طالما كانت الصومال جزءًا مهمًّا من الحضارات القديمة، باعتبارها تطل على واحد من أهم المعابر المائية في العالم القديم، وكذلك على خطوط التجارة، وباعتبارها جزءًا من الممالك القديمة؛ حيث ذُكِرَت في البرديات الفرعونية باسم بلاد بونت، كما كانت جزءًا مهمًّا من الحضارة الإسلامية والممالك الإسلامية المتعاقبة التي نشأت في أحضان الجزء الجنوبي منها، بالإضافة إلى كونها جزءًا من طريق الحرير القديم.
كما استمرت أهميتها في العالم الحديث مع استمرار مرور خطوط الملاحة الدولية من أمام شواطئها، وبالرغم من التهديدات الأمنية الجسيمة التي تنبع من الصومال على حركة الملاحة العالمية، إلا أن استراتيجيات القوى الكبرى اقتصرت على تأمين المجرى الملاحي، وعدم الدخول في حلول جذرية لحل مشكلة عدم الاستقرار في البلاد، وظلت الحلول المقترحة لحلّ المشكلة الصومالية جزئية حسب مصالح الدول المختلفة ذات المصلحة في البلاد.
وبالرغم من كونها جزءًا من العالم العربي، كما أنها كذلك تتشابك مع دول الجوار في كلٍّ من جيبوتي وكينيا وإثيوبيا والسودان؛ إلَّا أن الاهتمامين العربي والإفريقي بها لا يتناسبان مع موقعها الاستراتيجي ومكانتها التاريخية، وكذلك مع أهميتها الجيوسياسية الحالية.
واليوم تدخل الصومال في نفق مظلم جديد، مع توقُّع حدوث حالة مجاعة واسعة النطاق في البلاد، مع اشتداد حالة الجفاف ونقص الغذاء والمواد الأساسية؛ حيث يعاني من تداعيات الجفاف 7.8 مليون شخص، يُشكِّلون نحو نصف سكان البلاد، بينهم 213 ألفًا مُهدَّدون بمجاعة خطيرة؛ وَفْق الأمم المتحدة.
وبالرغم من ترقُّب الجميع لتلك المجاعة المتوقَّعة، لا يتوانى أبناء الصومال عن تدمير البقية الباقية من حطامها؛ فقد وقع أكثر من مائة قتيل في تفجيرين بالعاصمة الصومالية مقديشو الاسبوع الماضي، في حين أُصيب حوالي ثلاثمائة آخرون بجروح في تفجير سيارتين أمام وزارة التربية والتعليم بالعاصمة الصومالية.
وتعمَّقت المأساة بوقوع العديد من الطلاب والأمهات جرحى وقتلى في هذين التفجيرين، اللذين يبدو أنهما استهدفا المدنيين العُزّل؛ حيث وقع الانفجار الأول، ثم تلاه الانفجار الثاني مع بدء تجمُّع الناس لتفقُّد مصابي الانفجار الأول، وهو ما يؤكد مدى تدني مرتكبيه في سُلّم الإنسانية، بصرف النظر عن مدى عمق الخلاف السياسي أو العسكري المحيط بتلك العملية الوضيعة.
وفي 2017م أعلن تنظيم حركة الشباب المسلّح مسؤوليته عن عملية ارتكبها في ذات المكان وأوقعت 500 قتيل، وهو الهجوم الأشد دموية في تاريخ البلاد، ويخشى أن يكون هذا التفجير الأخير مُسَاوٍ له في عدد القتلى، بعد وجود حالات خطيرة بين الجرحى.
وهاجم مقاتلو الحركة أهدافًا على طول الحدود بين الصومال وإثيوبيا في وقت سابق من هذا العام، ما أثار المخاوف بشأن احتمال وجود استراتيجية جديدة لدى التنظيم. وكانت الحركة قد تبنت، هجومًا استهدف فندقًا في مدينة كيسمايو الساحلية، خلف 21 قتيلاً وعشرات الجرحى.
وقد نشطت الحركة بعد سحب دونالد ترامب قواته من البلاد في 2020م، قبل أن يعود بايدن بنشر قوات أمريكية خاصة لمكافحة الإرهاب قوامها 450 جنديًّا هذا العام في مايو الماضي، وفي تلك الفترة تطورت قدرات الحركة على شنّ الهجمات النوعية، بالرغم من مجهودات قوات الاتحاد الإفريقي التي تمكّنت من طرد الحركة من العاصمة مقديشو عام 2011م؛ إلا أنهم لا يزالون يسيطرون على مساحات شاسعة من أطراف البلاد، وباتت لديهم قدرة على شنّ هجمات في قلب العاصمة، وعلى أهداف مدنية وعسكرية.
وفي 2013م شنَّت الحركة عملية كبرى خارج الصومال في العاصمة الكينية نيروبي؛ حيث حاصرت مركزًا للتسوق وقتلت في تلك العملية 67 شخصًا، كما أعلنت مسؤوليتها عن هجوم على جامعة في غاريسا، شرقي كينيا، قُتِلَ خلاله 148 شخصًا. وبالرغم من الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة ضد الحركة في عموم البلاد وشَنّ الحملات العسكرية لتحجيم نفوذها، إلا أن قدرات الدولة الصومالية وَحْدها يبدو أنها غير قادرة على بسط الأمن، فيما تقتصر جهود القوة الأمريكية فيما يبدو على تأمين الخطوط الملاحية المهمة ومنطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية، وكذلك القيام بعمليات استهداف لبعض قيادات حركة الشباب بصورة انتقائية، بما يتطلب مساعدات عاجلة من الدول ذات المصلحة في الصومال ومنطقة القرن الإفريقي.
