لمّا كان الإسلام أحد المدخلات التاريخية والاجتماعية الرئيسة في بناء المجتمع الإفريقي خاصةً، لأن انتشار الإسلام في جل إفريقيا لم يكن بحد السيف، وإنما عبر التجارة والمخالطة، فقد أسس ذلك لقاعدة شعبية مهمة في العديد من المجتمعات الإفريقية.
إلا أن ذلك لم يتجل بالقدر نفسه في بناء العديد من الدول الإفريقية، فابتعدت عنه – أي الدولة الإفريقية – في بنائها بدرجة أو بأخرى ما بين كونه ديناً رسمياً للدولة – كحالة الدولة في السودان الشمالي -، أو أحد تلك الديانات الرئيسة في الدولة – كحالة جمهورية تشاد وغانا -، أو عبر تضمينه الاسم الرسمي للدولة – كحالة الدولة الموريتانية -، أو تجاهل الاعتراف به كأحد الديانات الرئيسة في الدولة – كحالة أنجولا – التي ينصّ الدستور فيها على ضرورة أن يبلغ أتباع أي دين 100 ألف شخص حتى يتم الاعتراف به رسمياً، حيث تذهب الإحصاءات الرسمية إلى عدم تجاوز أتباع الإسلام فيها 90 ألفاً، في حين تذهب الإحصاءات غير الرسمية إلى أرقام تتجاوز 2 مليون مسلم من إجمالي 12 مليون نسمة في أنجولا([1]).
ومن ثم فوضعية الدولة في نيجيريا ليست بمنأى عن التأثير العميق والواسع للإسلام فيها ديانةً ومجتمعاً ودولةً، وقد تجلى هذا التأثير في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي النيجيري، وهو التأثير الذي يتعاظم في حالة تزامنه وتوازيه مع مسببات الخلل الهيكلي الذي تعانيه الدول الإفريقية عامة، والدولة في نيجيريا على وجه الخصوص، من إشكاليات الاندماج الوطني، وتنامي الولاءات التحتية (الدينية والقبلية والجهوية) على الولاء الوطني للدولة النيجيرية، وكذا الإرث الاستعماري وممارساته من الحملات التبشيرية، والتعددية الإثنية والعرقية، وما يرتبط بها من سيولة حدودية؛ لكون العديد من تلك الإثنيات عابرة للدول من ناحية، وتوازي تلك الانقسامات الإثنية والدينية في الواقع النيجيري بشكل مركب من ناحية أخرى، كالشمال ذي الأغلبية المسلمة، والذي تسكنه قبائل الهوسا والفولاني، وفي الشرق والجنوب الشرقي قبائل الأيبو، والجنوب والجنوب الغربي ذي الأغلبية المسيحية والذي تسكنه قبائل اليوروبا، وأخيراً الإخفاق في تحقيق التنمية السياسية والاقتصادية، وما يترتب عليه من إشكاليات تقاسم الثروة والسلطة ومطالب الانفصال.
تاريخياً؛ يمكن فهم انتشار الإسلام في الشمال النيجيري كنتيجية لقربه وتأثره بدولة الموحدين والمرابطين في المغرب العربي، وهو ما تجلّى في قيام كيانات إسلامية كسلطنة بورنو، وكذا ظهور حركة إصلاحية قادها «عثمان دان فودي» عام 1804م، كان من نتائجها توحيد الشمال النيجيري تحت حكم الإسلام المتمثل في خلافة «سكوتو»، وعدم انتشار الإسلام في الجنوب النيجيري لكثافة الغابات التي تفصل بين الشمال والجنوب؛ من ضمن أسباب أخرى؛ منها الحملات التبشيرية في أثناء الاستعمار البريطاني.
وبالنظر إلى مفردات المجتمع النيجيري؛ تجده يتكون مما يربو على 250 عرقية، وعلى الرغم من تضارب الإحصاءات بين الرسمية وغير الرسمية؛ فإن العديد منها يشير إلى أن أكبر تلك العرقيات الهوسا والفولاني بنسبة 29% تقريباً، واليوروبا بنسبة 21% تقريباً، والإيبو بنسبة 18% تقريباً، وكذا الإيجاو بنحو 10%، والكانوري بنحو 4%، والإيبيبيو بنحو 3,5%، والتيف بنحو 2,5%.
أما على المستوى الديني؛ فعدد من الإحصاءات، منها الغربية، تشير إلى:
– أن المسلمين يمثّلون نحو 50% من إجمالي السكان البالغ 155,215,573 نسمة، منتشرين في حوالي 19 ولاية في الشمال النيجيري من أصل 36 ولاية تُكوّن الاتحاد النيجيري.
– ثم تأتي بعدها نسبة المسيحيين 40%.
– وأخيراً 10% لأصحاب الديانات التقليدية([2]).
في حين تذهب عدد من الإحصاءات غير الرسمية إلى أن المسلمين في نيجيريا يشكّلون ما يربو عن 70% من عدد السكان([3]).
محاور الدراســــــــة:
– واقع الإسلام في نيجيريا.
– واقع التفاعل بين القوى الإسلامية والدولة في نيجيريا وقضاياه.
– التداعيات السياسية للانتخابات العامة في 2011م على واقع التفاعل بين القوى الإسلامية والدولة في نيجيريا.
– تحديات واقع التفاعل بين القوى الإسلامية والدولة في نيجيريا.
– سيناريوهات لحل أزمة المثلث (الديني- السياسي- النفطي) في نيجيريا-؛ الآليات والتكلفة.
أولاً: واقع الإسلام في نيجيريا:
الوضعية القانونية:
يُعد القانون الفيدرالي الصادر في 1999م أحد نقاط التحول الرئيسة في مؤسسية الإسلام في نيجيريا، حيث أجاز هذا القانون للولايات النيجيرية – في إطار الاتحاد الفيدرالي – حرية إصدار قوانينها المحلية، فاتجهت العديد من الولايات الشمالية إلى «أسلمة» القوانين المنظّمة لها، وأولها ولاية «زمفرة»، والتي أعلنت تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مرافق الولاية كافة، وذلك في أواخر شهر يناير عام 2000م، أعقبها في هذا الصدد 12 ولاية في الشمال النيجيري، وهو ما مثّل جدلاً سياسياً ودستورياً في ظل رؤية النظام الحاكم إبّان ذلك – الرئيس «أوباسنجو» المنتمي لقبيلة اليوروبا – أن ذلك يخالف الدستور النيجيري الذي نظّم العديد من المسائل باعتبارها مدنية، وهو ما كان له تداعيات سياسية من قِبل الجمعيات المسيحية تجلّت في نشوب أعمال عنف بين الطرفين في عدد من مدن الشمال النيجيري وقراه([4]).
