي الاستراتيجية التي يرى بعض المراقبين قصورها عن مواجهة حالات الاعتداء المتزايدة على المصالح الفرنسية بتلك المنطقة؛ من خطف رهائن وتهديد المصالح الاقتصادية(8).
الموقف الأوروبي:
وعليه؛ دفعت أحداث شمال مالي بالفاعل الفرنسي إلى مراجعة استراتيجيتها تجاه تلك المنطقة عبر بلورة موقف مبكّر داعم لخيار التدخل العسكري، لإعادة ترتيب الأوضاع في شمال مالي، بيد أن موقفها ذلك لا يتبنّى تدخلاً منفرداً (كحالة كوت ديفوار سابقاً)، تتحمل فيه فرنسا عبء المواجهة الأكبر(9)، وإنما تسعى لإشراك الأوروبيين في العملية عبر منتظمهم الرسمي (الاتحاد الأوروبي)، والذي أعلن في وقت سابق عن دراسته لإمكانية إرسال حوالي مائتي عسكري إلى مالي، وذلك لتدريب جيشها على ما يُسمّيه «استعادة شمالي البلاد» في إطار دعم أوروبي، يدور حول تدريب الجيش المالي وإعادة هيكلته دون التورّط المباشر في أعمال القتال(10).
موقف الإيكواس (الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا):
يعد الموقف الفرنسي هو المحرك للأدوار الأصيلة للفاعلين في الجوار الإقليمي المعنيين بهذا الملف، كالجزائر ومجموعة دول الإيكواس، وهم الفاعلون المشغولون ابتداءً بحزمة مثقلة من مشكلاتهم الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنهم – أي الإيكواس – قد لا يختلفون في ضرورة التدخّل المباشر في مالي لعدد من الاعتبارات؛ قد تختلف في أوزانها النسبية من حيث الأهمية، وهي:
1- محاولة محاصرة مسبّبات عدم الاستقرار في مالي، والحيلولة دون انتقالها إلى دول الجوار الهشّة أصلاً.
2 – محاولة امتصاص تنامي نفوذ، واحتمالات تأييد، أو التعاطف مع كيانات غير رسمية تتجاوز حدود تلك الدول، وتمارس دوراً قد يتجاوز في تأثيره الأدوار الرسمية لحكومات تلك الدول، وخصوصاً في مسألة تنظيم المجتمعات المحلية، وفرض النظام والقانون، كحالة المحاكم الشرعية في بعض أرجاء الصومال في وقت سابق.
3 – الاستفادة من احتمالات الدعم المالي الغربي المنتظر ومساعداته الاقتصادية لمواجهة نفوذ تلك الكيانات في الصحراء الكبرى، وهو الدعم الذي يمثّل سند استمرار عدد من الحكومات الإفريقية في إدارة بلادها المثقلة ابتداءً بالديون والفقر.
4 – رابع تلك الاعتبارات قد يتمثّل في محاولة إحباط أي محاولات لمطالبات جهوية مستقبلاً.
وعليه؛ تعمل فرنسا على بلورة موقف دولي يدعم التدخّل العسكري في مالي وفقاً لمنظومة مجلس الأمن الدولي، وفي إطار دعم إقليمي، للخروج من مأزقي التكلفة المادية للتدخّل العسكري من ناحية، وتداعيات التورّط بصورة منفردة في مستنقع عسكري مشابه لمستنقعي أفغانستان والعراق من ناحية أخرى(11).
الموقف الأمريكي:
في حين يأتي الدور الأمريكي في إطار «فوبيا الإرهاب»، والاعتقاد بضرورة مكافحة تنامي صوره في القارة الإفريقية، ويدور الموقف الأمريكي في الأساس حول محاولة إقناع الجزائر بالتورّط المباشر في التدخّل العسكري المحتمل في الأزمة المالية، وهو الدور الذي تعجز فرنسا عن القيام به لتعقيدات العلاقات الفرنسية الجزائرية في مقابل استراتيجية العلاقات الأمريكية الجزائرية، في حين تضطلع فرنسا بإدارة آليات العمل الدولي تجاه الأزمة، والتواصل مع دول الجوار المالي المنضوين تحت مظلة الإيكواس.
