على الرغم من تعثر روسيا على الجبهة الأوكرانية بسبب الحشد الغربي ضدها فإنها تُحرز تقدما على جبهة أخرى من خلال هجومها الناعم على أفريقيا الفرنكوفونية. وقد أظهر انقلاب النقيب إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو الذي أطاح بحكومة بول هنري داميبا العسكرية في 30 سبتمبر 2022 مدى توسع النفوذ الروسي في أفريقيا الفرنسية. وليس بخاف أن بوركينا فاسو كانت في الأشهر الأخيرة هدفا لسياسات الحرب الدعائية الهجينة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تتهم العقيد المخلوع داميبا بأنه عميل فرنسي. كما ظهرت مواد مماثلة في قناة “روسيا اليوم” التلفزيونية الناطقة بالفرنسية ووكالة سبوتنيك للأنباء، اللتين تحظيان بمتابعة متزايدة في جميع البلدان الفرنكوفونية في وسط وغرب إفريقيا. لقد قوضت الدعاية الروسية باستمرار ثقة السكان المحليين في القوات الفرنسية المنتشرة في المنطقة لمحاربة الجماعات المسلحة العنيفة.
وتقول الدعاية إن التمرد المسلح مجرد ذريعة للتدخل “الاستعماري الفرنسي”، وإلا لكان المسلحون قد هُزموا منذ زمن بعيد. ويبدو أن خروج المتظاهرين في شوارع بوركينا فاسو ترحيبا بالانقلاب الجديد وهم رافعين الأعلام الروسية يعكس ثقة العديد من سكان غرب ووسط إفريقيا بأن روسيا قادرة على تحريرهم من سياسات فرنسا الإمبريالية. وعلى الرغم من أن هذه التجمعات الشعبية العفوية المؤيدة لروسيا تتحدث كثيرًا عن صورة فرنسا الاستعمارية، إلا أنها غالبًا ما تكون خدعة سياسية تحاول من خلالها الحكومات الوطنية اكتساب الشرعية. كما أنها بالنسبة لروسيا تمثل إحدى الأدوات العديدة التي تدخل في إطار ما يُسمى باستراتيجيات “الحرب الهجينة”.
القدوم الروسي على رماح فاجنر:
كما حدث في بوركينا فاسو، تعرضت مالي من قبل لانقلابين (20220و 2021) قام بهما ضباط معادون لفرنسا مما دفع إيمانويل ماكرون إلى إنهاء الانتشار العسكري الفرنسي الذي يحارب الجماعات المسلحة العنيفة منذ تسع سنوات في البلاد. وبعد إعلان القادة العسكريون الجدد القطيعة مع فرنسا، قام “مرتزقة” فاجنر الروس بالانتشار في المعسكرات التي هجرتها القوات الفرنسية. وبالمثل يمكن أن نلمس خطابا شعبويا معاديا للفرنسيين في النيجر. وفي يونيو 2022، علق الرئيس إيمانويل ماكرون جميع المساعدات المالية والعسكرية المقدمة إلى جمهورية إفريقيا الوسطى بعد اتهام حكومتها بأنها رهينة مجموعة فاجنر الروسية شبه العسكرية. كما تخشى فرنسا تبني نفس الخطاب الشعبوى المناهض لها في كل من السنغال وكوت ديفوار. وربما يفسر هذا التقدم السريع في النفوذ الروسي في إفريقيا جزئيًا خطاب ماكرون البليغ والغاضب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2022، والذي اتهم فيه (ضمنيًا) الدول الأفريقية بخيانة مصالحها طويلة الأجل من خلال رفض إدانة “الاستعمار الجديد” الذي يقوم به فلاديمير بوتن من خلال غزو أوكرانيا.
فرنسا ومنطق الأشياء تتداعي:
إن الشعور المناهض للفرنسيين في إفريقيا ليس اختراعًا روسيًا بالكامل. حاول الرؤساء المتعاقبون منذ جاك شيراك تفكيك العلاقة غير الصحية والفاسدة التي كانت قائمة حتى التسعينيات بين باريس والنخب السياسة الأفريقية. لايزال الاستياء من فرنسا باعتبارها القوة الاستعمارية السابقة مبررًا في كثير من الدول الأفريقية. بمعنى ما، فرنسا تجد نفسها أمام معضلة حقيقية. إنها تدفع ثمن خطاياها الماضية بدلاً من الاستفادة من جهودها الحالية، الخرقاء أحياناً، لمحاربة الجماعات الإرهابية، والحد من الفساد وتعزيز الديمقراطية. لقد انتشرت القوة الروسية جزئيًا لأن فرنسا لم تعد قادرة على التخلص من صورتها الاستعمارية. لقد ذهب إيمانويل ماكرون إلى أبعد من أسلافه في محاولة إنشاء علاقة جديدة في إطار الفرانس أفريك. قام بدعوة الطلاب والفنانين ورجال الأعمال الناجحين، وكذلك السياسيين، إلى القمة الفرنسية الأفريقية السنوية في مونبلييه هذا العام. قال ماكرون إن الأمر متروك للدول الأفريقية فيما إذا كانت تريد الاستمرار في استخدام ما يسمى بـ “الفرنك الأفريقي”، وهي عملة مشتركة مرتبطة باليورو وتضمنها باريس.
