شهدت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا نشاطًا دبلوماسيًّا مكثفًا خلال شهر أكتوبر الجاري؛ حيث عُقِدَ بها مؤتمر الأمن الغذائي والتغذية رفيع المستوى (10 أكتوبر)، ومنتدى تانا حول السلم والأمن (14-16 أكتوبر) في دورته العاشرة.
وكان أبرز ضيوف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد: رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري، وجيسيكا روز نائبة الرئيس الأوغندي، والرئيس الغاني الأسبق جون دراماني ماهاما J. Daramani Mahama ونحو مائة مدعوّ ما بين ممثلين أفارقة أفراد، وخبراء في قضايا السِّلم والأمن والتنمية، ومسؤولين من سفارات، وممثلين لحكومات، وعلماء وباحثين في مراكز الفكر، وممثلين للقطاع الخاص، وممثلين عن الشباب والمرأة، إضافةً إلى شبكة واسعة من المشاركين افتراضيًّا من مختلف أرجاء القارة الإفريقية وخارجها.
أجندة منتدى تانا: قراءة في التفاصيل
استضاف معهد دراسات السِّلم والأمن Institute for Peace and Security Studies (IPSS)، الذي يقوم بدور الأمانة العامة لمنتدى تانا رفيع المستوى حول الأمن في إفريقيا Tana High-Level Forum on Security in Africa، الدورة العاشرة للمنتدى في “بحر دار” بإثيوبيا في الفترة 14-16 أكتوبر الجاري تحت شعار “إدارة التهديدات الأمنية: بناء الصمود من أجل إفريقيا التي نريد”، وهو يتّسق تمامًا مع الخطوط العريضة لأجندة إفريقيا 2063.
وشملت محاور أجندة المنتدى عدة مقاصد، منها: تقديم الأولوية للمواطنين الأفارقة في مباحثات الأمن والصمود عبر الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعدِّدة؛ وحَشْد وتفعيل المعرفة والآراء التي ستُساعد مجموعة واسعة من الفاعلين الوطنيين والإقليميين في الإسهام على نحو أفضل في تشكيل إفريقيا التي نريد؛ واستكشاف سُبُل بناء سلام وأمن وصمود مدعوم شعبيًّا بما يتَّفق مع شعار الاتحاد الإفريقي لهذا العام “الفنون والثقافة والتراث”؛ وتقييم إسهام إفريقيا في إدارة جائحة كوفيد-19، بما في ذلك الاستثمار في البحوث ومنتجات المعرفة التي تعكس حلًا إفريقيًّا لمشكلة عالمية([1]).
ويبدو من قراءة أجندة المنتدى أنها إسهام مبدئيّ وتشاوريّ بَحْت، وليست آلية دقيقة للعمل الإفريقي المشترك في ظلّ التحديات المُلِحَّة التي تتراكم يومًا بعد آخر، ومن بينها الأزمة في إقليم التيجراي داخل إثيوبيا وقرب حدود إقليم الأمهرا نفسه الذي يَحتضن أعمال المنتدى.
فالبند الأول يُقدِّم طرحًا ساذجًا للغاية من جهة إيلاء الأولوية للمواطنين الأفارقة، وهو توجُّه يُفترض أنه مفروغ منه بالفعل؛ كون المواطن الإفريقي، بما في ذلك الرؤساء والقادة وكبار المسؤولين وغيرهم، محل تركيز الفعل السياسي العام. كما أنَّ تماهي أجندة المنتدى -كما يتضح من البند الثاني- مع ما يمكن وَصْفه بالخطاب النيوليبرالي لأجندة 2063م في مراحلها المبكّرة يكشف عن قصور واضح في أداء المؤسسة القارية الأهم في إفريقيا في فَهْم جوهر القضايا الإفريقية، ربما عن قصدٍ في مستوى آخر من التحليل، والتوقُّف عند مسائل التشاور حول وضع الأهداف والغايات رغم مرور عشرين عامًا على إعادة تشكيل منظمة الوحدة الإفريقية في صورة الاتحاد الإفريقي الحالي، وإنتاج مجموعات هائلة من الأدبيات والوثائق والقرارات التي لم تُؤدِّ بالفعل إلى “حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية” أكثر من تمريرها مصالح شركاء الاتحاد الإفريقي الدوليين (لا سيما الصين وفرنسا والولايات المتحدة، وشبكات تحالف كلٍّ منهم)، كما يتضح عند تعميق النظر في الأزمات والقضايا الإفريقية التي قاربها الاتحاد الإفريقي منذ تأسيسه في ظل “وصاية” واضحة مِن قِبَل هؤلاء الشركاء.