أما مواقف المجموعة المناهضة للتدخّل أو المُرجئة له أو المتحفظة عليه:
موقف الجزائر:
تتمثل المجموعة المناهضة في الأساس في الجزائر، بخبراتها الأمنية في مواجهة العمليات المسلّحة، وآليتها العسكرية المتماسكة في نطاقها الإقليمي، ومقدّراتها الاقتصادية المعتبرة، وجوارها الإقليمي المؤثّر، وتتبلور أهميتها في كونها نقطة ارتكاز رئيسة لأي عمل عسكري بشأن الأزمة.
وعليه؛ اتسمت نظرة الجزائر منذ البداية بالحذر والحيطة لحساسيتها تجاه أي وجود فرنسي وغربي بشكل عام عند تخومها الجنوبية، مما انعكس على موقفها الذي شهد تغيّرات عدة، بدءاً من معارضة التدخّل العسكري لإقصاء تلك الجماعات عن شمالي مالي في بداية الأزمة، والتهديد بعرقلة أي مساع أو أي جهود عسكرية لنشر قوات أو للتدخّل في شمالي مالي(12)، مروراً بالتحفّظ على التدخّل العسكري لما قد يُحدثه من مشكلات أمنية ونزوح الآلاف من اللاجئين الطوارق الماليين إلى الجزائر، والتي يُقدّر عدد الطوارق بها بنحو خمسين ألفاً، مما قد يمثّل عوامل ضاغطة على الداخل الجزائري، إلى عدم معارضته أو قبوله المشروط له بعد زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون للجزائر في نهاية شهر أكتوبر 2012م، لحثّها على دعم التدخّل المحتمل مالياً وعسكرياً(13).
وهكذا تظلّ الجزائر ركناً أصيلاً في حلّ أزمة مالي مستقبلاً، وهو الدور الذي مارسته مراراً إبّان حكم أمادو توماني توريه، خصوصاً في 2006م، فيما سُمّي حينها بـ «اتفاقات الجزائر» بين الطوارق والحكومة في بماكو(14).
موقف موريتانيا:
أما موريتانيا التي ترزح تحت حكم عسكري في عباءة ديمقراطية، والتي لها خبرتها لوفرة التيارات السياسية والجهادية الموسومة بالإسلام، فقد شاب موقفها بعض الغموض، وإن تشابه بدرجة أو بأخرى مع موقف جارتها الجزائر.
فمن ناحية؛ يمكن الاتفاق على كونها لا ترغب في إذكاء ملف تنامي التنظيمات الموسومة بالإسلامية، وكذا عدم رغبتها في نشوب حرب تتورط فيها مع فاعلين دوليين على حدودها، وما يرتبط بذلك من تداعيات خطيرة عليها، وآية ذلك أنها تخلّت عن ملاحقة مرتكبي عدد من جرائم الإرهاب كجريمة قتل الدعاة الموريتانيين، وتخلّت عن إحكام قبضتها الأمنية على مناطق التوتر الحدودية مع الأزمة.
من ناحية أخرى؛ لم تتخذ قراراً واحداً، ولم تُصدر بياناً واحداً يندد بالتدخّل الفرنسي، وسمحت باستخدام مجالها الجوي في تلك الحرب، وأغلقت حدودها مع الجزائر، وهناك من المراقبين من يُشير إلى دعم استخباراتي موريتاني للتدخّل، في ضوء معرفتها بلغة سكّان شمال مالي وتركيباتهم الاجتماعية(15).
