لم تشهد انتخابات التجديد النصفي (8 نوفمبر 2022م) تغييرًا يُذْكَر في معادلة الإدارة الأمريكية الحالية، مع احتفاظ الديمقراطيين بأغلبية ضئيلة في الكونجرس. ولهذا لا يُتوقع أن تشهد السياسات الأمريكية في إفريقيا جنوب الصحراء تغييرات جذرية “سلبية” (من وجهة نظر إفريقيا) حتى 20 يناير 2025م على الأقل (موعد انتقال السلطة لرئيس جديد)، مع رجحان توقعات خسارة الرئيس السابق دونالد ترامب -الذي اتسمت فترة رئاسته بتجاهل أمريكي يُعدّ الأبرز لإفريقيا منذ نهاية الحرب الباردة- حال خوضه الانتخابات الرئاسية مجددًا في العام 2024م على ضوء خسارة عدد كبير من أبرز أنصاره في انتخابات التجديد النصفي([1])؛ وهكذا فإنَّ القمة الأمريكية الإفريقية المقررة في واشنطن (13-15 ديسمبر المقبل) ستوضِّح بشكل كبير مسار السياسات الأمريكية في إفريقيا على الأقل حتى أوائل العام 2025م.
الولايات المتحدة وأزمة شرق الكونغو: ترسيخ النفوذ الأمريكي
عادت الدبلوماسية الأمريكية بقوة لمقاربة ملف الأزمة في الكونغو منذ أكتوبر الفائت؛ لمواجهة ما تعتبره واشنطن تهديدًا لجهود السلام في الدولة المعروفة بثرواتها الطبيعية الهائلة؛ ومع تجدد هجمات جماعة 23 مارس (M23) (مجموعة متمردين من إثنية التوتسي تنطلق من رواندا التي اتهمتها الكونغو رسميًّا في أكثر من مناسبة بدعم وتسليح هذه الجماعة، رغم ترويج رواندا لنفسها إفريقيا كقوة رئيسة في صيانة أمن القارة واستقرارها) في نهاية أكتوبر ومطلع نوفمبر الجاري بادرت واشنطن بحشد مواقف فرنسا وبريطانيا وبلجيكا خلفها في بيان قويّ اللهجة (18 نوفمبر) لإدانة أنشطة الجماعة في شرقي الكونغو، وضرورة حشد المواقف الإقليمية والدولية لإنجاح محادثات السلام الجديدة حول النزاع في شرق الكونغو (التي كانت مقررة في العاصمة الكينية نيروبي 21 نوفمبر، لكنها أُجِّلَت للأربعاء 23 نوفمبر على أن يستضيفها الرئيس الأنجولي جواو لورينسو في لواندا في واحدةٍ من أهمّ محطات سياساته الخارجية بعد تولّيه الرئاسة لفترة ثانية نهاية أغسطس الفائت قبل أن تنطلق هذه المحادثات بالفعل مساء يوم 22 نوفمبر الجاري). وتقاربت مواقف واشنطن بقوة مع كينشاسا في مسألة اتهام رواندا بدعم “الجماعة الإرهابية”؛ حيث أشارت واشنطن -وعدد من مسؤولي الأمم المتحدة- إلى هذه الصلة الخطيرة في الشهور السابقة([2]).
وأعلنت وسائل الإعلام الأنجولية لاحقًا عن اعتزام الرئيس لورينسو النظر في سبل تجاوز الأزمة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وقيادة المحادثات التي كانت مقررة في نيروبي واستُبدلت في الساعات الأخيرة بزيارة مكوكية قام بها الرئيس الكيني روتو إلى العاصمة الكونغولية كينشاسا للاجتماع بالرئيس فيليكس تشيسيكيدي (21 نوفمبر)([3])؛ بعد توجّه الرئيس الكيني السابق ومبعوث بلاده في أزمة شرق الكونغو أوهور كينياتا إلى مدينة جوما الرئيسة في الإقليم بالتزامن مع أحداث عنف قامت بها M23 شمالي المدينة مباشرة، والتي أدَّت إلى فرار آلاف المواطنين([4]).
واللافت تأكيد روتو في كينشاسا على أن قوة جماعة شرق إفريقيا الإقليمية، والتي تعززت بتعهد أوغندا بإرسال ألف جندي آخر من قواتها إلى شرق الكونغو نهاية نوفمبر الجاري، ستتمكن من فرض الاستقرار شرقي الكونغو، و”فرض السلام على مَن يخلقون حالة عدم الاستقرار” (في إشارة مباشرة لجماعة M23 وضمنية لرواندا التي يبدو أنها تحفَّظت على الوساطة الكينية في اللحظات الأخيرة)([5]).
