أنور إبراهيم أحمد – كاتب إثيوبي
الخلافات بين أتباع وقيادات الكنيسة الأرثوذوكسية الإثيوبية ليس وليد اللحظة، فهو يمتد إلى عهود الأباطرة، وتطوَّر ما بين مختلف المكونات داخل الكنيسة، ويتغيَّر مسار الخلاف من وقتٍ لآخر.
بدأت تطوُّرات وصراعات بين أتباع الكنيسة والطوائف الأخرى منذ فترة طويلة؛ كانت البداية عقب ظهور ما يسمى بالمجددين داخل الكنيسة أو “التوحيدين”، والذين لهم نظرة خاصة حول كيفية إصلاح واقع الكنيسة، وتطور مرة أخرى مع ظهور تيار جديد أطلق عليهم “الموحدين”، والذين اتُّهِمُوا مِن قِبَل أتباع الكنيسة بأنهم خارجون عن أعراف الكنيسة، ومن بينهم مثقفون كثيرون، ممَّا أدى لحالة من الانقسام بين وحدات الطوائف الأرثوذوكسية.
وكانت أغلب التُّهَم مُوجَّهة لتحركات بعض الأفراد لتغيير العُرْف الكنسي المتَّبع في الداخل الإثيوبي، والذي كان يُواجَه بتصدٍّ كبير من وقتٍ لآخر، فظلت كل التُّهَم التي تُوجَّه لتلك التحركات بأنها تسعى لتقسيم الكنيسة الأرثوذوكسية ومحاولة تعميق هوة الخلاف وزعزعة الداخل الإثيوبي .
الكنيسة والحرب في إقليم تيغراي:
بعد اشتعال الحرب التي اندلعت في إقليم تيغراي بشمال البلاد في نوفمبر 2020م، تطور الموقف بين الكنيسة والحكومة مجددًا، وتبادل الطرفان الاتهامات بعد أن تم الاعتداء على بعض الكنائس في عدة مدن ومناطق في الإقليم، وتطور الخلاف بصورة كبيرة بعد أن انتقل الصراع لإقليم أمهرا المجاور لتيغراي.
وقد شنَّ أتباع بعض الكنائس هجومًا على بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية الإثيوبية؛ بسبب انتمائه لقومية تيغراي، وحتى التيغراي أنفسهم اتهموه بأنه متواطئ مع التحركات الحكومية الداعمة للحرب، وأن الكنيسة لم يكن لها موقف واضح إزاء الأوضاع في الإقليم، ولكنْ سرعان ما انتهى الخلاف بعد أن اتَّهم البطريرك الحكومة بالتدخل في الشؤون الدينية، وأنها تُمارس عليه ضغوطًا بسبب قوميته، وتحاول التدخل في الشؤون الكنسية.
فأعلنت الكنيسة في إقليم تيغراي، قطع علاقاتها بالكنيسة الأُم في أديس أبابا؛ بسبب الحرب والصراع في الإقليم، وتبادل الاتهامات ما بين الحكومة وسكان الإقليم لفترة طويلة.
وبعد الخلافات التي ظهرت مرة أخرى بين البروتستانت والأرثوذوكس والمسلمين، حول ملكية ميدان الصليب -ميدان وسط أديس أبابا- الذي تُقام فيه الاحتفالات الدينية المختلفة في البلاد، وكانت الكنيسة الأرثوذوكسية قد أكدت بحسب وثائق تبعية الميدان لها، ولكن سرعان ما تم امتصاص الخلاف بسبب تدخل حكومة أديس أبابا، معلنةً أن الميدان ملكية عامة، ويحقّ لكل الأديان والطوائف الاحتفال فيه، ولكن هذا التدخل الحكومي لم يحسم النزاع، وخاصةً أن أسماء الميدان هي “ميدان الصليب، ميدان الثورة، ميدان العلم”، ولكن ميدان الصليب أو “مسقل اسكوير” هو الذي طغى كاسم على موقع الميدان.