الوضعية المؤسسية:
هناك العديد من الهياكل المؤسسية النيجيرية المعبّرة عن النشاط الإسلامي، منها جماعة «نصر الإسلام» التي أسسها الحاج «أحمد بيلّو» بمساندة أمراء الشمال النيجيري ووجهائهم، ويهدف هذا الكيان إلى نشر الإسلام، وتوحيد الجمعيات الإسلامية تحت مظلة واحدة، ونشر تعاليم الإسلام بين المسلمين.
وقد أُعيد تنظيم الجماعة بعد نهاية الحرب الأهلية ومقتل مؤسسها في 1970م، وذلك بإنشاء «المجلس النيجيري الأعلى للشؤون الإسلامية» في عام 1974م، وقد تأسس المجلس – وفقاً لنظامه الأساسي – بهدف حماية المصالح الإسلامية في سائر أنحاء نيجيريا، وكذا القيام بمهمة الاتصال بالحكومة النيجيرية فيما يتعلق بالشؤون الإسلامية، وتشجيع إنشاء مؤسسات تعليم الدين والثقافة الإسلامية واللغة العربية، ودعم وإدارة المساجد وبنائها في مختلف أنحاء نيجيريا، وكذا ضمان مراعاة الشعائر والأعياد الإسلامية في جميع أنحاء نيجيريا.
أما جماعة «إزالة البدعة وإقامة السنّة»، والتي تأسست على يد إسماعيل إدريس عام 1978م، فهي حركة من أصحاب المنهج السلفي للعمل على تطهير العقيدة من شبهات الشرك والتبرك بالأضرحة والأولياء، أما جمعية «الطلبة المسلمين» فهي حركة طلابية تنتشر بين طلاب التعليم العالي في شمال نيجيريا، وتدعو إلى الالتزام بتعاليم الإسلام في جميع مناحي الحياة([5])، بالإضافة إلى جمعية «تعاون المسلمين»، وجمعية «تضامن المسلمين»، وجماعة «التجديد الإسلامي»، وجماعة «الأمة»، وجماعة «الوحدة الإسلامية»، و«مجلس أهل السنة والجماعة»، و«جمعية الأخوة الإسلامية الشيعية»، وهي جماعة شيعية.
قد يُعد الإعلان عن تأسيس أول جامعة إسلامية في نيجيريا في 29/8/2011م على غرار جامعة الأزهر ليكون لها جناحان؛ أحدهما للعلوم الشرعية، وآخر للعلوم المعاصرة، وذلك من قبل جماعة «تعاون المسلمين» بنيجيريا، أحد الخطوات المؤسسية المهمة في سبيل مجابهة النموذج التعليمي الغربي في نيجيريا([6]).
ما يقرب من 75% من المسلمين في نيجيريا أمّيون، مع غياب إعلام إسلامي مؤثر
الوضعية السياسية:
وبالنظر في الوضعية السياسية للإسلام في البلاد؛ يتضح تولي الحكم رؤساء مسلمون ومسيحيون عبر النظم العسكرية والمدنية التي توالت على نيجيريا، حيث سيطر القادة العسكريون مسلمون ومسيحيون على الحكم في نيجيريا منذ عام 1966م إلى عام 1979م، ثم آلت مقاليد الحكم في البلاد إلى حكومة مدنية، غير أن القادة العسكريين أطاحوا بالحكومة المدنية مرة أخرى في عام 1983م.
وفي نهاية الثمانينيات؛ شرعت الحكومة في القيام بخطوات جادة نحو تسليم السلطة للمدنيين، وقد سُلّم الحكم إلى حكومة مدنية مرة أخرى في عام 1999م بانتخاب «أوليسيجون أوباسانجو»، وهو أول رئيس منتخب من قبائل اليوروبا، كان حاكماً عسكرياً للبلاد إلى عام 1979م، وأُعيد انتخابه في 2004م، وأعقبه «عمر يارادوا» في انتخابات 2007م، والذي تُوفي في مايو 2010م، وحلّ محلّه نائبه «جودلاك جونثان» الذي تم انتخابه في أبريل 2011م رئيساً للبلاد لمدة أربع سنوات.
لذا؛ فالتنافس التقليدي والصراع السياسي في نيجيريا بين قبائل (الهوسا المسلمة والأيبو واليوروبا المسيحية)، والذي تتجلى مظاهره في العنف المتبادل، والانقلابات العسكرية المتبادلة من القادة العسكريين المنتمين إليهما، وهي المظاهر التي بدت مبكراً بُعيد الاستقلال عندما اغتيل الرئيس النيجيري «جونسون آجيلي إرونسي» المنتمي لقبائل الإيبو، لتتوالى الانقلابات بين جنرالات كل من قبائل الهوسا، والإيبو واليوروبا، ليتولى السلطة على التوالي «شيخو عثمان عليو شكري 1979م – 1983م»، و «محمد بخاري 1983م – 1985م»، و «إبراهيم بابانجيدا 1985 – 1993م»، و «ساني أباتشا 1993 – 1998م»، و «عبد السلام أبو بكر 1998م – 1999م» المنتمين لقبائل الهوسا، و «بنيامين نامدي آزيكوي» المنتمي للإيبو، و «أولوسيجون أوباسانجو 1999م – 2007م» المنتمي لليوروبا، و «إرنست شونكان 1993م».
ومن الجدير بالذكر؛ في إطار الوضعية السياسية للإسلام في نيجيريا العلاقات الإسرائيلية مع نيجيريا من ناحية، والإيرانية النيجيرية من ناحية أخرى، وكذا احتمالات تأثيرها في تلك الوضعية.
أما بخصوص العلاقات الإسرائيلية النيجيرية؛ فقد اتجهت إسرائيل إلى بناء علاقاتها بنيجيريا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين – أي قبل الاستقلال بقليل -، حيث أرسلت إسرائيل المئات من الخبراء الإسرائيليين والمتطوعين في مختلف المجالات التعليمية والاقتصادية، وقد قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في أعقاب حرب أكتوبر 1973م؛ مما يُشير إلى النفوذ العربي في إفريقيا وقتها، ثم أُعيدت العلاقات في سبتمبر 1992م.
وكذا تنامت العلاقات الاقتصادية بين البلدين عبر دور «المركز الإسرائيلي للتعاون الدولي»، الذي هدف إلى التبادل المكثف لما يُسمّيه الإسرائليون «المعارف التقنية والمهنية»، تبع ذلك توقيع مذكرة تفاهم حول القضايا الثنائية و «الإقليمية» ذات الاهتمام المشترك بين وزارتي الخارجية بالدولتين في عام 2006م([7])، وتُعد العلاقات العسكرية عاملاً مؤثراً في هذا الصدد، حيث تُعد نيجيريا سوقاً مهماً لإسرائيل، ومن الصفقات العسكرية التي أُعلن عنها في إطار ذلك صفقة بين شركة «مسبنوت يسرائيل» ووزارة الأمن في نيجيريا، وقيمتها 25 مليون دولار، لإنتاج وتزويد سفينتي دورية من طراز «شلداج»، لدعم قدرات السلطات ضد متمردي دلتا النيجر([8]).