بينما أشارت الأنباء من العاصمة الأنجولية إلى امتناع كاجامي عن الحضور وسط تصاعد أعمال العنف على نحوٍ غير مسبوق في شرقي الكونغو، واستعاض عن ذلك بإرسال وزير خارجيته فينسينت بيروتا V. Biruta لحضور اجتماع مشترك مع الرئيسين الكونغولي والأنجولي (مساء 23 نوفمبر)([6]).
والشاهد في تطور عملية السلام في شرق الكونغو، حتى مع انتقال مركزها مرحليًّا إلى لواندا (التي تقرر استضافتها لقاء قمة بين الرئيس الرواندي بول كاجامي ونظيره الكونغولي تشيسيكيدي في 24 نوفمبر الجاري)، وقوف الولايات المتحدة مجددًا، بعد نجاح لافت في الحالة الإثيوبية وأزمة إقليم التيجراي، بقوة خلف “الدبلوماسية الإفريقية”، والتي تعني في جوهرها في التجارب المذكورة تنسيق أمريكي مع “شريك إفريقي” (تلعب هذا الدور بامتياز كينيا برئاسة الرئيس الجديد وليام روتو)؛ بهدف تسهيل أي محادثات أو تنازلات متبادلة. وتعني المقاربة الأمريكية الجديدة، والناجحة بشكل مذهل للغاية، استفادة واشنطن الكاملة من مراكز تحالفاتها التقليدية في القارة واستعادة نفوذها القوي.
كما يكشف الضغط الأمريكي على دولة عُدَّت لفترة طويلة ضمن محور “المعسكر الغربي” في إفريقيا (رواندا) عن تبرم أمريكيّ -ظاهريًّا على الأقل- من سياسات إشعال الأزمات في المناطق الغنية بالموارد (تملك الكونغو موارد طاقة وغابية هائلة في مناطقها الشرقية؛ مما يعزّز فرضيات “نظرية لعنة الموارد” بخصوص انتشار جماعات العنف والإرهاب في القارة) لحساب فاعلين من الدول والشركات متعددة الجنسيات، وتخوفًا من تأثير هذه السياسات السلبي على التراجع الأوروبي- الأمريكي في إفريقيا مقابل اتساع مساحات تمدُّد النفوذ العسكري الروسي والاقتصادي الصيني في القارة لمواجهة القضايا الوطنية الملحة لدول القارة.
الصومال: القوة الأمريكية في مواجهة فوضى القرن الإفريقي
يمثل الاختراق الأمريكي في ملف الصومال مؤخرًا خطوة جديدة في تعزيز الحضور الأمريكي في إفريقيا وإقليم القرن الإفريقي على وجه الخصوص بعد نجاح الدبلوماسية الأمريكية في الانفراد بتسوية أزمة إقليم التيجراي بعيدًا عن أطراف دولية في مقدمتها الصين. فقد أعلنت واشنطن منتصف نوفمبر خططها لإعادة إرسال قوات أمريكية للصومال في خطوة مهمة وبارزة منذ سحب إدارة الرئيس السابق ترامب في ديسمبر 2020م قوات بلاده من الصومال.
وجاء الإعلان الأخير على لسان السفير الأمريكي في الصومال لاري أندري بكشفه طلب الرئيس جو بايدن منه تقديم عرض بعودة القوات الأمريكية للصومال للرئيس حسن شيخ محمود في اليوم التالي لانتخاب الأخير، ويُعدّ الملمح الأكثر دلالةً على تغير المقاربة الأمريكية، ونجاعتها على المدى القريب، تكوين فريق أمريكي صومالي مشترك لمناقشة سبل عمل القوات الأمريكية وأدوارها منذ اللحظات الأولى لانتخاب الرئيس الصومالي([7])؛ ما يعني تخطيطًا لبقاء القوات لفترات أطول ومساهمة أكثر فعالية في تنسيق الأدوار الخارجية العسكرية في الصومال.
وإلى جانب المقاربة الأمريكية الأكثر دينامية وواقعية في الصومال؛ بات لتركيا -الحليف الدائم والأمين للولايات المتحدة في الملفات الإفريقية- أدوار مرتقبة في عملية إعادة بناء الجيش الوطني الصومالي؛ إذ جاءت تركيا في قائمة الدول التي استثناها مجلس الأمن في منتصف الشهر الجاري من العقوبات المفروضة على صادرات السلاح للصومال، إلى جانب بعثتي الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة([8])؛ مما يؤشر إلى تمتين السياسة الأمريكية- التركية في الصومال وتعاونهما في ملف مواجهة أنشطة الجماعات الإرهابية.