إلا أن الموقف الموريتاني سرعان ما بدا أكثر وضوحاً بشأن الأزمة في أعقاب تصريح مسعود ولد بلخير رئيس مجلس النواب الموريتاني، كأول موقف مؤيّد للانخراط في الحرب يصدر عن سياسي موريتاني رفيع المستوى، وهو التصريح المتضمّن دعوة بلاده للانخراط في الحرب التي تشنّها فرنسا ومجموعة الإيكواس، عبر إشارته إلى أنه ينبغي لموريتانيا أن تلتحق بما وصفه: «الجهود الجماعية لدول المنطقة وفرنسا والمجموعة الدولية من أجل الحفاظ على وحدة وسيادة وعلمانية جمهورية مالي التي نعتبرها جزءاً آخر منّا… وتضامنه المطلق ودعمه المؤكد واللامشروط لشرعية الدفاع المسلّح عن وحدتها وسيادتها وعلمانية حوزتها الترابية أولاً، على أن تعمل ثانياً لضمان سلامتها بمعجزة الحوار» على حدّ قوله.
وباستقراء تلك المواقف الإقليمية، ومحاولة تتبعها، فإنها تُشير في مجملها إلى خضوعها لثلاثة عوامل رئيسة، وهي:
1 – فوبيا التأثّر بتداعيات أزمة مالي؛ في ظلّ هشاشة الهياكل السياسية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في تلك البلدان.
2 – سعي دول الجوار لنفض شبهة توفير بيئة خصبة لتنامي الإرهاب، وهي الشبهة التي تلاحق العديد منها.
3 – عمق الضغط الغربي، والفرنسي تحديداً، في النّظم السياسية الحاكمة في منطقة نفوذه التقليدية(16).
أما مواقف المجموعة غير الحاسمة لدعم صريح وفعّال لخيار التدخّل من عدمه:
فأهم موقف في هذه المجموعة هو موقف مجلس الأمن الدولي، الذي يتبنّى دور المتردد في حسم موافقته على طلب الاتحاد الإفريقي، عبر مجلس السلم والأمن الإفريقي وجماعة الإيكواس، بالموافقة على «دعم عملية تهدف إلى الحفاظ على سيادة مالي»، أو بمعنى آخر الموافقة على التدخّل العسكري في مالي(17)، حيث يطلب مزيد من المعلومات المشفوعة بإجابات مقبولة عن أسئلة عديدة بشأن كيفية القيام بالتدخّل قبل منح موافقته المنشودة للبعض، والمتحفظ عليها من قبل البعض الآخر(18).
وهو التردد والقصور عن تشكيل رؤية متماسكة حول ملف الأزمة، والذي تمثّل في تبنّيه في 12 أكتوبر قراراً بناءً على مقترح فرنسي بمنح جماعة الإيكواس سقفاً زمنياً مداه 45 يوماً، أي حتى 26 نوفمبر، لتقدّم الجماعة خطة واضحة وعملية لنشر ثلاثة آلاف جندي في مالي لمساعدتها في استعادة شمالي البلاد، وهو ما بلوره مجلس الأمن بقراره رقم 2085 في 20 ديسمبر 2012م(19).
بيد أن هذا التردد والقصور في تشكيل موقف أممي حاسم للتدخل الدولي في مالي لا ينفي بحال وضوح المواقف الفرنسية والأمريكية من كيفية التعاطي مع الأزمة وطبيعة دورهما فيها، وإنما يشير – وفقاً لنظر الباحث – إلى معضلة أساسية، وهي من يسدّد ثمن التدخّل؟ ومن يشارك في تبعات استمراره لفترة زمنية غير محسوبة، أو إخفاقه حال حدوث ذلك؟
ثالثاً: التدخّل الدولي الفرنسي وتسارع الأحداث على الأرض.. الذهاب إلى الأزمة:
في خضم محاولات فرنسية – غير مجدية – لتحقيق طموحها في توفير غطاء من المشروعية الدولية عبر مجلس الأمن من ناحية.
وحثّ آخرين إقليميين على التورّط في مالي عملياتياً ولوجستياً وتمويلياً من ناحية أخرى.
والتأكيد الفرنسي الأولي لرمزية المشاركة من خلال مدربين عسكريين فرنسيين في إدارة العمليات العسكرية في شمال مالي دون التورّط المباشر في أعمال القتال من ناحية ثالثة.