“إدارة التهديدات الأمنية” وتقييم أداء إفريقيا 2021م:
رغم الزخم الإعلامي الذي حظي به منتدى تانا للسلم والأمن، واعتباره مجسِّدًا لرؤًى متنوعة بين دول القارة الإفريقية أو أنه منصة إفريقانية Pan-Africanist platform؛ فإن تكوين مجلس إدارة المنتدى وهوية أعضائه تكشف طبيعته وكونه أقرب لمركز تفكير “إثيوبي” في واقع الأمر؛ إذ تهيمن عليه بوضوح -ودون مبرّر كافٍ بالنظر لكونه أداة للعمل الإفريقي الجماعي- نُخْبَة سياسية إثيوبية، وبخلاف ترأس الرئيس الغاني الأسبق ماهاما للمجلس؛ فإنه يضمّ كلاً من رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هيلامريام ديسالين، وكاثرين سامبا-بانزا الرئيسة الانتقالية السابقة لجمهورية إفريقيا الوسطى، وجويس باندا رئيسة مالاوي الأسبق، والأخضر الإبراهيمي المبعوث الأممي السابق، وتيميسجين تيرونه المدير العام لوكالة شبكة المعلومات الأمنية ومستشار الأمن القومي لآبي أحمد (الذي شغل نفس المنصب قبل تولّيه رئاسة الوزراء وهو منصب استخباراتي بالأساس)، وهيروت زيميني Hirut Zemene وزيرة الخارجية الإثيوبية، وشخصيات عامة من بوركينا فاسو والكاميرون وكينيا([2]).
وحسب مطلعين مقربين من المنتدى فإنه لا يُتوقع في جميع الأحوال أن يقوم المنتدى بإجراءات مباشرة لصالح السلم والأمن في إفريقيا؛ لأنه ليس جهة صُنْع قرارات، وإن هدف المنتدى الرئيس هو تكوين منصة نقاش مع مشاركين مختلفين حول قضايا متنوعة؛ وإفساح الطريق -على حد وصف Fana Gebresenbet (الباحث بمعهد دراسات السلام والأمن المنظم للمنتدى)- أمام توليد أفكار وممارسات جديدة في مجال السلم والأمن الإفريقي. وإن تقييم أثر “منتدى تانا” المباشر على إجمالي ممارسات السلام في إفريقيا قد يحتاج لجهود مزيدة، وضرب مثلًا بمبادرات إثيوبيا الأخيرة (قبل إعلان أديس أبابا في 17 أكتوبر الجاري رفض أيّ وساطات إفريقية في أزمة التيجراي، وعزمها على مواصلة الحرب)؛ للتوصل لحلول من الاتحاد الإفريقي للصراع في شمال نيجيريا، ومسألة سد النهضة، وهي نوعية الممارسات التي يدعمها منتدى تانا للسلام([3]).
ومن جهته قدّم الرئيس الغاني الأسبق جون دراماني ماهاما J. Daramani Mahama -الذي استقبله في مطار بحر دار د. يلكال كيفال “رئيس إقليم الأمهرا”، وهو المطار الذي يضمّ واحدة من أكبر تجمعات “الدرونز” تركية الصنع في إفريقيا، والمستخدَمة في قصف إقليم التيجراي في الساعات الأخيرة من أيام المنتدى، ومسؤولون من أمانة تانا- تقريرًا (16 أكتوبر) حول حالة السلم والأمن في إفريقيا خلال العام 2021م، واتسم بلغة خطابية واضحة وتسطيح ربما يكون مقصودًا لخطورة القضايا الإفريقية، وتسميتها بمسمياتها الواقعية؛ إذ سلّط خلاله الضوء على قضايا التهميش وسوء الإدارة الاقتصادية التي جعلت الأفارقة عالقين في “سرديات التطرف” narratives of radicalization، ولفت إلى وجوب إيلاء جميع المعنيين الاهتمام بالديناميات الداخلية والخارجية للصراعات في إفريقيا، والبحث عن سُبُل “لإعادة خلق التفاؤل الذي ساد مطلع الألفية الجارية، والتي شهدت تأسيس العديد من الأطر normative“([4])، في إشارة إلى عمليات “نيوليبرالية” أنتجت مجموعة واسعة من وثائق وخطط عمل الاتحاد الإفريقي ومؤسساته (أبرزها أجندة إفريقيا 2063م التي لم تشارك في مرحلة صياغتها أو النقاش حولها دول إفريقيا العربية)، تجاوزت مفاهيم الدولة الوطنية التقليدية ومفهوم العمل الجماعي الإفريقي (لصالح محاصصات إقليمية فرعية واضحة)، ومنح أدوار مطلقة لشركاء الاتحاد الإفريقي في التدخل في عمله وصياغة سياساته طوال العشرين عامًا الماضية.