وبعد الأحداث الأخيرة، التي أدَّت لانسلاخ أتباع كنيسة أوروميا عن الكنيسة الأم في أديس أبابا، وأعلنوا اختيار مجمع كنسي خاص بهم في إقليم أوروميا؛ قامت الكنيسة الأرثوذوكسية بإعلان أن هذه المجموعة تم تجميد نشاطها، ولا يحق لها العودة إلا بعد إعلان توبتهم، واتّهم بيان الكنيسة قوات الأمن بالاعتداء على أتباع الكنيسة في مدينة شاشماني بوحشية، وهي الأحداث التي أدَّت لمقتل عددٍ من أتباع الكنيسة إثر اشتباكات بين المواطنين وقوات الأمن بعد أن حاول البعض الهيمنة على بعض الكنائس في المنطقة ومناطق أخرى.
تطوُّر الأحداث مجددًا:
كانت كنائس العاصمة الإثيوبية أديس أبابا قد شهدت حالة من الحزن، فيما ارتدى العديد من أتباعها الملابس السوداء، وغطى السواد مداخل الكنائس؛ وذلك احتجاجًا على ما يصفونه بأنه تعبير عن الغضب.
وتعود أزمة الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية إلى التوترات بين المجمع المقدس لكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية المركزية والحكومة في أعقاب الخلافات حول ثلاثة رؤساء أساقفة منشقين و25 أسقفًا مُعيَّنًا، اتهمهم المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا بالانقلاب على الكنيسة.
وأصدر المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية قرارًا بتجريد جميع الأساقفة ممن وصفهم بالمنشقين بقيادة الأسقف أبونا ساويروس من جميع مناصبهم وأسمائهم الكنسية، وحرمانهم من جميع الخدمات والحقوق التي تُقدّمها الكنيسة الأرثوذكسية لأتباعها، كما اتّهم المجمع المقدس لكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية الحكومة بالتورُّط المباشر في الأزمة.
فيما يرى المجمع المقدس لأوروميا بقيادة الأسقف أبونا ساويروس أن مطالبهم، بممارسة شعائرهم الدينية وقُدَّاسهم وطقوسهم باللغة الأرومية وليس اللغة الأمهرية؛ هي حقوق يجب أن تكون مكفولة لهم مِن قِبَل الكنيسة.
من ناحيتها؛ اعتبرت الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا بيان مكتب الاتصال الحكومي حول الأزمة بأنه ما يزال يشير إلى عدم قبول الحكومة الإثيوبية قرار مجمع الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا وإجراءاته الإدارية الداخلية بشأن المجمع الكنيسي بقيادة الأسقف أبونا ساويروس بإقليم أوروميا.
وكانت الكنسية الأرثوذكسية في أديس أبابا قد اعتبرت تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمطالبته حكومته والوزراء بعدم التدخل بأزمة الكنيسة، مشيرًا إلى حق أتباع الديانة المسيحية الأورثوذكسية بإقليم أوروميا ممارسة قداسهم وتعليمهم الدينية باللغة الأورومية؛ بأنه يمثل انحيازًا واضحًا للمنشقين بقيادة الأسقف أبونا ساويروس، مشيرة إلى أن هذه التصريحات غير مقبولة، وأنها تدخُّل في شؤون الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية.
وفي ظل الصراع الحالي، والذي بدا خفيًّا بين الأمهرا والأورومو داخل الكنيسة، وطلب بعض المسيحيين من الأورومو أنه يجب أن تمارس الشعائر الدينية في الإقليم بلغتهم الأورومية، وليس باللغة الأمهرية التي فرضتها الكنيسة الإثيوبية إبَّان فترة الأباطرة في العهود الماضية.
ووقعت أحداث بين الطرفين خلال فترات عدَّة؛ بحُجّة محاولة الهيمنة على الكنيسة، فحدثت عدة التحرُّكات؛ من بينها الهجوم على بعض الممتلكات الكنسية، ومحاولة خلق فتنة من وقت لآخر، وآخرها ملف إعلان تعيين بطريرك ومجلس كنسي لإقليم أوروميا، مِن قِبَل مجموعات رأت أن لها الحق في تعيين واختيار بطريرك خاصّ بها .
كل تلك التحركات أثارت حفيظة أتباع الكنيسة الأرثوذوكسية الإثيوبية، في ظل نشر مواد وتغريدات لناشطين أن الكنيسة الإثيوبية قد فَرضت استخدام الأمهرية كلغة رسمية، لتدخل الخلافات في إطار حملات إعلامية مِن قِبَل ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث باتوا ينشرون أخبارًا مفادها “هيمنة بعض الأفراد على الكنيسة”، وتطوَّر الصراع الخفي ليكون هذه المرة بإدخال الحكومة بأنها تدعم طرفًا ضد الآخر، فتصاعد الخلاف بين الكنيسة والحكومة ليصل إلى طريق مسدود.