ويبدو أن التنسيق الأمريكي في الصومال يتَّخذ مسارًا جادًّا هذه المرة؛ لاعتبارات تحجيم تمدد النفوذ الصيني في القرن الإفريقي، والدفع في اتجاه تعميق عودة الانخراط الأمريكي في الإقليم بعد النجاح الذي كان متوقعًا في مقاربة واشنطن لملف الأزمة الإثيوبية بشكل شامل وناجح في الضغط على أطراف الأزمة “حال توفر الإرادة السياسية” لديها. فبعد سلسلة من تمدد أنشطة جماعة الشباب في الأسابيع الأخيرة شهد نوفمبر الجاري نجاحات كبيرة للقوات الحكومية الصومالية (لا سيما القوات الخاصة بالجيش الصومالي التي أسقطت 22 نوفمبر الجاري نحو 50 قتيلًا من عناصر جماعة الشباب بينهم عدد كبير من قادة عملياتها([9])) في مواجهة هذه الجماعة على خلفية تعميق التعاون الأمريكي- الكيني في الملف الصومالي.
ويعزز هذا السيناريو شبه الحتمي إعلان كينيا في ظل إدارة وليام روتو الجديدة عزمها استمرار وجود قواتها في الصومال؛ للقيام بمهامها([10])، في وقت أعلنت فيه عدة دول إفريقية عزمها سحب مزيد من قواتها المساهِمة في قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال، إلى جانب تأثير الاضطرابات الإثيوبية على جهود أديس أبابا في قوة الاتحاد الإفريقي.
أجندة القمة الأمريكية- الإفريقية: رؤية عامة
تتزايد قائمة الدول الإفريقية التي قرر قادتها المشاركة في القمة المقبلة التي أعلنت واشنطن أنها “ستظهر التزام الولايات المتحدة الدائم تجاه إفريقيا، وتبرز أهمية العلاقات الأمريكية- الإفريقية وتزيد التعاون حول الأولويات العالمية المشتركة”.
وترى واشنطن أن إفريقيا “ستشكل مستقبل العالم وليس مستقبل الأفارقة وحدهم”، وأنها ستحقق الفارق في مواجهة التحديات الأكثر إلحاحًا وانتهاز الفرص التي نواجهها”. وشملت أجندة القمة حسب الخارجية الأمريكية: تعزيز مقاربة اقتصادية (أمريكية) جديدة؛ وتحقيق تقدم في السلم والأمن والحكم الرشيد، وإعادة تعزيز الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني؛ والعمل التعاوني على تقوية الأمن الصحي الإقليمي والعالمي؛ وتعزيز الأمن الغذائي؛ والاستجابة لأزمة المناخ؛ وتقوية الصلات مع الأفارقة في الخارج؛ وتعزيز التعليم وقيادة الشباب([11]).
ورغم بنود الأجندة المتنوعة للغاية فإن الدبلوماسية الأمريكية ونشاطاتها الأخيرة في إفريقيا (وأهمها مؤخرًا حضور الرئيس جو بايدن أعمال قمة كوب27 في مدينة شرم الشيخ المصرية وترجيح مراقبين عقده اجتماعات مع لفيف من القادة الأفارقة لتناول ملفات حساسة للغاية)؛ تدلّل على ترتيبات معقدة لأعمال القمة لضمان مخرجات محدَّدة لا سيما في ملفات الأمن والتعاون الاقتصادي ومواجهة أزمة المناخ. ويدلل على هذا التوجُّه حرص الإدارة الأمريكية على استضافة أعمال قمة أمريكية إفريقية في واشنطن 14 ديسمبر المقبل على هامش أعمال القمة الأمريكية الإفريقية، وبتعاون بين الإدارة مع منتدى الأعمال الأمريكي الإفريقي U.S.-Africa Business Forum (USABF) ([12]).