أما فيما يتصل بالعلاقات الإيرانية النيجيرية؛ فتأتي في إطار التنافس (الإيراني – الإسرائيلي) على توطيد العلاقات مع دول الغرب الإفريقي الغنية نفطياً، وقد تجسّدت تلك العلاقات في زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي لنيجيريا في يناير / 2005م، إلا أن تلك العلاقات شهدت مؤخراً بعض التوتر بشأن ضبط السلطات النيجيرية سفينة أسلحة إيرانية ومصادرتها، وهي الحادثة التي انتهت بقطع «جامبيا» علاقاتها بإيران، وتصعيد نيجيريا القضية لمجلس الأمن الدولي([9]).
ومن ثم يمكن قراءة التنافس (الإيراني – الإسرائيلي) تجاه توطيد العلاقات مع نيجيريا في ضوء الاهتمام الإيراني بشيعة العالم ونيجيريا، وكذا اتساع السوق النيجيري استهلاكاً واستثماراً، وهي أكثر الدول الإفريقية من حيث الكثافة السكانية، والأهمية النفطية لنيجيريا، وكونها مصدراً محتملاً لليورانيوم، وهو ما يؤثر سلباً في وضعية المسلمين في نيجيريا عبر الدعم الإسرائيلي للحكومة النيجيرية من جهة، والدعم الإيراني لشيعة نيجيريا من جهة أخرى([10]).
الوضعية الاقتصادية:
تمثّل قبائل الهوسا والفولاني أكبر القبائل المسلمة في البلاد، ومعظمهم يعمل في الزراعة، وبعضهم يمارس الحرف اليدوية والتجارية، وتشتهر الفولاني بممارسة نشاط الرعي والترحال، وتُمثّل الهوسا بقوة في المؤسسة العسكرية والشأن السياسي، وتتمركز قبائل الهوسا في الشمال النيجيري حتى أراضي دولة النيجر شمالاً، وتمتد إلى منطقة «جوس بلاتو» وسط نيجيريا جنوباً، ومن بحيرة تشاد شرقاً إلى مدينة «جني» بجمهورية مالي غرباً، ومن ثم لقبائل الهوسا امتدادات إقليمية في دول الجوار.
أما قبائل اليوروبا، فهي ثاني أكبر القبائل النيجيرية عدداً بعد الهوسا، ويدين أغلب أفرادها بالنصرانية أو أحد الديانات التقليدية، وإن كان يدين عدد من أفرادها بالإسلام([11])، وتعيش في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد في المدن، ويزرعون الأراضي الواقعة في المناطق الريفية المجاورة، وتنقسم القبيلة إلى سبع مجموعات، هي: «الأويو» و «الأجبا» و «الإيكيتي» و«الإيفي» و «الأجبو» و «الأندو» و «الكبة»، ولكل مجموعة زعيمها الخاص ومدينتها الخاصة، وتعد مدينة لاجوس (العاصمة السابقة لنيجيريا) ضمن المناطق التي يعيش فيها اليوروبا، وتعد مجموعة «الأويو» السلطة التقليدية لقبائل اليوروبا، وتعد مجموعة «الإيفي» السلطة الروحية لليوروبا، ونتيجة لذلك شغلت مجموعة «الأويو» عدداً كبيراً من المناصب المهمة في مجالس الحكومة والأعمال خلال الفترة الاستعمارية، وما زالت «الأويو» تسيطر على المدارس والإعلام والاقتصاد والمناصب الحكومية في ولاياتها؛ على الرغم من وجود كثافة للمسلمين يُعتد بها في تلك الولايات.
أما قبائل «الإيبو»؛ فيمثلون غالبية السكان في جنوب شرقي نيجيريا، وهم من المسيحيين، ونسبة المسلمين بها أقل من 10%، ومنذ بدء القرن العشرين وخلال فترة الحكم البريطاني تقبّل كثير من «الإيبو» نظم التربية وأساليب الحياة الغربية بسرعة أكبر من المجموعات السكانية الأخرى في نيجيريا، وكانوا أكثر استعداداً للرحيل بعيًاً عن مستوطناتهم التقليدية، وأول رئيس لنيجيريا بعد الاستقلال كان من تلك القبيلة، وهو «بنيامين نامدي آزيكوي» في أكتوبر 1963م([12]).
تمثّل قبائل الهوسا والفولاني أكبر القبائل المسلمة في البلاد، ومعظمهم يعمل في الزراعة، وبعضهم يمارس الحرف اليدوية والتجارية
بناء على ما سبق؛ تُعد الوضعية الاقتصادية التقليدية والعسكرية والسياسية للهوسا والأيبو أحد مسببات التنافس السياسي في نيجيريا؛ خصوصاً في ظل تصارع القبائل على المكتسبات الاقتصادية، لا سيما النفطية منها في الجنوب، والمكتسبات السياسية في البلاد، وذلك تزامناً مع ما ذُكر سلفاً في هذا الصدد.
ثانياً: واقع التفاعل بين القوى الإسلامية والدولة في نيجيريا وقضاياه:
لما كان الإسلام دين الأكثرية في نيجيريا، وبالرغم من ذلك ليس له ما يمثله بالدرجة نفسها في الواقع الرسمي النيجيري؛ تمخض الواقع الإسلامي في نيجيريا عن مظهرين رئيسين:
أحدهما: تنامي الحركات والقوى الإسلامية: المتمثلة في المؤسسات الدينية الإسلامية المعترف بها، وذات التأثير الواسع، والتي انعكس تأثيرها في الواقع السياسي عبر إعلان العديد من الولايات النيجيرية الشمالية تطبيق الشريعة؛ كأحد تداعياته – كما أُشير سلفاً -.
وثانيهما: الصدام بين الدولة النيجيرية والقوى الإسلامية: والذي تمخض عن تداعيات تأثير الجهاد الإسلامي في أفغانستان وغيرها، خصوصاً مع القدرة التي أظهرها نموذج «طالبان» على المقاومة، وكذا الصحوة الإسلامية؛ كأحد تدعيات الانهيار الاجتماعي والإخفاق الاقتصادي والصراع السياسي في العديد من بلدان العالم الإسلامي عامة، وفي إفريقيا خاصة، وتزامن ذلك مع تنامي النموذج الفكري للقاعدة في شمال إفريقيا، وكذا دول جنوب الصحراء إبان فترة إقامة زعيمها الشيخ «أسامة بن لادن» في السودان من عام 1991م حتى عام 1996م، والتي نُسب لها الهجوم على السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998م، كل ذلك تلاقى مع الوضعية الداخلية للمسلمين في نيجيريا، وما يُحيط بها من تحديات سياسية واجتماعية اقتصادية.