تصريحات وقرارات الكنيسة:
قامت الكنيسة بإعلان أن المجموعة الجديدة ليس لها الحق في تعيين بطريرك أو عزل أو اختيار أو التحكم في أي شيء يخص الكنيسة، واتهمت الحكومة بالتدخل في الشؤون الكنسية، وطالبت الحكومة برفع يدها عن أمور الكنيسة، مما أدى لتطور نزاع كبير بين الكنيسة الأرثوذوكسية الإثيوبية والحكومة التي يقودها حزب الازدهار بقيادة آبي أحمد.
وقد أصدر مكتب الاتصال الحكومي بيانًا، طالب فيها الكنيسة بحلّ المشكلات داخليًّا بين مختلف أطيافها وفِرَقها. وهو البيان الذي رفضته الكنيسة في بيانٍ لها، واتهمت الحكومة بالتدخل في الشؤون الدينية، ودعم مجموعة مسلحة منشقة لإثارة الخلاف بين أتباع المذهب الأرثودوكسي للسيطرة على الكنيسة وممتلكاتها عبر مجموعة تدعمها حكومة إقليم أوروميا .
واندلعت أحداث عنف في مدينة شاشماني بجنوب إقليم أوروميا، وذلك بعد ورود أنباء أن المجموعة الجديدة تهاجم “كنيسة ميكائيل” للسيطرة عليها، مما أدَّى لحدوث اشتباكات متعددة بين أتباع الكنيسة وآخرين، وتدخلت الشرطة والقوات الأمنية لفضّ الاشتباكات، وأطلقت النار، مما أدَّى لمقتل بعض أتباع الكنيسة، ومِن ثَمَّ اتهمت الكنيسة في بيان لها أن بعض أتباعها قُتِلُوا بوحشية على أيدي قوات الأمن في إقليم أوروميا، واتهمت الحكومة بتأجيج الصراع داخل الكنيسة، بدعمها لمجموعات منشقَّة مدعومة بالسلاح .
وقالت: إن قوات الأمن قد تلقَّت أوامر مباشرة من قادة الحكومة الإقليمية والمركزية بإطلاق النار على المسيحيين، الذين اعترضوا على انتهاك حرمات الكنيسة والسيطرة عليها من المجموعة الجديدة التي أعلنت تشكيل إدارة جديدة في إقليم أرووميا .
شعارات عبر مختلف الوسائل:
خرجت شعارت عبر مختلف الوسائل الإعلامية الخاصة، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ تطالب الحكومة برَفْع يدها عن الأمور الدينية والكنسية، وهي حملة أيَّدها عدد كبير من أعضاء الكنيسة الأرثوذوكسية، الذين كانوا ناقمين على الحكومة وتدخلها في الشؤون الدينية، مثل شعارات “كنيسة واحدة، أرثوذوكس واحد، بطريرك واحد، … إلخ”، وغيرها من العبارات، وبدأت حملات للفنانين والمثقفين تُندِّد بتدخُّل الحكومة في أمور الكنيسة، وتصعيد الخلاف بين مختلف الطوائف، عبر فيديوهات تمَّ نَشْرها بكثافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث تُعدّ أول التحديات التي تواجه حكومة آبي أحمد بصورة كبيرة، وبأساليب متنوعة، وخاصةً أن أتباع الكنيسة لأرثوذوكسية الإثيوبية أكبر عددًا من بقية الطوائف الأخرى في البلاد .
تدخل أجنبي:
خلال تطور الأحداث الداخلية في البلاد منذ عام 2015م، دائمًا ما يتم الإعلان عن وجود تدخل أجنبي، ووُجدت في السابق محاولات لربط أغلب الملفات والخلافات الإثيوبية بدول الجوار أو الجهات الخارجية، وهي معلومات يتم تداولها من وقت لآخر، خاصةً في الأحداث المتطورة التي يتم تصعيدها خلال فترات متعددة. ومِن ثَم ظهرت وجهة نظر أخرى أن التحركات الأخيرة التي حدثت داخل الكنيسة الإثيوبية، تأتي بدعم أجنبي دون ذكر أيّ جهة، ولكنها مرتبطة بعدد من القضايا الداخلية مثل الأحداث الأخيرة في الشمال، وملف سد النهضة الإثيوبي الكبير.