واعتقادها في عدم جدوى المحادثات بين الرسمية مع جماعات شمالي مالي في ترتيب الأوراق وفقاً للمصالح الفرنسية من ناحية رابعة.
تسارعت ملابسات الأزمة في مالي، في ظلّ تلك الأجواء، متمثلة في شنّ القوات الجوية الفرنسية هجوماً على مواقع التنظيمات الموسومة بالإسلامية في شمال مالي، تمهيداً للقوات الفرنسية التي يقترب عددها من أعداد القوات الإفريقية، وكذا القوات المالية والسنغالية والنيجيرية ضمن قوات إفريقية أخرى، ودعم لوجستي غربي (أمريكي وأوروبي)، في سبيل استعادة المدن التي تسيطر عليها تلك التنظيمات، وذلك دون انتظار قرار أممي حينها يعلن التدخّل، أو دعم دولي معتبر, مستنداً لطلب المساعدة من الحكومة المالية.
جرى ذلك في أعقاب إشارة الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند في مقابلة تلفزيونية مشاركة قوات مسلّحة فرنسية في القتال، وتأكيده «أن مالي تواجه اعتداءً من عناصر إرهابية قادمة من الشمال يعرف العالم كلّه وحشيتها، وتعصّبها، وأصبح الأمر بالتالي يتعلق بوجود هده الدولة الصديقة وبأمن سكانها وأمن مواطنينا البالغ عددهم ستة آلاف هناك… ولذلك فقد استجبتُ (أي الرئيس الفرنسي) لطلب المساعدة المقدّم من رئيس مالي، والمدعوم من دول غرب إفريقيا، وبالتالي فإن القوات الفرنسية قدّمت بعد ظهر اليوم دعمها للوحدات المالية للتصدي لهذه العناصر الإرهابية… وهذه العملية ستستمر الوقت اللازم… وأن فرنسا ستكون دائماً حاضرة حين يتعلق الأمر بحقوق شعب يريد أن يعيش حراً وفي ظل الديمقراطية»، وأوضح أولاند أن قرار التدخّل يأتي «في نطاق الشرعية الدولية بالاتفاق مع الرئيس المالي ديونكوندا تراوري».
لاقى التدخّل الفرنسي دعماً من دول غرب إفريقيا، حيث قرر رئيس كوت ديفوار الحسن واتارا (رئيس المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا) بعد التشاور مع نظرائه السماح بإرسال فوري للقوات إلى الميدان في إطار القوة الدولية، لدعم مالي ومساعدة جيشها في الدفاع عمّا أسماه وحدة أراضي البلاد، وذلك في ظلّ تهديدات متزايدة من تلك التنظيمات المسلّحة الموسومة بالإسلام بالعزم على مواصلة القتال، والسعي لهجمات مضادة، والتصعيد من جهتها.
وعليه؛ يمكن القول بأنه انطلاقاً من الرغبة الفرنسية الأكيدة في حفظ نفوذها التقليدي في منطقة ساحل الصحراء الإفريقية، في ظلّ التفات المجتمع الدولي لتنامي نفوذ تنظيمات حُسبت على الإسلام، وتداعيات هذا الالتفات على المصالح الفرنسية في المنطقة، وبخاصة احتمالات ترتيب الأوراق لصالح وجود أمريكي دائم في المنطقة عبر القيادة الأمريكية لإفريقيا بحجة مكافحة الإرهاب، رأت فرنسا اعتماد خطوة استباقية بتدخل مبدئي منفرد، لتتحمّل في سبيل ذلك تكلفة مادية وسياسية حاولت إدخارها بالتدخّل العسكري المباشر على الأرض بقوات معتبرة في مالي، لتتحدث بعد ذلك عن احتمالية الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين دائمتين بها في سبيل مكافحة بقايا تلك التنظيمات، وحفظ أمن المنطقة مستقبلاً(20).