ويعبّر عن القوى الإسلامية الرافضة للحكومة في نيجيريا جماعة «طالبان بوني»، وكذا جماعة «بوكو حرام»، والأولى نشأت عام 2002م عندما قام عدد من الشباب الجامعي والعسكريين السابقين وبعض أصحاب المهن في الشمال النيجري بتأسيس «تنظيم أهل السنّة والجماعة»، واتخذت لنفسها معسكراً منعزلاً في الشمال النيجيري أسمته «أفغانستان»، أما التنظيم الثاني، والذي تنوّعت تسميته إعلامياً بين «بوكو حرام» ([13]) و «طالبان نيجيريا» و «جماعة التكفير والهجرة»؛ فقد تأسس على يد الشيخ «محمد يوسف» عام 2002م([14])، لذا يُطلق عليه بعض الناس اسم «اليوسفية»، ويصفهم نفر من علماء الإسلام في نيجيريا بالخوارج.
وتبنّت تلك الجماعة إطاراً فكرياً يستند إلى «النهج التكفيري»؛ معلنة محاربة مؤسسات الدولية «الكافرة» وسياساتها الفاسدة، والعمل على تطبيق الشريعة، وكذا تحريم التعليم الغربي الذي يؤدي – بناء على رؤيتها – إلى إضعاف المجتمع الإسلامي، وكذا السعي لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وقد تنامى تأثير «بوكو حرام» في معظم ولايات الإقليم الشمالي المسلم لنيجيريا، مثل بورنو ويوبي وكاتسينا وكادونا وكانو([15]).
وقد مرت العلاقة بين الحركات الإسلامية (ممثلة في أشهرها «بوكو حرام») والحكومة في نيجيريا بمرحلتين، هما: مرحلة الانكفاء على الذات للبناء والتشكّل، ومرحلة المواجهة والصدام.
المرحلة الأولى: الانكفاء على الذات للبناء والتشكّل:
استندت المرحلة الأولى إلى أربعة محاور رئيسة:
1 – فك الارتباط رسمياً مع مؤسسات الدولة النيجيرية على المستويات كافة، وبدأت بولاية يوبي عام 2006م، حيث أكد مجلس شورى الجماعة في بيان له بتحريم دعم أعضائها، وتأييدهم للحكومة لتناقض مؤسساتها مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
2 – تأسيس ذراعً إعلاميً للجماعة معتمداً على حماسة الخطاب الديني لمؤسسها وجاذبيته، وتأسيس مسجد «ابن تيمية» للعمل من خلاله على نشر الدعوة.
3 – تأسيس هياكل مؤسسية إسلامية تابعة للجماعة على كل المجلات، كالحسبة والنقابات والألوية العسكرية والزراعة والتمويل والقضاء، لخدمة أعضاء الجماعة.
4 – اعتماد ترتيب هرمي للإدارة عبر تعيين أمراء يدينون بالولاء والطاعة لأمير الجماعة، وذلك بالولايات الشمالية في نيجيريا، وكذا بعض دول الجوار الجغرافي كتشاد والنيجر.
أما المرحلة الثانية: مرحلة المواجهة والصدام خصوصاً في يوليو / 2009م:
فهي الأكثر تأثيراً في المستوى المحلي والدولي؛ بسبب التورط المباشر في أعمال عنف وعمليات اغتيال، وكذا عمليات انتحارية في ولايات بوتشي وكانو ويوبي وبورنو، انتهت بمقتل الشيخ محمد يوسف مؤسس الجماعة عقب اعتقاله في أحد مراكز الشرطة في 30 يوليو / 2009م، وأدت إلى توسيع دوائر المواجهة مع الحكومة النيجرية، ونقلها من الولايات الشمالية إلى العاصمة أبوجا في 16 يونيو / 2011م، وذلك بعد الهجوم الانتحاري على مركز الشرطة بالعاصمة، وهو ما يمثّل تطوراً لافتاً، حيث إنه الأول من نوعه في تاريخ الدولة النيجريية، ومن جهة أخرى سرعة اتجاه الجماعة ورغبتها في توسيع دوائر عملها، وهو ما قد ينتهي بتداعيات إقليمية خطيرة كما سيرد لاحقاً.
ثالثاً: التداعيات السياسية للانتخابات العامة في 2011م على واقع التفاعل بين القوى الإسلامية والدولة في نيجيريا:
شهدت نيجيريا في شهر أبريل / 2011م الانتخابات العامة على مستويات رئاسة الدولة لمدة أربعة سنوات جديدة، وكذا السلطة التشريعية المتمثلة في مجلسي الشيوخ والنواب لمدة مماثلة، وذلك في أعقاب وفاة رئيس الدولة «عمر يارادوا» المنتمي لقبائل الهوسا في مايو من عام 2010([16])، واستلام نائبه «جودلاك جونثان» مقاليد الحكم حتى موعد الانتخابات الرئاسية([17])، وقد كان لتلك الانتخابات تداعيات سياسية خطيرة على مستقبل العمل السياسي في نيجيريا.
وقد أًجريت الانتخابات لعامة التشريعية على مجلس الشيوخ البالغ عدد مقاعده 109 مقعداً، ومجلس النواب البالغ عدد مقاعده 360 مقعداً في 9 أبريل / 2011م، وقد حصد حزب People’s Democratic Party (PDP) على الأغلبية في كلا المجلسين؛ بعدد 45 مقعداً بمجلس الشيوخ، و 123 مقعداً في مجلس النواب، وهو حزب الأغلبية نفسه في برلمان 21 أبريل / 2007م، بعدد 87 مقعداً بمجلس الشيوخ، و 263 مقعداً بمجلس النواب، ويليه Action Congress of Nigeria (ACN) بعدد 13 مقعداً بمجلس الشيوخ، و 47 مقعداً بمجلس النواب، وهو الحزب الذي لم يكن له وجود في تمثيل برلمان 2007م، ويليه ثالثاً حزب All Nigeria People’s Party (ANPP) بعدد 7 مقاعد بمجلس الشيوخ، و 25 مقعداً بمجلس النواب، وهو الحزب الذي حل ثانياً في برلمان 2007م بعدد 14 مقعداً بمجلس الشيوخ، و 63 مقعداً بمجلس النواب، وحل رابعاً حزب Congress for Progressive Change (CPC) بعدد 5 مقاعد بمجلس الشيوخ، و 30 مقعداً بمجلس النواب، وهو الحزب الذي لم يكن له وجود في برلمان 2007م، وقد تم إرجاء الانتخابات التشريعية في عدد 15 دائرة بمجلس الشيوخ، و 48 دائرة بمجلس النواب، حيث تُعقد في وقت لاحق لوجود مشكلات لوجستية بها طبقاً للبيانات الرسمية.
أما الانتخابات الرئاسية التي عُقدت في 16 أبريل / 2011م فهي الأكثر تأثيراً وأهمية، حيث بلغت نسبة المشاركة فيها 53,7% بإجمالي أصوات 39,469,484 ؛ منها 1,259,506 صوت غير صحيح، و 38,209,978 صوت صحيح، وذلك من إجمالي هيئة ناخبة مسجلة تبلغ 73,528,040 ناخب.