كما لا تغيب تداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية على مجمل السياسات الأمريكية في القارة الإفريقية، مع ملاحظة تشابك هذه التداعيات بشكل متصاعد مع أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في إفريقيا؛ مثل ملفات الأمن ومواجهة الإرهاب في القرن الإفريقي ووسط إفريقيا وإقليم الساحل وعدد من دول غرب إفريقيا التي باتت تُواجه تهديدات تمدّد هذه الأزمات، وتوظيف قدرات الولايات المتحدة وخبراتها التقنية من أجل تعزيز قدرات الدول الإفريقية في مواجهة الآثار السلبية لتغير المناخ، وارتباك واردات الحبوب الأوكرانية والروسية وبناء مستوى مقبول من قدرات الأمن الغذائي للعديد من الدول الإفريقية عبر برامج التعاون الثنائي أو عبر برامج المنظمات الإقليمية والدولية.
وبينما تسجل سياسات الولايات المتحدة الإفريقية نجاحات لافتة في مختلف مقارباتها، مع توقع تعمُّق هذا النجاح بمخرجات محدَّدة وعملية للقمة المقبلة، فإنه يظل في الأساس نسبيًّا بالنسبة لدول القارة الإفريقية (التي لا تزال عالقة في تفسير المتغيرات الدولية الراهنة)، وتتوقف الاستفادة من الفرص التي يوفّرها على استجابة الحكومات الإفريقية وقدرتها على اتباع سياسات متوازنة (داخلية وخارجية)، وعدم النظر لهذه “الفرصة” على أنها وسيلة للمناورة في سياسات القوى الكبرى أو أجواء “الحرب الباردة”؛ لأن الأمور بالفعل باتت خارج هذه التصورات التقليدية، وأن ما يُشاع عن تطور نظام عالمي جديد “متعدد الأقطاب” يظل مجرد أمنيات وحديث إعلاميّ ودعائي متجدد تُجافيه حقائق الأمور في إفريقيا وقضاياها وأزماتها التي تظل قائمة على نحو غريب منذ السنوات الأولى من الاستقلال قبل أكثر من ستة عقود.
____________________________
هوامش
[1] John J Stremlau, US midterm elections deserve Africa’s attention – but not for reasons of foreign policy, The Conversation, November 15, 2022 https://theconversation.com/us-midterm-elections-deserve-africas-attention-but-not-for-reasons-of-foreign-policy-194539
[2] US and allies condemn rebel advances in DR Congo, Monitor, November 19, 2022 https://www.monitor.co.ug/uganda/news/us-allies-condemn-rebel-advances-in-dr-congo-4025338
[3] Dennis Shisia, DRC Peace Talks Takes New Turn After Uhuru Faces Setbacks, Kenyans, November 22, 2022 https://www.kenyans.co.ke/news/82104-drc-peace-takes-new-turn-after-uhuru-faces-setbacks
[4] DR Congo conflict: Uhuru Kenyatta’s mission possible, Nation, November 23, 2022 https://nation.africa/kenya/weekly-review/dr-congo-conflict-uhuru-kenyatta-s-mission-possible-4029938
[5] Cristina Krippahl, DRC – Way to Peace Fraught With Strife, DW, November 22, 2022 https://allafrica.com/stories/202211230009.html
[6] AFP, DR Congo and Rwanda in fresh talks in Angola, Kagame absent, Tuko, November 23, 2022 https://www.tuko.co.ke/world/484292-dr-congo-rwanda-fresh-talks-angola-kagame-absent/
[7] US Troops to return to Somalia, The Citizen, November 18, 2022 https://www.thecitizen.co.tz/tanzania/news/africa/us-troops-to-return-to-somalia-4024584
[8] Security Council Renews Sanctions Regime on Somalia, Mandate for Panel of Experts, Adopting Resolution 2662 (2022) by 11 Votes in Favour, 4 Abstentions, SC/15110, 17 NOVEMBER 2022, United Nations https://press.un.org/en/2022/sc15110.doc.htm
[9] Somali forces take down 49 al Shabaab fighters in military operation, Reuters, November 23, 2022 https://www.freemalaysiatoday.com/category/world/2022/11/23/somali-forces-take-down-49-al-shabaab-fighters-in-military-operation/
[10] Duale: Kenya’s troops will not leave Somalia any soon, Garowe online, November 23, 2022 https://garoweonline.com/en/world/africa/duale-kenya-s-troops-will-not-leave-somalia-any-soon
[11] U.S.- Africa Leaders Summit, Department of State, November 15, 2022 https://www.state.gov/africasummit/
[12] African Media Agency, The 2022 U.S.-Africa Business Forum and Multiple Sideline Events in Washington DC, the guardian, November 22, 2022 https://guardian.ng/ama-press-releases/the-2022-u-s-africa-business-forum-and-multiple-sideline-events-in-washington-dc/