رابعاً: مآلات الأزمة.. محاولة إعادة ترتيب المصالح على أنقاض الأزمة:
إن تجاوز مسبّبات الأزمة الراهنة في مالي، وإغفال العديد من أبعادها المتداخلة والمتجذّرة في واقع الدولة في مالي، كنموذج ماثل لتداعيات إخفاق العديد من الدول الإفريقية، ومحاولة القفز على بعض من حقائق أزمة شمالي مالي، وخلط أوراقها بما يتفق مع المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، في مواجهة القوى الدولية الصاعدة كالصين، وما قد يرتبط به من خلخلة خريطة منطقة الساحل والصحراء، بالشكل الذي قد يسمح باعتياد الوجود الدولي (الغربي) بالمنطقة، كالحالة الصومالية، هو اختزال خطير لأوجه الأزمة.
فالأزمة في حقيقتها تعبّر في بعض صورها عن مشكلات هويّة السكّان المحليين، ومشكلات تنمية مناطقهم ومتطلباتها، وملف التهميش، وهي الملفات التي يعود بعضها للستينيات من القرن العشرين، وتكمن خطورة اختزال كل تلك الملفات، في أنه يجعل تداعيات الأزمة هي المشكلة الأساسية، ويحصر معالجتها في التدخّل العسكري الدولي، أو التصعيد المسلّح الداخلي بين الحكومة في باماكو والكيانات النافذة في شمالي مالي، لتستدعي للذاكرة حالة شمال الصومال أو «أرض الصومال» بدرجة أو بأخرى، وهو التدخّل الذي قد لا يكون ناجعاً، مما يُضفي على الأزمة في مالي (وهي قرينة معتبرة على سرعة واحتمالات تفاقم الأوضاع الداخلية في مختلف البلدان الإفريقية) مزيداً من التعقيد.
سيناريوهات الأحداث:
1 – استمرار التدخّل العسكري:
وعليه؛ يمكن القول بأن مسار التدخّل العسكري في مالي دولياً وإقليمياً، لإنهاء الأزمة في الشمال المالي وفقاً للفهم الغربي لها ولأبعادها، وإن أضحى حقيقة ماثلة في الوقت الراهن، فإنه يستلزم تحقيق متطلبين محتملين قد يسهمان في محاولة إنجاحه مؤقتاً على الأرض:
أولها: ضرورة «التورّط» الجزائري المؤثّر في أزمة مالي للاعتبارات الجيوسياسية والخبرة العملياتية سالفة الذكر، وليس مجرد فتح المجال الجوي الجزائري، ومحاولة إحكام السيطرة على الحدود البرية مع مالي فقط كما هو الواقع الآن.
وثانيها: توسيع دائرة «المتورّطين» في معالجة أزمة مالي محلياً ودولياً، لعدم قدرة كلٍّ من فرنسا والولايات المتحدة على تحمّل عبء استمرار أمد العمليات العسكرية وتكلفتها المادية دون نتائج معتبرة.
وتحقيق هذا الاحتمال قد يدفع – حال حدوثه – إلى توسيع نطاق العمليات العسكرية في أرجاء الصحراء الكبرى، وقد تترتب عليه عمليات ملاحقة وتطهير في داخل حدود عدد من بلدان الصحراء للقضاء على أعضاء الكيانات المسلحة النافذة في شمالي مالي، والتي قد تلجأ لمسالك الصحراء الكبرى ودروبها، والتي لا تعترف كثيراً بالحدود السياسية، مما قد يقود المنطقة بأكملها لهوة عدم الاستقرار الهش ابتداءً.
وهو – أي توسيع دائرة المتورطين – ما لم يحدث في ظلّ احتمالية الاعتقاد الفرنسي بضرورة الاضطلاع بالدور الاستباقي الأول والرئيس، وإن كان بصفة مؤقتة في الوقت الحالي، لاحتمالية عدم قدرة النظام الفرنسي على تحمل تكلفة مادية وسياسية طولة الأمد لتدخّله العسكري الراهن.