وقد خاض الانتخابات الرئاسية عشرون مرشحاً، حُسمت من الجولة الأولى لصالح مرشح حزب الأغلبية البرلمانية (PEP) Goodluck Jonathan – نائب الرئيس (53 عاماً)، وهو من الجنوب حيث ينتمي إلى قبيلة الإيجاو، وهي مجموعة عرقية في الإقليم الجنوبي الشرقي، وهو أحد أقاليم نيجيريا السياسية الستة، وهي إحدى العرقيات الثلاثة الكبرى التي تحتكر العمل السياسي في البلاد، وهم الهاوسا فولاني، الإيبو، واليوروبا – كما ذُكر سلفاً -.
وكانت المساومات العرقية المعقدة هي التي انتهت ب«يارادوا» للحكم في 2007م، و «جونثان» في 2011م في انتخابات رئاسية متحفظ عليها من قِبل المعارضة([18])، حيث جرت المساومات غير الرسمية بين السياسيين من الشمال والجنوب بناءً على الاتفاق غير الرسمي الذي أبرمه حزب الشعب الديمقراطي لتدوير السلطة بين الشمال والجنوب، والذي يعني ضمناً أن مناطقهم ما زالت تستحق خمسة أعوام أخرى في تولي المنصب، حيث زعم ساسة الشمال على أية حال أن «أولوسيجون أوباسانجو» – سلف «يارادوا» المنتمي للشمال – من الجنوب الذي تقطنه أغلبية مسيحية، تولى السلطة الرئاسية لمدة ثماني سنوات من دون انقطاع، ومن ثم كان ترشح «جودلاك» يعني الإخلال بهذا الاتفاق من وجهة نظر الشماليين([19]).
وقد حصد «جودلاك» أصواتاً بنسبة 58,89%؛ بإجمالي أصوات 22,495,187، والذي فاز بأكثر من 25% من الأصوات في أكثر من ثلثي الولايات، وهذا ما أتاح له الفوز من الدورة الأولى([20])، وقد حلّ في المركز الثاني محمد بخاري Muhammadu Buhari – وهو جنرال سابق يبلغ من العمر 69 عاماً، وقد حكم نيجيريا في الفترة من 1984م إلى 1985م عبر انقلاب عسكري، وهو مسلم من الشمال الذي يتمتع فيه بشعبية كبيرة – مرشح حزب Congress for Progressive Change (CPC) الذي حلّ رابعاً في انتخابات برلمان 2011م([21])، وذلك بنسبة 31,98% بإجمالي أصوات 12,214,853([22]).
وتتمثل التداعيات السياسية لانتخابات الرئاسة النيجيرية عام 2011م في طعن حزب المعارضة الرئيسي في نيجيريا رسمياً في نتائج تلك الانتخابات، وهو ما دفع «اليوز بيترلي» – رئيس فريق الملاحظين المبعوث من الاتحاد الأوروبي – إلى القول: «نحن نعلم أن كل أو بعض الأحزاب ليست راضية عن نتيجة الانتخابات، لكن نود تشجيع كل المتنافسين على السير في الطرق القانونية للتعبير عن آرائهم».
وقد أدى ذلك إلى نتائج سياسية خطيرة، تمثّلت في اندلاع أعمال عنف في مناطق العاصمة أبوجا، وشمال البلاد التي تقطنها الأغلبية المسلمة، خصوصاً في ولايات كانو، وكادونا، وسوكوتو، بين قوات الشرطة والمحتجين من أنصار المعارضة([23])، وهو ما أدى إلى سقوط قتلى، سرعان ما اتسع نطاقها لتشمل إحراق متبادل لدور العبادة للمسلمين والمسيحيين، أسفرت عن إعلان الصليب الأحمر عن نزوح أكثر من 15,000 مواطن([24]).
وقد دعا الرئيس المنتخب «جودلاك جونثان» Good luck Jonathan في أعقاب تبادل أعمال العنف، وإحراق المساجد والكنائس بين المسلمين والمسيحيين، الزعماءَ السياسيين والدينيين إلى إدانة تلك الأعمال، وكذا وعد بتقديم مساعدات وإجراء إصلاحات في نيجيريا، في حين دعا منافسه الجنرال محمد بخاري إلى التهدئة، ووقف أعمال العنف، ووعد أنصاره باتباع القنوات الشرعية للاحتجاج على نتائج الانتخابات([25]).
إلا أن ذلك لا ينفي بعض الخصائص ذات الصلة بتلك الانتخابات وتداعياتها السياسية على نيجيريا عامة، ومسلميها خاصة:
وأول هذه الخصائص: أن العديد من البلدان الإفريقية، ومنها نيجيريا على وجه الخصوص، ما زالت تعتمد آلية التحوّل الديمقراطي الشكلي كمخرج لحلٍّ توافقي، لا يعكس موازين القوى السياسية الفعلية على أرض الواقع؛ بقدر ما يعكس من المساومات السياسية والقبلية المعقدة، وما يدلل على ذلك نتائج الانتخابات الأخيرة، وكذا استمرار مفردات خريطة النظام السياسي النيجيري – بصرف النظر عن ديانة المرشح للرئاسة – كما هي.
ثاني تلك الخصائص: هي نسب المشاركة المرتفعة نسبياً في تلك الانتخابات، وهو ما يجد تفسيره في نظم التحوّل الديمقراطي الشكلي، ومنها نيجيريا، في سببين رئيسين:
1 – تأثير التعبئة الإثنية والدينية على نتائج الانتخابات.
2 – يميل إلى ناحية حقيقة وجود مخالفات شابت عمليات الانتخابات، منها تزويرها، وذلك استناداً لادعاء المعارضة في نيجيريا تزوير الانتخابات.
أما الخصيصة الثالثة: فتتمثّل في أن أعمال العنف كانت وما زالت السمة الغالبة لتداعيات العملية الانتخابية في نيجيريا، خصوصاً في ظل عدم قدرة التحالفات السياسية القبلية على تحقيق رضا المواطن النيجيري عامة، ومسلمي نيجيريا على وجه الخصوص.
أما رابع تلك الخصائص: هو أن إشكالية الانقسام والاستقطاب الإثني، كعامل للحسم في العملية السياسية في نيجيريا، هي إشكالية مركبة ومعقدة لتوازيها مع الانقسام الديني الجغرافي بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة، والجنوب ذي الأغلبية المسيحية.
أما خامس تلك الخصائص: فهو استمرار تأثير المؤسسة العسكرية كعامل حاسم في العملية السياسية النيجيرية؛ إما عبر الدفع ببعض رموزها لصدارة العملية السياسية المنظمة عبر الانتخابات سواء مسلمين أو مسيحيين، وإما عبر الانقضاض على العملية السياسية كلها، ومحاولة إعادة توزيع الأدوار السياسية من جديد عبر آليتها المعتمدة المتمثلة في «الانقلاب العسكري».