تحولات الفرانس أفريك:
في عام 1998 قال الرئيس فرانسوا ميتران “بدون أفريقيا، لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين”. وتعود جذور العلاقة الوثيقة التي تقيمها فرنسا مع مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا إلى مفاوضات إنهاء الاستعمار التي جرت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. اختارت هذه المستعمرات، باستثناء غينيا كوناكري، تحقيق استقلالها الوطني مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع فرنسا، على أمل تجنب الصراع والاستفادة من انتقال أكثر سلاسة إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي. بالنسبة لفرنسا، كان الحفاظ على العلاقات مع مستعمراتها السابقة يعني الحفاظ على نفوذها على الأراضي التي تتيح لها الوصول إلى النفط والمواد الخام والأسواق الاستهلاكية غير المستغلة.
وقد أدرك الرئيس السابق شارل ديغول الفوائد التي قدمتها العلاقات الواسعة مع إفريقيا لفرنسا. وتحت رئاسته تم تأسيس “الخلية الأفريقية” في قصر الإليزيه، وهي إدارة خاصة منفصلة عن وزارة الخارجية الفرنسية، حيث قرر المستشارون المبادرات السياسية والاقتصادية الأفريقية. ومن بين الاتفاقيات الأخرى، وافقت المستعمرات السابقة على الاحتفاظ بالفرنك الأفريقي، وهو العملة التي تربط السياسات النقدية للدول الأفريقية بفرنسا. وقد استخدم الرئيس الإيفواري السابق فيليكس هوفويت بوانيي مصطلح “فرانس-أفريك” لأول مرة لتحديد الصورة المثالية للتعاون والشراكة ذات المنفعة المتبادلة التي كان من المفترض أن يجسدها. ومع ذلك، على مر السنين، تطور المصطلح ليشير إلى الطابع الاستعماري الجديد لتلك العلاقات.
ما الذي حدث خطأ؟
لقد ظهرت بدايات المقاومة الأفريقية للفكر الكولونيالي بشكل مبكر مع حركة “الزنوجة” التي ظهرت في فرنسا خلال الثلاثينيات من القرن الماضي لمحاربة الاستعمار الثقافي الفرنسي. كان من بين مؤسسيها مثقفين فرنكوفونيين تلقوا تعليمهم في باريس وشعراء وفنانين مثل إيمي سيزير المولود في مارتينيك وليون داماس من غيانا الفرنسية والرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور. شكّل هؤلاء وغيرهم من دول الكاريبي الناطقة بالفرنسية جوهر هذه الحركة. ومن الأمثلة على أعمالهم استكشاف سيزير للكلاسيكيات الأدبية الغربية، مثل اقتباس مسرحية العاصفة لشكسبير وتقديمها لتخدم رؤيته النضالية المقاومة للاستعمار.
اليوم تقود الأجيال الجديدة من الأفارقة هذه الحركة النضالية من أجل التحرر من هذا الإرث الاستعماري الفرنسي على الرغم من محاولات ساكني قصر الإليزيه تجميله. يؤكد الواقع أن النفوذ الفرنسي في المستعمرات الأفريقية يتراجع. على الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي، يمكننا أن نرى بوضوح أن مواقعها، التي كانت في السابق مواقع ريعية هيمنت على الأسواق الأفريقية لفترة طويلة، أصبحت الآن في حالة تراجع واضح. تمتلك فرنسا الآن أقل من 5٪ من حصة السوق في العديد من البلدان وتواجه منافسة من جميع أنحاء العالم، روسيا والصين وتركيا على سبيل المثال. لقد فشلت في التكيف مع عولمة إفريقيا التي لديها اليوم العديد من الشركاء للقيام بأعمال تجارية وتحقيق التنمية. لم تستطع فرنسا، في هذه المنافسة المعولمة، فهم تطور إفريقيا، ولاسيما الوصول إلى الشباب الأفريقي الذي يطالب بحقه في الانعتاق والتحرر من القوة الاستعمارية السابقة.