ومن ثم؛ في ضوء الإدراك الغربي الأمريكي الفرنسي لصعوبات التدخّل العسكري في مالي، واحتمالات الإخفاق المنتظر، وتداعياته على نطاق جغرافي واسع من القارة الإفريقية، وذلك بمقاربته بالمصالح الاستراتيجية الفرنسية التقليدية، والأمريكية المستحدثة في المنطقة، يتضح أن هذا السيناريو غير مجد على المدى الطويل، وإن مثّل مسكّن عرضي لتجنب انفجار المنطقة برمتها.
هذه النتيجة – أي عدم جدوى التدخّل في المدى القصير واحتمالات استمراره أمداً غير يسير – يعتقد الباحث عدم غيابها عن صنّاع القرار الفرنسيين، إذ لم يكن إدراكهم الكامل لرجحان ذلك، والذي قد يزيد من عدم جدواه على الأرض عدم استيفاء أحد متطلباته، وهو التورّط الجزائري من جهة، وتوسيع دائرة المتورطين من جهة ثانية، ليتجه مسار الأزمة الحالي – وفقاً لهذا السيناريو الراهن – نحو مستنقع أفغاني جديد في الرمال الإفريقية أكثر اتساعاً وتأثيراً لاعتبارات عدّة.
2 – الاحتفاظ بملف الأزمة مفتوحاً لفترة:
محاولة الاحتفاظ بملف الأزمة مفتوحاً لفترة قد لا تكون يسيرة، فهي تقتضي بداية محاولة سريعة لخلط الأوراق وإعادة ترتيبها بما يخدم المصالح الغربية في الجزائر ومنطقة الصحراء، ليظّل خيار التدخّل متاحاً كلما استدعته الظروف.
وهذا السيناريو الأكثر ترجيحاً حال عدم حدوث تغيّرات مهمة في مواقف الأطراف الفاعلة في الداخل أو الخارج من ناحية، أو تغيّرات في ميدان الأزمة نفسها من ناحية ثانية، وآية ذلك الإشارات الفرنسية حول الرغبة في الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين دائمتين لضمان القرب الفرنسي من قلب الأزمة.
3 – الحوار والتفاهم:
يبقى في النهاية سيناريو الحوار والتفاهم هو الأكثر تفاؤلاً وابتغاءً، لكونه يصبّ في مصلحة جميع الأطراف المحليّة في الأساس، والإقليمية بدرجة أو بأخرى، إلا أنه صار بعيد المنال بعد التحوّلات الراهنة في مسار الأزمة بسبب التدخّل الدولي المباشر.
وقد وُجدت بعض المؤشرات الأخيرة لهذا لسيناريو – أي سيناريو الحوار والتفاهم- قبل التدخّل العسكري الراهن، متمثلة في محاولات بعض الأطراف المحليّة المتورّطة في الأزمة فتح آفاق للحوار والتفاهم، ومنها قيام حركة أنصار الدين، والتي تُعد واحدة من أكبر الحركات الإسلامية النافذة في شمال مالي، بإرسال وفود إلى دول الجوار المالي، وعلى رأسها الجزائر التي قد تفضّل خيار الحوار لحلّ الأزمة فيها، وكذا بيان الحركة الصادر على لسان عضو وفد الحركة لبوركينافاسو «محمد أهاريد» عقب لقائه برئيسها بليز كومباوي وسيط المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في أزمة مالي، والذي تداولته وسائل الإعلام بتاريخ 6/12/2012م، حيث أعلنت استعدادها لنبذ «كلّ أشكال التطرف والإرهاب»، والتعهد بتنفيذ وقف شامل للأعمال العسكرية، والالتزام فوراً بعملية حوار سياسي مع السلطات الانتقالية في مالي، ودعوة كلّ الحركات المسلّحة إلى أن تحذو حذوها بغية إجراء حوار سياسي(21).
بيد أن الأزمة في مالي تُوجّه للسير بعيداً عن هذا السيناريو، وهو ما يُنذر بعدم تقديم علاج ناجع للأزمة، واستئصال مسبّباتها الأصيلة والمستمرة، خصوصاً في عدم وجود تحوّل نوعي في مواقف أطراف الأزمة وأسلوب تعاطيها معها، وبخاصة التنظيمات الموسومة بالإسلامية، أو ذات النزعة الانفصالية، أو الحكومة المركزية في بماكو.