أما آخر تلك الخصائص: فيتمثل في أن الموقف الدولي من نتائج الانتخابات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بخصوصية الدولة النيجيرية الغنية نفطياً، والمنقسمة عرقياً، والمتصارعة دينياً.
رابعاً: تحديات واقع التفاعل بين القوى الإسلامية والدولة في نيجيريا:
يواجه مسلمو نيجيريا اليوم تحديات من التركيب والتعقيد بمكان؛ لاتصال الداخل النيجيري المضطرب؛ بالموقف الإقليمي المعقد؛ في ظل الاهتمام الدولي المتزايد.
ويمكن إجمال تلك التحديات في الآتي:
التحدي الأول: إشكالية تواضع تأثير الإسلام سياسياً في نيجيريا:
على الرغم مما للإسلام من وضعية مهمة في الواقع النيجيري – كما أُشير سلفاً -؛ فإن ذلك لم ينتج عنه تأثير مماثل في المعادلة السياسية.
ومن ثم يمكن إرجاع تواضع تأثير الإسلام في نيجيريا سياسياً إلى عدد من العوامل التي تشكّل أبرز المشكلات التي تواجهه، ومنها:
– تنامي نشاطات الجمعيات التنصيرية والتغريبية بشكل ممنهج ومنظم، والتي تتجاوز عدد مائة منظمة وجمعية خاصة.
– وأن ما يقرب من 75% من المسلمين أمّيون، خصوصاً مع غياب إعلام إسلامي مؤثر في نيجيريا، حتى إن الحركات الإسلامية كلها ليس لها وجود إعلامي سياسي واسع، وتقتصر نشاطاتها على المدارس والمساجد فقط، باستثناء القليل منها، مثل «جماعة تعاون المسلمين»، والتي أسست مركزاً إعلامياً في ديسمبر عام 2005م باسم «مركز القدس الإسلامي للإعلام».
– ناهيك عن وضعية المدارس العربية في نيجيريا، فهي غير معتمدة حكومياً منذ إلغاء تطبيق الشريعة واللغة العربية على يد المستعمر البريطاني، وهو ما ينعكس على وضعية المسلمين الاقتصادية والسياسية في الجهاز الحكومي للدولة([26]).
– كما يرتبط تواضع تأثير الإسلام سياسياً في نيجيريا بأحد مسبباته، وهو طبيعة «الدور الشيعي»، فعلى الرغم من أن عددهم – تبعاً للمصادر الشيعية في نيجيريا – 4 ملايين([27])؛ فإن الصدام المستمر بين الشيعة والسنّة، والذي سرعان ما يتطور لأعمال عنف، يُعد أحد معوقات التأثير الإسلامي السياسي في نيجيريا، عبر الاستهلاك في مواجهات بينية، ومنها أعمال العنف التي شهدتها مدينة سوكوتو الشمالية في أبريل 2005م بعد تنظيم الشيعة لمسيرة للاحتفال بعيد المولد النبوي في المدينة التي يسكنها الأغلبية السنّية([28]).
ومن ثم؛ فإن تنسيق الجهود الإسلامية في العالم السنّي، على المستوى الرسمي وغير الرسمي، إنما تُعد – بحق – أحد آليات الارتقاء بتلك الوضعية، فعلى الرغم من الجهد الحثيث لدعم وضعية المسلمين في نيجيريا على المستوى التعليمي وغيرها؛ فإن فردية تلك الجهود ينال من تأثيرها.
التحدي الثاني: إشكالية إدارة التعددية العرقية والطائفية النيجيرية:
تُعد إشكالية إدارة التعددية العرقية والطائفية تحدياً أصيلاً في بناء الدولة في نيجيريا، لأن المفردات المكوّنة للخريطة النيجيرية (والتي يربو سكانها على 150 مليون نسمة) معقدة، فالمساحة الجغرافية كبيرة (تزيد عن 900 ألف كيلو متر مربع)، وبها مجموعات عرقية تتجاوز 250 مجموعة، وثروة نفطية تُعد هي الأكبر في إفريقيا، وتطلعات انفصالية متزايدة سواء في بيافرا سابقاً، أو دلتا نهر النيجر حالياً، وتمايز ديني يُعد هو الأضخم في إفريقيا أيضاً، وذلك في إطار اهتمام دولي متزايد، كل ذلك يجعل من بناء الدولة وإدارتها في نيجيريا يشكّل تحدياً كبيراً أمام عدم إقصاء أي فريق ديني أو سياسي أو إثني، وهو ما يسعى الساسة في نيجيريا إلى تجاوزه عبر مساومات سياسية، إلا أن تلك المساومات مؤقتة بطبيعتها؛ لعدم قدرتها على تحقيق معادلة حل دائم ومتوازن؛ تحقق طموحات الغالبية المسلمة في نيجيريا، وهو ما يُفسر الإخفاق السياسي المتعاقب في الداخل النيجيري([29]).
التحدي الثالث: إشكالية تقاسم الثروة والسلطة:
تمثّل إشكالية تقاسم الثروة والسلطة أحد المعوقات الرئيسة في بناء الدولة الإفريقية، ولا تمثّل حالة نيجيريا استثناء على هذا الأصل، وتتجسد تلك الإشكالية في نيجيريا في أزمة دلتا نهر النيجر، وهي تلك المنطقة الواقعة في الجنوب النيجيري، وتشمل ولايات «أبيا»، «وأكوا إيبوم»، و«بايلسا»، و«كروس ريفر»، وولاية «الدلتا»، وولاية «إدو»، و«إيمو»، و«أوندو»، و«ريفرز»، ويسكنها ما يقرب من 20 مليون نسمة ينتمون لأكثر من 40 مجموعة عرقية، وأكبر المجموعات العرقية هي «الإيجاو» التي ينتمي إليها الرئيس الحالي في نيجيريا «جودلاك جونثان»، ومن ثم فإن أزمة دلتا النيجر، وإن تفاقمت في عام 2006م مع الهجمات وعمليات التخريب التي تقوم بها «حركة تحرير دلتا النيجر- MEND» برئاسة «هنري أوكادا»، فإن لتلك الأزمة جذور عميقة في الواقع النيجيري، خصوصاً مع استقلال الدولة النيجيرية، وتسارعت حدة وتيرتها في تسعينيات القرن الماضي، وتفاقمت مع عام 2006م مع التنافس الصيني – الأمريكي – البريطاني على نفط دلتا النيجر([30]).
