تُعد أثيوبيا؛ بموقعها الجغرافي ، واحتضانها مؤسسات أفريقية مهمة ، بما في ذلك الاتحاد الإفريقي ، وعدد سكانها الذي يتجاوز 110 مليون نسمة ، بمثابة دولة محورية في القرن الإفريقي لا يمكن التفريط فيها من قبل الدول الكبرى والمتوسطة الطامحة في اكتساب النفوذ في المنطقة. لم يكن مستغربا أن يحظى رئيس الوزراء آبي أحمد بحفاوة بالغة من قبل الإدارة الأمريكية أثناء قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي عقدت في واشنطن العاصمة من 13 إلى 15 ديسمبر 2022. وعلى الرغم من حرب التيغراي وتداعياتها الداخلية والإقليمية والتأثيرات السلبية للصراعات الإثنية والعرقية، إضافة إلى تداعيات التغير المناخي تعمد أديس أبابا إلى أن تصبح بوابة شرق أفريقيا ونجم المنطقة الصاعد من خلال تغيير معادلة القوة الجيوستراتيجية في المنطقة الأكبر التي تشمل حوض النيل لصالحها. فما هي ملامح هذه التحولات الكبرى ؟ وهل تصبح أثيوبيا رغم كل العوائق قطب إقليمي بارز؟
الترويج لسردية الاستثنائية الأثيوبية:
على الرغم من هشاشة الدولة الوطنية الأثيوبية التي قامت على التوسع وضم الأراضي ولاسيما في عهد منليك الثاني فقد عمدت النخب الحاكمة إلى استخدام سرديات وأساطير متعددة لتأسيس مفهوم الهوية والأمة الأثيوبية الجامعة. ولعل من أبرز تلك السرديات مفاهيم الاستثنائية الأثيوبية وحركة الأثيوبيانية التي بدأت في ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما قام عمال الإرساليات في جنوب إفريقيا بتشكيل كنائس أفريقية مستقلة بالكامل. اشتق مصطلح الأثيوبيانية من الكتاب المقدس (حيث يشار إلى إثيوبيا أيضًا باسم كوش) . وقد تم تعزيز استخدام المصطلح عندما هزمت إثيوبيا الإيطاليين في معركة عدوة في عام 1896. وبالتالي فقد مثلت الكلمة في المخيال الأفريقي العام كرامة إفريقيا ومكانتها المكتسبة وفقا للمعتقدات الدينية. لم يكن مستغربا أن يتم توظيف سد النهضة من حيث قيمته ودلالته الرمزية باعتباره انتصارا آخر يوازي معركة عدوة لإعادة تشكيل الوعي الوطني الإثيوبي ولاسيما في ظل تعدد الهويات الإقليمية المستندة على اللغة والعرق. بل ويتم ربطه بتقاليد الأثيوبيانية والكرامة الأفريقية . وهنا يمكن استعارة فكرة فوكوياما (2018) عن “الهوية الوطنية العقائدية” ، التي تعكسها المشاريع التنموية وتساعد في تحقيق القيمة الرمزية من خلال تمكين المواطنين بشكل بناء من التعرف على المثل العليا والأساطير المؤسسة لهويتهم المشتركة.
سلاح الطاقة الكهرومائية:
على الرغم من الاعتراضات المصرية والسودانية على سد النهضة فإن أثيوبيا تنفق مليارات الدولارات على تنفيذ العديد من مشاريع السدود المائية في محاولة لتلبية الطلب المحلي على الطاقة وزيادة تصدير الكهرباء إلى البلدان المجاورة على وجه الخصوص ؛ السودان وكينيا وجيبوتي. وتسعى إثيوبيا من خلال الاستثمار الضخم في هذا القطاع لربط تسع دول إقليمية في نهاية المطاف بشبكة كهرباء واحدة. مؤخرا أصبحت تجارة الطاقة النظيفة والرخيصة مجالًا مهمًا للتعاون عبر الحدود في القرن الأفريقي. وفقا لموقع سودان تربيون تصدر إثيوبيا حاليًا 254 ميجاوات من الكهرباء إلى جيبوتي والسودان.كما بدأت إثيوبيا بيع الكهرباء إلى كينيا ، بعد شهر واحد من توقيع الأخيرة اتفاقية مدتها 25 عامًا مع إثيوبيا لاستيراد 600 ميغاوات من الكهرباء. ولعل هذا الاتفاق الذي يستمر حتى عام 2047 يجعل إثيوبيا ثاني أكبر مصدر للطاقة الكهرومائية إلى كينيا. وسوف تقوم أثيوبيا ، وهي دولة حبيسة، بتوجيه عائدات الصادرات من أجل دفع تكاليف خدمات الموانئ في كل من جيبوتي و مومباسا الكيني.علاوة على ذلك ، تستعد إثيوبيا لبدء بيع الكهرباء إلى كل من إريتريا وجنوب السودان والصومال المجاورة. يعني ذلك أن اثيوبيا تأمل على المدى الطويل ، في أن تصبح مركزًا إقليميًا لتصدير الطاقة.