وفي النهاية؛ يصبح من الضروري القول بأن واقع الأزمة في مالي، ومثيلاتها الإفريقية، إنما هي أزمة تنمية في الأساس، وإذا لم يضطلع المجتمع الدولي بدوره الفاعل الواجب في مساندة الدول الإفريقية في إحداث تلك التنمية التي تطمح إليها الشعوب الإفريقية، وبالشكل الذي يصون الاستقرار ويدعمه في القارة وفقاً للرؤى الإفريقية وليس الغربية، فإنه ينبغي للأفارقة شعوباً وحكومات تذكر أن مستقبل القارة يستند ابتداءً إلى أن تكون تنمية إفريقيا بالأفارقة وللأفارقة.
الإحالات والهوامش:
(1) السيد علي أبو فرحة: مستقبل الدولة الإفريقية بين السطوة العسكرية وجدوى الديمقراطية، مجلة قراءات إفريقية، (لندن: العدد الثالث عشر، رجب – رمضان 1433هـ / يوليو – سبتمبر 2012م)، ص 44.
(2) صفحة البيانات الأساسية لدولة مالي من الموقع الإلكتروني لمكتبة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA عبر الرابط الآتي (30/11/2012م):
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/ml.html
(3) من مؤشرات البنية الأساسية الرئيسة لجمهورية مالي الآتي: يبلغ عدد مستخدمي الهاتف الجوال 10.822 مليون مواطن في عام 2011م، و 104.700 مستخدم للتليفون الثابت، وعدد مستخدمي شبكة المعلومات الدولية (إنترنت) 249.800 مشترك عام 2009م، وعدد المطارات 21 مطاراً، و 593 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية، و 18.912 من الطرق البرية، منها 3.597 مرصوفة، و 15.315 غير مرصوفة، وفقاً لإحصاءات 2004م، (مصدر البيانات: مكتبة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA).
(4) كانت فكرة «القيادة الإقليمية» جزءاً من استراتيجية الولايات المتحدة العسكرية ذات المنظور الكوني للعلاقات الدولية، والتي رأت تقسيم المناطق الإقليمية المختلفة في كلّ بقاع العالم إلى قيادات عسكرية متعددة المهام، كالقيادة الأوروبية، والمركزية، وقيادة الباسيفيك، والقيادتين الشمالية والجنوبية، وكانت إفريقيا تقع بصفة عامة داخل نطاق مهام القيادة الأوروبية حتى أكتوبر 2008م، فيما عدا مصر وسيشل ودول القرن الإفريقي (جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا والصومال والسودان)، والتي تتبع جميعها القيادة المركزية، وعدد من دول الساحل الشرقي الإفريقي على هيئة جزر تقع تحت السيطرة الفرنسية وقيادة الباسيفيك، وهي (جزر القمر ومدغشقر وموريشيوس وريونيون)، إلى أن تم تقسيم إفريقيا إلى خمس مناطق عسكرية تُجمل أقاليم القارة الخمسة والمنتظمات الاقتصادية الإقليمية الرئيسة لإفريقيا، وهي: اتحاد المغرب العربي، واتحاد شرق إفريقيا، والتجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا، والتجمع الاقتصادي لدول وسط إفريقيا، وتجمع تنمية الجنوب الإفريقي.