كيف نفسر التراجع الفرنسي في أفريقيا الفرنكوفونية؟ يمكن الحديث عن ثلاثة عوامل رئيسية:
العامل الأول، وهو الأهم، يتمثل في عسكرة الوجود الفرنسي في أفريقيا. وهذا يعني، الطريقة التي تعبر بها فرنسا عن نفسها من وجهة نظر عسكرية في مستعمراتها السابقة، والتي يمكن أن نطلق عليها مسمى “الكتلة الفرنكوفونية”. في الماضي، شكلت غرب إفريقيا وإفريقيا الاستوائية كتلتين تاريخيتين منظمتين ومتماسكتين إلى حد ما. عملت فرنسا جاهدة للحفاظ على نفوذها بعد الاستقلال من خلال التدخلات والعمليات الخارجية التي أضفت على الوجود الفرنسي طابعا عسكريا (سياسة العصا الغليظة). هناك أكثر من 70 عملية خارجية فرنسية في إفريقيا. ويوجد اليوم شعور متزايد بين الشباب الأفريقي بأن هذا الوجود العسكري لم يعد ضروريًا، وبأنه عفا عليه الزمن ولا يتوافق مع سياق الواقع المتغير. من الناحية الرمزية، يحمل الوجود الفرنسي شحنة سالبة وصورة ذهنية لجنود الدولة الاستعمارية السابقة في بعض البلدان. وعليه يصبح من المفهوم أن الرأي العام بات معاديا لهذا الوضع الذي يتم مقاربته بمفهوم الاحتلال. ومن المعروف أن الجنود الفرنسيين لديهم مسؤوليات مهمة وإيجابية للغاية في بعض العمليات، وأدت إلى إحلال السلام وتحقيق الأمن على الأرض. ولكن هناك أيضًا عمليات سرية وتدخلات فرنسية سيئة السمعة. على سبيل المثال التدخل الفرنسي في الإطاحة ببعض الرؤساء والمساعدة في تنصيب آخرين. هذا الوجود قد خط شكلاً من أشكال التردد وعدم الثقة في العقل الجماعي الأفريقي. يُنظر إلى الجندي الفرنسي، عن حق أو خطأ، على أنه أداة فرنسية للتدخل في الشئون الأفريقية.
العامل الثاني يتمثل في الصور الذهنية وغطرسة فرنسا وتعالي نخبها. هذا العامل لا يستهان به بين الأفارقة. قام الصحفي الفرنسي فريديريك ليجيل في كتابه الأخير بعنوان “تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا “الصادر في باريس هذا العام، بإجراء مقابلات مع ما يقرب من مائة شخصية أفريقية ومعارضين ووزراء سابقين ورؤساء وزراء ومؤثرين في الرأي وقادة المنظمات غير الحكومية وقادة المجتمع المدني. كانت النتيجة صادمة حيث برز دوما عامل الاستعلاء والغطرسة. هذه القدرة التي يتعين على فرنسا أن تضعها لنفسها حينما ترتدي ثياب الواعظين وتمشي في الأرض تخطب وتسب المفسدين، رغم أنها تفعل عكس ذلك في الممارسة العملية. من الواضح أن هذا الانفصام في الدور الفرنسي هو ما أفسد صورة فرنسا في إفريقيا.
العامل الثالث والأخير بالطبع سياسي مرتبط بسابقه. قد يكون لدى فرنسا نوايا حسنة عندما تدافع عن سيادة القانون والديمقراطية. ولكن في المقابل عندما تدافع من الناحية الواقعية عن أنظمة تسلطية لا تحترم أبسط قواعد حقوق الإنسان، فإن ذلك يعني عدم احترام إرادة الشعوب الأفريقية. إن التعاون القائم مع دول معينة، خاصة فيما يتعلق بالتعاون الدفاعي والأمني، يُظهر للأفارقة الذين يتظاهرون للمطالبة بمزيد من الحريات أن يد فرنسا وقبضتها العسكرية تحول بينهم وبين ما يطمحون.
الخاتمة:
إن علاقة فرنسا بأفريقيا هي علاقة تاريخية. وكما قال الرئيس ميتران فإن أفريقيا ضرورية لفرنسا لأنها تمنحها شعورها بالقوة. تتألق فرنسا على المستوى الدولي، من خلال قواتها المتمركزة مسبقًا في الكتلة الفرنكوفونية، والتمثيل الأفريقي في الأمم المتحدة. هذا يعني أن إفريقيا في باريس هي جزء من مجال محجوز دائما في قصر الإليزيه، وهو وضع لم يتطور أبدا: السياسة الأفريقية تتم في معقل رئاسة الجمهورية، وليس في أي مكان آخر! لم يكن للبرلمان مطلقًا رأي رئيسي في السياسة الأفريقية، ولا يزال هذا هو الحال مع إيمانويل ماكرون. من المرجح أن يتم اتخاذ قرارات التدخل العسكري دون استشارة البرلمان! ما يفعله ايمانويل ماكرون منذ ولايته الأولى هو محاولة للتجمل حيث إنه يواجه إرثا يختمر منذ عدة عقود في ظل سياقات المنافسة المعولمة التي يشهدها الوضع الدولي الراهن. ربما يُفسر لنا ذلك جانبا من الصورة التي ترفع أطرافا مثل الصين وروسيا وتخفض أطرافا أخرى مثل القوى الاستعمارية السابقة وعلى رأسها فرنسا. فهل يتعلم الأفارقة الدرس ويحاولون بناء شراكات تعاونية جديدة مع أطراف دولية مختلفة لتحقيق طموحاتهم في التنمية والسلام؟