يمكننا ونحن في بداية عام 2023 أن نستحضر روح الحركات الثورية الأفريقية التي قادت شعوبها نحو التحرر من نير الاستعمار. كانت الحرية بالنسبة لأميلكار كابرال هي فعل ثقافي. ولذلك دعا أبناء شعبه إلى العودة إلى المصدر أو الأصل، وهو عملية التخلص من الاستعمار من خلال إعادة تأسيس “الروح الإفريقية”.
لقد كان كابرال ثوريًا عميق التفكير طبق مبادئ إنهاء الاستعمار كمهمة جدلية، وبذلك أصبح أحد أكثر منظري العالم تأثيراً وفعالية في النضال ضد الإمبريالية. وربما يعتقد بعض الأفارقة اليوم أن عصر الاستعمار قد ولى وراح أوانه وأنهم يتمتعون بالتعليم الغربي الحديث الذي لم يقدمه لهم أسلافهم. وتلك رؤية تدعو إلى الاستغراب والتوقف عندها كثيرا.
في مقال ماتع مليء بالبيانات التاريخية، أوصت به منظمة اليونسكو ، يوضح لنا جوزيف كي-زيربو ، المؤرخ والمعلم ورجل الدولة في بوركينا فاسو ، كيف كان النظام التعليمي الأفريقي التقليدي أكثر واقعية وعالمية وموجهاً نحو المجتمع مقارنة بالنظام الحديث الذي ينفصل تماما عن احتياجات المجتمع وتنميته.
يقول زيربو: “هل ستبقى المدرسة الأفريقية أداة الاستعمار كما كانت في زمن شركات العبيد؟ يعود الأمر إلى القادة أن يبشروا، على سبيل المثال ، بعودة استراتيجية إلى تراثنا الحضاري ، ليس لتحقيق الرضا الذاتي ، ولكن لاكتشاف سمو الطاقة الروحية التي تمكننا من البداية الصحيحة”.
وتشير عملية نزع الطابع الاستعماري عن التعليم ليس فقط في المناهج والكتب المدرسية، ولكن أيضًا إلى ضرورة التحول في علم أصول التدريس وتغيير وجهات نظر وأهداف التعليم والتنمية بشكل عام. ذلك هو جوهر الأفرقة الحقة بحسبانها عملية ممتدة تشمل كافة مناحي الحياة.
من أفرقة التعليم إلى أفرقة العالم:
إن تهميش إفريقيا في مناهج العلاقات الدولية لا يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن “أفرقة” العلاقات الدولية من خلال مساهمات القارة في السلام والأمن يوفر فهمًا وتقديرًا أكثر دقة لديناميات التفاعلات الدولية. كيف تؤثر مقاربات الأمن الدولي على أفريقيا وتتأثر بها. هذا هو النهج المتنامي حول الدور الأفريقي الذي يتغلغل تدريجياً في مجال العلاقات الدولية. ولو أخذنا الأزمة الراهنة في جمهورية مالي لوجدنا أنها تمثل العدسة التجريبية، لكيفية “أمننة” المجتمع الدولي من خلال وضع الأزمة ضمن الخطابات حول “الحرب على الإرهاب”. لقد نشرت الدول الأفريقية عسكريين وقوات من الشرطة وموظفين مدنيين لدعم عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البوسنة والهرسك، وقبرص، وهايتي ، وتيمور الشرقية ، ولبنان ، من بين دول أخرى.
السؤال الأهم الذي يجب طرحه هنا هو كيف يمكن أن تتجلى الأفرقة بشكل عملي في القرن الواحد و العشرين دون أن يُنظر إليها على أنها حركة تسعى إلى إضفاء الطابع الرومانسي على إفريقيا، مثل حركة الزنوجة التي عبرت عنها أعمال ايمي سيزر وليوبولد سنغور- في مؤسسات التعليم وفي الهياكل السياسية ، وفي المجال الاقتصادي ، وفي ممارسة الدين والطب ، وفي التقدم التكنولوجي ، وفي الحكم والإدارة.
منذ الثورة الصناعية، أثبتت مادية الغرب أنها ليست نعمة للبشرية. لقد جلب التحضر والتصنيع الراحة المادية لعدد محظوظ من بين سكان العالم. كان على الآخرين- ولاسيما في أفريقيا- البحث عن الأخشاب في البرية قبل أن يتمكنوا من إشعال النار للطهي أو تدفئة أنفسهم في الشتاء. وفي نفس الوقت أرسل من يسعون إلى المال والثروة البنادق والمخدرات إلى أجزاء من إفريقيا حيث يقوم الأفارقة الذين عاشوا مع بعضهم البعض بسلام اليوم بإطلاق النار على بني قومهم وتلويث البيئة.
أفريقيا والحرب الباردة الجديدة:
يحتاج الأفارقة اليوم أكثر من أي وقت مضى العودة إلى الأصول لاستلهام روح التحرر التي دعا إليها كابرال ورفاقه من قادة التحرر الأفريقي. في أغسطس 2022 ، اصدرت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية تجاه إفريقيا. تضمنت الوثيقة المكونة من 17 صفحة 10 إشارات إلى كل من الصين وروسيا ، بما في ذلك التعهد “بمواجهة الأنشطة الضارة من قبل الصين وروسيا والجهات الفاعلة الأجنبية الأخرى” في القارة ، لكنها لم تذكر مصطلح “سيادة” الدول الأفريقية ولو مرة واحدة.
وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين صرح بأن واشنطن “لن تملي اختياراتها على إفريقيا”، فقد أفادت الحكومات الأفريقية بأنها تواجه “تنمرًا وروحا استعلائية ” من الدول الأعضاء في الناتو للوقوف بجانبها في الحرب في أوكرانيا. مع تصاعد التوترات العالمية ، أشارت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى أنهم ينظرون إلى القارة على أنها ساحة معركة لشن حربهم الباردة الجديدة ضد الصين وروسيا. وأثناء افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية في 13 أكتوبر 2022، قال كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي ، جوزيب بوريل ، “أوروبا حديقة … أما بقية العالم … غابة ، ويمكن للغابة أن تغزو الحديقة”. وأضاف كما لو أن الاستعارة لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، “على الأوروبيين أن يكونوا أكثر تفاعلاً مع بقية العالم. وإلا فإن بقية العالم سوف يقومون يغزونا”.
مطار عنتيبي وحرب الروايات بين الغرب والصين:
ولعل حالة الانزعاج الغربي من صعود الصين هي التي دفعت وزير الخارجية الصيني الجديد تشين غانغ إلى التساؤل : لماذا يخشى الناس من عودة الحرب الباردة ؟ ويجيب ببساطة لأن بعض الناس يفكرون بعقلية الحرب الباردة. ولعل المقصود هنا هو الولايات المتحدة ودول حلف الناتو. من الواضح أننا أمام حرب الروايات التي تدفع العالم إلى ساحات جديدة من الحرب الهجينة غير التقليدية. في نوفمبر 2021 ، نشرت صحيفة ديلي مونيتور الأوغندية خبرا بعنوان “أوغندا تتنازل عن الأصول الرئيسية مقابل أموال الصين”. وزعم المقال أنه ما لم تتم إعادة التفاوض بشأن بعض أحكام العقد لتوسيع مطار عنتيبي الدولي في أوغندا ، فإن البلد معرض لخطر تسليمه للصين إذا لم يُسدد القرض. بلغت قيمة القرض المعني الممنوح لأوغندا لتوسيع المطار ، 207 مليون دولار بفائدة 2٪ من بنك التصدير والاستيراد الصيني ، وهو مشروع يأتي في إطار مبادرة الحزام والطريق.
انتشر العنوان الرئيسي كالنار في الهشيم، باعتباره أحدث مثال مفترض لـدبلوماسية فخ الديون الصينية ، وقد التقطته أيضًا صحيفة وول ستريت جورنال. لكن وفقًا لتحليل “إيد داتا ” AidData ، الذي حصل على نسخة من العقد ، لم يكن المطار موضوعا للضمانات التي يمكن للمقرض الاستيلاء عليها في المقام الأول! ما تتطلبه شروط الاتفاقية هو أن يتم وضع الضمانات النقدية في حساب ضمان منفصل يمكن بعد ذلك مصادرته في حالة التخلف عن السداد – وهو شرط قياسي إلى حد ما لتمويل المشاريع الدولية.
من الواضح أن “دبلوماسية فخ الديون” الصينية هي رواية أمريكية متقدمة لإخفاء سياساتها الحقيقية، ولصرف الانتباه عن ممارسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المتمثلة في دفع القروض الجائرة ذات معدلات الفائدة المرتفعة إلى بلدان الجنوب العالمي. تُمنح القروض الصينية لمشاريع البنية التحتية ، والتي تعتبر بالغة الأهمية لتنمية أي بلد – فهي غير مرتبطة بمشاريع الخصخصة والتكيف الهيكلي كما هو الحال مع قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
في الواقع ، تُمنح قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشروط خصخصة القطاعات العامة ، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعية ، وتحرير التجارة لتحقيق المصالح الرأسمالية الغربية. وتضمن معدلات الفائدة الجائرة عدم إمكانية سداد هذه القروض أبدًا ، مما يبقي البلدان المقترضة فقيرة ويجعلها دوما أسيرة حالة من التخلف ، لضمان المزيد من النهب واستخراج الموارد على أيدي هؤلاء الرأسماليين الغربيين. هذا هو فخ الديون الحقيقي.
في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام ، رفض الاتحاد الأفريقي بشدة الجهود الدؤوبة التي تبذلها الولايات المتحدة والدول الغربية لاستخدام القارة كبيدق في أجندتهم الجيوسياسية. صرح رئيس الاتحاد الأفريقي ورئيس السنغال ماكي سال قائلا: “لقد عانت إفريقيا ما يكفي من عبء التاريخ. لا تريد أن تكون أرضًا خصبة لحرب باردة جديدة، بل تريد أن تكون قطبًا للاستقرار والفرصة مفتوحة لجميع شركائها ، على أساس المنفعة المتبادلة”. في الواقع، لا يقدم الدافع إلى الحرب الباردة شيئًا لشعوب إفريقيا في سعيها لتحقيق السلام والتكيف مع متطلبات تغير المناخ والتنمية.
وختاما: فإن أفريقيا هي واحدة من أغنى قارات العالم. ويعد التدافع على ثرواتها من الناحية التاريخية ظاهرة مستمرة . ومع ذلك ، فقد زادت حدة التدافع الحالي متعدد الجوانب. فالقوى المتنافسة لا تقتصر على الولايات المتحدة وأوروبا فحسب، بل إن الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل وماليزيا انضمت أيضًا إلى نادي المتسابقين الذين يتنافسون على موارد إفريقيا. وعليه لمواجهة مخاطر وآثار هذا التدافع ينبغي ترسيخ روح الوحدة الأفريقية وإعادة مفهوم الأفرقة في خطاب التنمية العالمي من أجل معالجة تجاوز المعضلات والعلاقات غير المتكافئة بين البلدان المتقدمة وأفريقيا.