إلا أن تولي «جودلاك جونثان» (المنتمي لدلتا النهر) عبر مساومات سياسية أدت لانتخابات معيبة في نظر البعض، يدعم الاتجاه الزاعم أن ذلك محاولة لاحتواء أزمة دلتا النيجر، وإشكالية غياب التنمية من عوائد النفط، وذلك باستيعابها سياسياً، مما يهدد الثقل السياسي التقليدي لقبائل الهوسا المسلمة في مقابل القبائل المسيحية، وبخاصة القاطنة في دلتا النهر، وهو ما يعني محاولة حل الأزمة على حساب الأغلبية المسلمة كبديل عن الصدام المسلح بين حركة تمرد النهر والحكومة المركزية، ومن ثم عدم انفصال دلتا النيجر([31]).
التحدي الرابع: تداعيات تنامي القوى الإسلامية، واحتمالات التدخل الدولي:
تعد إشكالية تنامي القوي الإسلامية في إفريقيا عامة، ونيجيريا خاصة، أحد المحددات الرئيسة في سياسة الخارج تجاه الداخل النيجيري، وكذا تعاطي الداخل الرسمي مع المشكلات المزمنة في الواقع النيجيري.
ففي ضوء اعتبارات حجم الأغلبية النيجيرية المسلمة، وكذا الثروة النفطية العظيمة، خصوصاً في دلتا النيجر، حيث تُعد نيجيريا المنتج الأول للنفط في إفريقيا، فإن اهتمام الخارج ممثلاً في تنافس القوى الكبرى على النفط النيجيري، والتي تمثّلها كبرى شركات النفط العالمية «شل» و «إكسون» و «شيفرون» و «توتال» الفرنسية، و «شركة البترول الوطنية الصينية المحدودة» ([32])، أحد التحديات الرئيسة التي تهدد دعم الجهود الإسلامية في نيجيريا، إما باحتمالات التدخل المباشر أو غير المباشر في الداخل النيجيري، وما يدعم هذه الفرضية ما أعلنه الجنرال «كارتر هام» – قائد القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا (أفريكوم)- من «أن دول شمال إفريقيا تواجه تهديداً إرهابياً متعاظماً من جانب مجموعات موالية لتنظيم القاعدة، فتنظيم القاعدة وإن ضعف بعض الشيء ولكن فروعه المحلية، سواء تلك التي أعلنت انتماءها إليه، أو تلك التي تسعى خلف هذا الانتماء، تبدو آخذة في التمدد، هذا ما ألاحظه في إفريقيا وهذا أمر يقلقني»، حيث حدّد ثلاثة من تلك التنظيمات، هي: «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، و «حركة الشباب الصومالية الإسلامية»، و «جماعة بوكو حرام الإسلامية»([33]).
خامساً: سيناريوهات لحل أزمة المثلث (الديني – السياسي – النفطي) في نيجيريا؛ الآليات والتكلفة:
إن المثلث (الديني – السياسي – النفطي) يشكّل محور أزمة الدولة النيجيرية، بما ينال من حقوق الأغلبية المسلمة فيها على تلك المستويات لترابطها الدائري، حيث يؤثر كلٌّ منهم في الآخر إيجاباً وسلباً، ومن ثم فالمساومات السياسية المؤقتة بطبيعتها، والتي ترتبط بمتغيرات العملية السياسية في الواقع النيجيري لا يمكنها بطبيعة الحال أن تنهض حلاً لخلل هيكلي في بناء الدولة النيجيرية؛ تراكم على مدار عشرات السنين مُخلفاً آثاراً عميقة في الهوية النيجيرية، مما انعكس سلباً على الأغلبية المسلمة في البلاد، وهو ما يتم تزكيته عبر التدخلات الخارجية، ومنها التمويلية للحركات التنصيرية، والدعم الإيراني لشيعة نيجيريا، والنشاط الإسرائيلي المتزايد، ومن ثم يسعى أطراف عديدون داخلياً وخارجياً بالفرقاء النيجيرين؛ إما إلى خيار الانفصال – وحالة السودان ما تزال ماثلة -، وإما إلى إيجاد معادلة سياسية تسمح بتولي الأقلية المسيحية على رأس النظام السياسي على عكس الواقع الديمغرافي – كحالة إريتريا -.
ومن ثم؛ يكمن المخرج في الإدارة الفعالة للتعددية الطائفية والإثنية في نيجيريا؛ عبر عكسها للواقع الديموغرافي في نيجيريا؛ من خلال تفعيل صيغة عادلة من الفيدرالية – كالحالة الأمريكية -، أو التوافقية – كالحالة اللبنانية -، أو وصولاً لصيغة كونفيدرالية، إلا أن أيّاً من تلك الأنماط يجب أن ينظر للبعد الديني، والاقتصادي (النفطي بخاصة)، وأخيراً السياسي.
وبالإشارة للصيغة الفيدرالية لتقاسم الثروة النفطية النيجيرية حتى عام 2001م طبقاً لتقارير البنك الدولي؛ فإنها تعكس تباين الصيغة الفيدرالية لتقاسم الثروة النفطية في فترات الحكم العسكري والمدني، ومن ثم؛ فإن صيغة 50/50 بين الحكومة المركزية والولايات هي الأنسب؛ لإعطاء القدرة للحكومات المحلية على تحقيق التنمية الذاتية، ولإتاحة القدرة للحكومة المركزية للإنفاق على الولايات غير النفطية.
أما البعد الديني / السياسي؛ فهو يتطلب حرية الولايات في تقرير تشريعاتها الخاصة، وعلى الحكومة المركزية إيجاد صيغة سياسية لتقاسم المناصب السياسية؛ تعبّر عن الواقع العددي للفرقاء النيجيريين، فبناء دولة نيجيرية متماسكة، تُبنى على التقاسم السياسي والديني والاقتصادي؛ إنما هو في مصلحة الجميع.