وبالرغم من العدد السكاني الكبير نسبيًّا، وهو عشرة ملايين نسمة، وبالرغم من حركة الهجرة واللجوء الجماعية من المناطق الصومالية إلى دول الجوار في كل من إثيوبيا والسودان وكينيا، إلا أن ذلك لم يستدعِ حلاً جذريًّا للمشكلة الصومالية، والتي باتت تصدر حالة عدم الاستقرار تلك لكل محيطها الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي.
وبالرغم من الوجود العسكري الكثيف في تلك المنطقة بدءًا من القاعدة الأمريكية في جيبوتي بكامب لومنييه، وكذلك الوجود العسكري في القواعد العسكرية لعدة دول في إريتريا، وكذلك القاعدة العسكرية التركية في الصومال، إلى جانب نشر قوات الاتحاد الإفريقي؛ إلا أن كل ذلك لم يُؤدِّ إلى تضافُر الجهود لحلّ المشكلات الأمنية الصومالية، ولكن تحوَّل القرن الإفريقي إلى قاعدة للتنافس الإقليمي بين الدول العربية وتركيا والدول الإفريقية الأخرى، في ظل تعاون دولي بين القوى الكبرى مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا على حماية مصالحهم بدون لجوء الجميع إلى بَتْر المشكلة الأمنية من جذورها، وشَنّ عمليات مكثَّفة للقضاء على التهديد الإرهابي، ناهيك عن حلّ مشكلات الغذاء والمجاعة والهجرة الداخلية والخارجية لأبناء الشعب الصومالي.
فقد عملت القُوَى المُطِلّة على البحر الأحمر على إنشاء مجلس لها في يناير 2020م، والذي ضمَّ كلاً من مصر والسعودية والأردن والسودان واليمن وجيبوتي والصومال وإريتريا؛ إلا أن ذلك المجلس لم يتطوَّر كما كان مخططًا له ليكون مظلة أمنية لتحقيق الاستقرار في منطقتي البحر الأحمر والقرن الإفريقي، في حين أنشأت مصر بالتعاون مع الإمارات والسعودية قاعدة برنيس البحرية على حدودها البحرية الجنوبية بالقرب من السودان، والتي باتت تمثل محطة انطلاق لتنفيذ المهام العسكرية على المستوى الاستراتيجي في تلك المنطقة، سواء بتنفيذ عملية عسكرية ضد تهديد سد النهضة في إثيوبيا، أو كقاعدة انطلاق للقوات المصرية لنجدة دول الخليج في حالة نشوب صراع مع إيران، إلا أن تلك القاعدة مقتصرة على الأهداف الاستراتيجية الكبرى، ولا يدخل ضمن نطاقها تنفيذ مهام إحلال الأمن في الصومال. ويبدو أن الدول العربية اقتصرت على التعاون على الأهداف الاستراتيجية؛ مثل مواجهة التهديد الإيراني، وكذلك احتواء الوجود التركي في منطقة البحر الأحمر، دون أن تعمل على الأهداف التكتيكية الأخرى؛ مثل استتباب الأمن في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي بصورة متكاملة.
وعلى الرغم من اقتصار تهديد حركة الشباب على الصومال والدول المجاورة، إلا أن ذلك التهديد يمكن أن يتخطَّى تلك الحدود ويتطور في حالة انهيار الدولة الصومالية وعجزها عن التماسك؛ بسبب تهديدات الحركة في ظل المجاعة المرتقبة. ولذلك، فإن مخاطبة التهديدات الأمنية في الصومال واستتباب الوضع يجب أن يوضع في أولويات الدول الفاعلة في كل من المنطقة العربية وكذلك الجوار الإفريقي وتركيا وبالتعاون مع القوى الكبرى ذات الوجود العسكري الكثيف في دول الجوار، وذات القدرة على إطلاق المُسيّرات وتوجيه الضربات العسكرية، لتحييد قدرات الحركة وشلّ قدرتها على شَنّ الهجمات.
وهذا الهجوم الكبير الذي شنَّته الحركة بسيارتين مفخختين على وزارة التعليم كان يمكن تفاديه في حال وجود دعم استخباراتي وتنسيق بين تلك الدول، فالآن باتت عمليات الاستطلاع والمراقبة أكثر سهولة في ظلّ وجود التقنيات الحديثة، ولكن فقط يجب أن تتوفر الإرادة لتلك الدول من أجل حقن دماء الشعب الصومالي والمساعدة في إبقاء ذلك البلد العربي المسلم متماسكًا في ظل التحديات الأمنية والبيئية الراهنة.
وعلى الرغم من تواضع الموارد الصومالية وعدم وجود جذب اقتصادي فيها من حيث الزراعة والاقتصاد والخدمات وغيرها من المجالات المغرية للتدخلات الأجنبية؛ إلا أن عبقرية المكان الصومالي وضرورة الوجود الدولي في تلك البقعة الاستراتيجية المهمة يفرض تعاون الدول ذات المصلحة من أجل تهدئة البلاد، وإلا فإن احتمالية سقوط الدولة في يد التنظيمات المتطرفة سيمثل تحديًا جسيمًا على دول الجوار الإقليمية، وسيجعل الصومال منصة إطلاق هجمات، ليس فقط على خطوط التجارة العالمية في ظل الأزمات التي تواجهها بعد وباء كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، ولكن أيضًا في حالة إطلاق هجمات على مصالح الدول المجاورة، لا سيما في حال استغلالها من خلال القوى الإقليمية لجعلها محطة انطلاق لمهاجمة تلك الدول نظير الحصول على السلاح والعتاد والتمويل من بعض الدول الراغبة في زعزعة استقرار المنطقة، ومِن ثَم يجب التحرك الإقليمي فورًا وقبل فوات الأوان.