إثيوبيا في أجندة الأطراف الدولية الفاعلة:
لقد أضحت أثيوبيا خلال السنوات الماضية هدفا للمناورات الجيوسياسية من قبل أطراف دولية تسعى للهيمنة وكسب النفوذ من خلال تعزيز وجودها في القارة الأفريقية. وذلك على النحو التالي:
1– الصين .قامت بكين بزيادة استثماراتها بمليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية (النقل والطاقة والمشروعات الاجتماعية) في إثيوبيا ، بصفتها المستفيد الأكثر نفوذاً والحليف المحتمل لأديس أبابا . وقد حصلت إثيوبيا- الهضبة الحبيسة، من خلال علاقتها مع الصين ، ليس فقط على إمكانية الوصول إلى التمويل الائتماني ، ولكن أيضًا الوصول إلى البحر. لقد أضحت “البوابة البحرية” لإثيوبيا هي جيبوتي ، حيث تمتلك الصين قاعدة عسكرية وميناء دوراليه ، الذي توجد به محطات لتخزين النفط والبضائع والحاويات. كما استثمر بنك اكسيم الصيني 2.4 مليار دولار ؛ في إنشاء خط سكة حديد أديس أبابا – جيبوتي. وتقوم الصين بدور كبير في تمويل وبناء سد النهضة. وبالتالي ، تراهن الصين على إثيوبيا كأحد عناصر مبادرة الحزام والطريق. بالنسبة للصين ، يعتبر الاستقرار في الدولة التي تحتضن استثماراتها بشكل رئيسي أمرًا مهمًا ، لذلك لم يكن مستغربا أن تتخذ بكين صف القيادة الإثيوبية في المحافل الدولية وتدعمها بشكل غير مباشر في القتال ضد القوات المناهضة للحكومة (على وجه الخصوص ، من خلال تزويدها بالطائرات بدون طيار ) .
2– تركيا: تعد تركيا من الداعمين الآخرين لتعزيز مكانة إثيوبيا الإقليمية . ومن المعروف أن تركيا تحتل المرتبة الثانية من حيث الاستثمار في أثيوبيا ، حيث تزودها بالمساعدات الإنسانية والعسكرية والفنية. بالإضافة إلى ذلك ، تقوم أنقرة بتنفيذ أدوات “القوة الناعمة” في إثيوبيا ، وتعزيز المشاريع التعليمية من خلال منظمة التعاون والتنسيق التركية ، فضلاً عن تطوير العلاقات الثقافية مع المناطق الإثيوبية التي تقطنها أغلبية مسلمة . ولا تزال أنشطة الاستخبارات في إثيوبيا مهمة بالنسبة لتركيا، إذ من خلال تعزيز العلاقات مع إثيوبيا ، تعمل تركيا على تكثيف وجودها في المنطقة دون الاصطدام المباشر مع الصين. كما تهتم أنقرة بتعزيز قوة إثيوبيا في مواجهة كل من السودان ومصر ، وهو ما يفسر بشكل خاص الدعم التركي لمشروع سد النهضة.