كما رأى الرئيس الغاني الأسبق أنه يجب أن تتجاوز الرؤية الإفريقية مسائل محددة مثل نشر القوات والمعدات الثقيلة وتكنولوجيا المُسيّرات (كما في الحالة الإثيوبية، وعلى بُعْد عشرات الكيلومترات من مقر المنتدى؟) إلى معالجة تحديات السلم والأمن في إفريقيا، وأنه من الضروري أن تسعى مع مؤسساتها للتوصُّل لمصدر اشتعال عدم الأمن الإقليمي، وتطفئ اللهب قبل إحكام دائرته حول القارة، ولاحظ بجرأة -يُحْسَد عليها في واقع الأمر- أن إفريقيا غير قادرة على منع الأزمة رغم توفُّر مؤسسات وآليات رئيسة لاستباق الصراعات وتسويتها؛ لكن تبدو أن ملاحظته الأكثر غموضًا في التقييم هي تأكيده “أن درجة التفاعل والتبادل عبر الحدود (بين الدول الإفريقية) وتعمق آليات العولمة بها يعني أن القارة احتاجت إلى النظر إلى أوضاع الصراع في إفريقيا كأزمات إقليمية ذات أبعاد قومية”([5]).
ونظرًا للسمة البلاغية للتقييم فإنه لا يمكن الجزم إن كان يقصد أن الأزمات الإقليمية ذات البُعد القومي قد أضحت ظاهرة جديدة في إفريقيا، وهي غير ذلك بطبيعة الحال، أم أن القارة (أو الاتحاد الإفريقي) بحاجة إلى تغليب هذه الرؤية في مقاربة الأزمات؟ ما يعني في النهاية أن عمل الاتحاد الإفريقي “التنظيري” لم يقترب من مرحلة الحسم بعدُ، وأنه لا يزال بحاجة إلى سنوات أخرى لمناقشة أبجديات العمل الجماعي الإفريقي مرة أخرى.
ووفقًا للتقرير فإن إفريقيا شهدت في العام 2021م تراجعًا في بعض المكاسب الديمقراطية التي تحققت في تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، مع تصاعد التغيرات غير الدستورية في الحكم، والتنافس على السلطة، والتحوّل الإقليمي للصراعات العنيفة، وعودة الحكم الاستبدادي، وتحجيم دور القانون، وكلّ ما سبق من مُحرّكات الصراع العنيف. علاوةً على ذلك؛ فإن النمو الاقتصادي المحدود وارتفاع مستويات الصراع الريفي-الحضري والهجرة القسرية خلَق ظروفًا للتطرُّف هيأت له الانتقال إلى الدول الهشّة.
وبخصوص بعض توصيات التقرير “ 2021 State of Peace and Security Report” قال الرئيس ماهاما: “إن الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي بحاجة إلى منع تصاعد التعديلات غير الدستورية في الحكم بالاستجابة بسرعة أكبر نحو الأزمات الناشئة وسرعة معالجتها، وتطوير صناعات دوائية قارية لتصنيع وتوزيع أمصال كوفيد-19 الخاصة بها للمواطنين الأفارقة”.
كما أوصى التقرير بأن تُطوِّر مفوضية الاتحاد الإفريقي للشؤون السياسية والسلم والأمن “برامج مكرّسة للعمل مع البعوث الخاص للاتحاد الإفريقي للشباب والسفراء الأفارقة الشبان لتعبئة شباب القارة من أجل العمل بقوة على منع الصراع وتسويته، وكذلك تعزيز إعادة البناء فيما بعد الصراع، وبناء السلام والعدالة الانتقالية”([6])، وهي في مجملها توصيات غير واقعية من جهة افتراض وجود “إرادة سياسية” فوقية خارج ديناميات العمل السياسي الإفريقي في الدول التي تعاني من مشكلات بنيوية واضحة منذ استقلالها قبل أكثر من ستة عقود حتى الآن.