تحدّي الحكومة والكنيسة:
كانت الكنيسة الأرثوذوكسية قد دعت أتباعها للصلاة والصوم لمدة ثلاثة أيام، وارتداء الزي الأسود، وهي دعوة وجدت قبولاً كبيرة لدى أتباع الكنيسة، وكادت الطرقات والشوارع في المدن الإثيوبية يَطغى عليها اللون الأسود، وهو الشيء الذي تصدت له الحكومة بمنع دخول الموظفين الذين يرتدون اللون الأسود للمؤسسات، وتعرُّض العديد منهم لعقوباتٍ، مما زاد الطين بلَّة بين الحكومة والكنيسة.
ودعت الكنيسة أتباعها للخروج في تظاهرات سلمية، وانتشرت دعوات جماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تفاعل معها الجميع، واستعد الجميع للخروج في التظاهرة التي تنادي بعدم تدخل الحكومة في شؤون الكنيسة، ورفع يدها عن الأمور الدينية، وهي دعوة أيَّدها عدد كبير من المؤسسات الدينية والمدنية والسياسية في الدولة.
فكان تحذير السلطات الأمنية الإثيوبية للمواطنين عبر بيانات رسمية، بعدم الخروج في مظاهرات بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا والأقاليم الإثيوبية الأخرى تحت غطاء الدين ودعمًا للكنيسة الأرثوذكسية.
وصدر بيان عن قوة المهام الأمنية الإثيوبية المشتركة المكونة من الأمن والمخابرات والجيش والشرطة الفيدرالية والأجهزة الأمنية الأخرى، قال: إنها تحصلت على معلومات تفيد بأن هناك محاولة لتنظيم تظاهرات مناهضة للسلام في أديس أبابا والأقاليم الإثيوبية الأخرى دون الحصول على تصريح من السلطات المعنية.
وقالت السلطات الأمنية الإثيوبية: إن جهات ما تسعى لعرقة السلام والاستقرار بإثيوبيا واستغلال غطاء الأزمة الحالية للكنيسة الإثيوبية لتمرير أجنداتها الخاصة والهدامة، مشيرة إلى أنه لا توجد مظاهرة مصرح بها مِن قبل الجهات المختصة بهذا الشأن في العاصمة اديس أبابا، مؤكدة أنها ستَّتخذ الإجراءات اللازمة في مواجهة هذه التظاهرات وبحزم؛ وذلك لمنع أي محاولة لزعزعة الإستقرار وعرقلة الجهود الجارية لاستضافة القمة الإفريقية الـ36 التي ستُعْقَد في مقرّ الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا في الفترة من 15 – 19 فبراير الجاري.
واتهم بيان قوة المهام الأمنية الإثيوبية المشتركة مَن أسماهم “بالأعداء التاريخيين” لإثيوبيا، دون توضحيهم، وقال: إنهم يسعون بكل ما يملكون لمنع إثيوبيا من التنمية والاستقرار باستغلال مثل هذه الفرص الخلافية، لافتًا إلى أنَّ هناك بعض الأحزاب السياسية تسعى للوصول إلى السلطة تحاول، هي الأخرى، استغلال هذه الفرصة.
رفض الكنيسة للبيانات الحكومة:
ورفضت الكنيسة أغلب البيانات الحكومية، والخاصة بقوة المهام الأمنية المشتركة، ضاربةً بها عرض الحائط، ومتَّهمة الحكومة بتُهَم عدة؛ منها دعم جماعات تسعى للسيطرة على ممتلكات الكنيسة، وفي تَحَدٍّ صارخ أكَّدت بأنها ستواصل الدعوة لأتباعها للخروج في تظاهرات سلمية للمطالبة بعدم التدخل في شؤون الكنيسة، وحِفْظ حقوقها الدستورية.
وهو ما حدا بالحكومة إلى حَجْب مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد (فيس بوك، تليغرام)، وينتظر الشارع ما سيحدث جراء الخلاف المتطور، والذي يُعدّ الأول من نوعه بين الكنيسة الأرثوذكسية والحكومة الإثيوبية على مدى العقود الماضية.