3– الولايات المتحدة :لا تزال واشنطن تنوي مواصلة تطوير العلاقات مع إثيوبيا ، في المقام الأول على أسس إنسانية واقتصادية. شارك وفد برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد في محادثات ودية مع كبار المسؤولين الأمريكيين ، بما في ذلك الرئيس جو بايدن ، خلال زيارته للولايات المتحدة لحضور قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا 2022 التي اتفق فيها الجانبان على تكثيف العلاقات الثنائية التي تعود إلى قرن من الزمان.كما أجرى الوفد الأثيوبي محادثات مفيدة مع كبار المسؤولين في صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي على هامش القمة فيما يتعلق بدعم المؤسسات للإصلاح الجاري في إثيوبيا وكذلك الحاجة إلى تسوية الديون. جاء الاجتماع بعد يوم من موافقة مجلس إدارة مجموعة البنك الدولي على منح 745 مليون دولار لإثيوبيا. كما أجرى الوفد الأثيوبي كذلك محادثات مع أعضاء مجتمع الاستثمار الأمريكي حول فرص الاستثمار غير المستغلة في إثيوبيا. يُعزى التحسن في العلاقات إلى اتفاق السلام الموقع في نوفمبر 2022 بين الحكومة الفيدرالية لإثيوبيا وجبهة التيغراي والذي قامت فيه الولايات المتحدة بدور الوسيط. ومع ذلك ، من غير المرجح أن تكون السياسة الأمريكية قادرة على مقاومة التقارب بين إثيوبيا والصين ، والذي سيتعين على واشنطن الاصطدام به في منطقة القرن الأفريقي في المستقبل القريب.
4- روسيا. بذلت روسيا خلال العقد الماضي جهودًا كبيرة لتعزيز وجودها في إثيوبيا. ألغت موسكو ديون إثيوبيا التي تقدر بملايين الدولارات ، كما تدعم أديس أبابا في اجتماعات الأمم المتحدة. كان الوفد الروسي إلى جانب إثيوبيا في قضايا سد النهضة والصراع في التيغراي (حيث اعترفت موسكو بأنه نزاع سياسي داخلي وهو ما يبرر إمدادها بالأسلحة). وتحاول روسيا موازنة النفوذ الأمريكي في المنطقة ، من خلال تطلعها لإنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في البحر الأحمر على أراضي السودان بالقرب من إثيوبيا. ومما يدعو للتامل أن وفدا من البحرية الروسية قام في فبراير 2022 بزيارة عمل إلى مقر البحرية الإثيوبية والتقى بكبار المسؤولين ، بمن فيهم القائد العام للبحرية الإثيوبية العميد البحري والتسا واتشا. وتم خلال الزيارة الاتفاق مع البحرية الروسية للعمل سويًا في مختلف مجالات التدريب لتستفيد إثيوبيا من تجاربها مع الوحدات البحرية الروسية. على المدى القصير ، تخطط روسيا لتطوير العلاقات مع إثيوبيا ، وتجنب المنافسة مع الأطراف الدولية الأخرى المؤثرة . ومن المرجح أن يرتبط نمو النفوذ الروسي (بشكل أساسي من خلال التعاون العسكري) بزيادة مستوى عدم الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي ، كما ستمليه التغيرات في الساحة العالمية ككل.
وختاما: يتعين على إثيوبيا التعامل مع أوضاع عدم الاستقرار السياسي الداخلي وتسوية الخلافات السياسية مع كل من مصر والسودان بخصوص سد النهضة، لأن تسوية هذه المشاكل يمكن أن تعطي دفعة للنمو الاقتصادي لإثيوبيا وتعزز موقعها الإقليمي. كما يعتمد نجاح السياسة الخارجية لأثيوبيا أيضًا على قدرة القيادة السياسية على بناء استراتيجية تنموية طويلة المدى ، في موقع القلب منها إنهاء الصراع المسلح ، وبناء قدرات الطاقة وضمان الأمن الغذائي. وفي هذا السياق يمكن أن يؤدي الدور المتنامي لإثيوبيا على الساحة الدولية إلى توسيع نطاق الفرص أمامها بشكل كبير ، كما يسمح اندماج البلاد في العلاقات الاقتصادية العالمية بجني فوائد إضافية من المشاركة في تنفيذ المشاريع واسعة النطاق. في الوقت نفسه ، يظل السؤال الأكثر إلحاحا أمام أديس أبابا يدور حول كيفية الحفاظ على استقلال السياسة الخارجية وتجنب التورط في السيناريوهات والتحالفات الجيوسياسية الخارجية. فهل تنجح قيادة آبي أحمد في تحويل أثيوبيا إلى قطب إقليمي صاعد أم تذهب به أحلام الزعامة والهوس بالأساطير المؤسسة للأمة الأثيوبية إلى صناعة نمر من ورق تتداعي من داخله الشعوب والأعراق المتنافسة؟ هذا هو التحدي!