آبي أحمد والبرهان: السير عكس مقررات منتدى تانا
حظي وصول رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان -للمشاركة في أعمال المنتدى- بتغطية إعلامية لافتة في إثيوبيا، بادرت بالتأكيد على عودة دفء العلاقات بين أديس أبابا والخرطوم بعد اجتماع الأول بآبي أحمد (15 أكتوبر)، ومناقشتهما عدة قضايا مثل سد النهضة الإثيوبي والنزاع الحدودي بين البلدين، “والاتفاق على تسوية هذا النزاع عبر الحوار”، بينما رحَّب البرهان حسب تقارير إعلامية متنوعة “بإقامة تكامل اقتصادي بين البلدين” في سياق تشارك الشعبين مصيرًا مشتركًا. ومن الواضح أن تعليقات البرهان جاءت استجابةً لاقتراح آبي أحمد بتكوين آلية للتكامل الاقتصادي الثنائي، في القلب منها استفادة السودان من مشروع سد النهضة، بينما مثَّل اتفاق الزعيمين على أهمية معالجة جميع المسائل الحدودية “باستخدام السُّبل السلمية عبر اللجان الفنية المتخصصة”؛ انتصارًا حقيقيًّا مهمًّا للبرهان وجهوده في الحفاظ على التراب السوداني؛ إذ يُفْضِي هذا الاتفاق -حال التزام آبي أحمد به- إلى إقرار ما تم الاتفاق عليه سابقًا مِن قِبَل لجان مماثلة، ثم وضع إجراءات التطبيق وترسيم الحدود بشكل نهائي.
وشهد منتدى تانا تفاهمًا ثنائيًّا معقولاً لا سيما مع تناول ما تراه إثيوبيا اجتياحًا سودانيًّا لأراضيها ودعمًا سريًّا توفّره الخرطوم لجبهة تحرير التيجراي إلى جانب موقف السودان المتشدّد من مسألة سد النهضة الإثيوبي، ومساعي جبهة تحرير التيجراي لفتح ممر إلى السودان، وهو هدف لم يتحقق حتى الآن؛ حسب مصادر إعلامية إثيوبية مطَّلعة.
لكنَّ تطورات الأحداث على جبهة إقليم التيجراي بعد ساعات من اجتماع آبي أحمد والبرهان وتسرُّع وسائل إعلام ومحللين سياسيين في التنبوء بتقارب سوداني- إثيوبي مع وعد إثيوبي بالتهدئة في إقليم القرن الإفريقي ككل بدَّدت كلّ هذه التكهنات، وإن اتسقت في المحصلة مع الرؤية القائلة بأن المنتدى مجرد واجهة للدبلوماسية الإثيوبية لا يُعبّر عن مجمل توجُّهات العمل الجماعي الإفريقي القائمة أو المفترضة؛ كما أنَّ هذه التطورات تتَّسق تمامًا، وبشكل كامل، مع سلوك رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالقفز خطوات للأمام في تصعيد الأزمات، وتعميق الأعباء البشرية بالمخالفة لجميع مداولات “منتدى تانا للأمن والسلم في إفريقيا” دون أن يُوجّه الأخير إشارةً مباشرةً لأكبر الحروب الأهلية الجارية في القارة الإفريقية، وأعنفها منذ أحداث الأزمة الرواندية البورندية، في ظل تخوُّف الاتحاد الإفريقي من طرح أيّ تصوُّرات لا تُرضي أديس أبابا لتسوية الأزمة، رغم رفعهما معًا شعار “حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية”.
[1] -The Tana Forum commemorates its 10th year in Bahir Dar, Tana Forum, October 5, 2022 https://tanaforum.org/the-tana-forum-commemorates-its-10th-year-in-bahir-dar/
[2] -Who’s Involved, Tana Forum https://tanaforum.org/whos-involved/
[3] -Abinet Bihonegn, What is Tana Forum? Addis Zeybe, October 16, 2022 https://addiszeybe.com/what-is-tana-forum
[4]– Marginalization, economic mismanagement brought Africans into narratives of radicalization: Tana Forum Chair, Fanabc, October 16, 2022 https://www.fanabc.com/english/marginalization-economic-mismanagement-brought-africans-into-narratives-of-radicalization-tana-forum-chair/
[5] –Mahama advises African leaders to address peace, security challenges , Graphic Online, October 17, 2022 https://www.graphic.com.gh/news/general-news/mahama-advises-african-leaders-to-address-peace-security-challenges.html
[6]– Mahama advises African leaders to address peace, security challenges , Graphic Online, October 17, 2022 https://www.graphic.com.gh/news/general-news/mahama-advises-african-leaders-to-address-peace-security-challenges.html