(5) محمد سليمان الزواوي: التواجد العسكري الأمريكي بإفريقيا، مقال منشور بالموقع الإلكتروني لمجلة البيان السعودية الصادرة من لندن بتاريخ 19/1/ 1432هـ، عبر الموقع الإلكتروني الآتي (19/9/2012م):
http://www.albayan.co.uk/text.aspx?id=546
(6) تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، تقرير منشور على الموقع الإلكتروني لشبكة الجزيرة، عبر الموقع الإلكتروني الآتي (20/10/2012م):
http://www.aljazeera.net/news/pages/7e9ce3a6-5846-4d6e-9dd4-d2acf976b3be
(7) آن جيوديشيللي: فرنسا والقاعدة بالساحل، تقرير منشور على شبكة الجزيرة بتاريخ 7/7/2010م، ومتاح عبر الرابط الآتي (1/12/2012م):
http://www.aljazeera.net/analysis/pages/959df4e0-6ea3-463b-b68e-c96d8355c953
(8) انظر: موقع الجزيرة نت (1/12/2012م): http://www.aljazeera.net/news/pages/ed124842-bed6-4c05-b10d-e5c57e1490d4
(9) انظر: موقع الجزيرة نت (7/12/2012م): http://www.aljazeera.net/mob/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/90508837-8f31-43f9-b67e-a20a483f7353
(10) آن جيوديشيللي، مرجع سابق.
(11) أمين محمد: خيارات الماليين للتعامل مع القضية الأزوادية، تقرير إخباري منشور على شبكة الجزيرة بتاريخ 23/4/2012م، ومتاح عبر الموقع الإلكتروني الآتي (20/10/2012م):
http://www.aljazeera.net/news/pages/9502f1c3-2616-43d7-a1c0-261e869e3f8f
(12) حديث لرياض ولد أحمد الهادي وآخرون خلال حلقة بعنوان: زيارة كلينتون للجزائر بشأن التدخّل العسكري بمالي، بتاريخ 28/10/2012م، من برنامج «ما وراء الخبر»، تقديم محمد كريشان على قناة الجزيرة الفضائية، ونصّ الحوار متاح على الرابط الآتي:
http://www.aljazeera.net/programs/pages/91d467e8-34b6-42ab-ba68-2da1aa735c99
(13) انظر: موقع الجزيرة نت (2/12/2012م): http://www.aljazeera.net/news/pages/779cf9b6-f635-4716-ae2d-87ca7da97a4c
(14) أمادو توماني توريه: المشاكل في مالي، حديث للرئيس المالي السابق أمادو توماني توريه في حلقة من برنامج «لقاء خاص» بتاريخ 28/12/2007م، بشأن تمرد الطوارق في شمال مالي، نصّ الحلقة متاح على الرابط الإلكتروني الآتي لشبكة الجزيرة:
http://www.aljazeera.net/programs/pages/917c1322-7492-4899-bb6d-a86367a3d36
(15) محمد فال ولد بلال – وزير وسفير موريتاني سابق -: موريتانيا في الحرب على مالي: من لاعب احتياط إلى حارس مرمى، جريدة الوطن الموريتانية، بتاريخ 1/2/2013م، عبر الرابط الآتي:
http://www.elwatan.info/article9736.html
(16) أمين محمد: بلخير يدعو لانخراط موريتانيا في حرب مالي، شبكة الجزيرة الإخبارية بتاريخ 13/2/2013م، عبر الرابط الآتي:
http://aljazeera.net/news/pages/077d1f35-373a-4d71-b319-cfd1c2baf74b?GoogleStatID=21
(17) انظر: موقع الجزيرة نت (30/10/2012م): http://www.aljazeera.net/news/pages/bfd14947-e157-4c9d-b4d5-3a61c87ceb4a
(18) انظر: موقع الجزيرة نت (25/10/2012م): http://www.aljazeera.net/news/pages/e480b381-4c87-4e6e-95af-3c0056deb6f9
(19) انظر: تعزيزات إفريقية لمالي بعد التدخّل الفرنسي، شبكة الجزيرة الإخبارية، السبت 12 يناير 2013م.
(20) سيرج دنيال وكوما سيلا: هجوم مضاد للجيش المالي بدعم من فرنسا ودول غرب إفريقيا، وكالة الأنباء الفرنسية، الجمعة 11 يناير 2013م.
(21) انظر: موقع الجزيرة نت (25/10/2012م): http://www.aljazeera.net/news/pages/23025fc4-6a4d-4d9c-996e-5ece2e5efbbb