ــــــــــــــــ
الهوامش والإحالات:
[1] أحمد حسين الشيمي: المسلمون في أنجولا بين التمييز الداخلي والغياب الإسلامي، مقال منشور على موقع «هدي الإسلام»، بتاريخ 14 فبراير / 2010م، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles%2Farticle&id=15224 (3/11/2011)
[2] أحدث الإحصاءات الغربية بناء على مكتبة المخابرات المركزية الأمريكية في يوليو / 2011م، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/ni.html#People (12/9/2011)
[3] http://www.islamicpopulation.com/nigeria_muslim.htm (12/9/2011)
[4] شفيق شقير: تطبيق الشريعة الإسلامية في نيجيريا، مقال منشور على «الجزيرة نت»، بتاريخ 1/11/2004م، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/52097787-6DAB-475B-BA53-57A9FD020A6D.htm (10/9/2011)
[5] أمين شحاتة: المؤسسات الإسلامية في نيجيريا، مقال منشور على «الجزيرة نت»، بتاريخ 22/11/2004م، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/AF3694B7-62FB-4AC8-BDAD-D998C70CECFF.htm (10/9/2011)
[6] http://www.ikhwanonline.com/new/Article.aspx?SecID=342&ArtID=90293 (15/9/2011)
[7] الموقع الرسمي للسفارة الإسرائيلية في نيجيريا، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://abuja.mfa.gov.il/mfm/web/main/document.asp?SubjectID=107091&MissionID=20397&LanguageID=0&StatusID=0&DocumentID=-1 (22/11/2011)
[8] أميرة محمد عبد الحليم: غبر إفريقيا ساحة لمواجهة بين إيران وإسرائيل، مقال منشور في مختارات إيرانية، ومتاح في «بوابة الأهرام الرقمية» عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=96751&eid=122 (22/11/2011)
[9] http://www.alroeya-news.net/political/world/12383-12383.html
[10] السيد عوض عثمان: دلالات وتحديات تصاعد المد الشيعي الإيراني في غرب إفريقيا، مقال متاح على شبكة «أنا المسلم للحوار الإسلامي»، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://muslm.net/vb/showthread.php?p=2678190
[11] بدر حسن شافعي: الإسلاميون في نيجيريا من الصوفية إلى بوكو حرام (1 – 2)، مقال منشور على «إسلام أون لاين»، بتاريخ عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.islamonline.net/cs/ContentServer?packedargs=locale%3Dar&c=IOLArticle_C&childpagename=IslamOnline%2FIslamOnlineLayout&p=adam&pagename=IslamOnlineWrapper&cid=1278408880318
[12] داوود عمران ملاسا: نيجيريا أكبر دولة إسلامية مستهدفة في إفريقيا، مقال منشور على «الأولكة نت»، عبر الرابط الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.alukah.net/World_Muslims/0/21080/#ixzz1XfQPBhWJ
[13] تعود أصل تسمية الجماعة بـاسم «بوكو حرام» إلى كلمة «بوكو» بلغة الهوسا الذين يشكّلون ما يربو على 70% من سكان الشمال النيجيري، والتي تعني «التعليم الغربي»، وبالترجمة اللفظية لاسم الجماعة تعني «التعليم الغربي حرام». .
[14] الشيخ محمد يوسف: ترك التعليم النظامي في سن مبكرة، وحصل على تعليم ديني غير نظامي، وكان قبل تأسيسه لجماعته قائداً للشيعة بولاية برنو – وهي إحدى أكبر ولايات الشمال الإسلامية -، حتى أوائل التسعينيات .. ثم تحوّل للمذهب السنّي، وقد توفي على إثر الهجمات الحكومية على معاقل الجماعة واعتقال عدد كبير من أفرادها، وذلك عن عمر 39 عاماً، ويمكن الرجوع لمزيد من المعلومات إلى الرابط الإلكتروني الرسمي الخاص بالجماعة الإسلامية بمصر، عبر الرابط الآتي: http://www.egyig.com/Public/articles/recent_issues/6/49201574.shtml
[15] حمدي عبد الرحمن حسن: بوكو حرام.. والطريق إلى دولة الإمارة في نيجيريا، مقال منشور على صحيفة الاقتصادية الإلكترونية يوم 8 يوليو / 2011م، العدد 6479، عبر الرابط الإلكتروني الآتي: (13/9/2011م) http://www.aleqt.com/2011/07/08/article_556957.html
[16] هو الحاج عمر موسى يارادوا، توفي عن عمر (58 سنة)، وكان حاكماً لولاية كاتسينا بالناسك، وابتعد عن الأضواء القومية؛ بالرغم من أنه غيّر وجه ولايته في مجال التعليم، حتى عندما طبقت ولاية كاتسينا – الشريعة الاسلامية – في 2002م – أي في عهده؛ فإنها قامت بذلك بطريقة لم تثر غباراً – كما حدث في ولايه زامفرا وغيرها من ولايات الشمال -، كان عمر معلماً للكيمياء، ورئيساً لقسم العلوم والرياضة في معهد البوليتيك بولاية كاتسينا قبل أن يصبح حاكماً للولاية في عام 1999م.
http://arabic.euronews.net/2011/04/09/second-attempt-at-nigerian-election/
[17] http://arabic.euronews.net/2011/04/09/second-attempt-at-nigerian-election/ (31/7/2011)
[18] آيكي أوكونتا: نيجيريا والسير المترهل نحو بناء الدولة، مقال منشور بتاريخ 1/6/2011م، على الموقع الإلكتروني project-syndicate. ، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.project-syndicate.org/commentary/okonta10/Arabic (17/9/2011)
[19] دورية «آفاق إفريقية»، العدد 25 – صيف 2007م، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.sis.gov.eg/ar/Story.aspx?sid=3514
[20] http://arabic.euronews.net/2011/04/19/violence-follows-nigerian-presidential/
[21] http://arabic.euronews.net/2011/04/16/nigeria-votes-for-a-new-president/ (31/7/2011)
[22] http://arabic.euronews.net/2011/04/17/presidential-count-underway-in-nigeria/ (31/7/2011)
[23] http://arabic.euronews.net/2011/04/18/jonathan-appeals-for-an-end-to-nigerian-violence/ (31/7/2011)
[24] قاعدة بيانات الانتخابات في إفريقيا جنوب الصحراء، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://africanelections.tripod.com (29-07-2011)/
[25] جريدة الأهرام، العدد 45573، بتاريخ 15/9/2011م.
[26] علي عبد العال: إسلاميو نيجيريا.. تقاطع الحركية والطرق والصراع المذهبي، مقال منشور على موقع «منارات إفريقية»، بتاريخ 7/7/2010م، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.islam4africa.net/index.php/manarate/index/12/13
[27]منتدى مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.m-mahdi.com/forum/showthread.php?8807-%DA%CF%CF-%C7%E1%E3%D3%E1%
E3%ED%E4-%C7%E1%D4%ED%DA%C9-%DD%ED-%E4%ED%CC%ED%D1%ED%C7-4-%E3%
E1%C7%ED%ED
[28] البينة: الموسوعة السنية في الشيعة الإثنا عشرية، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.albainah.net/Index.aspx?function=Item&id=5436&lang=
(25) Mohammad J. Kuna “,” Religion, Identity and National Integration in Nigeria “, Nigerian Journal of Policy and Strategic Studies, 17: 2, Pp. 29-47 ، 2005 29-47, 2005.
[30] دلتا النيجر وجراحات المسلمين في نيجيريا، مقال منشور بتاريخ 28/1/2010م، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.alsalafway.com/cms/print.php?id=9396
[31] توفيق المديني: تداعيات الصراع على النفط في نيجيريا، مقال منشور بجريدة الثورة السورية، بتاريخ 23/4/2010م، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://thawra.alwehda.gov.sy/_kuttab_a.asp?FileName=101172413020100422203550 (18/9/2011)
[32]http://www.marefa.org/index.php/%D8%AF%D9%84%D8%AA%D8%A7_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D8%AC%D8%B1 (18/9/2011)
[33] http://arabic.euronews.net/2011/04/21/nigeria-recriminations-over-violence/